حقائق الملك وغرور وأوهام الخلق وكرامة الصلة بالخالق

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 24 صفر الخير 1440هـ، بعنوان: حقائق الملك وغرور وأوهام الخلق وكرامة الصلة بالخالق.

بسم الله الرحمن الرحيم

          الحمدُ للهِ المُكرِمِ بعطائه الواسعِ وغَيْثِهِ الهَامِع قلوباً بعد قلوب، وساحاتِ أفئدةٍ بعد أفئدة، والمُواصِل سبحانه وتعالى لعجائبِ إحسانِه أرواحاً بعد أرواح، والمُتَجَلِّي بجَلالِه وكمالِه وجَمالِه لِسَرائرَ بعد سرائر، فضلاً منه وجوداً يتعرَّفُ به إلى عبادٍ عبدُوه، وإلى عبادٍ قصدُوه، وإلى عبادٍ وحَّدُوه، وإلى عبادٍ شَهِدُوه جل جلاله وتعالى في علاه، ثم يجعلُ لهم مِن وراء كل ذلكم:  ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر، له الحمد، له المنَّة، لا إله إلا هو، لا ربَّ سواه، ولا معبود بحقٍّ إلا إياه تعالى في علاه.

وكُلُّ مَن أَشرَقَ ذرةٌ مِن نورِ معرفتِهِ في قلبِهِ يصيرُ لا يَقصدُ إلا الله، ولا يريدُ إلا الله، ولا يَخشى إلا الله، ولا يرجُو إلا الله؛ وقد قال الله في وصف المُبَلِّغينَ للرسالة : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله  وَكَفَىٰ بِالله حَسِيبًا).

(وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله): يوقنُون أنَّ مَن في القَبضةِ لا يستطيعُ شيئاً مِن دونِ أمرِ القابض، وأنَّ مَن في المُلكِ لا يَقوى على شيءٍ مِن دونِ إرادةِ المالكِ جل جلاله وتعالى في علاه (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الملك تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ  بِيَدِكَ الْخَيْرُ  إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ  وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)

فما أوتيَ مَلَكٌ ولا إنسِيٌّ ولا جِنِّيٌّ مُلكَاً صغيراً ولا كبيراً، قليلاً ولا كثيراً لعُضْوٍ أو لبلَدٍ أو لمالٍ أو لأيّ معنىً مِن معاني الملك إلا بإيتائه، ولا يَخرجُ عن ذلك الملك قلَّ أو كثُر إلا بِنَزعه (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ). ولا يملكُ ملائكةُ العذاب التعذيبَ إلا بتَمليكِه وإلا بأمرِه جل جلاله، ولا يملكُ خَزَنةُ الجنة إلقاءَ السلامِ ولا القدرةَ على خدمةِ أهلِها إلا بإيتائه ذلك وتمكينِهم منه، وأهل ُالجنةِ في الجنة ما يملكون مِن الملك الذي يَحِقُّ أن يُسمى كبيراً، وليس يَمرُّ على أي إنسانٍ مِن أيام آدم إلى أن يُنفخ في الصور مُلْكٌ أعظم ولا أكبر مِن ذلك الملك قط قط  قط، لا لفردٍ ولا لجماعات قَطُّ؛ بل إذا شُوهدت حقائقُ ذلك الملك أيْقنَ كلُّ مَن شَهِدَهَا أنَّ مُلكَ الملوك في الدنيا مِن أولهم إلى آخرِهم صغير.. صغير .. حقير .. قصير.. انقضى وزال.. قد نُزِع!، ما يمكن أحد في الدنيا أن يملك مُلكاً لا يُنزع منه .. لا لا .. مَن هذا الذي يملك ملكاً لا يُنزع منه؟!

 لو بقيَت لغيرك ما وصلَت إليك.

تخاصمَ بعضُ بني إسرائيل على أرض وكثُر منهم النِّزاع بينهم، وأوحى الله إلى الأرض أن خاطبِيهم، قالت: "يا هؤلاء – وإذا الصوت من الأرض- قد ملَكني قبلَكم مِن عُور العيون فقط سبعون، أعور غير الأصِّحَّاء! لي من هم على عين واحدة.. قد جاء وروَّح جاء وروَّح غير الأخرِين! .. وعلى ماذا تتخاصمون؟!، ما أقربَ زوالَ هذا المُلك وما أسرع انتهاءه ! .. مَن تعرفون في تاريخ البشرية دام له ملك؟

وهل تحقَّقت دنيا دامت لأحد أو لها دام؟

والعُمرُ فانٍ وإن طال    لابد مِن كَرَّةِ السَّام

والغيد تُمسي أرامل    مِنَّا وأطفالٌ أيتام

نندم على ما فعلنا  ولا يفيد التِّندام

يا ذا الكسل كم تؤخر      توبتك مِن عامٍ إلى عام !

اغتنم الصلةَ بمالك المُلك (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) هذاك الملك الأكبر هو الذي يؤتيهم إياه.

      وفي مظاهر إيتائهم لهذه الملك: أول ما يدخل المؤمنُ إلى الجنة، وإذا رسالة مِن صاحب المُلك .. رسالة مِن ملك الملوك: {بسم الله الرحمن الرحيم مِن الحيِّ الذي لا يموت إلى عبدي الذي جعلتُه في جنَّتي حياًّ لا يموت .. أما بعد: فإني أنا الله الذي أقول للشيء كن فيكون، وقد جعلتُك فيما متَّعتُك من الجنة تقول للشيء كن فيكون}،  ويُنادي المنادي لهم :  إن لكم أن تنعمُوا فيها فلا تبأَسوا أبداً، وأن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبداً، وأن تَصِحُّوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تحيَوا فلا تموتوا أبدا.

اعرض الخصالَ الأربع على مُلك الملوك مِن أول الدنيا إلى آخرِها هذه معدومة في مُلكِهم .. هذه الخصال الأربعة معدومة في ملكهم!؛ لأنَّ مُلكَهم صغير، لأنَّ مُلكَهم قَصير،  لكن لا أدري نفسك متى ستُصَدِّق الحقيقة، يا واهم اتركِ الأوهام .. نداء الملك علَّام وبلاغ خير الأنام صِدقٌ وتمام، صدِّق ربَّك ..صَدِّق محمد، وقد أراك سبحانه آياته بالعين، كلكم ذوي أعمار محصورة في الدنيا في الأعمار القصيرة كم رأيتم مِن مَلِك طَلِع وطاح.. طلع وطاح، أوتي ونُزِع.. أُوتي ونُزِع، إن كانها في الأموال، وإن كان في العقارات، وإن كان في الوظائف، وإن كان في الدول .. كم تعرف نُزِع منه؟ أوتي الملك نزع.. أوتي الملك نزع، وإلى متى تُغالط نفسك في أنَّ هذا مُلك؟!.

 المَلِك قال الملك الأكبر هناك تعال أُملِّكك؛ تعال أُمَلِّكُك المُلك الأكبر ..اخضع .. اعرف قدرَك، أترك الوهم هذا الذي يعيش فيه أكثر الناس (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّه إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، الظن الذي يعيش فيه المثقفون، الظن الذي يعيش فيه المخترعون، الظن الذي يعيش فيه صُنَّاع القرار كما يسمونهم،  صناع القرار باتشوفهم يوم الفرار لا فرار  (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)، هم اختبرهم الله وسلَّط عليهم دواعي أن يَصرفوا اختيارهم إلى سوء  والعياذ بالله تعالى وإلّا ما بيدهم شيء في الحقيقة، هو الذي خلقهم وصوَّرهم وأقام الحجة عليهم، وأرسل الرسل إليهم، فأبوا إلا أن يغتروا وإلا أن يفتروا، وإلا أن يدَّعوا لأنفسهم ما ليس لهم، واغتروا بما أوتوا من قوة، وكلهم: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ).

إن كان مشرك بالحضارة، وإن كان مشرك بالتكنولوجيا، وإن كان مشرك بالرئاسة، وإن كان مشرك بالقبيلة، وإن كان مشرك بالكنوز والأموال التي معه .. كفر بها ..كفر بها (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)، لا السلطة ولا المال منها يبقى شيء، ويبقى عزة مَن تذلَّل للعزيز .. تبقى عِزَّة مَن تَذَلَّل للعزيز (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، وقد علَّمَنا مَن أحاط بكل شيء عِلماً، اللهم فزدنا علماً، وحققنا بحقائق العلم النافع يا نافع، وارفعنا إلى المقامِ الرافع (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).

         أما الملك الظاهر ولو كان في الإسلام، ولو كان بين المسلمين فما مِن والٍ يلِي أمر ثلاث مائة نفر مِن هذه الأمة فأكثر إلا جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه فَكَّه عدله أو أوبقه جَوره!، هذا شأن الملك هذا .. فهو عندك مُعَظَّم !! صدِّق محمد .. هذا مُلك أقل ما فيه تملك ثلاث مائة نفر يدك مغلولة إلى عنقك يوم القيامة، إما يفكك العدل وإلا تهلَك بالجور،  وما ترك صلى الله عليه وسلم في يوم واحد هو يخطب على منبرِه والي يلي مِن أمر هذه الأمة ثلاث مائة أو أكثر إلا حدَّثهم به باسمِه واسم أبيه وقبيلته .. فلان وفلان وروَّحوا .. في يوم واحد تلا أسماءهم كلهم .. أكثرهم قد راحوا بقي قليل منهم .. ذكرهم ذاك اليوم أكثرهم روَّحوا بقي القليل منهم .. با يملكونها ويُؤتون وينزع.. يُؤتون ويُنزَع. 

 لكن مَن وصل إلى ملك الجنة ما يُنزَع منه الملك، هذا مُلك يؤتيه ولا يَنزعه جل جلاله،  "يا أهل الجنة خلوداً فلا موت"، فوق ذلك إكرام فوق إكرام؛ يزورون ربَّهم ويرون ربَّهم ويخاطبهم ربُّهم .. ما هذه الكرامة!، وكل شيء يزيد، أنواع النعيم تزيد، أنواع اللذائذ تزيد، معاني القرب تزيد، أسرار المعرفة.. وكم مِن عطايا (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ)،  تخيل ما تتخيل أنت وجميع مَن في الأرض وجميع مَن في السماء والمعدودُ مِن قِبَل المعبود أكبر وأكثر (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ)، ولا أنفس الملائكة؟ ولا أنفس الملائكة، ولا أنفس النبيين؟ ولا أنفس النبيين، ما تحيط بما أعدَّه ربهم لهم ولا لأتباعهم ما تحيطه .. (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)، أتريد ترغيباً أكبر من ذلك ؟ ما في الوجود ترغيب أكبر من هذا.

ضحكوا عليك ؟ رغَّبوك بماذا ؟ .. حد قالوا له بايعطونه وظيفة، وحد قالوا له بايعطونه درجة، وحد قالوا له بايعطونه كرسي، وأكثرهم وعدوهم ولا وفّوهم!، وبعضهم وصلوا وبعدين سقطوا .. ما استقروا عليها! ما تشوفهم قدام عينك ؟! ..أنت لا صدَّقت ربَّك ولا نبيك وعينك لي تشوفه قدامك وعادك مُصَدِّق، ومصدق الوهم؟!، ومصدق إبليس، وأين رغبتك في الملك الكبير؟! أين رغبتك في الملك الدائم، أين رغبتك في جوار محمد، أين رغبتك في معية النبيين والصديقين والشهداء والصالحين !! . اللهم ألحقنا بهم يا ربنا يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

و((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سَقى كافراً منها شربة ماء))؛  ولذا تجد الكافر والغافل من المؤمنين ممن كُتب عليه الشقاء يمرُّ عُمرُه والماء المعنويُّ الذي يُدار في هذه المجالس ما يُسقى منه؛ لأنه عزيزٌ عند الله، ما يعطيه كلَّ أحد، أما الدنيا لو كان لها عِزَّة الكافر ما بايقدر على شَربةِ ماء منها، لكن ما لها عزة عند الله، لم يلتفِت إليها لم ينظر إليها منذ خلقها جل جلاله،  ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يُحب، ولا يعطي الدين إلا مَن أحب))، نسأله أن يقبلَك في المجلس؛ لأنه إذا قبلَك في المجلس يعطيك الدين يحبك ..فهو يحبك جل جلاله وتعالى في علاه.

يا رب اقبل الجالسين واقبل السامعين، واجعلهم ممن أعطيتَهم حقائقَ الدين، ورقَّيتَهم في مراقي الدين، ومكَّنتَهم في دين الحق، وجعلتَهم عندك مِن الراسخين على الحقِّ ودين الحق والذي تتوفاهم عليه

رَبِّ احيِنَا شَاكِرِين     **     وَتَوَفَّـنَا مُسْلِمِــين

نُبْعَث  مِنَ الآمِنِين     **   فِي زُمْرَةِ السَّابِقِـين

بِجَاهِ طَهَ الرَّسُـول     **      جُدْ رَبَّنَا بِالْقَــبُـــول

وَهَبْ لَنَا كُلَّ  سُـول     **  رَبِّ اسْتَجِب لِي آمِين

عَطَاكَ رَبِّي جَـزِيل     **  وَكُلُّ فِعْلِكْ جَمِــــــيل

وَفِيكَ أَمَلُنَا طَـوِيل      **     فَجُد عَلَى الطَّامِعِـين

يَا رَبِّ ضَاقَ الْخِنَاق     **     مِن فِعْلِ مَالاَ يُطَاق

فَامْنُن بِفَكِّ الْغَلاَق     **     لِمَنْ بِذَنْبِهْ رَهِيــن

واجعل  شهر ذكرى ميلاد نبيِّك المُقبل علينا فيه فَكُّ الغلَاق، وفيه دفع الشدائد والشِّقاق، وكفاية أهلُ الكفر والنفاق، يا ربِّ انشر بيننا مكارم الأخلاق، واربطنا ربطا لا يَنحَلُّ بحبيبك يا خلَّاق، حتى تُحيينا على سُنَّته، وتتوفَّانا على مِلَّتِهِ، وتملأ قلوبَنا بمحبَّته، وتحشرنا يوم القيامة في زمرتِه، أنت المُقَسِّمُ للأرزاق يا خلَّاق، ورزق المحبة أغلى الأرزاق ترزقُه مَن تشاء، فنسألك اللهم أن ترزقَنا مِن محبَّتك ومحبة الحبيبِ نصيباً وافراً، وبحقِّكَ عليك لا تجعل قلباً من قلوب الحاضرين ولا السامعينَ يبيتُ ويَحيى إلا وأنت ورسولك أحبَّ إلى ذلك القلب ممَّا سواكما، يا الله لا تجعل في هذه القلوب شيئا أحبَّ إليها منك ومِن رسولك .. يا الله من أجلك لا يَبقى مكانٌ لمخلوقٍ في قلوبنا مثل محبة رسولك، كائناً مَن كان مِن جميع الأكوان، وبجميع المَعَان، يا كريم يا منَّان افتح علينا فتحة مِن خزائن الجود تمنحنا بها هذا العطاء الواسع، يا برُّ يا ودودُ يا رزَّاقُ يا الله، فكما يؤتي الملك مَن يشاء ويَنزع الملك ممن يشاء يؤتي المحبة مَن يشاء وينزعها ممن يشاء، يا مُقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.

وإنَّ قلوباً تُسقى في مثل هذه المجالس وساعات النفحات مِن المقبلة على الله مِن قلوب المؤمنين المتوجهين إلى الرب الذين أجابوا النداء .. أجابوا النداء لنبيِّ الهدى فآثروا الله ورسوله.. تُسقى، وهذه القلوب مَحَطُّ نظر الله، الله يجعلنا وإياكم منهم، هذه القلوب التي هي محطُّ نظر الله هم جند الله، ومتى بُعث مثل الإمام المهدي لم يجد الجنود إلا أولئك، وما سواهم وإن رجع إلا تبَع ، وإذا نزلَ بن مريم فلن يجد في الأمة الأنصارَ والجنودَ إلا أولئك، أهل القلوب المتوجهة إليه التي تُسقى الشراب في هذه الليالي وفي هذه الأيام، قلوب من الإنس والجن يَسقيهم السَّاقي، ويَتكرم عليهم الكريمُ الباقي، وشؤون هذه السُّقيَا لها عطايَا باقية لمن أُكرِم بها

وبَات الصَّبُّ يَشهَد مِن حبيبه  ** مَشَاهِد سِرُّها دائم وباقي

إلى يوم المُلك الكبير نرى آثارَها ونشاهد ونسمع أخبارَها، والله يجعلنا مع خيارِها، إنه أكرم الأكرمين، وهم في ذلك المُلك الكبير هو آتاهم إياه، والبقية في عذاب السعير وهو الذي يعذبهم به؛ فذهبَ المُلك عن غيره فلا مُلك إلا له على الحقيقة، لا مُلك إلا له في الدنيا والبرزخ والآخرة الملك له وحده جل جلاله.

وهل يَملك مَلَك مِن الملائكة أنه ما خُلِق؟ وهل يملك الساعة التي يموت فيها؟ وهل يملك أن يكون في الموضع ذا أو في المكان الفلاني؟؛ الملائكة والإنس والجن تحت قهر قهَّار، قل للمُدَّعين والمُتَنَطِّعينَ على ظهر الأرض اخرجوا لنا واحد منكم اختار شكله ...خَرِّجوه لنا .. خرِّجوا لنا واحد منكم بس كان عنده اختيار لأبيه،  هيا تعال بانشوفك .. أنت الذي تريد الحرية ما أنت حر في أبيك ولا في أمك، وفي ماذا تريد الحرية؟، أنت أصلك مملوك من الأصل، ويا مملوك فكيف تخرج عن الملك هذا ؟! مَن منهم اختار مكان ميلاده ؟ حد منهم ؟  لونه ما اختاره .. قصره طوله ما اختاره، مَن الذي جعلك بهذا الشكل؟ مَن لي اختار الأم

 يا مملوك! يا مملوك! تتجرأ على ملك الملوك جل جلاله؟!! وتريد أن تخالف أوامرَه وأنت تحت قهرِه من سلسلة بدايتك كلها؛ روحك أولاً، وجسدك هذا الذي قدّامنا الآن .. أيام كان نطفة مَن كان متوليه؟ ومَن اللي اختاره نطفة مِن جملة نُطَف؟، والنطفة ملآنة بألوف الحيوانات المنوية مَن اللي اختار جسدَك منها مِن خصوصها؟ ومَن الذي قلَبها إلى علَقَة؟، يا مملوك .. يا مملوك لا تتجرأ على ملك الملوك ! . ولمَّا كانت علقة مَن كان يُغَذِّيها ؟ ومَن الذي قلبَها إلى مضغة؟ وأسألك مضغة كيف تتحول إلى عظم؟ مزعة لحم كيف تتحول إلى عظم، وكيف تُكسى العظام لحم ؟! . لا إله إلا الله جل جلاله وتعالى في علاه (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ).

وتحدَّث عن هذه الأطوار مَن؟ محمد، فمن كان في شرق الأرض أو غربها يعرف هذه الأطوار ؟! . ومرَّت السنوات والقرون وجاءوا يكتشفون كما قال بالضبط! .. كما قال بالضبط ..  مَن علَّمه ؟ مِن أين جاء بالخبر؟ يا أصحاب الأجهزة الحديثة خبره هو الصادق تماماً .. فمن غير أجهزة كيف اكتشف؟!، أما آن لكم تخضعوا؟!، يا صاحب الجهاز الحديث أنت الآن تقرر أمر قرره زين الوجود قبل ألف وأربع مائة سنة .. وطِّ رأسك .. وطِّ رأسك .. تعال اخضع ..اخضع .. هذا الصادق، هذا رسول الملِك الذي يحوِّل النُّطَف إلى علَق والعلَق إلى مُضَغ والمُضَغ إلى عظام ويكسو العظام لحم ثم يُنشئك خلق آخر (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ..)  وهذه  الأرض والسماوات وما بينهما مَن الذي شارك في خلقها ؟ حضارة مَن شاركت في خلقها ؟ دولة مَن شاركت في خلقها ؟!، كلهم مخلوقون وكلهم مقهورون وسبحان الواحد القهار،  اللهم ارزقنا معرفة الحقيقة وألحقنا بخيار الخليقة، وثبتنا على أقوم طريقة، وارزقنا الاستمساك بالعروة الوثيقة يا ربَّ العالمين، ويا أكرم الأكرمين.

         والذين أدركوا هذه الحقائق كان خوف أحدهم القوي مِن ماذا ؟ قال:  أن تأتي ساعة "يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" وهو في غير الجنة ..الذي يخاف هذا، هذا أخوف ما يخافه؛ لأنه بعده أبد: إما سعادة أبد، وإما شقاوة أبد، إما نعيم مخلد مؤبد وإما عذاب مخلد مؤبد والعياذ بالله تعالى، ساعة ذبح الموت، وهو أمور معنوية يصوّرها الله في قوالب حسيَّة في الآخرة فيُصوَّر معنى الموت هذا إلى صورة كبشٍ، يقول ليَحيى قم تناول السكين فاذبحه . لِمَ ؟؛ لأن نبي الله يحيى شُقَّ مِن أجل الحق ووصل المنشار فوق رأسه وهو في الشجرة نبي الله يحيى، وشُقَّ نصفين في سبيل ربِّه، وتعال هو ذا لي صلَّحوا ربك الموت أنت اذبح الموت، واسمه يحيى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) . ويذبح الموت ؛ أي إعلان من حضرة المَلِك أنني لا أتوفى بعد اليوم أحداً منكم يا أهل الجنة ويا أهل النار؛ لأنه ما يُحيكم غيري ولا يتوفَّاكم غيري (الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) ، (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) جل جلاله وتعالى في علاه.

فيقول خلاص اللي روَّيتكم الوفاة مِن قبل الآن أقطعه، ما يحييكم غيري ولا يتوفاكم غيري والآن أُحييكم ولا وفاة بعد هذه الحياة، عندها يزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم والله يجعلنا وإياكم فيهم ومعهم ومنهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم، وينقطع الطمع أن يخرج منهم أحد بعد ذلك من النار إلى الجنة، والعياذ بالله من ناره الموقدة التي تطلع على الأفئدة، بحقك عليك لا تجعل شيئاً من أجزاء أجسادِنا ولا أرواحِنا حطبَاً لجهنم، إنك جعلت وقودها الناس والحجارة فبحقك عليك لا تجعل في هؤلاء الناس الحاضرين والسامعين جزءاً من أجزاء أجسادهم حطبا لها ولا وقودا لها يا الله .. يا الله .

 و إن أدنى أهل النار عذابا مَن يُنعَلُ بنعلين مِن نارٍ يفورُ لهما دماغه، يرى أنه أشدَّ الخلق عذاباً وإنه لأهونهم، أهون واحد وأقل واحد منهم يغلي منه الدماغ، والله جعل لك تذكرة كيه امسك جمرة قليل ولاعة صغيرة شوف كيف حالك معها .. هذا يغلي الدماغ، وهذا يرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً وإنه لأدناهم عذاباً؛ لأن المعذِّب كبير، وهناك النعيم كذلك (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ).

فتيقَّن الأمر، واحرص على أن تكونَ مِن أهل جنةِ الله تبارك وتعالى، واعلُ بنفسك واقفز قفزة إلى المقام الأعلى، واتبع سنن مَن كان قبلك يقول: " أحدٌ.. أحد" .. بلال وبعد هذا التعذيب تنعَّم في الدنيا قبل الآخرة، وصعد فوق الكعبة المشرفة ونادى النداء اللي كان من شأنه يعذبُّونه الآن فوق الكعبة يسمعونه وهم أذلة وهو عزيز .. هذا وعاده في الدنيا، وعاش في المحبة وكم جلس على المائدة معه، وكم صلَّى مِن ورائه، وهو يجي إلى عند البيوت حقه وإلى عند الحجرات يوقظه وينبهه وقت الصلاة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا جاء شيء من المال وضعه عند بلال قال: اعط فلان كذا واعط الوفد الفلاني كذا وكذا، عاش هذه الحياة في نعمة كبيرة، فما مقدار العذاب الذي تعذَّب به في مكة ؟! . لكنه ما تزعزع، ما تزلزل ولا زاغ هنا وهناك، وبعض الناس بسرعة أدنى شيء يغيره يقلبه، ويا مُثَبِّت ثبِّتنا، ويا ربِّ ثبتنا ويا رب ثبتنا على الحق والهدى.

ولمَّا صبر كان منه مَنَّ الله له التمكين وهو في عالم الدنيا، إلى أن جاءت ساعة الوفاة لبلال وهو في الشام وأحسَّت امرأته بموته وبكت قالت: "واكرباه واكرباه". فتح عينيه وهو في السَّكرات قال لها: " لا ، بل واطرباه واطرباه ، غداً ألقى الأحبة محمدا وحزبه"، قال أنا بروح عند أحبابي وعند سيدهم تقولين كرب؟! هذا طرب وقت الطرب، اطرب يا بلال، طربت في تلك الساعة وأنت بعدها أطرب، نحن الآن نذكرك هنا وإن كان قبرك في الشام؛ فأهل البرازخ فيما يُعرض عليهم من أحوال أهل الدنيا، اسمع وطِب وزِد طرباً فوق طربك.

ونريد نسمع نداءك في الجنة، هو منادي الجنة؛ كما ينادي للناس في الصلاة في عهد محمد هو ينادي في الجنة يقول: "يا أهل الجنة الآن  ضيافة فلان بن فلان من الأنبياء تمضوا إلى مكان كذا، يا أهل الجنة في ضيافة فلان النبي فلان"،  هذه نداءاته في الجنة كما كان ينادي في الدنيا عليه رضوان الله تبارك وتعالى،  حتى قالوا في قولهم في دعاءهم: " واسمعني منادي الجنة في الجنة مع الأبرار" قالوا بلال أول منادي؛ لأنه كان المنادي للحبيب الهادي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كان ينادي إلى الجنة وهو في الدنيا: حي على الصلاة ، حي على الفلاح، وقال صلى الله عليه وسلم : { ألقه إلى بلال فإنه أندى صوتاً منك } رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وهكذا كان الشأن، لكن له قلب محب، وعاش في المحبة ومات عليها، لو عُرضت له الدنيا من طرفها إلى طرفها ما زعزعت فيه ذرة من إيثار الله ورسوله .. " أحدٌ أحد" عليه رضوان الله تعالى، قال يا بلال ما كنت تشعر بمرارة التعذيب ؟! قال :  خلطته بحلاوة الإيمان فزادت حلاوة الإيمان!، الله يرضى عن بلال، عناية من عنايات الله ساقته ولكن مِن أين دخل؟ من الباب، من سيد الأحباب، شاهد الوجهَ الصَّبيح، ورأى الخلق المليح، ومشى وراء صاحب الدين الصحيح، والقول الفصيح صلى الله عليه وسلم، فما ناله من الدنيا في الدنيا نعيم عظيم (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ)، الله يرينا وجوههم، ويحشرنا يوم القيامة معهم يا حي يا قيوم .

والآلاف هذه المؤلفة والكثرة الكاثرة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) في القيامة، الله يبعدنا عنهم في الدنيا وفي الآخرة ويبعدهم مِنَّا، وينشر نور الهدى لنا وبنا، ويهدي سبحانه وتعالى كثيراً من عباده، يا ربِّ ثبِّتنا على الهدى واهد بنا كثير من عبادك في شرق الأرض وغربها.

يا الله برحمتك لمحمد اجعل لنا في ذكرى شهر ميلاده هذا المقبل قلوب تنتقل من الكفر إلى الإسلام.. يا الله، من ظلمة الأوهام إلى حقيقة الحق، يا حقّ.. يا كريم، وقلوب الحاضرين والسامعين ارحمها يا رحمن، اقذف فيها محبتك، واقذف فيها محبة رسولك.

يا ربِّ منهم مَن مضى مِن عمرِه عشرون، ومنهم أربعون، ومنهم أقل من ذلك وأكثر.. أذقهم ما داموا في الحياة، أنت الذي قلت: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) أذقنا وإياهم لذة المودة يا كريم، ما ترى رب العرش يوادُّك .. رب العرش يوادُّك .. ما ترى؟! ما الذي يحصل!، يا ودود أذقنا لذة مودتك، أذقنا لذة مناجاتك، أذقنا حلاوة رحمتك، أذقنا برد عفوك، يا كريم يا رحيم ثبِّتنا على الصراط المستقيم، أجرنا من الخزي والعذاب الأليم .. يا الله .. يا الله.

         ما يُبرز سبحانه هذه التنَفُّسَات في الأزمنة من وقت إلى وقت إلا رحمةً منه لعباده بحبيبه، رحمة بالأمة بنبي الأمة، وكم يهدي بها، وكم يُقَرِّب بها، وكم يُسعِد بها.  والله يرزقنا الاغتنام، وبركة الليالي والأيام، والخروج من ظلمات الأوهام.

 يا ذا الجلال والإكرام نوِّرنا بأنوار الإسلام والإيمان والإحسان، وارفعنا في مراتب المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، يا ودود يا معبود يا مقصود يا موجود يا مشهود، بفضلك اجتمعنا وسألنا، وطلبنا وأمَّلنا، وتذاكرنا وذُكِّرنَا، وهطلت هواطل رحمتك علينا فأتمم علينا النعمة يا مُنعم، وأتمم الكرامة يا مُكرم،  يا الله حوِّل إلى النور مِنَّا كل قلب مُظلم، يا الله لا تُعرِّض أجزاء أجسادنا لنارِك الموقدة، يا الله واجعل فينا كثيراً من الأجساد التي تحفظها حتى من أكل التراب والأرض لها، يا الله واحشرنا في زمرة زين الوجود.

 يا رب انظر إلى أمته، بما بينك وبينه فارحمهم واكشف ضرَّهم، واجمع شملهم وألِّف ذات بينهم، وادفع البلايا عنهم، وارفع عنهم سلطة أعدائك .. يا الله .. يا الله، ثبتنا على دعائك، وعلى رجائك، وعلى خشيتك، وعلى محبتك، وعلى الصدق معك، وعلى هيبتك وإجلالك، وعلى الاعتراف بفضلك ونوالك، وتوفَّنا على ذلك، احشرنا مع أولئك من الذين رضيت عنهم وأرضيتهم وقلت: (رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فاجعلنا منهم يا كريم، وثبِّتنا على الصراط المستقيم، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.

للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة

 

العربية