فتح الكريم الغافر - 3 - شرح: الصوم، والبلايا والمحن، وترك الشواغل

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث من شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب: فتح الكريم الغافر في شرح جلبة المسافر، للعلامة الحبيب عقيل بن عمران.

عصر السبت 15 ربيع الأول 1445هـ

ضمن فعاليات موسم الاحتفال بذكرى المولد النبوي في صلالة.

يوضح فيه معاني الأبيات:

أيضا سككها الصوم في الهواجر

وطلوعها بأكمل البلايا * والحزن والمحن لها زوايا

ومن طلبها يترك الحكايا * من رام يركبها فلا يناظر

إن رام ما راموه أهل الأسفار * خاطر والربح ربح أهل الاتجار

ولا يحسب ضرها والأخطار * والربح في المعنى لمن يخاطر

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

  •  أحوال صوم النبي ﷺ والسلف
  •  أهمية التوسط في الأكل
  •  آداب الطعام
  •  ما هو المقصود من الجوع؟
  •  التعرض للبلايا لنيل الخير من الصبر
  •  بذل الوسع والاعتماد على الله
  •  العزم وتجنب التسويف
  •  الربح وعدم الالتفات إلى الأخطار

لتحميل الكتاب نسخة pdf:

https://omr.to/fathalkarim1

نص الدرس مكتوب:

الصَّوُم

 وقوله رضي الله عنه ونفع به (آمين)

أيضاً سككها الصوم في الهواجر:

يعني سِكك هذه الجَلَبة المَذكورة الصوم والجوع، فهو أعظم معونة للسالك، لأن في الجوع خمْد النفس وضعف قواها ورعوناتها وشهواتها وهواها المبعدة عن الله تعالى. فينبغي للمريد أن يكسرها بالجوع ويمنعها عن شهواتها وعاداتها البهيمية، كما قال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه: "فإذا أردتَ أن تملك نفسك فلا تُمَلِّكها، وضيِّق حبلها، ولا توسع عليها فإن لم تملكها ملكتك، وإن لم تضيق عليها اتسعت عليك، وإن أردت الظفر بها فلا تعرِّضها لهواها، واحبسها عن معتاد بلاها. فإن لم تملكها انطلقت بك، وإن أردت أن تقوى عليها فاضعفها بقطع أسبابها وحبس موادها وإلا قويت عليك  فصرعتك". وقال أيضاً رضي الله عنه: "لا يكون المريد مريدًا بدلًا، حتى يبدِّل بمعاني صفات الربوبية، صفات العبودية، وبأخلاق الشياطين أوصاف المؤمنين، وبطبائع البهائم أوصاف الروحانيين. انتهى

قلت: والذي قاله الشيخ أبو طالب إنما يمكن بعد توفيق الله تعالى بالصيام والجوع، لأن فيه ضعف النفس وخمدها كما ذكرنا. كيف وقد قال سيد الأنام محمد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: "فإن الصوم له وِجاء". وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها: "داومي قرع باب الجنة. قالت بماذا يارسول الله؟ قال: بالجوع و العطش". وقال سفيان رضي الله عنه: "العبادة حِرفة وحانوتها الخلوة وآلاتها المجاعة.

وقد قيل أيضاً: "أن كثرة الأكل يقل الفهم والعلم. فإن البطنة تذهب الفطنة" وأيضًا فإن فيها قلة العبادة والنشاط وحضور القلب. فإن الإنسان إذا أكثر الأكل ثقل بدنه وفترت أعضاؤه وغلبته عيناه، فإن قام وتعبد فلا يجد حلاوة الطاعة ولذة المناجاة، وذلك لحجاب قلبه عن الملكوت وقوة حواس نفسه وشهواته. وقال بعض العارفين: الجوع رأس مالنا، يعني ما يحصل به من صفاء القلب وتحلِّيه وتلذذه بالطاعة وتملّقه بالمناجاة إلى غير ذلك. والحمد لله جربنا ذلك فرأينا فيه منافع كثيرة وفوائد غزيرة، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.

وقال بعض الصالحين: "إن رداءة هذه النفس وجهلها بحيث إذا همَّت بالمعصية أو انبعثت الشهوة فيها، لو تشفَّعت إليها بالله تعالى ثم برسوله صلى الله عليه و آله و سلم و جميع أنبيائه عليهم السلام وكتبه وبجميع السلف الصالح من عباده، وتعرض عليها الموت والقبر والقيامة والجنة والنار، لا تعطي القياد ولا تترك الشهوة، ثم إنك إن استقبلتها بمنع رغيف لسكنت وتركت شهواتها".

قلت: و لهذه العلة، أمر المشايخ رضي الله عنهم بالصوم و الجوع. ولكن إحذر أيها المريد الإفراط، فلا إفراط ولا تفريط، و خير الأمور أوسطها كما قال الشيخ ابن العربي رضي الله عنه في كتابه "تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان"

 قال رضي الله عنه: "واعلم أن جوع السالك اختيارًا فيكون على قدر موزون حتى لا يفرِّط فيؤدي إلى فساد المزاج والهوس والوسواس. فلا سبيل للسالك إلى الإفراط إلا بإذن الشيخ ولكن عليه التقليل وتخفيف المعدة. وأحبَّهُ أن يكون موزونًا بالنوى أو حُصيَّات يزيد كل يوم قدر نواة أو حصاة لا غير. هذا إن عزم على التقليل رأسًا وإلا فليلزم الصيام، وأكلة واحدة في اليوم والليلة وسط، ولا يتعدى في ما ذكر في سبيل المريد، إن أحب أن ينتفع بنفسه. ومن كان مع شيخه فقد كُفي فليعمل على قوله فهو أخبر مصلحةً منه.

وأما المحقق فلا يجوِّع نفسه إلَّا اضطرارا، سيما إن كان في مقام الهيبة وكسر الصفات، فإنه يكثر أكله لشدة سطوات نيران الحقائق في قلبه بالعظمة وشهودها وهي حالة المقربين.

ولكن قد يقـلل عمداً على قصد اللحاق بأهل الأنس. فهو بذلك يجتمع بالسالك، فجوع السالكين ينور القلب ويرقه وهو مفتاح الخيرات، إذ النهمة مفتاح الشرور. وقد قال ﷺ : "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع و العطش".

وعن عيسى عليه السلام قال: "يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم وعطشوا أكبادكم لعل قلوبكم ترى الله تعالى".  وبه ينفتح باب الزهد في الدنيا وهو مطلع الآخرة". انتهى كلام الشيخ ابن العربي رحمه الله. و قد بان لك فائدة الصوم والجوع وثمرته فلذلك أمر به الناظم.

الحَمد لله مكرمنا، بالتَوَجه إليه والإجتماع في بُيوته مُتَعَرضين لِرَحماته في طَلَب الوُصول إليه والتَذَلُل بَين يَديه، لا إلٰه إلا هو وَحدهُ لا شَريك لَه أَرسل إلينا أَكرَمَ خَلقٍ عَليه وأَجَلَّهُم مَنزِلَةً إليه، عَبدَهُ المُصطفى مُحمدًا ﷺ بالهُدى ودِين الحَق لِيُظهرَهُ على الدين كُلهِ.

فَتَنَوعَت مَراتِب الظُهور في هذا العالَمِ، في مَراتِب أَهل هذا العالَم من الذين استَجابوا والذين لَم يُلَبوا فَيَظهَرُ دينهُ على مَن لَم يَستَجِب، ويُظهِر الله تعالى أُمَة الإجابة على أُمَة الدَعوة التي لم تَستَجِب ويَظهَرُ لأُمة الإجابة مِن حَقائق هذا الدين، كُلٌ في مَقامِه الذي هو فيه ،ما يَعلو بِه ويَرقى ولم يَزَل كَذلِك ظاهراً على الدين كُلِه بإظهار الحَي القَيوم.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك السيد المَعصوم، سَيدنا مُحمد وعلى آله وصحبه أهل الفُهوم، ومن تَبِعُهم بإحسانٍ في الخُصوصِ والعُموم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين والكل حَبرٌ قيوم، على آلهم وصحبهم وتابعيهم والمَلائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

مَثَّلَ أحوال وشؤون وأوصاف السَير إلى الله -تبارك وتعالى- بالسفينة كما تقدم معنا في أول القصيدة، وذكر لنا أن:

  •  هِرابَها: التَقوى.
  • وذكر لنا أن وكَيلَها الطاعة وبَذل الأرواح
  •  وذكر لنا أن حِبالَها الزُهد في هذة الدُنيا
  • وَيذكر لنا الآن أن: سِكَكَها الصَوم بالهواجر. فَهذه سِكَة الطَريق للسَفينة في السَير إلى الله -تَباركَ وتَعالى-.

الصوم في الهواجر: جَمع هاجرة ،أي: خُصوصًا في أيام الصَيف، وطول الأيام ووُجود الحَر؛ وكان مما يُنسَب لِسَيدنا علي أنه قال: "حُبِّبَ إلَيَ من الدُنيا إكرام الضَيف والصَوم في الصَيف وضَرب السَيف" (أي  في سبيل الله -تبارك وتعالى-).

فَكانَ لِلصَوم في الصَيف نَصيب، وشَيخ شُيوخ المُؤلف سَيدنا الشيخ أبو بَكِر بِن سالم كان في أيام مُجاهَدَته يَجلِس تِسعين يَوما، أيام أشهر الصيف، أشد أيام الحَر في حضرموت، هذه الأشهُر الثَلاثة، يَصوم فيها ويَفطِر على بَعض البِسر الغاسي يعني القَديم غَيرَ الطَري ويَكتَفي بِذلك عِندَ الفَطور ويواصل صومه عليهم رضوان الله تعالى ولَهُم دَرَجات في شَأن هذا الصَوم، قال ﷺ: "وصيامٌ حسَنٌ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شَهرٍ" وهو صوم الخليل إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصَلاةُ والسَلام، فيَصوم ثَلاثَة أيامٍ مِن كُلِ شهر، قال عنه ﷺ: "صام الدهر وأفطرَ الدهر"؛ صام الدّهر لأن ثواب الصوم كلّ يوم بعشرة، فالثلاثة بثلاثين، فالشهر كله كأنه صامه، وهو صام ثلاثة أيام من الشهر، وأفطر الدهر لأن سبع وعشرين يوم مُفْطر لم يبقَ إلا ثلاث، فكأنّه صام الدهر وأفطر الدهر -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.

وصيام النبي داود يصوم يوم ويفطر يوم، ونبيّنا كان لا تحب أن تراه صائمًا إلا رأيته ولا مفطرًا إلا رأيته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، إلّا أنّه في الغالب لا يُخلِّف الصيامَ في الشهر عن ثلاثة أيام فإذا صادف تأخيرَهُ  لشيء من غزواته وغيرها تَداركَهُ فيما بعد ذلك، ولهذا كان يصوم أكثر شعبان، يكون ما تخلّف من بقيته من الأشهر يقضيه في شعبان؛ فيصوم أكثر شعبان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.

يقول أيضاً: سككها الصوم في الهواجر وفي كلام بعض العارفين يقول: دنياك بطنك، وعلى قدر ملكك للبطن زهدك في الدنيا، على قدره؛ ما يكون في المعنى أن كثرة المآكِل والمشارِب والتوّلّع بها يولّد عند الإنسان قُوّة الشّهوات التي هي عُدّة العدوّ في الصَدِّ وفي التّكسير والتخذيل، ويحتاج المُؤمن إلى أن يكونَ على ترتيبٍ حَسَن في شأن مَطعُوماتِه ومشروبَاته، فأوّل ما يعتني به أن تكون حلالاً، ثم بعد ذلك يأخذ منها المُتوسّط المُتيسّر الذي هو دون الشِبَع ودون التقتير، وهكذا  فلا يجوزُ أن يتعمّد تركَ الأكلِ بحيث يَتضرّر في بدنه وفي صحّتِه، كما أنه لا ينبغي أن يَسترسلَ في الطعام فيعود الضّرر أيضاً حتى إلى البدن فإن المعدة بيت الداء، ولم يزالوا يكتشفون أنّ أكثر الأمراض التي تصيب جسم الإنسان متعلّقة بمعدتِه وما يدخل إليها. وذكر النبيﷺ طريق الوسط قال: "فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنَفَسِه"، ثم إنّ لأربابِ المُجاهدات شؤون غرائب في هذا الشأن، ولكن الذي يتوجّه على المؤمن أن لا ينسى نفسه من الصيام، وأن يُبعد عن الإفراطِ في الشِّبَع ليكون ذلك أعوَن له على الاستقامة.

قال: "العبادةُ حِرفة حانوتُها الخَلْوة وآلاتُها المجَاعَة" أي التجنُّب من الإفراط في الشِّبَع و"كثرة الأكل يقل الفهم والعلم، والبِطْنة تُذهِب الفِطنة.." أي وعْيِ الإنسان وإدراكُه ويكون فيها مع البِطنة -كثرة الأكل- تقلُّ العبادة والنشاط ويقلّ حضور القلب، فتفتر أعضاؤه ويثقُل بدنه وتغلِبه عيناه فيكثُر نومه، وفي كلام بعض صالحي الأمة: "من شَرب كثيرًا أكل كثيرًا، ومن أكلَ كثيرًا نام كثيرًا، ومن نام كثيرًا حُرِم كثيرًا، ومن حُرِم كثيرًا جاءَ يوم القيامة فقيرًا". فيتوسّط الإنسان ويستعين بتناول الطعام بثلاث أمور أساسية وهي :

  • الحرص أنّه من الحلال.
  • الثاني أن ينوي به التقوّي على طاعة الله.
  • والثالث أن يعمل بالسنن التي تأتي من الأذكار؛

     التّناول باليمين، ومضغ اللقمة مَضْغاً مُحكماً وغير ذلك من السنن الواردة في الطعام، وإذا سقطت اللُّقمة من يده يرمي ما بها من أذى ويأكلها ولا يدعها للشيطان، ويلعق أصابعه بعد انتهاء الطعام، والغَسِل قبل تناول الطعام وبعده، والأكل بأصابعه بيده اليمنى؛ إن كان أمرًا مُتماسكًا من الطعام فبالسبّابة والوسطى مع الإبهام، وإن كان متناثراً فيضيف إليها السبّابة والوسطى والبِنصر ما يكون أيضاً مع الإبهام، فإن احتاج المساعدة إلى الخامس فلا باس بذلك، والأَولى فيما تماسك أن يأكل بالإصبعين ويدفع اللقمة بالإبهام وإلا فبثلاثة ويدفعُها بالإبهام وإن احتاج إلى الخامس فلا حرج في استعماله. الأَولى أن يُبقي إصبعاً أو إصبعين لا يتناول بهما حتى تستوي السُّنة في اللُّقمة أن لا تكون كبيرة ولا صغيرة، كبيرة كأكلِ أهل النَّهَم والشّهوات، ولا صغيرة كأكلِ المُتكبّرين يُصغِّر اللُّقمة تكبُّرًا، فلا يكبّرها ولا يصغّرها. إلى غير ذلك من آداب الطعام، كأن لا ينظُرَ إلى أفواه الحاضرين وهم يأكلون، وكان لا يذْكُرَ شيئاً مُستقْذَراً تنفر منه النفوس عند تناول الطعام. وإذا حضره العطاس أو التثاؤب فليقم أو يلتفت بعيداً عن السُّفرة وعن الآكلين وعن أعينهم إلى غير ذلك من هذه الآداب، والدعاء بعد تناول الطعام "الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قُوّة، اللهم كما أطعمتني طيّباً واستعملني صالحاً" فمن قرأ ذلك غُفِر له ما تقدّم من ذنبه .

و"إنَّ اللَّهَ ليَرضى عن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها"، و"إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ، فضيِّقوا مجاريه بالجوع والعطش" أي بواسطة الصوم وذلك أفضله. وبعد ذلك ذكر أنه ليس الجوع هو المطلوب بحدّ ذاته ولكن كَسْر شهوة النفس وتضييق مجاري الشيطان، أي بإمكانية تسلّطه على الإنسان فيضيق عليه التسلّط على ابن آدم إذا لم يُكثِر تناول الشهوات.

قال الناظم رضي الله عنه:

وطُلوعها بأكمل البلايا *** والحزن والمحن لها زوايا

قال الله سبحانه و تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ…) [محمد:31] وقال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) [آل عمران:186]، قال ﷺ: "إذا أحَبَّ اللّه ُعَبدًا اِبتَلاهُ، فَإِن صَبَرَ اجتَباهُ، وإِن رَضِيَ اصطَفاهُ". وقال ﷺ للرجل الذي قال له أوصني قال: "لا تتهم ربك بشيءٍ قضاه عليك" وقال ﷺ: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له". وروي في حديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: "ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتَّى الهَمِّ الذي يُهَمُّهُ؛ إلَّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِهِ".

واعلم أنه -سبحانه و تعالى- أعلم بمصالح عباده في كل ما أراد و قضى و قدّر، فهو خير لهم كما قال سبحانه و تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، ثم إن النفس مجبولة على حبّ الشهوات الحائلة وطلب اللّذات الزائلة، ومراد الحق إصلاحهم واجتباؤهم، فحينئذٍ داواهم واجتباهم وإنما يفعل ذلك بأحبابه ليصطفيهم، كما قال الرسول ﷺ لما سُئلَ: "أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً، قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ ‏ ‏لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ وإن كان أحدهم ليبتليه بالقهر حَتَّى يقتلَه، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بالرخاء".

وكان بعض السلف الصالحين رضي الله عنهم يستوحشون إذا خرج عنهم عام لم يُصابوا فيه بنقص من مال أو نفس، وقال بعضهم إنما حَمَل فرعون إذ قال أنا ربكم الأعلى، طولُ العوافي والغنى؛ لبث أربعمائة سنة لم يصدع رأسُه ولم يحُمَّ جسمه ولم يضرب عليه عِرق، فادّعى الربوبية ولو أخذته الشقيقة ساعة واحدة كل يومٍ لشغَلَه ذلك عن دعوى الربوبية -نعوذ بالله من مكر الله- فإذًا ينبغي للمريد أن يتلّقى ما يَرِدُ عليه من الابتلاء والمِحَن بالصّبر حتى يحصُلَ له مَقام التسليم والرضا وتنقلب المِحْنة مِنْحة، ويكون قائما مع الله وبالله مُنْشَرِح الصدر مٌنوّر القلب. كما قال -سبحانه وتعالى-:(أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ ) [الزمر:22].

قال الشيخ ابن عطاء في لطائف المنن في أول اجتماعه بشيخه أبي العباس المُرسي، فكان أول ما قلتُ له يا سيدي أنا والله أُحبك فقال: أحبك الله كما أحببتني . ثم شكوت إليه ما أجده من هموم و أحزان. فقال: أحوال العبد أربعة لا خامس لها: النعمة والبلية والطاعة والمعصية؛ إن كنتَ في النعمة فاقتضى الحق منك الشكر، وإن كنتَ بالبلية فمقْتضى الحق منك الصبر، وإن كنت بالطاعة فمقتضى الحق منك شهود المنة، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار. قال: فقمتُ من عنده وكأنما كانت تلك الهموم والأحزان ثوباً نزعته. قال: ثم سألني بعد ذلك بمدة، فقال: كيف حالك؟ فقلت: أُفتِّش عن الهم فلم أجده.

قال سيدنا وابن شيخنا السيد الشريف القطب أبوبكر بن عبدالله العيدروس باعلوي نفع الله به آمين: "كم من أمور في ابتدائها هائلة ثم تعقبها السلامة و الهناء"

هكذا يذكر رحمة الله تبارك وتعالى عليه، أن الطلوع في تلك السفينة يصاحبه أنواع من الابتلاءات والاختبارات:

(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155] وقال الله تعالى: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31] وقال سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان:20]

فيتعرض السائر إلى الله تبارك وتعالى لأنواع من الاختبارات والامتحانات ليجوزها؛ فيحوز الفوز الأكبر وقال لنا أن بعض السلف كانوا يستوحشون إذا مرَّ عليهم عام، ما أصابهم فيه نقص في مال أو في نفسه يقول: ما الذي حصل! ويخاف من ذلك. ويروى أيضًا أن رسول ﷺ خطب امرأة فقيل: إنها لم تمرض قط؛ فتركها وأعرض عنها، وقال: "لا خير فيها".

وكما ذَكر لنا أنَّ فرعون وصل إلى إدَّعاء الربوبية وقد مرَّت عليه السنون الطويلة ما نازلته حُمَّى ولا صداع في رأسه ولا شيء من الأمراض؛ فادّعى الربوبية، قال: ولو أصابته شقيقة كل يوم في رأسه فسيشتغل عن دعوى الربوبية، و لن يدَّعي الربوبية. ولهذا قالوا: إنَّ في النفس الإنسانية هذه الدعوى كدعوى فرعون لو وجدت سبيلا، لكن ما تجد سبيل، ولو وجدت سبيل، لادّعى كثير كما قال فرعون، بعد ذلك قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، ثم بعد ذلك، بعد أربعين سنة من ذلك، قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38] ما أحد إلا أنا فقط، لم يعد هناك أحد أصغر مني ولا أكبر مني أنا الإله الوحيد، أعوذ بالله من غضب الله. 

وهكذا في طغيانه ولمَّا أدركه الغرق (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) [يونس:90] ،هو ذاك رب موسى وبني إسرائيل هو هذا، هو الرب واحد وما أحد غيره ابدًا، قل لماذا من البداية وأنت تقول وتقول؟ قال تعالى: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [يونس:91-92].

فقال: يتلقى المريد ما يرد عليه من الابتلاء والمحن بالصبر؛ حتى يحصل له مقام التسليم والرضا و تنقلب المِحنَة مِنحَة (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155]، (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:157]

يَا صَابراً أَبشِرْ وَبَشِّر مَنْ صَبَرْ *** بِالنَّصْرِ والفَرَجِ القَريبِ وَبالظَفَرْ

نَال الصَبَّورُ بِصَبْرهِ مَا يَرتَجِي *** وَصَفَتْ له الأوْقَات مِنَ بَعْدِ الكَدَر ْ

ويقول أيضًا: ابن عطاء الله أنه شكا لشيخه أبو العباس المرسي ما يجده من الأحزان، قال له: اسمع "أحوال العبد أربعة مالها خامس نعمة وبلية وطاعة ومعصية"، وعليه مهمة ووظيفة وواجب في كل واحد منها، قال: 

  • فإن كنت بالنعمة فمقتضى الحق منك الشكر
  • وإن كنت بالبلية، مقتضى الحق منك الصبر
  • وإن كنت بالطاعة، مقتضى الحق منك شهود المنة له والفضل منه عليك لا لك
  • إن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار" والتوبة إلى الله -تبارك وتعالى- 

قال:  فقمتُ من عنده وكأنما كانت تلك الهموم و الأحزان ثوباً نزعته" -من عليّ- ولم يعد لها، أثر، جمعهُ على الله تعالى وربطهُ بالمؤثر فذهبت عنه الآثار، ويقول سيدنا أبوبكر العدني:🟡

كم أمور في ابتدائها هائله *** ثم عقباها السلامة والهنا

والحيل في مقتضاها حائله *** ما خلت عنه العناية هو عنا

إن في التسليم راحة عاجله *** ومن التفويض فيضان المُنى

والتعنت لا محالة والغلو *** أن تضيِّع صفو يومك في غدا

عندك صفو ونعمات؛ سرور وفرح بالله؛ تقوم بتضييع هذا؛ غدًا وغدًا كيف؟ وبعد غد؟ وبعد ذلك ماذا يمكن أن يحصل لك؟ أغنم الصفو الذي أنت فيه.

إن مستقبلك يحكمه العفو *** مثل ما أحكم أمور الإبتدا

قال سيدنا علي: "رضيت بما قسم الله لي، وفوضت أمري إلى خالقي، كما أحسن الله فيما مضى، كذلك يحسن فيما بقي" - كريم-.

قال شيخنا الحبيب إبراهيم بن عقيل بن يحيى عليه رحمة الله:

إذا أزمة نزلت قِبَلي *** وضِقتُ وضاقت بها حِيلي

تذكرتُ بيتَ الامام علي *** رضيتُ بما قَسَمَ الله لي

وفوضت أمري إلى خالقي*** فما عتم الضيق حتى انقضى

وجاءت تباشير فيض الرضا *** وقد أطفأ الله جمر الغضا

كما أحسن الله فيما مضى *** كذلك يحسن فيما بقي

 

ترك الشواغل

ثم إذا حصل للمريد فوائده المذكورة بمعونة الله وتوفيقه، فلا يشتغل إلا بما هو متعلق بسفره ويترك ما سواه، كما قال الناظم:

ومن طلبها يترك الحكايا

أي من طلب الركوب في هذه السفينة والسفر فيها إلى مطلوبه ومقصوده، فليترك حينئذٍ الحكايا الشاغلة له عن سفره. فلا يكون همه إلا مطلوبه ومقصوده الذي ذكرنا، ويترك كل شيءٍ سواه من الترّهات والحكايا المذمومة والأوهام والخيالات، ولا يلتفت إلى شيء من التواني والغفلة والمناظرة، كما قال الشيخ الناظم نفع الله به آمين:

من رام يركبها فلا يناظر

ولا يتوانى بل يبادر وينهض على أي حال كان، كما قال سبحانه و تعالى: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) [التوبة:41]، أي بالذنوب والاشتغال والعوائق التي ذكرناها فيما تقدم. فينبغي لك أيها المسافر و الطالب أن تبادر إلى الركوب والعزم بالجد والاجتهاد، وتستعين بالله وترجع إليه في كل أشغالك ومطالبك، كما قال صاحب الحِكم رحمه الله: "من علامات النُجحُ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات". وقال أيضًا: "ما تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك ولا تعسر مطلب أنت طالبه بربك"

فينبغي للمريد أن يجتهد و ينهض امتثالاً للأمر وهو معنى قوله إياك نعبد، ثم يستعين بالله ويفنى عن مراده وحوله وقوته؛ 

  • في الشريعة إياك نعبد 
  • والحقيقة إياك نستعين. 

فعلى العبد الموفق لهذا السفر القيام بهذين الأمرين. فمن أعطيهما فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

قال الشيخ ابن عطاء -رحمه الله- في الحِكم: متى جعلك في الظاهر ممتثلًا لأمره وفي الباطن مستسلمًا لقهره فقد أعظّم المنة عليك. فانهض حينئذٍ واستعن بالله كما ذكرنا ولا تسوِّف كما قال الشيخ ابن الفارض -رضي الله عنه- شعراً:

وعد من قريبٍ واحتسب واجتنب غداً *** وشمِّر عن ساق اجتهادٍ بنهضتي

وكن صارمًا كالوقت فالمقت في عسى *** وإياك مهلًا فهي أكبر علتـي

وسِرْ زمِناً وانهض كسيرًا فحظك *** البطالة ما أخرت عزمًا لنصيحتي

وجُذَّ بسيف العزم سوف فإنْ تجد *** نفسًا فالنفس إن جدّت جدتــي

فهذا أيضاً موافقا لما قاله الناظم -رحمه الله- من عدم المناظرة والتسويف ومع هذا فإن أشغال الدنيا تقتل بعضها بعضا،ً وطالب الفراغ منها مغرور، وإنما عليك أن ترميها على أي حال كان، كما قيل شعراً:

ارم بالقيود *** فلا عاش منه مقيَّد

فالعاقل يترقب الموت في كل نَفَس، فماله و للمناظرة لهذه الفانية، و إنما شُغل العاقل فيما خُلِق له، وإنما خُلِق لهذا السفر المذكور، الذي فيه مرجعه إلى موطنه الأول، من غُربة الأكوان إلى حضرة الرّحمن، وهذا هو غاية المطلوب والمراد الذي عناه الشيخ الناظم رضي الله عنه ونفع به، آمين.

لا عاش مَن هو مُقيّد؛

 إرمِ بالقيود *** لا عاش مَن هو مُقيّد

يقول: إذا حَصل للمُريد، بفضل الله تعالى، صبرٌ وحَصلت له المعونة، فينبغي أن لا يتقاعَس ولا يتأخّر، ولا يُهمِل ولا يتمهّل، ولا يَميلُ إلى الكسل والقعُود، بل يُشمّر عن ساق الجدّ، فإذا فُتح له الباب فليدخُل. ويقول: من طلبها يترُك الحكايا، عن الاشتغال بالقواطع بأنواعها وأصنافها والتّسويف والتّأخير، يترك هذه الأشياء كلّها والأمور المذمومة والأوهام والخيالات وجميع القواطع.

قال: 

من طلبها يترك الحَكايا *** مَن رام يَركبها فلا يناظر

يعني لا ينتظر، لا يشتغل بالغير، لا يُؤخر، قال سيدنا الحداد:

يا طالبَ التّحقيق قُم وبادر*** وانهضْ على ساق الهِمَم وخاطر

واصبر على قمع الهوى وصابر*** واصدق ولا تبرحْ ولازم الباب

 واعلم بأن الخير كله أجمع *** ضمن اتباعك للنبى المشفع 

صلى عليه الله ما تشعشع *** فجرٌ ما سالت سيول الاشعاب

ينبغي لك أيها المسافر، إلى الحقّ تعالى، الطّالب الوصول إليه، أن تبُادر إلى الركوبٍ في هذه السفينة، والعزمُ بالجدّ والاجتهاد مستعينًا بالله تبارك وتعالى، وتَطرح مَطالبك عليه، وتعتمد وتَستند إليه.

قال: "مِن علامة النُّجح في النهايات؛ الرُّجوع إلى الله في البدايات" باعتمادُك عليه واستنادُك إليه، "ما تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك"، تطلبُ بنفسك؛ وتظن أنك بقوّتك وفكرك وحيرتك تُحقِّق الأمر وتصل إليه وفي النّهاية، لا تتوفّق ولا تبلغ فيه غاية، ولكن ما تطلبه بربّك -سبحانه وتعالى-؛ تبذُل وُسْعَك وأنت طالبه بربك لا بنفسك يكون بين يديك، وتَتيسّر أموره ولا تتأخّر؛ "ولا تعسر مَطلبٌ أنت طالبه بربّك"، فاجعل طلبك الأشياء كلها به لا بك، حتى يُسعفك ويُتحفك -جل جلاله- فهذه سنته مَع عباده.

قال: اجتهد وانهض في معنى قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ.. ) ولكن ما هو بنفسك، بل (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]؛ أي: بمعونَتك وتوفِيقك نقوم بالعِبادة لا بقوّتنا وقُدرتنَا وحْدنا، فإنّه لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

قال: ويبقى بِحول الله وقوته "ويفنى عَن مُراده وحَوله وقوّته"، ويبقى بحولِ الله تعالى وقوته هو، قال: فالشريعة مُقتضاها؛ إياك نعبد، والحقيقة؛ وإياك نستعين؛ ما تحرّكت في شأن  إلا بتحريكه، وما عملتَ الطّاعة إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، بتوفيقه صَار المُطيع يُطيعه، فعلى العبد المُوفّق لهذا السفر القِيام بهذين الأمرين وهو: بذلُ الوسع ،والاعتماد على الله تبارك وتعالى؛ متى جعلك في الظّاهر مُمتثِل لأمره، ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره فقد أعْظم المِنّة عليك.

 ذكر قول ابن الفارض: "وعُدْ من قريبٍ -بسرعة، لا تبطئ- واحتسب واجتنب غداً" تبطئ، واحتسب واجتنب غداً؛ لا تقول غدًا، بعد غد، فيما بعد.. لا يوجد فيما بعد !! مِنَ الآن قمْ واصدق معه في أيّ لحظة تجد الفُرصة فاغنمها.

وشمِّر عن ساق اجتهادٍ بنهضةِ

وكن صارما كالوقت، فالمقت في عسى *** وإياك مهلًا -التمهُّل والتأخر- فهي أكبر علةِ

وسر زَمِنَاً؛ وإن كنت زمِن ما تقدر، ضعيف، سِر بمقدورك، كما قال صاحبُ الحِكَم: "سيروا إلى الله عُرجًا ومكاسير، ولا تنتظروا الصّحة فإنَّ انتظار الصّحة بطالة"

سِرْ زمِناً وانهض كسيرًا وأنت كسير امشِ، فحظك البطالة ما أخَّرتَ عزمًا لنصيحةِ

وجُذَّ بسيف العزم، (سوف) اقطع، جُذْ: اقطع (سوف) بسيف العزم، حتى يقال إنّ أكثر عذاب أهل النّار من سوف، إنهم كانوا يقولون سوف نتوب، سوف نرجع، ومرت الأيام وماتوا وانتقلوا للعذاب وكلهم؛ سوف سوف سوف؛ جُذَّ بسيف العزم سوف، اقطعه، فإنْ تجد نفسًا فالنفس إن جدّت جدَّتِ: جُد فالنّفس أن جُدْتَ جَدّتِ، إن أنت عزمْت تَجِد مَعك النَّفس وتُوافِقك؛ لأنّها مَا تعوَّدتْ، لنفسِك ما عوّدتَها فلا تتباطأ ولا تتأخر.

        و ارم بالقيود *** فلا عاش منه مقيَّد

فتذكّر، وإن كان نُزول الأجَل بك في أيّ ساعَة أو في أيّ لحظةٍ وعسى الله يبارك في الأعمار، ويرزقنا اغتنامها وصرفها في خير ما يرضي عنا ويختمها لنا بأكمل الحسنى.

النّظر في الرّبح وعدم الالتفات إلى الأخطار 

قال الناظم رضي الله عنه:

إن رام مـا راموه أهل الأسفار *** خاطر والرّبح  ربـح  الاتجــار

ولا  يحسب  ضُرها والأخطار *** والربح في المعنى لـمن يخاطـر

قوله إن رام: أي طلب ما طلبوه أهل الأسفار في سفرهم من الفوائد والغنائم، وهذا يحتمل السفر بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، أما ترى أهل الدنيا كيف يخاطرون بأرواحهم وأموالهم ويسافرون في ركوب البحار، وقطع الفيافي والقفار، فترى الواحد منهم يُمضي عمره كله في السّفر. وإنما جره إلى ذلك طلب الفائدة الخسيسة، وأيضاً مع هذا، إذا حصلت له أدنى فائدة فرح واستغنى و نسي ما لاقاه من التعب والنصب والضر والأخطار.

وأنت أيها الطالب الراغب المسافر في طلب السعادة في الدنيا والآخرة والقرب من الله، فخاطِرْ فيما تطلب فلا تجزع ولا ترتاب، ولا يمنعك عن نهج الصواب لوامعَ السّراب فتُحرم الشراب بلا عزم كما ذكرنا. و توكل على الله في سفرك ولا تحسب ضر هذا السفر ولا الأخطار كما قال الناظم فيما تقدم.

و قوله أيضًا والرّبح ربح الاتِّجار: أي كثرة السّلع والأموال. فأنت أيها المؤمن إنما سلعتك نفسك وروحك وأهلك ومالك، فأسلمهُم لخالقهم المانِّ عليك أولًا بالإيجاد، وثانياً بالمُشْترى وتوالي الإمداد كما قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة:111]. واعلم أن الجنة جنتان كما قال الله تعالى: (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [الرحمن:62]. هما: جنة العرفان وجنة الولدان:

  • جنة الولدان لأهل اليمين والبُله والصّبيان. 
  • وجنة العرفان مطلب الكُمَّـل من الأنبياء والأولياء والصديقين المقربين رضي الله عنهم أجمعين. 

وهذا هو المَرام العالي لأهل الهمم في طلب المعالي. وهو عز الدنيا والآخرة الذي ذكره أبو الحسن الشاذلي في الحزب الكبير: "نسألك عز الدنيا والآخرة، عز الدنيا بالإيمان والمعرفة، وعز الآخرة باللقاء والمشاهدة". فهذا هو الربح الذي هو في المعنى لمن يخاطر.

ما شاء الله،، يقول: إنْ رَامَ راموه، ومَن زادَ زادوه، ومَن أحسنَ الطّلب أعْطوه..

إن رام مـا راموه أهل الأسفار *** خاطر و الرّبح  ربـح  الاتجــار

و لا  يحسب  ضُرها و الأخطار

يعني ما يهاب، ما يهاب الإقدام ولا يهاب الأخطار؛ لأنّ مطلبه عَظيم فلا يُبالي بما يُلاقيه في سبيل ذلك، نعم، وقال: انظر إلى أهل الدنيا كيف يُخاطرون مخاطرات ويُغامرون مغامرات؛ من أجل مكسب دنيء وفاني، وإذا حصَّلوا شيء منهُ نسيوا التّعب الحاصل لهم كله فرحًا بما حصّلوا من هذا المتاع الفاني، فكيف يحمل الجبال الصادق على الله؟!

قالوا بعضهم للحبيب عمر بن عبد الرحمن العطاس: لو تُخَفِّفْ من قيامك في الليل فإنك ستتعب، فمَرَّ ليلة والجماعة من بعض القرى حواليهم عندهم زواج، وهم يشترحون في الليل ويعملون غناء، فمرّ فقال ما هذا الصوت؟ قالوا هذا شرح وغناء، قال: ما المناسبة؟ قالوا زواج، قال: قيام وإلا قاعدين؟ قالوا قيام، قال: ما يحسون بالتعب؟ قالوا: الفرح اللي فيهم يخلّيهم ينسون التعب، قال: حسبكم الله، قال فرحوا بزواجهم ودنياهم ولم يعودوا يحسّوا بالتّعب! ونحن فرحانين بربنا وتقولون لي ستتعب؟! ما الذي يُتعِّب؟ هم الذين سيتعبوا ليس انا الذي سيتعب، أنا فرحان بالربّ الباقي الدّائم -جلَّ جلاله-، فما كان يحسّ بتعب القيام.

قالوا: الجنَّة جنَّتان؛ جنّة عِرفان وجنّة ولدان؛

  • جنة الولدان: لأهل اليمين، البُلُهْ والصبيان.. أكثر أهلها البله.
  • وعلِّيُّون: لأولي الألباب، جنة العرفان مطلب الكُمَّـل من الأنبياء و الأولياء و الصديقين المقربين.

وهذا الذي يُعَجّل ما يُعَجَّل منها في الدنيا حتى يذهب الشوق إلى جنّة الولدان، وهو في الدّنيا لِما يجدْه مِن لذة العرفان، ويقولون: إن كان أهل الجنة في الجنة على مثل ما نحنُ فيه بالليل إنّهم لفي عيش طيب. وذكر دعاء سيدنا أبو الحسن الشاذلي: نسألك عزّ الدنيا والآخرة، عز الدنيا؛ بالإيمان والمعارف، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ..) [المنافقون:8] وله العزّ في الدّنيا، وعزة الآخرة باللقاء والمُشاهدة، في القرب ونيل الرّضوان الأكبر.

اللهم إن نسألك عزّ الدنيا والآخرة، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمّد اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

03 ربيع الثاني 1445

تاريخ النشر الميلادي

17 أكتوبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام