خصائص المؤمنين في دخول ميادين الرحمة والإحسان والفضل العظيم

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 13 شعبان 1437هـ ضمن دروس إرشادات السلوك بعنوان: خصائص المؤمنين في دخول ميادين الرحمة والإحسان والفضل العظيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لربِّنا ولربِّكم ولربِّ السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، وربِّ كل شيء ومليكِ كل شيء، ومَن بيده ملكوتُ كلِّ شيء، والقادر على كلِّ شيء، العليم بكل شيء، المحيط بكل شيء، ذلكم الإلهُ الحق لا إله إلا هو، آمنا به، وعلينا توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير، ورجوناه أن يثبِّت الإيمانَ في قلوبنا وأن لا تزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) وهل ينجو مِن العذاب إلا مَن رحمتَه؟ وهل يدخل جنتَك إلا مَن رحمتَه؟ وهل يسعد في الدنيا والآخرة إلا مَن رحمتَه؟ فيا فوزَ مَن رحمتَ ويا ويل َمن لم ترحم، فإنك تعذب من تشاء وترحم من تشاء، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر برحمتك يا أرحم الراحمين.

أحاط علمُك بأنواعِ العذاب في الظاهر والباطن والدنيا والآخرة، فبإحاطة علمِك بأنواع ذلك العذاب اصرِف عنا جميعَ أنواع ذلك العذاب، لا تعذِّبنا فلا نطيقُ لشيء من ذلك، في دنيا ولا برزخ ولا آخرة، يا ملكَ الممالك، أعِذنا من جميع المهالك واسلُك بنا في أشرف المسالك، وارحمنا برحمتك الواسعة، ورحمتك التي لا يحيط بها غيرُك، ورحمتك التي لا يتصورها من الكائنات شيء، فهي أكبر مِن كل ما يُتصوَّر، حَدَّث بها أعلمُ الخلق بك وبرحمتك عبدك المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال إنك خلقت الرحمة وجزَّأتها مئة جزء وأنزلت جزءً واحداً منها لهؤلاء العالمين على ظهر هذه الأرض، وبها انتشرت الرحمة حتى عند البهائم، حتى ترفع البهيمة يدَها عن ولدها، وتحنُّ له عند رضاعها من أثر تلك الرحمة، وكل الرحمات المنتشرة، فإذا كان يوم القيامة رددتَ ذاك الجزء إلى التسعة والتسعين فرحمت بها عبادك، يا أرحم الراحمين ارحمنا .. يا أرحم الراحمين ارحمنا .. يا ارحم الراحمين ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

وعند الدخول في ميادينِ رحمته يطيبُ النزول في تلك الميادين وتلك المَرابع وتلك المواطن، ما أعجبها، يعرف الناس في العالم المساكن والإسكان ووزارات الإسكان ومشاكل الإسكان وأزمة الإسكان، ولكن هذه مواطن وهذه مساكن وهذه محلات يحلُّ فيها كثير من عباد الله تعالى من المؤمنين والمؤمنات، تحلُّ قلوبُهم، تحل أرواحُهم، ما أعجبَها ما أطيبَها ما ألذها ما أوسعها ما أبهاها ما أنورها، فهل حدَّثتَ نفسَك بالسّكن في تلك المساكن، والنزول إلى تلك المواطن والدخول مع أهليها أهل الطمأنينة، أهل السكينة، فمهما عاشوا على ظهر الأرض وجسدُ أحدهم يحتاجُ إلى أذرع معدودة وإلى مساكن محدودة، لكنَّ أرواحَهم انفسح لها المجال في مساكن الإفضال وجزيل النوال، يسمي الإمام الحداد وادٍ كبير من تلك الأودية للساكنين من أهل المراتب العلية المرتفعة وادي الفضل، ويقول:

 لم أزل بالباب واقف فارحم ربي وقوفي **وبوادي الفضل عاكف فأدم ربي عكوفي

 وبواد الفضل عاكف .. ومن دخل باب الفضل كيف لا يعكف فيه؟ وأين يطيب له أن يخرج منه؟ وإلى أي وادٍ سيخرج من هذا الوادي؟

ولما بدا لهم حُسن الأبواب وزانَ لهم الوقوف لعظيمة الوهًّاب على تلك الأبواب قال:

 وحسبي أني بالباب حاني ** على الأعتاب إلى يوم القيامة

وهي لا تزال مفتّحة، إنما يكون التعبير عن معانيها أو حصول نتائج وثمرات لها في ما قال ربكم: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وقال في آية أخرى: (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ) وقال في الآية الثالثة: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ولم يذكروا من الصفات المباركات إلا صفة الصبر (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) نعم عقب الدار لمن صبر، صبر لأمر الله وامتثاله وصبر عما حرم الله عنه من صغير أو كبير أو قليل أو كثير تعلق بأعضائه أو بقلبه وترك ذلك وجانبَه، وصبر على أذى الخلق، وصبر على انتقاد الخلق، وصبر على سبِّ الخلق، وصبر على ما يكون من جفاء الخلق، وصبر على أنواع المصائب والشدائد والبلايا النازلات، وإذا صبر في كل ذلك تحولت له كلُّها إلى أبوابٍ يدخل فيها هذه الميادين التي ذكرناها، إن آذاه أحد دخل إلى ميدان أفسح، وإن ترك معصية دخل إلى ميدان فسيح، وإن عمل طاعة اتسع له المجال في ذلك الموطن، ولم يزل حتى يُزَجَّ به إلى واد الفضل، وقال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

والمفتاح لذلك أن تُصغيَ وأن تلبِّيَ وتجيبَ دعوةً من الله حملها محمد، الله ربي وربك (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) المَلك ولا مُلك لغيره، إلى كم تغترَّ بمُلكِك؟ معك شيء من الريالات معك شيء من عقارات؟ أنت وإياها مملوكون، وكلها عاريات ولها وقت يزول بسرعة، عندك مُلك أرض، عندك مُلك ناس، عندك مُلك دولة، أنت وهم مملوكون.. أنت وهم مملوكون (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ) سبحانه عز وزجل، قال سبحانه وتعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ  * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا) هو الذي بعث في الأميين، اعتنى ببعثة هذا الرسول وعظَّم شأنَه واعتنى بإبرازه وإيجاده إلى هذا الوجود، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وهذا أسعد وأرفع ما يتحصَّلون عليه في حياتهم: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ثم وعزَّة ربي خالقي وخالقِ كلِّ شيء: مَن لم يسمع تلاوة هذه الآيات مِن معدنها ولم يتزكَّ بهذه التزكية مِن موطنِها ولم يتعلم الكتاب هذا والحكمة فهو والله مهما وُصف بالعلم جاهل، ومهما وُصف بالربح خاسر، ومهما وُصف بالفوز فهو الساقط الهابط النادم، كائن مَن كان من غير استثناء، يمين بالله، حق وصدق، كل الذين لم يسمعوا هذه الآيات ولم يتزكّوا هذه التزكية وإن سُمُّوا رؤساء، وإن ملك أحدهم فدانات من الأرض ألوفاً وملايين خاسرون والله، نادمون والله، ولقد بلغتهُم الدعوة كلهم كذلك، إلا أهل هذا الخير: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) مَن هم؟ أنا وأنتم والأجيال التي جاءت بعد الصحابة كلهم إلى آخر الزمان ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ  ) ما لحقوا بهم، وفي كل جيل مَن يلحق بهم (لما يلحقوا بهم) ولمّا عند أهل العربية لأمر منتظر يأتي (لما يلحقوا بهم ) يعني منتظَر لحوقهم بهم (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عرفت الباب، قال: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

بهذا الفضل العظيم دخل إلى الدائرة الصحابة ودخل إلى الدائرة وتلك المواطن صالحوا التابعين وتابعيهم من الصديقين والأولياء والمقربين من العارفين من أهل اليقين من أهل التمكين من العاملين من الصادقين من المخلصين من المنيبين من الخاشعين، دخلوا من هذا الباب إلى ميادين الإحسان، إلى ميادين الفضل والتدان، إلى ميادين تجلِّي الرحمن، إلى ميادين واسعات نادى عليها ربعي بن عامر في حمل الرسالة: لنُخرج الناسَ من ضيق الدنيا.. إلى الميادين هذه، هو قد دخلها عرفها، من هم في ضيق الدنيا؟ يقول لرستم قائد الفرس، كم تحته جيوش؟ كم معه أملاك؟ ضيق الدنيا عندك تعال بخرّجك من الضيق إلى السعة التي عندي، أنا دخلتها بمحمد، وأنت يا قاعد في الضيق ما تشعر أنه ضيق.. ضيق.. قائد الجيوش.. من ضيق الدنيا تعال هنا من الضيق حقّك هذا أنت وجيوشك ومُلكك هذا.. عليه رضوان الله، أراهم قدرَ ملكهم عنده، قال لما اتسع له المجال قام يضرب الوسائد برمحه، قالوا لِم تفعل كذا؟ قال أنا ما جيت عندكم أنتم طلبتموني أجي، صعد إلى فوق عند قائدهم، قال انزل، قال: ما أعجبكم تدعوني ضيف عندكم ثم تهينوني، سكت. قال دعوه يتكلم، قال: ما غرَّكم بالولوع بنا وبديارنا، قال: الله ابتعثنا.. ليس في عقول الصحابة ومشاعرهم مرجعية إلا الله.. ما الذي أتى بكم؟ قال: الله ابتعثنا لنخرج الناسَ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومهما كان ومهما قام من عدل في أي دين ففيه إعوجاجات في جوانب في الحياة لا تكمل إلا بالإسلام.

ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، يخرجون الناس من هذا الضيق، قال بعض أهل السيرة يمكن في ذلك اليوم ربعي نفسه ما تغذَّى، وليست عنده ثياب كثيرة، قال تعال بخرِّجك من الضيق حقّك أنت يا قائد الجيوش إلى السعة التي أنا دخلت فيها، فما أعجبها من مواطن.

دخلوا من ذاك الباب الفسيح إلى هذا المعنى الذي هو نتائج وحقائق التسبيح، وفيه تسبَح الأرواحُ خير سباحة، وذلكم المسمى عند أهل الذوق بالسياحة، والسائحون مِن أمة محمد، حتى لا يتصورَ أحد أنه مجرد المرور على الأراضي للتفرُّج، قال: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. إما يقاتل أعداء الله، وإما يقاتل نفسه الأمارة، وإما يعلِّم أولاده وأهل بيته، وإما يحرس أسرته من السوء والشر، قال: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله.

يحبس نفسه على ذكر الله حتى يطيب ساعة وساعتين وثلاث ساعات على الذكر، أربع ساعات، كان أرباب الصلاح في الأمة يقولون لطالب الوصول إلى الله والقرب من الله إذا ما طاب له أن يجلس من المغرب إلى الفجر جلسة واحدة في ذكر مستمر ما يجي منه خبر في الطريق، ليس من أهل الطريق، قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

 ولما تساءل بعض أهل المعرفة والذوق عن أشد الصبر، ما هو أشد الصبر؟ فأخذ بعضهم يقول: الصبر على المصائب، الصبر على الأمراض، الصبر على المُجافين والمحافين والمؤذين؟ قال لا، الصبر على الطاعة، الصبر عن المعصية؟ قال لا، ما أشد الصبر عندك؟ قال الصبر الذي لا يطاق، الصبر الذي ما يقدر عليه، الصبر عن الله، قال مخلوق يصبر عن ربه! كيف يصبر عن ربه؟ ولهذا قال أحد العارفين: إلهي مهما عذَّبتني بشيء فلا تعذبني بذُلِّ الحجاب.. لا تجعلني محجوبا عنك.. كل شيء يهون لكن الحجاب عنك كيف يكون؟ قال الله في أهل المعصية: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) والآخرين: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) اللهم ألحِقنا بهم وأشهِدنا ما أشهدتهم يا الله، آمنا بك وبكتابك وما ذكرت عن هؤلاء وإن باعَدَتنا ذنوبُنا فإنا ندمنا عليها، وتبنا إليك منها ونستغفرك لها فاغفرها يا خير الغافرين. وساقنا رجاء مغفرتك إلى تلك المجامع سواء في شعب النبي هود أو إلى هذا الاجتماع بعد الرجوع من شعب النبي هود، ساقنا رجاء مغفرتك يا خير الغافرين يا خير المتجاوزين.

وآمنا بما أنزلت وما تذيق هؤلاء وتُشهِدهم من المقربين فنسألك بذلك أن لا تحرمَنا الدخول في دوائرهم والحضور معهم وأن تُشهدَنا ما أشهدته المقربون: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) هؤلاء اللي عرفوا قدر الأرائك الكبيرة وما حملوا وزن للأرائك الصغيرة حق الدنيا مثل ربعي بن عامر، قال: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) خذ الآن الأرائك لما تركت من أجلنا الأرائك الصغيرة خذ الكبيرة، تركت الحقيرة خذ العظيمة الغالية، تركت هذه الأرائك الساقطة خذ الأرائك، وخذ أريتك وخذ نمرَقَتك وخذ فراشك من السندس.. من الياقوت.. من الزبرجد.. ولا يتغير ولا يتوسخ.. ورائحته تفوح كلها.. لو أحد أخذ قطعة من حقك الأريكة وإلا من الوسادة إلى الدنيا لضوَّعت شرقَ الأرض وغربها رائحة طيبة، هذا هو المُلك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) والله إن ذلك حق، وهذا مرجع أهل الهدى إلى ذاك المكان، والله يُنزِلنا في منازلهم والله يوردنا إلى جناته دار المُلك الكبير، قال سبحانه وتعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ) عامة الأبرار ختامه مسك: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن) يمزج لهم هذا الشراب أهل مرتبة الأبرار، فوقهم المقربين، (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) التسنيم الذي يُطيَّب به شراب الأبرار، أين هو؟ قال: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) يشربونه مباشرة من التسنيم والباقين يخلطوا لهم شوية من هذا حق اللي فوق في الجنة، وكلهم فوق حقيقة، ولكن: هم درجات عند الله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ  * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) هنيئاً لك إن شربتَ مِن الذي مزاجه تسنيم، وإن شربت من العين نفسها.. هنيئاً لك، المهم لا تجي تلك الأوقات وأنت في مكان ثانٍ، وأنت في فريق ثانٍ، وأنت في صنف ثانٍ، وأنت مع حزب ثانٍ، وأنت مع قوم آخرين، لا يأتي وقت شرابهم هذا، وأنت في نار موقدة، وأنت في حميم (وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَائَهُم).

نسأل خالق الجنة والنار أن يدخلَنا الجنة وينجِّينا من النار، يا الله .. مهما اقتضت أعمالُنا وأقوالُنا أو صفاتُنا دخولاً إلى النار فإنا نستجير بك من النار ومن أعمالنا السيئة ونفرُّ منها إليك ونتذلل بين يديك، ونقول ربنا: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وأهلينا ووالدينا ومن يسمعنا ومَن في أصلابنا وذوي الحقوق علينا (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) وما ننسى الباب: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) فنحن وراءه، ثبِّتنا على اقتفائه، ينازعوننا في الأرض بيقودوننا في أخلاق أو في قيَم سفَلة وسقَطة مسلمين وكفار، ما لهم حق في ذلك، الأسوة محمد، القدوة محمد، ومن تستبدل به؟ من غيره؟ هذا الذي ارتضاه ربك لك وقال قل لهم: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) اتركوا هذه الموضات، اتركوا هذه التقليدات، اتركوا هذه المتبعات للساقطين والساقطات، شوفوا القدوة، شوفوا الأسوة، شوفوا من ارتضى لكم: (فَاتَّبِعُونِي) وشوفوا النتيجة الكبرى: (يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ) (يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ) (يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ) أهنئ من يعيش معنا على ظهر الأرض يبيتون والله يحبهم، ويصبحون والله يحبهم هنيئاً لهم ثم هنيئاً لهم ثم هنيئاً لهم، ولولاهم ما أحببنا البقاء لحظة  في الدنيا، ولولاهم لما بقيت  الدنيا على حالها ولا جاء الموعود الأكبر لعباد الله تبارك وتعالى، هنيئاً لمن يبيت والرب يحبه، إنسان من البشر مثلك يمشي ويأكل ويشرب ولكن محبوب لرب الأرباب، محبوب لمولى العرش، محبوب لخالق السماوات والأرض.

(يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) باتباعه، باتباعه من باب الله اسمه محمد، يا رب أدخلنا منه.

أنت باب الله نال المرتجى** والأماني من عليه وقفا

 أنت حبل الله مَن أمسكه ** فاز بالخير وبالعهد وفَى

 ربي لاطِفنا بجاه المصطفى ** واسقنا الغيث فإنا ضعفاء

 تجعل قوماً في البرزخ معه فاجعلنا في البرزخ معه، تجعل قوماً معه في المحشر فاجعلنا في المحشر معه، تجعل قوماً معه تحت لواء الحمد فاجعلنا تحت لواء الحمد معه، تجعل قوماً معه عند المرور على الصراط فاجعلنا ساعة المرور على الصراط معه، يا ربنا معه .. بقَدرِه عندك، بجاهِه عندك، بما بينك وبينه ارحمنا به .. ارحما به .. ارحمنا به.. وأكرمنا فيه يا رب، أكرمه فينا بمعيَّته يوم القيامة، تدخل قوماً الجنة معه فنسألك أن تدخلَنا الجنةَ معه يا الله (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) اقرأها حالية (مَعَهُ) هذا كأس من الكاسات التي تدور في الميادين التي ذكرناها.. معه.. معه..

لما ذاق هذا الكأس الصحابة، وجاء وقت الجهاد وأرادوا أن يصلُّوا أراد النبي أن يفرقهم فرقتين، فرقة تحرس وفرقة تصلي، كلهم يريدون معه لأنهم ذاقوا حلاوة ( معه ) دخل الصحابة الكرام هذا الميدان رضوان الله عليهم، كانوا قبل إسلامهم لا يذوقون إلا هذا الشراب حق الدنيا، إما من شعير أو بُر أو خبز أو حلوى لا يعرفون إلا هذا، لكن لما آمنوا  دخلوا الميدان وتحوَّل حالهم.

 سيدنا عمر يقول: ما تمنيت الإمارة منذ أسلمت.. لماذا ما تمنيت الإمارة منذ أسلمت؟ يعني أذواق الإمارة تأسر النفس، ويصعب التخلص منها، قال تخلصت منها وقت المبايعة في وقت عاهدت النبي وأسلمت، انتهت هذه الأذواق كلها وصرت أذُوق الذوق فوق.

 قالوا يا عمر بن عبد العزيز: كان يأتيك بالثوب أربعمائة غالٍ تلبسه تقول ما أحسنه لولا خشونة فيه، ألا يوجد ألين، فالآن وعندك الخِلافة وجئت لك بثوب بأربعة دراهم ليست أربعمائة، أربعة دراهم خشن تلمسه تقول ما أحسنه لولا ليونة فيه، ما في أخشن من هذا، قال: إن لي نفس ذواقة تواقة، كلما ذاقت شيئا تاقت إلى ما فوقه، حتى ذاقت في هذه الدنيا مُلكها حتى فتاقت إلى ما هو فوقها، سيدنا عمر يقول هكذا منذ أسلم ذاق هذا الذوق رضوان الله عليه، فالصحابة ذاقوا هذا الذوق.

قالوا من الذين يحرسون؟ من الذين يصلون معه؟ قال رب العرش أنا أرتب لهم المعية كلهم اسمع مني: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ) معك، هذه كلمة تتطرب الأرواح، (مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) يا سلام.. (سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) وإلا كان أسهل أن يصلى بهؤلاء، ثم يصلي شخص آخر بالآخرين، قال لا، أنت محلك قم نفس الصلاة يدرك هؤلاء معك التحريم، ويدرك هؤلاء معك التسليم، لتكون صلاتهم عند مقابلتهم إياي معك، ووافدٌ عليه مع حبيبه كوافد مع غيره؟ لا والله، ومن أجل عين ألف عين تُكرم، ومن أجل عين تُكرم مدينة ومن أجل عين تُكرم دُوَل، وهذا أكرم عين على الله، أنت تشوفه في بشريته وإنسانيته يمشي على ظهر الأرض بجسدانيته اسمع ربك يقول: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) فين هو؟ يقول له ربك: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) هل  أحد يستكثر مدح في هذا النبي؟ من يقدر يجيب مثل هذا المدح؟ من يقدر يجيب مثل هذا الثناء؟ رب العرش مبالغ، ربك بالغ في مدحه، أنا مثل ربي نبالغ في مدحه أتشبه بربي، يقول له: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ومعك.. معك.. سلِّم إذا قمت إلى الركعة الثانية يكملون ركعتهم يسلمون ويذهبون في وجه العدو، تأتي الطائفة الثانية وأنت محلك فيُحرمون معك إذا وصلت إلى التشهد اصبر انتظرهم ليقوموا ويأتوا بركعتهم الثانية ثم سلم بهم يسلموا معك، هؤلاء يدركوا التحريم وهؤلاء يدركوا التسليم، وقسّم الصلاة هكذا، هذا من أجل سر معك.. متى تطرب روحك بمعك؟ وإذا طربت روحك بمعك كنت جندياً تعرف تبذل الروح فين، تعرف تقدمها فين، وهان عليك كل شيء في سبيل المعية لخير البرية.

(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم) يا ثوبان الآية ما ذكر لك فيها حور ولا قصور، قال اسكت ساكت أنا قد فررت من حور وقصور دون المعية، الحين قد بشّرنا بالمعية اسكت حصل كل شيء، الآية التي خرجت مبشِّرة لهم ما ذكر فيها لا حور ولا قصور ولا أنهار ولا أشجار، قال له معه، بس خلاص راح التعب راح الخوف راح الحزن ، مع (فَأُولَٰئِكَ مَعَ) مع؟ انتهت المسألة، وأنت ثلاث أيام ما تأكل وما تشرب وكلمة مع بعدها بعَّدت كل شيء؟ قال هذه المعية تبعد كل شيء لا خوف لا تعب لا هَم، (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) وهم إنما يدورون حول كعبتهم فوق، جابهم الحق على العموم عرفوا أنهم هم معه فانتهت المسألة لأنهم شَكُوا فراقه، قال أنا في الدنيا وأكون في أهلي وولدي فأذكرك فلا يقر لي قرار حتى آتي وانظر إلى وجهك، هذا حالي في الدنيا، فذكرت الآخرة وأنها دار الأبد فقلت إن لم أدخل الجنة لم أرك وإن دخلت الجنة كنت في منزلة دون منزلتك فلا أراك، ماذا تستشف من الكلام هذا؟ لما دخل ثوبان ذاك الميدان صار نعيم الجنة بما فيها لا يغنيه عن ملاقاة حبيبه ورؤيته والجلوس معه، وعذاب النار وشدتها لا يساوي فراقَه لمحبوبه، إن لم أدخل الجنة تمام أتعذب وتجيني حيات قال دع الحيات ما بشوفك فلا أراك ما قال بتلدغني الحيات ولا يسقوني الحميم، كل هذا سهل، لكنه هل أراك أم لا.. هذا ما يساوي شيء تعبه عند تعب فراقك تعب حرمان رؤيتك.

والجذع بينه وبينه أذرع ما طاق الفراق وحَن، وأنت قلبك كم لك منه؟ قلبك كم لك منه؟ قلبك كم لك منه؟ ما فيه حنين !؟ ولو حن قلبك ما بيخرج لك؟ خرج لجذع.. وضم الجذع.. ولو حنَّ قلبُك لضمَّ قلبَك إليه.. لكن الجذع لمَّا حنَّ كاد أن ينشق.. من شدة حنينه.. فترك الخطبة وخرج صلى الله عليه وسلم وضم الجذعَ إليه، فشبهوه بالأم تسكِّت طفلها وتضمه إليها حتى يخف بكاءه ويسكت، يقول الراوي فالتفتُّ في المسجد فإذا كل واحد من الصحابة مُكبٌّ برأسه بين رجليه يبكون، كل الصاحبة يحنّون، كل الصحابة يبكون، فنعم تلك القلوب واللهم ألحِق هذه القلوب بتلك القلوب، حتى نرد معهم الموارد وحتى نصل معهم إلى الميادين ونسكن معهم شريف المساكن التي أسكنتَهم فيها يا رب، وحُقَّ لنا أن نسأل هذا الطلب وإن لم نكن له أهلاً ولكنا نسترحمه ونستكرمه ونوقن أننا ما سألناه وما استرحمناه وما استكرمناه إلا بفضله وإلا بتوفيقه وإلا بإذنه جل جلاله.. وأنه لا يتعاظمه شيء، ولو شاء أبعد قلب على ظهر الأرض الليلة هذه يكرم المجمع سبحانه بنظرة من عنده يرد بها ذاك القلب إلى قلب طاهر بات الليلة وهو في الطاهرين.. الله يفعل ما يشاء، يحكم ما يريد، لا رادَّ لقضائه، لا معترض عليه في حكمه، هو الملك وحده.

يا مَن لا يتعاظمه عطاء ارحم أيدي الفقراء، ارحم أيدي الضعفاء، إلهي استرحمناك واستكرمناك وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، متصلين بأهل الإنابة والإخبات من صالحي عبادك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فبهم ارحمنا وبما آتيتهم من افتقار إليك فجُد علينا، وبما منحتَهم من صدقِ تذلُّل بين يديك أكرمنا، أجِب دعاءنا، لبِّ نداءنا، اغفر أخطاءنا، املأ مِن السر وعاءنا، أدخِلنا ميادينَ قربك ومعرفتك وحبك، وأحلِّنا بواد الفضل يا متفضل يا ذا الفضل العظيم يا الله، ولا تدع أحداً مِن أهل مجمعِنا ولا ممن يسمعنا ولا ممن والانا فيك لا تخطئهم رحمتك ولا نظرتك بالرأفة في ليلتنا هذه وساعتنا هذه ومجمعنا هذا يا الله.

 نادوه، اسألوه، اطلبوه، توجهوا إليه، يسمعكم يقبلكم يستجيبكم ينظر إليكم يرحمكم يتكرم عليكم يتعطف عليكم يسامحكم يعفو عنكم يقبل عليكم بوجهه الكريم ويحبكم إذا شاء .. سيدنا مولانا إلهنا ربَّ العرش يا قريب يا سميع، يبيت قومٌ لك على ظهر الأرض محبوبين لك فاجعلنا فيهم، اجعلنا منهم.

اللهم صل على سيدنا محمد سيد المحبوبين وآله وصحبه صلاةً نكون بها محبوبين لك ومحبوبين له في عافية آمين، اللهم صل على سيدنا محمد سيد المحبوبين وعلى آله وصحبه صلاة نكون بها محبوبين لك ومحبوبين له في عافية آمين، اللهم صل على سدينا محمد سيد المحبوبين وعلى آله وصحبه صلاة نكون بها محبوبين لك ومحبوبين له في عافية آمين، قولوا جميعاً آمين، تقول الأرواح معكم آمين، تقول الملائكة معكم آمين، ويجيب ربُّ العالمين، ويكرم أرحم الراحمين، ويتفضل ربُّ العالمين، الله اكبر لا إله إلا هو آمنا به وعلينا توكلنا وإليه أنبنا وإلينا المصير.

 لم أزل بالباب واقف** فارحمن ربي وقوفي

 وبوادي الفضل عاكف ** فأدم ربي عكوفي

 ولحسن الظن ألازم **فهو خِلي وحليفي

وأنيسي وجليسي ** طول ليلي ونهاري

 قد كفاني علم ربي ** من سؤالي واختياري

 حاجة في النفس يا رب** فاقضها يا خير قاضي

وأرِح سرِّي وقلبي ** من لظاها والشواظ

في سرور وحبور ** وإذا ما كنت راضي

 فالهنا والبسط حالي ** وشعاري ودثاري

 نعوذ بوجهك أن يبيت واحد منا من أهل مجمعنا ومن يسمعنا وأنت عليه ساخط، نعوذ بجلالك، نعوذ بكمالك، نستجيرك من ذلك، اللهم ارضَ عنا.

ربي فاجعل مجتمعنا ** غايته حسن الختام

وأعطنا ما قد سألنا ** من عطاياك الجِسام

 وأكرم الأرواح منا ** بلقاء خير الأنام

 وابلغ المختار عنا ** من صلاة وسلام

 برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلِّ اللهم على المصطفى وآله وصحبه والنبي هود وجميع الأنبياء والمرسلين وآبائهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدنيا والحمد لله رب العالمين.

للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة

 

 

العربية