قوة صلة التقوى بعروة المحبة

للاستماع إلى الخطبة

خطبة مكتوبة بعنوان: قوة صلة التقوى بعروة المحبة

 للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بعيديد، تريم، 28 صفر الخير 1439 هـ

 الخطبة الأولى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمدُ لله الملكِ الوهابِ الكريم، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملكُ وله الأمرُ وله الخلقُ، وهو على كل شيء قدير، جامع الأولين والآخرين لليَومِ العظيم، فتظهر آثارُ محبتِه في مَن أحب، وتتفاوتُ بينهم الرُّتب.

 وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعينِنا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله، أحب من يُحب، وأكرم مَن يرفع لهم الرتب، وأطيب مَن طيَّب، وأقرب من قرَّب، فصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك أقربِ قريبٍ إليك، وأحبِّ حبيبٍ لديك، وأكرمِ الأولين والآخرين عليك، سيدِنا محمد وعلى آله الأطهار، وأهل بيته قرناء القرآن لن يتفرَّقا على مدى الأعصار، حتى يرِدَا عليه الحوضَ في يوم الأهوالِ الكبار، وعلى أصحابه الأخيار، معادنِ الصدقِ والنصرةِ والمحبةِ والإنابةِ إليك واتباع الآثار، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم وضعِ الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبِهم، والملائكة المقربين، وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد.. عبادَ الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

 تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحم إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها، وصيةُ ربَّكم لأنبيائه ورسله، وللأولين وللآخرين مِن عباده جل جلاله وتعالى في علاه.

ولننظُر مِن شؤون تقوانا لمَن برَانا إلى رأسٍ في التقوى، وأساسٍ لها، وذلكم ما يكتنفُ القلبَ وينازلُه ويحلُّ فيه من محبة.. مَن تحب؟ وماذا تحب؟ ولمن تحب؟ وفي من تحب؟ ما يكتنف قلبَك أيها المؤمن بهذا الإله، فإن رأسَ تقواه أن يستقيم قلبُك على حبِّه حتى لا تحبَّ إلا له، ولا تحبَّ إلا من يحب وما يحب، والنقص في ذلك نقصٌ في التقوى، يرقبُه مِن قلبك عالمُ الإسرار والنجوى.

إن رضاك أن ينصرف القلبُ منك إلى محبةِ أحد أو شيءٍ لا يحبه الله، ولم يشرع لك محبتَه خيانةٌ بينك وبين الخالق الذي لا يستحقُّ حبَّك أحدٌ غيره، ولا يجوز لك أن تحب غيرَه إلا له ومِن أجله، إن كنتَ تعرفُ مَن هو؟ إن كنتَ تعرفُ عظمتَه، إن كنتَ تعرفُ جلالَه، إن كنتَ تعرفُ كبرياءَه، إن كنت تعرفُ غناه، إن كنت تعرف رجوعَك إليه، إن كنت توقن أنَّ الأمرَ بيده، إن كنتَ تستشعر ألوهيتَه وربوبيتَه فيحقُّ أن لا تخونَ بصرف المحبةِ إلى ما لا يحب، ولا إلى مَن لا يحب.

 إنَّ الأمة شُرِّفت بسرِّ المحبة إذ بُعث إليهم سيدُ الأحبة فاعتلَت لهم الرُّتبة، وهم في هذه الأيام يستقبلون ذكرى ولادتِه وبروزه إلى عالم الدنيا بينهم، وإيجادِ الحقِّ له بعد تكميلِ خلقِه جسداً وروحاً، وإبرازه بين هذه الأمة في ساعاتٍ لم تشهد الدنيا أشرفَ ولا أكرمَ منها مِن ساعةِ وضعِه وولادتِه إلى ساعةِ وفاته، فكانت خيرَ أيام الدنيا وأشرفَها، إذ فيها الأكرمُ على الله، إذ فيها الأحبُّ إلى الله، إذ فيها العمرُ الذي أقسم الله به في القرآن تعظيماً وإجلالاً واستثارةً لمحبةِ هذا الحبيب ( لَعَمرُك ) أرأيته في القرآنِ أقسم بعَمر ملك، أم بعَمر نبيٍّ غير نبينا، أم بعَمر مقرب وصديق، إنما أقسم بعُمر حبيبه، أقسم بعُمر النبي محمد، فقل لي ما بداية هذا العمر؟ المولد الشريف، بداية العمر الرفيع المنيف، ساعة أن وُضع المصطفى، ولقد صدق العباس وهو يتكلم بلسان المحبة عن سيد الأحبة ويخاطبه بهذه اللهجة المباركة المنورة :

وأنت لما ولدتَ أشرقتِ الأرض ** وضاءت بنورك الأفقُ

فنحن في ذلك الضياء ** وذلك النور وسبلَ الرشاد نخترق

صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

عند رجوعه من تبوك قال له اِئذن لي أن أمتدحك بشعر فأنشأ أبياتاً في مولد المصطفى، ختمها بالبيتين اللذين سمعتَهما، أرأيت ما تحمل البيتان!؟ أرأيتَ ما سمع سيدَ الأكوان!؟ ونُسِب النور وأعلاه في القرآن، ونُسب الهدى ونُسب الرشاد إلى المولد وساعة المولد. نُسِب إلى مولده عليه الصلاة والسلام، وسمع هذا الكلامَ خيرُ الأنام، أيبقى بعد ذلك ريبٌ في بالِ مسلمٍ أن يتأخرَ عن التعبير عن محبتِه لمحمدٍ بفرحِه بمولده، باستبشاره بمولده، نجد أعداداً، ألوفاً بل ملايين على ظهر الارض يفرح أحدُهم ويقول هذا ذكرى ميلادي وهذا يوم ميلادي، ومن أنت!! محمد وُلد، وبولادته أشرقت الأرض وضاء الأفق، وهو القائل في حديثه الصحيح: ( وإنَّ أمي رأت حين وضعتني نوراً أضاءت له قصورُ الشام) نور الشمس يشرق كلَّ يوم، فهل يمكن أن تُرى قصور الشام من مكة بنور الشمس ؟

ولو أضفنا إلى الشمس شمساً أخرى وأين الشموس، لما استطعنا أن نرى مِن مكةَ قصورَ الشام، ولكنه نور قرَّب البعيد، ولكنه نورٌ خرقَ الحُجب، ورأت أمُّه قصورَ بصرى مِن وسط بيتِها بمكة المكرمة حين وضعتِ المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم.

كان في دعائه فيما رواه الترمذي وغيره، أن يقولَ صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ مَن حبُّه ينفعني عندك.  

أتعقل هذا الدعاء.. إنَّ مِن خلقِ الله مَن حبُّه ينفعُ عند الله، إنَّ مِن عباد الله مَن حبُّه ينفع عند المولى الجبار رب العرش.. أتدرك هذا!؟ ونبيُّك يطلب أن يحبَّ هؤلاء الأصناف الذين حبُّهم ينفع عند عالمِ الظاهر والخاف.

أنت أحَبُّهم، ولولا ما آتاك مِن حبٍّ ما أحبَّ سواك، وبحبِّك أحب، وبمحبته إياك أحبَّ مَن أحب، فتتقرب أنت أيها الأحبُّ بمحبةِ مَن دونك مِن أجل الرب؟ نعم والله .. إنه يتقرب إلى الله، بل ويسأل ويلحُّ على ربه أن يجعلَ في القلب محبةَ مَن محبتُهم تنفعُه عند الإله، تنفع عند الإله؛ محبة مَن هو دونه صلى الله عليه وسلم تنفعه عند الإله، فكيف بمحبةِ دونه له، أي منفعة لأي محبة تحلُّ في قلبِك عند ربك تنتفع بها أعظم وأجل وأكبر مِن أن تحبَّ الأحبَّ إليه، مِن أن تحبَّ الأقربَ إليه، من أن تحبَّ الأكرمَ عليه، من أن تحبَّ الأطيبَ والأشرفَ عنده، والله لا أجد لقلبِك بعد الله شيئاً ينفعك حبه عند الله كمحمد، لا والله العظيم، ولا وعزة رب العرش الكريم ،لا أجد لقلبِك حبَّ أي شيء بعد الله شيئاً ينفعك عند الله كحبِّ محمد، لا والله العظيم، لا إنساً ولا جنّاً ولا ملَكاً ولا رئاسةً ولا دنيا ولا جنة ولا آخرة ولا أرضاً ولا سماء لا أجد لك ما ينفعك عند الرب في محبة أي شيء مثلَ محبةِ أكرم الأشياء على خالق الأشياء، وأحبِّ الأشياء إلى ربِّ الأشياء، إنه ابنُ عبدالله بن عبد المطلب، إنه محمد، أحمد الذي بُعث إليك بالرحمة، فاتَّقِ الله، ولا تُولِ قلبك بعد حبِّ ربِّك حبَّ شيء قبلَه، ولا نفسك ولا ولدك ولا أهلك ولا مالك ولا دنياك ولا آخرتك ، ليكن أحبَّ إليك.

 وتأمل قولَ ربك يهدِّد الذين يقدِّمون في قلوبهم محبةَ شيء على الله ورسوله، بل وعلى الصدق في القيام مع هذا الرسول بالجهاد في سبيل الله، فيقول له قل لهم، بلغهم هذا الخبر خذ الرسالة يا خاتم المرسلين وقل لأمتك ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا )

فتربصوا.. تهديد ووعيد مِن مَن؟ مِن قادرٍ ذي بطشٍ شديد، مَن يقوى عليه ( فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ    )

والله لا يهدي القوم الفاسقين الذين يحبون أهلاً أو مالاً أو عشيرةً أو أزواجاً أو أموالاً أو مساكن أو تجارة أكثر مِن الله ورسوله وجهادٍ في سبيله.

أقيموا ميزانَ التقوى لله في قلوبكم، لا تُولُوا قلوبَكم محبةَ غير الله إلا مِن أجل الله، وليكُنِ الله تعالى ورسولُه أحبَّ إليكم مما سواهما.

ومن أجلِ الله أحبَبنا رسولَ الله، ومِن أجلِ اللهِ ورسوله، نحبُّ الأنبياء، نحبُّ الأولياء، نحبُّ الأصفياء، نحبُّ المقربين، ونحب المؤمنين عامة وخاصتَهم خاصة، فهل مضى قلبُك في هذا السبيل يا مؤمناً بالإله الجليل؟

أو ما عرفتَ حقائقَ الإيمان وحقائقَ التقوى للرحمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد فيه حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذفَ بالنار)

 إن الذين يدعون إلى البغضاءِ بأصنافِهم على ظهر الأرض على غيرِ الميزان الدقيقِ الوثيقِ من الله ورسوله إنما هم جندُ إبليس على ظهرِ الأرض، وهو الدَّاء الذي إذا أصابَ أمةً تنكَّبت ثم هلَكت، قال عليه الصلاة والسلام: ( دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، أما إني لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ) يبيت مؤمناً ويصبح حُلِق دينه ببغضِه لمؤمن ، جارٍ له أو ربما قريبٍ من أقاربه أو عائشٍ في بلده يُدعى إلى بغضِه على غير بصيرة ونور، فيبغضه فيُحلق دينه ولا يبقى أثر، أبعد الحلاقة يبقى الشعرُ على بشرة الرأس!؟ فلا يبقى أثرٌ لحقيقةِ الدين في القلب الذي يبغض وليّاً لله، أو يبغض مُقرَّباً عند الله، إنها معاملاتُ القلوب التي ينظر إليها ربُّ الأرباب، لا تحسب الدينَ أن تأتيَ في المسجد ثم تخرج والقلبُ يجول على غير ما يحب الله، ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم)

 حقيقة الدين التي قام عليها أمرُ الصحابة، وخصوصاً السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فمن تبعهم بإحسان محبةٌ خالصة للرحمن مِن أجلها يُحبُّ أحبابه ويقول سيد أحبابه: اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ مَن حبُّه ينفعني عندك. فليمتلئ قلبُك بحبِّ محمدٍ وآدمٍ وشيثٍ وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ومَن بينهم من النبيين والمرسلين ولتمتلئ بمحبة أصحاب الأنبياء وآل الأنبياء، وأتباع الأنبياء بعد ذلك عامة، مِن أجل الإله أحبَّهم، فحبُّهم ينفعك عنده، سبحانه تعالى.

واحذر أن تحبَّ فاجراً أو كافراً، أعجبك شكلُه أو عرضُه أو طرحُه أو برنامجُه أو اختراعُه، فيقطعُك عن الخالق الصانع الذي خلقك وخلقه، وتُحشر يوم القيامة معه.

اتقوا الله في قلوبكم، اتقوا الله في محبة القلوب، وأحبُّوا مَن محبتُه تنفعكُم عند ربكم جل جلاله.

اللهم ارزقنا حبَّك وحبَّ مَن يحبُّك وحبَّ عمل يقرِّبنا إلى حبِّك يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، والله يقول وقوله الحق المبين { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

وقال تبارك وتعالى ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ  )

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ *وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على الصراط المستقيم، وأجارَنا مِن خزيِه وعذابه الأليم.

 أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جعلنا على محجةٍ بيضاءَ واضحةً ليلُها كنهارِها، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، محيطٌ علمُه بإعلاناتِ الخلائق وأسرارها. وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله. به ختمَ الله النبوةَ المتضاعفةَ المتزايدةَ أنوارُها، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على النورِ المبين عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، مَن جعلته سيدَ أهل الدنيا والآخرة، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأنصار والمهاجرة، وعلى مَن تبعهم بإحسان في الشؤونِ الباطنة والظاهرة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين وملائكتك المقربين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد، عباد الله: فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله.

فاتقوا اللهَ ويغادركم شهر ليُسلم منكم مَن بقي مِن عمرِه شيءٌ إلى شهرٍ آخر، والشهرُ الآخر فيه ذكرى ميلادِ نبيِّكم المصطفى الطاهر، صلى الله عليه وسلم، واجعلوا مِن تقواكم لله أن تراقبوا قلوبَكم فيما تحب ومَن تحب، يا محبَّ المناظر السيئة هذا وقتُ إقلاعك عن محبَّتِها، فحبُّها عارٌ وشَين وخيانة بينك وبين الرب، وُلِّعتَ بجوالٍ صغير لتُغضبَ الجليلَ الكبير، ولتتعرَّضَ لنارِ السعير، ولتُقطع عن ركبِ السراج المنير في يوم المصير، من أجل هذه المناظر القبيحة الخبيثة السيئة، أصلح قلبك، لا تحبها، فوالله ما حبُّها بزين لك إنه عار عليك، إنه خيانة بينك وبين خالق عينيك وخالق قلبِك وخالق أحاسيسك وخالق الشهوة فيك، ما خلقها لتخُون، وما خلقها لتعصيَه بها، ولكن لتبرهنَ عن حبِّك له بكَبتِ الشهوة وتسييرِها في مرضاته، أتدرك ذلك؟ هذه حقائق التقوى هذه حقائق الإيمان..

يا محبَّ القطيعة للأرحام: هذه محبةٌ تهوِي بك في غضبِ الخلاق، لا تحب ذلك، اكره ما يكرهه الرب، أحبَّ المواصلة للرحم، يا مسيئاً للجيران تحب الإساءة.. تُب، هذا وقت توبتك

أيمضي شهر بعد شهر وتأتي هذه الذكريات وأنت في قبيح الصفات، في هذا التردِّي فيما تُبطنُه وسط قلبك حيث نظرِ رب البريات، يا أيها المؤمن اتقِ الله وداوِ نفسك بينك وبين الله قبل أن تأتي في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلب سليم.

واستمع إلى بقية دعاء نبيك يقول: اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ مَن حبُّه ينفعني عندك، اللهم ما أعطيتَني مما أحب فارزُقني صرفَه فيما تحب، وما زويتَ عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب)

أرأيتم الحبيبُ المحبوب كيف يفكر، ماذا يطلب وكيف ينظر، محبة خالصة للرب، ها أنا عبدك أسألك حبَّك وحبَّ مَن حبه ينفعني عندك، وما آتيتني مما أحب فارزقني صرفَه فيما تحب، حتى لا تكون مني ذرةُ خيانة، أنصبُ نفسي معك، أحب ما تحب وأصرف فيما لا تحب أنا عبدك، فاجعل كل ما أحب مصروفاً فيما تحب أنت، عين، لسان، أذن جوارح قلب مال مصروف فيما تحب، ما آتيتني مما أحب فاجعله شغلاً لي فيما تحب، وما صرفتَ عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب، إذ أنا عبدٌ تبطل محبتي أمام محبتك أنت المحبوب، لأنك الرب، فكلما صرفتَ عني من شيء أحبه فاجعله فراغاً فيما تحبه أنت، وهكذا علَّمنا المحبة سيد الأحبة، وهكذا طابت الصحبة للسابقين الأولين بحقائق هذه المحبة، وهي الدواء لأنواع العلل والخطايا والزلل والمشاكل التي أعضل منها ما أعضل، ولن يجدُو حلاًّ لمشاكلهم من شرق ولا من غرب ولكن من عند رب المشارق والمغارب وهو يخاطبهم على لسان من جعله من عباده سيدَ أهل المشارق والمغارب إنه سيد الكونين محمد، رزقنا الله التمسُّكَ بسنته، وأحيانا على محبته وملَّتِه، وتوفانا على محبته وملته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته .

ألا استمسكوا بهذه العروة الوثقى من التقوى، وهي تأمل ساحات قلوبكم، مَن تحب وما تحب، ولأجل ماذا؟ فلا تحبون إلا في الله ولا تبغضون إلا لله، إنَّ الحبَّ في الله والبغضَ في الله مِن أنسب عرى الإيمان، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان، واجعلنا من الراشدين وأقبِل علينا شهر ربيع الاول بنور المحبة الخالصة لك وارزقنا كمالَ الصدق في محبتك واجعله شهرَ فرج لأمة نبيك محمد وصلاح لقلوب أمة نبيك محمد ولأحوال ولشؤون أمة نبيك محمد يا مَن أحببت النبي محمداً وقدمتَه على من سواه انظر إلينا به وإلى أمته واكشف عنا وعنهم البلايا والشدائد يا أكرم الأكرمين يا أحد يا واحد.

 أكثروا الصلاة والسلام عليه فهي مفتاحُ المحبة وسببُ تفريج الكربة، وإن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشر مرات، وإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة وان الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته وأيه بالمؤمنين من عباده تعميما، فقال مخبراً وآمراً لهم تكريما ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )

اللهم صلِّ وسلِّم على حبيبك المحبوب ومحبيه كما يرضيك ويرضيه، اللهم صل وسلم على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى خليفته مِن بعده المختار، متقطع القلب في المحبة لنبيك في السر والاجهار، صاحبه وأنيسه في الغار، خليفة رسولك الشفيق سيدنا أبي بكر الصديق.

 وعلى عمر بن الخطاب شهيد المحراب، الذي خاطب نبيَّك الأواب وقال أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال نبيك لا يا عمر حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك التي بين جنبيك، فقال: والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي التي بين جنبَي، فما أعظمَه مِن صادقٍ فيما خفي وفيما ظهر، قال له المصطفى الآن يا عمر.

 وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، منفقِ الأموال محبةً لك ولحبيبك المصطفى مِن عدنان، مَن استحيت منه ملائكةُ الرحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان.

 وعلى مَن قال: كان رسولُ الله أحبَّ إلينا مِن أنفسِنا وأهلينا وأموالنا، ومِن الماءِ الباردِ على الظمأ، ذي المفاخر والمناقب، أسد الله الغالب، سيدنا أخي المصطفى وابن عمِّه ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، علي بن أبي طالب.

وعلى الحسنين الأحسنين اللذين كان يقول فيهما سيد الكونين: اللهم إني أحبُّهما فأحبَّهما، وأحبَّ مَن يحبُّهما، وعلى أهل بيته الأطهار، وأهل بدر وأحد وبيعة العقبة وبيعة الرضوان، وعلى سائر الصحابة الأعيان، ومَن تبعهم بإحسان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا رحمن.

اللهم انظر إلى قلوبِ أمة هذا النبي وصفِّها عن الشوائب، اللهم نقِّها عما يوجب الخزيَ في العواقب، اللهم املأها بمحبَّتِك حتى لا تقدِّم غيرَك عليك، اللهم أقِم فينا دعائمَ التقوى بمحبتك حتى تكون أحبَّ إلينا مِن كل شيء، وحتى تكون أنت ورسولُك أحبَّ إلينا مما سواكما، وأن نتحابَّ بروحك وفيك ومن أجلك بيننا البين، ونحبَّ مِن أجلك َمَن قال لا إله إلا الله عامة، وخاصتَهم خاصة، ثبِّت قلوبَنا على تلك المحبة النافعة عندك، وأعِذنا مِن كل خيانة قلبية تسودُّ بها الوجوه يومَ القيامة، وأعِذنا من كل خيانة قلبية ننقطع بها عن ركبِ خير البرية في يوم حُكمِك بين الخلائق.

اللهم تدارِك أمةَ هذا النبي، واجعل لهم في شهر ذكرى ميلادِه فرجاً قريباً وخيراً واسعاً رحيبا، ودفعاً للبلايا والرزايا والآفات، وصلاحاً للظواهر والخفيات، يا مجيبَ الدعوات يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصر المسلمين، اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعل ِكلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذات بين المؤمنين، اللهم انظر إلى قلوبنا وصفِّها عما لا يرضيك، واجعلنا في خواص مَن يؤثرُك على كل ما سواك، وارزقنا الوفاءَ بعهدِك الذي عاهدتَنا عليه.

اللهم اصرِفنا مِن جُمعتِنا وقلوبُنا عليك مجموعة، ودعواتنا عندك مسموعة، وأعمالنا مقبولة مرفوعة، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وانظر الى ديارنا وأهل جوارنِا ولا تجعل فينا مَن في قلبه وصفٌ تكرهُه وتفضحه به يوم القيامة، اللهم صفِّنا عن موجبات الفضيحة، وعن الصفات القبيحة، وحلِّنا بما تحبه من كلِّ صفةٍ مليحة، اللهم وارفعنا برُتبِ الصدق والإيمان واليقين والتقوى، وتولَّنا بما أنت أهلُه في السرِّ والنجوى، بحقِّك عليك لا تكِلنا إلى أنفسِنا ولا إلى أحدٍ مِن خلقِك طرفةَ عين، واختم لنا أجمعين بلا إله إلا الله، واجعلها آخرَ كلامِ كلِّ واحدٍ منا مِن هذه الحياة، واحشرنا في زمرة كمَّلِ أهلِها وأنت راضٍ عنا يا الله.

وأصلِح شؤونَ المسلمين في المشارق والمغارب، وادفع عنهم المصائب، واغفر لنا ولوالدينا ولمَن تقدم في بلدتِنا خاصة مِن أرباب الولاية والبر والتقوى والعلم والإخلاص، ولجميع المؤمنين والمؤمنات، مِن أهل جهتِنا وجميع الجهات أحياءهم والأموات، إلى يوم الميقات يا غافر الخطيئات ويا متجاوز عن الزلات، يا مبدِّل السيئاتِ إلى حسنات، اغفر لنا أجمعين وبدِّل سيئاتِنا إلى حسنات، تامَّات مُوصلات وارزُقنا الصدقَ معك في جميعِ الأحوال والحالات.. يا رب العالمين.

عباد الله: إن اللهَ أمر بثلاث، ونهى عن ثلاث..

( إنَّ الله يأمرُ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظُكم لعلكم تذكرون ) فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكركُم، واشكروه على نعمِه يزِدكم.. ولذكرُ الله أكبر.   

للاستماع إلى الخطبة

لمشاهدة الخطبة

تاريخ النشر الهجري

28 صفَر 1439

تاريخ النشر الميلادي

17 نوفمبر 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام