تفسير سورة الجاثية -01- من قوله تعالى: {حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) ...}، إلى الآية 7

للاستماع إلى الدرس

الدرس الأول من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الجاثية، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) }

الأحد 14 رمضان 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مكرمنا بالآيات البيّنات المُنزلات من حضرته على قلب ولسان خير البريات، ومن جعله في خلقه سيد أهل الأرض وسيد أهل السماوات، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه القادات، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين أعلى لهم المراتب ورفع لهم الدرجات، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين والصالحات، وعلينا معهم وفيهم برحمته إنَّه أرحم الراحمين الذي يجود بالخيرات.

وبعد،،

فإنَّنا في نعمة تأملنا لكلام ربنا مررنا على معاني في سورة الأحقاف وانتهينا إلى أواخرها، وها نحن نبدأ في سورة الجاثية حيث يقول الرحمن -جلَّ جلاله-:

 ﷽ 

(حم (1))؛ من الحروف المقطعة التي ابتُدِئَت بها السور، اختلف أهل العلم والتفسير في إشاراتها ودلالاتها وما فيها: 

  • وقيل: أنَّها من المتشابهات والله أعلم بمراده منها ومن جميع آياته؛ ولكن هناك مرادات يدل عليها عباده -سبحانه وتعالى- في كثير من الآيات، وجعل آيات متشابهات هنَّ أم الكتاب، المُحكَمَات (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ..) [آل عمران:7].
  • (حم (1)) قيل: فيه الخطاب لمحمد ﷺ.
  • وقيل: أن الحاء يدل على الحكمة والميم على اسم محمد، أي حكمة محمد التي أوحيناها إليه تنتهي إليها الحكمة وينتهي إليها العلم للخلق.
  • (حم (1))؛ إلى معانٍ أُخَر ذكرت عند بعض أهل التفسير.

يقول ربنا: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ ..(2)) وصول آيات هذا الكتاب إلى قلبك، وتلاوتك إياها بأمره -جلَّ جلاله-، كان هذا التنزيل مصدره أعلى المصادر؛ ومجيئه من عند الإله الخالق الفاطر (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ..(2)) فهل يمكن أنْ يقول أحدٌ قولًا أو يكتب كتابًا أشرف وأجل من هذا؟

(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ..) وما جاء من عند الله فما مقداره وما مكانته، ليس نتيجة ووليد فكر بشري ولا جني ولا شيء من قدرات المخلوقين الأمر أكبر من كل هذا، (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ..)(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) كرر الله هذا في عدد من الآيات:

  • (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ..) -جلَّ جلاله- الذي لا يُنَال ضُرَه فيُضَر ولا يُنَالُ نَفعه فيُنفَع؛ وهو الذي يضر وينفع من يشاء كما يشاء، الْعَزِيزِ الذي لا يستطيع سواه أن يحيط به قطعًا، العزيز الذي لا يُقهَر ولا يُغلَب أمره.
  • (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) الذي أبدع في التكوين والتصوير والخلق والتقدير والإنشاء، الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه، الحكيم الذي تعالى أن يحيط بحكمته عقول أهل السماوات والأرض، وإنَّما يدركون منها ما يدركون على حسب ما يفتح لهم، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ..) [البقرة:255] -جلَّ جلاله-.

(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) يقول الله: هذا رسولنا الذي ختمنا به النبيين، وجعلناه المرسل إلى العالمين رحمة منا، أنزلنا عليه الكتاب الذي تحداكم به أن تأتوا بمثله ولم تقدروا ولن تقدروا، ها هو الكتاب منا مُنزَلٌ عليه بعظمتنا وأُلوهيتنا وعزتنا وحكمتنا، وأمامكم الآيات المبثوثة في هذا الوجود فما لكم في غيكم وفي غفلتكم؟ وفي إصراركم على الكفر والمعصية، وكل ما في الكون من دون أن يأتيكم الرسول يجب أن يُوقِفَكُم على تأمل وتَفَكُر يَحُدُ من طغيان أهوائكم وشهواتكم، فكيف والرسول جاءكم؟ وهذه الآيات مبثوثة أمامكم؟!

  • (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(3)) في خلقها في بقائها في تسييرها، وفي ما حوته من كواكب ونجوم، ويكون فيها من الشهاب الثاقب، وفي الأرض تكوينها وخلقها وتسييرها ودوامها إلى الوقت المسمى والأجل المسمى، وما فيها من نبات، من معادن، من منابع من مياه؛ ومن غاز ومن نفط؛ ومن ذهب ومن فضة آيات؛  (.. لَآيَاتٍ ..(3)).
  • (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ ..(3)) بلام التوكيد، دلالات علامات واضحة قوية، لماذا بهذا الطغيان؟ لماذا بهذا الغرور؟ لماذا بهذا التغافل والتعامي والتصامم؟ عن الأمور الواضحة البينة.
  • (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3))، (.. لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ) لكل من يتأتى منه الإيمان، فتحدوه إلى الإيمان وتوصله إلى الإيمان للمؤمنين الذين قد آمنوا فعلًا يزدادون بها إيمانًا، (.. لَآيَاتٍ ..) وهم المنتفعون بها على الحقيقة.

الذين لم يؤمنوا بالإله الذي خلق مهما ظهرت لهم عجائب في الأرض أو في الفضاء هم أبعد عن الانتفاع بها، وعن أخذ دلالتها وإشارتها وسرها؛ لأنهم بانصِرَاف عقولهم وأفكارهم عن الإيمان بالإله الخالق، يُحبَسُون حبسًا في ماديتها ومظهرها وصورتها لا يتجاوزون ذلك، فهم لا ينتفعون بها، كل من لم يؤمن من علماء الجيولوجيا؛ أو علماء البحار؛ أو علماء الفضاء فهو من أبعد الناس عن أن ينتفع بهذه الآيات وأن يهتدي بها وأن يصل إلى حقيقة ما ترمز إليه وتشير، ولكن المؤمنين هم الأقرب إلى الانتفاع والأقرب إلى الاستفادة بما في هذه الآيات (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ..)[الفتح:4].

 (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3)) وما في السماوات وما في الأرض على وجه الإجمال فيه غوامض، إنَّما تنكشف لوائحها وتظهر ملامحها بواسطة الإيمان؛ ولهذا قال: (.. لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ). وأغمض منها ما يتعلق بذوات الناس وما هو أقرب إليهم من الدواب، يصل إلى حقائق من دلالاته وإشاراته أهل اليقين؛ الذين هم أقوياء الإيمان والراسخون في الإيمان، واليقين: عبارة عن قوّة الإيمان ورسوخه وثباته.

ولذلك قال: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ…(4)) ينشر في الوجود من دابّة، من أنواع الحيوانات في البر والبحر، (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)) من يتأتى منهم اليقين ويتهيأون له وهم عموم المؤمنين، و(لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) قد وصلوا إلى مراتب في علم اليقين، وعين اليقين وحق اليقين، فيزدادون بذلك يقينًا، ويرتفع يقينهم برؤية كل شيء؛ وتأمل كل شيء.

وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَـةٌ *** تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ

-جلّ جلاله-

وَلِلَّهِ في كُــــلِّ تَحريكَةٍ *** وَتَسكينَةٍ أَبَداً شاهِدُ

فيا عجباً! كيف يُعصى الإله؟! *** أم كيـف يجحده الجاحــــد

وكل هذه الكائنات في حقيقتها مسبّحة بحمد ربها، مقدّسة له، لا يخرج عن تعظيمه وطاعته إلا قلب الكافر والعاصي من الإنس والجن فقط، وما عدا ذلك فكلّ الوجود موحّد.

إنّ الوجود بأسره  *** بالأحدية معلنة 

 بهرت بدائعه العقول *** فغدا الموفق موقنا

اللهم ارزقنا كمال اليقين برحمتك يا أرحم الراحمين.

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُون (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ..(5)) تقلّبه وتعاقبه، (..جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً..) [الفرقان:62] يخلف الليل النهار والنهار الليل. (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ ..(5)) يشير إلى المطر؛ لأنّها سبب الرزق، وسبب حصول أنواع من الأرزاق. يقول: (... وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ..(5)).

(فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ..(5)) فتحوّلت من أرض ميِّتة قاحلة صادئة غبراء، إلى أرض منتعشة خضراء، مزدهرة بأصناف الأشجار والبساتين، وقد جعل الله ذلك علامة كبيرة من علامات إحياء الموتى، وإعادتهم بعد موتهم.

يقول: (...فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ..(5)) تقليبها يمين وشمال، وأمام وخلف، وباردة وحارة، تصريف الرياح، ورياح رحمة ورياح عذاب، تصريف تصريف الرياح، مصنع من ذا يتحكم فيها! (...وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5))؛ فعموم العقل يهدي بهذه الآيات إلى عظمة مكوّنها، ثم بعد ذلك العقلاء لهم في تأملها ارتقاء في مراتب العقل الخاص؛ حتى يعقلوا عن الله ما لا يعقله غيرهم، ويتقرّبوا إلى الله بذلكم العقل، وهو سرّ معرفة خاصة، ووعيٍ عظيمٍ تامٍ خفي، لا يُفتح به إلا على الخواص من أرباب اليقين والتمكين والمعرفة. (آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

بذلك يخاطب الإمام الحدّاد -عليه رحمة الله- ربّ العالمين في عظمة هذا الوجود، وما كوّن وأبدى وبرأ: 

يا رَبَّنــــا يا رَبَّنــــا *** يا رَبِّ يا أَهلَ الثَنا

يا ذا الجَلالِ وَذا العُلا *** يا ذا البِهاءِ وَذا السَنا

أَحَطتَ عِلماً سَيِّدي *** مِمّا تَقاصى وُدُّنـا

وَلَكَ المَشيئَةَ ما تَشا *** كانَ دَليلاً مُذعِنــا

 (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، ما شاء الله كان وما لم شاء لم يكن

 

 وَلَكَ المَشيئَةَ ما تَشا *** كانَ دَليلاً مُذعِنا

عَن إِدراكٍ عَلَوتَ كُنّا *** وَإِن أَطَلنا الإِعتِنا

 فأنت أعظم وأنت أجل لا يحيط بك غيرك أصلًا، 

فَنِهايَــةُ المُتَعَمِّقي *** نَ تُجيرِ يا مُمعِنا

ما عَنهُ حَرَّنا إِنَّما *** فيهِ تَحَيَّرَ لِعَجزِنا

 إنّ الوجود في السماوات والأرض (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ.. (5))

إِنَّ الوُجودَ بِأَسرِهِ *** بِالواحِدِيَّةَ مُعلِنا 

-يعلن بوحدانية الله وأحديته-

بَهَرتُ بَدائِعَهُ العُقو *** لَ فَغَدا المُوَفَّقُ موقِنا

يا رب وفقنا وارزقنا كمال اليقين، وزدنا يقينا في كل يوم من أيام أعمارنا، اللهم زدنا إيمانًا ويقينًا، كان في دعوة نبينا ﷺ يدعو بها في كل يوم، وهو أعظم الخَلْقِ إيمانًا ويقينًا يقول: "اللهم إني أسألك إيمانًا دائمًا يباشر قلبي، وأسألك يقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته عليّ، ورضّني بما قسمته لي، اللهم أعطني إيمانًا صادقًا، ويقينًا ليس بعده كفر، ورحمةً أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة"، ونسأل الله ذلك، ونسأله من خير ما سأله عبده ونبيه سيدنا محمد، ونعوذ به من شر ما استعاذه منه عبده ونبيه سيدنا محمد.

بَهَرتُ بَدائِعَهُ العُقو *** لَ فَغَدا المُوَفَّقُ موقِنا

وَتَثبِطُ المُتَشَكِّكونَ 

من هذا الأفاك؟! (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ ..(7)) أفاك: كثير الإفك، يعني: مرة بعد مرة يكذب، يكذب، يكذب، يكذب، وفي أشرار زماننا من الذين يعملون على نشر الشرور، يجعلون في أمثلتهم أكثر الكذب حتى تصدَّق، اكذب كذبة حتى يصدقونك بعدين، أي شيء تبغاه هو كذب، لكن كثّر منه كثّره وانشره هنا، بعدين الناس يصدقونه لكثرة ما نسمعه، وعدة أشياء مرّروها على الناس بهذا الصورة، يبثّونها في العالم، وكذب ماشي واقع منها، لكن يجعلون الناس هذا يسمع، وهذا يسمع يصدقون، ويصير حالهم كما فعل مرة الطمّاع، يقول لبعض الأولاد: هناك واحد يقسم الفلوس، راحوا يركضون، راح يركض وراءهم، قالوا: ما لك!؟ قال: يمكن صدق يحصلون أحد وآخذ معهم، وهكذا يكثرون كذب حتى يصدَِق الناس، أي: يضحكون على عقول الخلق.

وَتَثبِطُ المُتَشَكِّكو *** نَ وَكَأَنَّهُ لَيسوا هُنا

ما كأنهم في الوجود ولا أمامهم ولا فوقهم سماء ولا تحتهم أرض، ولا خُلِقوا من نطف، ولا رُزِقوا من السماء والأرض بقدرة الرزّاق، ولا أُعطوا أسماع وأبصار، ما كأنهم أبدًا، ما هذا الكفر!؟

وَتَثبِطُ المُتَشَكِّكـــونَ ***  وَكَأَنَّهُ لَيسوا هُنا

سُحقاً لِمَن يَشُكُّ في *** الحَقِّ وَقَد تَبينـــا

يـــا أَوَّلاً يا آخِــــراً *** يا ظاهِراً يا باطِنا

لَكَ القِدَمُ وَلَنا الحُدوثُ 

أنت الأوّل، كل ما سواك حادث، كل ما سواك كان عدم، أنت الذي أوجدت، فالوجود لك، وكل ما سواك فبإيجادك وُجِد، وإلا لم يوجد شيء. قال نبيِّنا كما روى البخاري في صحيحه: "كان الله ولم يكن شيء غيره، كان الله ولم يكن شيء معه"، فأراد أن يُعرَفْ فخلق الخلق، -سبحانه عزّ وجل-.

لَكَ القِدَمُ وَلَنا الحُدوثُ *** وَلَكَ البَقا وَلَنا الفَنـــا

يا حَيُّ يا قَيّومُ إِن *** وَكَّلتَنا فَمَن لَنا؟!

 -لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقلّ من ذلك يا أرحم الراحمين-

يا حَيُّ يا قَيّومُ إِن *** وَكَّلتَنا فَمَن لَنا؟!

حاشاكَ أَن تُهمِلَنا *** حاشاكَ أَن تَخلِنا

يا أَمَــلَ المُؤمِلينَ *** وَيا مَلاذا كُن لَنا

فَمِنكَ كُلُّ خَيرَةٍ *** وَكُلُّ نِعمَةٍ بِنا

(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ..) [النحل:53]، 

أَحسَنَت فيما قَد مَضى *** أَبَداً وَزِد يا مُحسِنـــــا

ها أَنا ذا عَبيــدُكَ ال *** جاني المُقصِرُ بِالفَنا

مُستَغفِراً لِذَنبِـهِ *** مُعتَرِفاً بِما جَنا

 هذا شأن العبودية… هذا شأن المؤمنين… هذا شأن الموقنين… هذا شأن المصدقين… هذا شان الذين عرفوا أن لهم الإله الكبير العظيم. 

مُستَغفِراً لِذَنبِـهِ *** مُعتَرِفاً بِما جَنا

يَرى اِفتِقارُهُ إِلَي *** كَ دائِماً هُوَ الغِنا

وَلِعِزِّ قَهرِكَ خاضِعٌ *** مُتَواضِعٌ مُتَمَسكِنـــا

وَلَقد سَبَتهُ حُظوظُهُ *** حَتّى لَقِيَ مِنها العَنا

 -يستجير بربه من شرِّ النفس وحظوظها وأهوأها-

وَلَقد سَبَتهُ حُظوظُهُ *** حَتّى لَقِيَ مِنها العَنا

مَلَكَتهُ أُمنياتُ نفسِ ***  هَمِّها عَرضَ الدَنا

وَلَقَد أَتــــاكَ بِياسِــهِ *** عَمَّن سِواكَ وَلا الثَنا

 -خلاص يئس من كل شيء سواك وما له إلا أنت وحدك- 

وَلَقَد أَتاكَ بِياسِهِ *** عَمَّن سِواكَ وَلا الثَنا

صِفرُ اليَدَينِ يَمُدُّها *** فَأَنِلهُ غاياتِ المُنى

-اللهم أنلنا غايات المنى-

وَأَدِقهُ بَردَ رِضاكَ  *** عَنهُ يَدٌ لَهُ مِنكَ الهَنا

-اللهم أذقنا برد رضاك عنا؛ لكي يدوم لنا الهنا-

وَأَحيِهِ لَكَ مُسلِماً *** وَتوفِهِ بِكَ مُؤمِنا

-وأحينا لك مسلمين وتوفنا بك موقنين- 

وَاِجعَلهُ يَومَ نُشورِهِ *** مِن كُلٍّ خَوفٍ آمِنا

(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف:68-73].

يقول: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ ..(7)) كذَّاب أَفَّاك صيغة مبالغة يعني: كثير الإفك، كثير الافتراء، كثير الكذب مرة بعد أخرى،  يكذب للكل أثيم أثيم أيضًا فعيل في صيغة مبالغة يعني: كثير الآثام، إثم في إثم في إثم أنواع الإثم؛ يمشي قفا الآثام (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاك أثيمٍ (7)).  والأفاك الأثيم (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ…) في القرآن وما بُعث به سيد الأكوان، (...تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ۖ…) فهؤلاء هم الذين يستحقون العذاب (... فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- شأنهم في الحياة: يستهزئون ويضحكون ويسخرون، (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9)) استهانوا بالعظيم؛ فأهانهم استهانوا بوحي العظيم؛ فأهانهم استهانوا بأنبياء العظيم؛ فأهانهم استهانوا بدين العظيم؛ فأهانهم فَلَهُمُ الْعَذَابُ الْمُهِينُ، (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20]. 

الاستكبار هذا بغير الحق وهذا الفسق الذي وصلوا به إلى أتفه التوافه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فيما هم فيه، ونزلوا إلى اللعب بالفطرة والتكوين؛ وتحويل الأنثى ذكر والذكر أنثى؛ وشيء من هذا الآثام الساقطة الهابطة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وقد قال رئيسهم من قديم: (...وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ..) [النساء:119]، ونفذوا أمره، ينفذون أمره، ويا فوز الذين يعيشون على ظهر الأرض ينفذون أوامر خالق السماء والأرض، وهؤلاء ينفذون أوامر عدوهم الخبيث! (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6] -والعياذ بالله-. 

فالحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على نعمة محمد، لولا صاحب غار حراء ما وقع المجلس ولا وقع هذا الجلوس ولا وقع هذا التدبر ولا سمعنا هذا القرآن، الذي نشأ على الصدق والوفاء والإخلاص والكرم والسخاء والبعد عن الرذائل والأصنام، وأحب الخلوة واختلى في غار حراء، وأنزل الرحمن عليه: (اٌقرأ)، وجاء بحمل الأمانة، وكابد وجاهد وصبر، والسلى وُضع على ظهره،  الشوك وُضع في طريقه، القذر وضع في قدره، رُميت رجلاه حتى سال الدم من العقبين، وعقبه كان قليل اللحم وحينها الحجارة دقت في عظم رجله الكريمة شيء صلى الله عليه وصحبه وسلم، وشُج جبينه، كسرت رباعيته؛ وما قابل الأمة إلا بقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"،  ثم قال لهم بعد الفتح: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"،  ثم بكى كثيرًا وسأل الله لنا كثيرًا، وتضرع في شأننا إلى الله كثيرًا.

وحمل الهم بأمته كثيرًا صلى الله عليه وصحبه وسلم؛ حتى بُشِّرَ من الله تبشيرًا: إنا سنرضيكَ  في أمتك، ولن نسوءَك فيهم. ونرجو أن يكون اجتماعنا مما يرضيه، وما يُنزِل علينا فيه مما يرضي هذا المصطفى، والقلوب الموجودة على ظهر الأرض والمتوجهة إلى الله مما يرضي الله به حبيبه ومصطفاه. الله يبارك لنا فيها ويجمعها، ويرد عنها كيد الكفار والفجار والأشرار وإبليس وجنده ومن معه، وينصر بهم هذا الدين، وينصر بهم هذه الشريعة وينصر بهم هذه الملة، ويقر بهم عين خاتم الرسالة ﷺ؛ حتى يهيئ لهم لقاه في البرزخ، ويوم الموافاة، ثم في دار الكرامة مستقر الرَّحمة واجعلنا منهم وفيهم، لا نتخلف عنه ولا عن ركبه ولا عن حزبه، ولا عن دائرته ولا عن رفقته ولا عن زمرته؛ حتى يسعدنا بمرافقته إنه أكرم الأكرمين. 

بذاكمُ المصطفى الذي اسمه محمد بن عبد الله سرت سراية هذا الإسلام والإيمان والإحسان، وقامت هذه المواطن، وعُقدت هذه المجالس، فاللهم اجزه عنا خير الجزاء … اللهم اجزه عنّا أكمل الجزاء… اللهم اجزه عنّا أشرف الجزاء … اللهم اجزه عنّا أعلى الجزاء … اللهم زدنا حنانًا من روحه، وعطفًا من قلبه، وبه تحنن علينا، وبه انظر إلينا، وبه ارأف بنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، و اجعل هوانا تبعًا لما جاء به، واجعل سر نصرته فينا وفي أسرنا وأهلينا، ومن في ديارنا وصغارنا وكبارنا نحيى على ذلك ونموت على ذلك، يا ملك الممالك ادفع كل سوء عنا وعن أمته أجمعين، واجعل ما بقي لنا من رمضان خيرًا من مامضى، زدنا زيادات وأسعدنا سعادات وهب لنا الحسنى والزيادات وكن لنا في الغيب والشهادات، واجمعنا يا ربنا بخير البرِّيات؛ صلِّ عليه أفضل الصلوات وسلم علينا أزكى التسليمات وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرحمن.

استجب دعاءنا ولبِّ نداءنا وحقق رجائنا واغفر ذنوبنا و أوزارنا، وحط يا ربِّ عنّا أثقالنا وتولنا في دنيانا وآخرتنا، بعزتك وعزتك لا ملجأ لنا سواك ولا ملاذ لنا إلا أنت، وقد توجهنا إليك وتذللنا بين يديك فأسعدنا بأعلى السعادات يا مُسعد السعداء ها هنا وغدًا، واكشف الكرب عن هذه الأمة … وادفع البلاء عن هذه الأمة، عجل بنظرة منك إلى المسلمين في غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس وفي السودان وفي الصومال وفي ليبيا وفي العراق وفي الشام وفي اليمن وفي شرق الأرض وغربها. 

يا محوِّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، أنت المدّخر، أنت الذخر، أنت الرجاء، أنت القوي، أنت القادر، أنت المولى، أنت الملاذ توجّهنا إليك، فبالقرآن الذي أنزلت تدارك أمة حبيبك أغث أمة حبيبك أصلح أمة حبيبك فرِّج عن أمة حبيبك اكشف الكرب عن أمة حبيبك اجعلنا في خيار أمة حبيبك، تولنا بما توليت بأهل الحضور في حضرته، والذين كتبت لهم في الأزل كريم مرافقته، أسعدنا اللهم بذلك أعلى السعادة كن لنا بما أنت أهله يا عالم الغيب والشهادة وفي خير ولطف وعافية ويقين وتمكين مكين.

وبسرّ الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة 

تاريخ النشر الهجري

14 رَمضان 1445

تاريخ النشر الميلادي

23 مارس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام