سراية الإيمان بتقويم الميزان في اعتبار المكانة والمكان

للاستماع إلى المحاضرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله، على بروز مصطفاه، وحلول بركاتِ خصائصه ومزاياه، في أمته وكلِّ مَن لبَّى نداه، (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

 دعاكم داعي فضلِه جل جلاله فاجتمعتُم، وكان وعدنا على رسله أن ينظر إلى أهل الاجتماع على ذكرِه، وأن يدخلَ مسيئَهم في بركة محسنهم، ووعدنا أن يغفرَ لهم سبحانه وتعالى، ووعدنا على لسان رسوله أن يناديهم المنادي: ( أن قوموا مغفوراً لكم قد بُدِّلت سيئاتُكم حسنات)، (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

 وإن من استجابت قلوبُهم لنداء الحق وداعي الحق بالحق، حبيبه الأصدق، صلى الله عليه وسلم، يعيشون في هذه الحياة على ارتباط وصِلة بالله جل جلاله، وثيقة، عميقة، قوية، يُرجِعون أمورهم إليه، ويعوِّلون في كل الأحوال عليه، ويتذلَّلون ليلَهم ونهارَهم بين يديه، يطيعون ويعبدون ويُقبلون وهم منكسرين، وهم خاضعين، وهم خاشعين، ويعبدونه سبحانه وتعالى، متذلِّلين لعظمته ولكبريائه، ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) جل جلاله وتعالى في علاه.

وهم في هذه الوِجهات التي أشار إليها ربُّكم بقوله ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) قال لنا ربنا (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) اغنموا ما آتيتكم من قدرة وما آتيتكم من اختيار، لتكون وجهتُكم إليّ، وللعمل بطاعتي، (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)

توجَّه حيث شئتَ فأنت *** مما له وُجِّهتَ فاختر للمليحِ

 اختر للوِجهة الصالحة، اختر للوجهة الرفيعة، اختر للوِجهة الصافية، فإن الناس يصبحون ويمسون، وهذا وجهتُه في بطنه، وهذا وجهتُه في شهواته، وهذا وجهتُه في هواه، وهذا وجهته في مظاهر الدنيا، وهذا وجهته في الألعاب، وهذا وجهته في الهزوِّ والسخرية، وهذا وجهتُه في تمثيل، وهذا وجهتُه في تضليل، وهذا وجهته لأن يُستؤجر لصاحب مال من هنا أو من هنا..!! ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) .

ولكن مِن الناس مَن يمسي ويصبح، ووجهتُه إلى الملك الجليل، ووجهته إلى الرحمن الرحيم، ووجهته إلى المولى الكريم جل جلاله وتعالى في علاه، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ). فإذا توجّه إلى الله، ما وجد قِبلة إلا محمد، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله )، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) فاقتدى واتبع واهتدى، وانتفع، وارتفع، واتسع، واطّلع على أسرار الخطاب، وأسرار النداء، وأسرار التعليم الإلهي، وظهرت من قلبِه على جوارحه، وظهرت في أسرتِه، وظهرت في مجالسه، وظهرت في أصحابه، وظهرت في كلماته، وظهرت في نظراته، تأدَّب قلبُه فتأدبت عينُه وتأدبت أذنه وتأدب لسانُه وتأدب أنفُه، وتأدبت جوارحُه كلُّها بأدب الامتثال لأمر ذي الجلال، والانتهاء عما نهى عنه من الأقوال والأفعال والحركات والسكنات ، تأدُّب موقنٍ أن الحقَّ حاضرٌ وناظر لا تخفى عليه خافية ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)، قال ربكم (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عند اقبال المُقبل ما كنا غائبين، واستجابة المستجيب ما كنا غائبين، رأينا ورأينا وأثبَتنا له ما خالف فيه هواه وخالفَ فيه نفسه من أجلنا، وامتثل فيه أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، وإدبار المدبر وإعراض المُعرِض، والوِجهة إلى الغفلة وإلى الكلمات المحرمة، وإلى المنظورات المحرمة، وإلى المسموعات المحرمة، وإلى استعمال الشمِّ في غير ما أحل الحقُّ تبارك وتعالى في انقطاع عن استنشاق عبير النفحات الإلهية

ومن لم يكن في طاعة الله شغلُه ** على كل حال لا يفوز ببغيةِ

ولا ينشق الفيّاح من طيب حضرةِ ** الوصال اذا هبت نسيمُ العنايةِ

(وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) لما ضحكوا واستهزؤوا بآياتنا وآثروا مجالسَ الغفلة ومجالسَ المعصية على مجالس العلم، قال لهم: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) كنا حاضرين معهم ، ناظرين إليهم (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)، تعجّب في الناس، اذا راقبوا أعينَ أحد من الناس.. وكم دخل فيهم هيبة أن هناك مراقبات وأن هناك تجسُّسات وأن هناك مخابرات .. يخافون منها، (هُوَ مَعَهُمْ )، (هُوَ مَعَهُمْ) فوق هذا كله، صاحب القدرة، صاحب الأمر، صاحب ملك الأرض والسماء وملك الدنيا، (هُوَ مَعَهُمْ) أما يهابونه، أما يهابونه، أما يعظّمونه، أما يستحيون منه، (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)، جل جلاله وتعالى في علاه،

(وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)، يقول جل جلاله وتعالى في علاه، (إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)  وهم في وِجهاتهم هذه واقتفائهم لأثر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يعظِّمون ما عظّم الله، الأرض كلها لله مخلوقة ومبسوطة كوكب من جملة الكواكب، كم في عالم الله من كواكب ومن نجوم، وكم في عالم الله سبحانه وتعالى في الفضاء وما بين في الأرض والسماء، وكم في السماء، وكم في الأرض وتخومها، وكم في الأرض ومياهها، وكم في الأرض ومعادنها، وكم في الأرض وبحارها، وكم عجائب لربكم جل جلاله. وهذه الكرة الأرضية، اختارها الله أن تكون ساحة للتَّكرِمة بالخلافة عنه لبني آدم، لآدم وذريته يقضون فيها أعماراً محدودة، يحوز مَن صدق منهم ومن لبّى النداء منهم، ومن استجاب لمنادي الحق منهم، يجلس على كرسي خلافة شريفة كريمة عظيمة، جليلة، واسعة، ورافعة.. خلافة عن الرحمن في منهجه الذي ارتضاه، يقوم به على ظهرِ أرضه، يسخر له أعضاءه ويسخر له عقله ويسخر له فكره ويبذل في سبيل ذلك ماله وحاله، ليقيم أمرَ الله سبحانه وتعالى في هذه الخلافةِ المشارِ إليها بقول ربكم (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)

ثم جعل سبحانه وتعالى أنواعاً من الاستخلافات، فيما يتعلق بالأسر، فيما يتعلق بالأموال، فيما يتعلق ببعض الوجاهات، وجعل من أكبر ما فتن به الخلقَ واختبرهم فيه، خلافات أخرى، ليست هذه الخلافة المذكورة، ولكن خلافات الظاهر في الحكم، بالتسلط على الناس والقدرة أن ينفِّذ أمره فيهم في شيء من الشؤون،لا أحد من الحكام يقدر على كل شيء في الخلق، إلا على أشياء كما أرادها الله تعالى

هذه الخلافة الظاهرية الحسية فتن بها خلق الله، فتن بها الخلق ليتنازعوا عليها وليتقاتلوا عليها، وليضيعوا فيها أديانهم وأموالهم وأعراضهم وأبدانهم وأفكارهم وأعمارهم، إلى حدود بعيدة، مع فتنة المال، وذي أشد من فتنة المال، فتنة المال نفسها لما يُفتن بنو آدم يخرجون عن موازين عقلياتهم وموازين ما آتاهم الله من نور العقل ومن نور المعرفة.

كما أخبرنا النبي أنه سيحصل لذلك، مظهر إمارة أو مظهر مال،  ينحسر الفرات هذا في العراق، عن جبل من ذهب فيقتتلون عليه، يقتتلون حتى يُقتل في كل مائة تسعة وتسعون يقول صلى الله عليه وسلم، تشوف الدماء أمامك تسيل والناس يقتلون وأنت تدخل!؟ قال كل واحد يقول ربما أكون أنا تمام المائة، الذي أنجو، والتسعة وتسعون غيري!! لهف ورغبة وحرص لم يبالِ فيه بالموت!

عرف الصحابة الدخول في الميادين من أجل الحق سبحانه وتعالى، فقدَّموا أرواحهم في ذلك، وقدموا ما عندهم، أما من أجل المال.. مرة فكر بعضهم بعد ما حصل الصلح مع المشركين المقاتلين في الحديبية، قال نرجع إلى ما تركنا من أراضينا وأموالنا فنعمرها ونعيد إليها حركتها فأنزل الله (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لا ترجعوا الى الاشتغال بهذا في غفلة عن القيام بما يحتاجه نبينا صلى الله عليه وسلم، أو تتشرفون به من خدمته في نصرته وفي جهاده، هذا سبب نزول الآية، حتى تعجب بعض الناس من الصحابة لما رآه يستدل بها لمجرد إهلاك شيء من الجسد أو الظاهر، وإن كان هذا محرماً في الشريعة، لكنه ليس سببا لنزول الآية، سبب نزول الآية الرجوع إلى عمارة الدنيا ونسيان أمر الجهاد والقيام بأمر الله هذا سمّاه تهلكة ربك سبحانه وتعالى، (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) جل جلاله وتعالى في علاه

 خلق الأرض هذه سبحانه وتعالى، ثم جعل الاعتبارَ فيها في شرفها وكرامتها بعبادته، والمكان الذي خُص بكثير من الطاعة والعبادة له مِيزة وشرف بذلك، وأمر الله أهل الإيمان أن يزيِّنوا أماكنهم وبقاعهم وديارهم بكلامه وبذكره وبالصلاة على رسوله، وبطاعته للقيام بحق هذه الخلافة العظيمة، هذه الخلافة العظيمة التي يحصلها المؤمنون الصادقون كلهم من دون ما يتنازعون ولا يتقاتلون ولا يتزاحمون، أنت خليفة وذا خليفة وذا خليفة وكل واحد على كرسي خلافة عن الرب في ميدان واسع مافيه تضارب ولا فيه تزاحم ولا فيه شيء من التقاتل هذا ولا فيه شيء من الضيق، لأنها خلافة كبيرة تسع الكل وتسع كل من صدق في الإيمان والعمل الصالح، ما هو مجرد سعة، وعد، والوعد ممن لا يخلف الميعاد، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)، وعد الله، (ومن أوفى بعهده من الله)؟، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)، هذه البقعة هذه الأرض صارت لها شان من دون بقية الكواكب، من أجل هذا السر (إني جاعل في الأرض خليفة) (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) كل الذين صدقوا في الإيمان والعمل الصلح استخلفتُهم وأعطيتُهم كرسيّاً من كراسي الخلافة على ظهر الأرض، وأنتم اذا قمتم هكذا بالايمان والعمل الصالح سيستخلفكم (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) ماذا يعملون في الخلافة عنك؟ (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) اللهم اجعلنا منهم.

هذا ما وعدهم في الدنيا، ووعدهم هناك فيما بعد الأرض وكم ستدوم الخلافة في الأرض؟ وكم ستستمر الخلافة في الأرض؟ ولو كان فيها شرف ما وقعت إلا للأنبياء، وما وقعت لغيرهم أبدا، ولو كان فيها الشرف لكان غير الحاكمين أولى بالحكم منهم، لكن ما كان ذلك، مَن أولى؟ سيدنا موسى أو فرعون؟ بينما الحكم لفرعون وليس لموسى، لو فيه شرف كان لموسى وليس لفرعون!

لمن كان الحكم في مكة، لأبي جهل أو لزين الوجود؟ الحكم الظاهري كان لأبي جهل والخلافة عند محمد، الخلافة الكبرى العظمى محمد هو خليفة الله الأكبر، لا أحد تبوأ منصَّتها مثله، كل الخلفاء أتباعُه عليه الصلاة والسلام، كل خليفة عن الله تبعُ محمد بن عبد الله، هو رأسهم وهو ساسهم..

هو الرأس وهو الساس للأمر كله ***  بأولهم يُدعى لذاك وآخر

 عبد محبوب، عبد موهوب، عبد مخصوص من قبل ملك المملكة، ملك المملكة اختصه سبحانه وتعالى، وميزه سبحانه وتعالى، وقدّمه سبحانه وتعالى، وعظّمه سبحانه وتعالى، فاذا نظرت بعد ذلك وجدت أن أهل الصدق من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأهل ذا المسلك، يعظِّمون التي يُعبد الله فيها والتي يكثر العبّاد فيها كما أُنبئنا في الخبر، هذه الحقيقة التي تعلمها الناس من الأنبياء، أن الذي كان يعصي من بني اسرائيل، ووقع في العصيان ووقع في المخالفات وحدَّثته نفسه بالتوبة، وجاء إلى واحد متظاهر بالعبادة، ما عنده علم، يسأله هل لي من توبة؟ ماذا عملت؟ قال قد قتلت تسعة وتسعين نفسا، قال ولا لك توبة ولا يقبل الله منك توبة ، قال ما دام كذا نكمل بك المائة، وقتله وأكمل المائة نفس، ولكن السعادة التي له حركت قلبه، قال معقول هذا .. ربي لا بايقبلني وأنا عبده وما معي رب غيره!! سأسأل.. من أعلم أهل الأرض؟؟ فدُلَّ على عالم، فجاء يقول له عاد لي من توبة وأنا صحيفتي سوداء كلها ومليانة ذنوب ماذا؟ قال مئة نفس قتلت، قال يا هذا، مئة ولا اقل ولا اكثر وعملت ما عملت، من يحول بينك وبين ربك؟ من ذا الذي يقدر يدخل بينك وبين خالقك ويقول لك اخرج ، ليس لك توبة .. من يقدر؟ لكن تب إليه واصدق معه، واسمع، البلد التي أنت فيها بلد شر، بلد أشرار اخرج منها إلى القرية الفلانية، ما ميزتها يا هذا العالم؟ يا هذا العابد؟ قال فيها عبّاد صالحون، اذهب عندهم، هذا تعظيم الأراضي بهذا المقياس..

والآن أخذوا يقولون لنا: عظّموا الأراضي بمقاييس نعطيكم إياها نحن من عندنا، يعظمون محل الفلاني محل سياحي والمحل الفلاني فيه تجارة، يعظّموها، قولوا عندنا ميزان من الرب لماذا تستعبدونا نحن هكذا؟ ونضيع موازيننا من اجل أحكامكم، المصيبة أن ذا الميزان اختلّ عند الكثير من المصلين، وكثير من القائمين حتى في الليل، اختل الميزان عندهم وعظَّموا ما حقر الله جل جلاله، ما شرفُ البقاع إلا بالاتباع، ما شرف البقاع إلا بالقرب من الرحمن وبعبادته سبحانه وتعالى، ولهذا تميزت المساجد عن غيرها في الأرض، قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) جل جلاله وتعالى في علاه.

هكذا ثم هكذا قامت الموازين عندهم، فاذا نظروا إلى ما فُضِّل بواسطة الميزان العام للعبادة وجدوا ميزانا خاصا، قال الله وهذه البقعة أنا فضلتها، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، يأتي عند البقعة الثانية فيقول (صلاتي في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) (من أقام بالمدينة أو حل بالمدينة فصبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعاً يوم القيامة) بقعة تسكن فيها يشفع لك، بل مُت فيها ويشفع لك، إذا متت على الايمان والمحبة يقول (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمُت فإني أشفع لمن مات بها) وقال صلى الله عليه وسلم ( من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة ) بقعة من البقاع لكن فرق بين تموت هنا وتموت هنا، فرق، تُقبر هنا وتقبر هنا، من أين جاء ذا الفرق؟ بهذه الموازين، احذروا الموازين المخبولة الثانية، قولوا لكم يا كفار حتى تؤمنوا بالله وبرسوله، فيعتدل الميزان عندكم، وبيننا وبينكم أنه عند انتهاء هذه الستارة وهذا الوهم، نرجع كلنا إلى مصير يُعرف فيه بطلان موازينكم وصحة ميزان الله ورسوله، وذي الموازين حقكم كلها تبطل، ولا تساوي شيئا

فهكذا جاء تعظيم مثل هذه المساجد الثلاثة، بالنصوص عن رسل الله وأنبيائه الى خاتمهم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ولذلك كان مِن الحق تعالى في ليلة الإسراء والمعراج، أن يمر حبيبُه على بقاع في الأرض، يقول له من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، مُرّ على المدينة، فمر به على المدينة، هذا مهاجَرك، وارجع الى بيت المقدس ثم صعد صلى الله عليه وصحبه وسلم إلى السماوات العلى حتى جاوز السبع الطباق ووصل إلى حضرة الإطلاق، وهم أهل الإنابة والاستجابة لدعوة الحق، يقيمون هذه الموازين ويعرفون شرف المواطن، وشرف المساكن، وشرف الساكن، وشرف النزيل الذي تتشرف به المنازل..

وإذا نظرتَ إلى البلاد وجدتَها *** تشقى كما تشقى الرجالُ وتسعد

النبي لما حدثنا أن هذا العالم أقام الميزان، وقال للرجل اخرج من ذي الأرض، واسكن تلك القرية،  فيها أخيار وصالحون، اعبد اللهَ معهم حتى معهم وعندهم في أرضهم، بعد ما ذكر لنا هذا الخبر، أكده وقرره أن هذا الميزان صحيح، صحيح عند الرحمن، يظهر في الحكم في الآخرة، فأخبرنا أن الرجل مات، وهو في الطريق، ولما اختصم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فيه، تقول ملائكة العذاب نحن أحق به، هذا صاحب الجرائم ولم يتب إلا الآن ، فقالت ملائكة الرحمة: هذا أدركته المنيّة وهو تائب إلى الرحمن يقصد الأخيار فنحن أحق به.. فأرسل الله ملكا يحكم بينهم، فما هو الحكم؟ قال الحكم على الميزان، وما هو؟ قال قيسوا بين الأرضين، هؤلاء الناس الذين لا يفقهون الموازين، يقولون لا ينفع الناس إلا عمله، أما قُرب من أرض وبعد من أرض فلا ينفعك، .. وماذا نفع هذا الرجل هذه الساعة؟ قربُه من أرض الصالحين، بتقريب الله ربك ستره، وإلا كانت أذرع الملائكة ستُظهر في الميزان غير هذا، سيكون أقرب إلى تلك، لكن ربك لما رحمه، قال يا أرض انتي تباعدي وانتي تقاربي، فوجدوه أقرب إلى أرض الأخيار بشبر، فأخذته ملائكة الرحمة، يقول صلى الله وسلم عليه وعلى آله.. رأيت هذا الميزان؟ القرب من الأخيار ينفع، يارب قربنا منهم واجعلنا معهم في الدنيا وفي الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.

وهذا المعنى نفسه يقرره النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، عن الكليم قبله، أدركه الموت أيام كان بنو إسرائيل في التَّيه، فقال يارب أدنِني من الأرض المقدسة رميةَ حجر، قربني للأرض المقدسة، طلب القرب من الأرض المقدسة، نبي الله موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فلو لم يكن القرب من الأراضي الطيبة ينفع، ما طلبه سيدنا موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، بهذه الموازين قامت القائمة ، فالمؤمنون الصادقون على ظهر الأرض أمامهم شخصيات وأمامهم من أهل الشرق والغرب فلان وفلان لكن ليس في الخلق أعظم من محمد، لا في اعتقادهم ولا في يقينهم ولا في مشاعرهم ولا في مداركهم ولا في أحاسيسهم، ولا في خواطرهم ولا في نواظرهم ولا في مناظرهم ولا في وِجهاتهم، هذا أعظم، وبعده الأنبياء والمرسلون، ثم الصديقون ثم الشهداء ثم عموم الصالحين على ترتيب ربهم جل جلاله، هكذا نظرتهم، فلهذا يعيشون على القدوة به وعلى إرجاع الأمور إليه، هذه حقائق الإيمان، هذه حقائق الصدق مع الرحمن جل جلاله، هذه حقائق التحرُّر، التحرُّر من أسرِ النفس والشهوات والكائنات والمغالطات والأغلوطات والوساوس لشياطين الإنس والجن، التحرر منها كلها، قال الله تعالى عن هذا التحرر ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)، يتخلصوا عن كل أسرٍ لشيء من شهواتهم ونفوسهم والإنس والجن، الصغار والكبار، والأولين والآخرين، تبع رب العالمين، رب الأولين والآخرين تبع عبدَه المقرب، سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قال ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، وقال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ). قال هذه الاهواء هاتوها في غير ما يجي الحكم من فوق، أما إذا قد جاء أمر الله وأمر رسوله فاتركوا العقليات حقكم والأفكار البائدة هذه، وتعالوا إلى النور الخالص، تعالوا إلى الهدى البيِّن الواضح، (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة) ولا تخزنا يوم القيامة، ولا تُخزنا يوم القيامة، لا تُخزِ منا كبيرا لا تُخزِ منا صغيرا، لا تُخزِ منا رجلا، لا تُخزِ منا  امرأة يا حي يا قيوم وجميع أهالينا وجميع أهل ديارنا وجميع جيراننا وجميع أصحابنا وجميع طلابنا، وجميع من له حق علينا، لا تخزي أحداً منهم يوم القيامة يا الله.

(رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)، ولا تُخزِنا يوم يبعثون (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، اجعل قلوبنا سليمة، مسلولة السخيمة يا الله، بالقرآن أقسمنا عليك، وبمن أنزلته عليه أقسمنا عليك، لا تخزِ أحداً منا يوم العرض عليك، ولا يوم الوقوف بين يديك، لا تخزِنا يوم القيامة، لا تخزِ أحداً منا باسودادِ وجهه يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسود وجوه، لا تخزِ أحداً منا باعطائه الكتاب بشماله من وراء ظهره، لا تخزِ منا يا مولانا بخفَّة حسناته عند الميزان، لا تخزِ أحداً منا يا مولانا بعدم تثبيتِه وتلقينِه حجته عند المساءلة والوقوف بين يديك في ساعة العرض عليك يا الله، لا تُخزِ أحداً منا بأن يُنادى عليه شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، نعوذ بوجهك من ذلك، نعوذ بك من ذلك، لا تخزِنا يوم القيامة، اجعلنا ممن يُنادى عليه بالسعادة، لا تخزِنا بظهور فضائحنا، ولا ببروزِ قبائحنا، ولا ببدوِّ معايبنا، ولا بكشف عوراتِنا في ذاك اليوم، يا حي يا قيوم، لا تخزِنا يوم القيامة..

يا رب بارِك لنا في الجمع في الحياة واجمعنا بعد هذه الحياة، واجمعنا يوم الموافاة في دائرة حبيبك محمد بن عبدالله، اللهم اجمعنا على حوضه، اللهم اجمعنا تحت لوائه، اللهم اجمعنا في ظلِّ عرشك، اللهم اجمعنا معه في جناتك آمين.

هذا مِن خير ما تتوجه به إلى ربك، ومِن خير ما تدعو به ربَّك، وما أسفنا إلا على مَن تفوته أيام عمره لا يتوجه إلى الله في مثل ذا التوجه، ولا يحضر مع المتوجيهن، يا الله تدارك، يا الله أغِث، يا الله لا تعرِّضنا للخزي، يا الله لا تعرِّضنا للسوء في يوم القيامة، يا الله اجعلنا في زمرة المظلل بالغمامة، مع من كتبت لهم النجاة والكرامة، آمين.

سلُوا ربكم، سلُوا إلهكم، اطلبوا خالقَكم، اطلبوا بارئكم، اطلبوا مُوجدكم، اطلبوا مَن بيده أمرُكم، اطلبوا من توحَّد بخلقكم وإيجادكم، اطلبوا مَن إليه مرجعُكم، اطلبوا مَن إليه مآلكم، مَن إليه مصيركم، المطَّلع عليكم، الناظر إلى ما في قلوبكم، المتجلِّي بالفضل عليكم قولوا يا الله.. قولوا يا الله.. قولوا يا الله.. لا تُخزِنا يوم القيامة، لا تخزِنا يوم القيامة، لا تخزنا يوم القيامة، (إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)

إلهنا، وكل موجب خزي صدرَ منا اعفُ عنا فيه، سامحنا فيه، تجاوز عنا فيه، أبعِده من صحائفنا، لا تؤاخذنا به، (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا) أنت مولانا أنت مولانا أنت مولانا أنت مولانا أنت مولانا.. فإلى من نذهب غيرك يا مولانا؟)  أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)

لا تبلِّغ الكافرين الفاجرين مُراداً في قلوبنا، ولا في ساحات قلوبنا ولا في أراضينا الحسية، لا في شامنا ولا في يمنِنا، لا في شرقنا ولا في غربنا، لا تبلغ أعداءك مراداً فينا ولا في مواطننا.. يا الله، يا الله، ولا تبلغهم مراد ونارهم تصبح رماد، بكهيعص، في الحال ولوا خائبين، رب اكفنا شر العدا، وخذهم بددا، واجعلهم لنا فدا، وعبرة للناظرين، يارب شتِّت شملهم، يارب فرِّق جمعهم، يارب واقلل عدهم، واجعلهم في الغابرين.

 وانشر الهداية في العالمين وأرِنا النور يضيء في الخلق أجمعين، يا هادي المهتدين، يا مَن بيده أمر الدنيا والدين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم احرسنا في أنفسنا، احرسنا في أدياننا، احرسنا في قلوبنا، احرسنا في ديارنا، احرسنا في أهلنا وأولادنا، احرسنا في أصحابنا، احرسنا في طلابنا، احرسنا في جيراننا، احرسنا في أهل بلداننا، احرسنا في أهل زماننا، بحراستك التي لا تُغلَب وانصرنا بنصرك الذي لا يُهزم، يا حي يا قيوم يا الله، يا الله..

 سبحان مَن أسعدكم أتدرون تنادون من؟ تناجون من؟ تطلبون من؟ تسألون من؟ الله ربكم ورب كل شيء، رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، ما أسعدكم وأنتم تلتجئون إليه وتنكسرون بين يديه، وتقولون له: يا الله، يا الله، يا الله، وما أراه وقد أعطانا هذا، أن يُبعدنا بعد ذلك، أو يطردنا أو يحجبنا أو يحرمنا أو يسيء خاتمةَ أحدنا.. يا الله بحسن الخاتمة، يا الله بحسن الخاتمة، نستودعك خواتيم أعمالنا، نستودعك أدياننا، نستودعك أبداننا، نستودعك خواتيم أعمارنا، نستودعك اللهم خواتيم أعمالنا، نستودعك الخاتمةَ لكل أحد منا، نستودعك ما أعطيتَنا من الإيمان، لا ينقص ياربي ولا يُنزع، لا ينقص ياربي ولا يُنزع، لا ينقص ياربي ولا يُنزع، زِدنا من الإسلام، زِدنا من الإيمان، زِدنا من العافية، بارِك لنا في الاعمار، اختم لنا بحسن الخاتمة، وإليك جميعاً نتوجه يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة..

 يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة.. يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة..

يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة.

للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة

تاريخ النشر الهجري

22 جمادى الآخر 1434

تاريخ النشر الميلادي

02 مايو 2013

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية