العقل السليم والنظر الصحيح يخلصان أربابهما من الانحصار في الظواهر والانحباس في المظاهر وذلك مقتضى الإيمان ومسار المكلفين

للاستماع إلى المحاضرة

 محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ليلة الجمعة 28 ربيع الثاني 1443هـ بعنوان:

العقل السليم والنظر الصحيح يخلصان أربابهما من الانحصار في الظواهر والانحباس في المظاهر وذلك مقتضى الإيمان ومسار المكلفين

 

نص المحاضرة:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، مُكَوِّن العالمين، خالقِ العالمين، إلهِ العالمين، المحيطِ بالعالمين، إليه مرجعُ العالمِين، لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، سبحانه مِن إلهٍ -تعالى في علاه- ذَلَّت له الجِبَاه. فأمَّا مَن حَظِيَت قلوبُها من الجِبَاهِ مِن العالمين بالخضوع لجلالِه والسجود طَوْعَا؛ فأولئك الذين أعدَّ اللهُ لهم رُقِيَّاً ورَفْعَا، وعطاءً واسعا، ومِنَنَاً متوالياتٍ لا نهايةَ لها ولا غاية. ومَن سِواهم مِن المكلَّفين الذين لم تحِسّ قلوبُهم عظمةَ هذا الإله، ولم يُدركوا الحقيقةَ أنهم خَلْقٌ عبيدٌ لهُ -تعالى في علاه-، اُستعبِدوا للشهوات أو الأهواء أو المظاهر أو الرئاسات أو الدنيا أو الجاهات أو الشهوات.. أو شيء مِن هذه المُكَوَّنات؛ فهم الذين سجدوا لله كَرْهَاً، ولابدَّ بعد السجود الكَرْه أن تَذِلَّ للجبَّار الأعلى قلوبُهم وأرواحُهم وأجسادُهم مِن حينِ الغَرغرةِ إلى الأبد، ولكن لا يفيدُهم شيء مِن ذلك وقد عاندوا وقد جحدوا وقد أبَوا وقد خالفوا وقد رضوا لأنفسِهم في الحياةِ القصيرةِ أن يَخرجوا عن أمرِه ويبعُدوا عن ذكرِه ويخالفُوا شريعتَه، فبئس المآلُ مآلُهم!

أمَّا مَن سِواهم مِن النباتات والحيوانات والجمادات فكلُّها مُسَبِّحةٌ بحمدِه -تعالى في علاه- خاضعةٌ لجلاله، فقال لها وللسماوات: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، ثم لم يجعل لهم مِن عطاءِ العقلِ المخصوصِ ما يُوجِب التكليف، فلا تكليفَ عليهم ولا حسابَ عليهم.

 وبقي الحساب على العقلاءِ مِن الإنسِ والجنِّ الذين بلَغتهم دعوةُ عَالِمِ الظاهرِ والباطن إلهِهم -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-؛ ففازَ المقبلُون على الله، والمتوجِّهون لأمرِ الله، والذين لم تَغُشُّهم ظواهرُ هذه الحياة ومظاهرُها. وما أكثرَ ما فيها مِن زيف، وما أكثر ما فيها مِن غرور، وكلها مُنقضية ومنتهِية زائلة فانيةٌ بلا ريبٍ ولا شكٍّ.

ولكنها -مع أنَّها منقضيةٌ زائلةٌ منحصرةٌ فانية- تغرُّ كثيراً! تستعبِدُ كثيراً! تضرُّ كثيراً! تستهوي كثيراً! بل تأخذ الأكثر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- مِن هؤلاء المكلفين! فلا يستجيبون لنداءِ الله ولا لنداءِ الرسول -عليه الصلاة والسلام- {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، فعاشوا على القصور؛ التقصير والانحصار في المادِّيات والحسِّيَّات، وإن طال بهم المدى ففي تسخير الجواهر الغالية من العقول والمدارك والحِسِّ والذكاء للتحيُّل والتربُّص بالآخَرِين لنَيلِ الشهوات.. وتنتهي عند السلطةٌ والمال! والشهرة والظهور.. وانتهَينا، وهي حقيرة وقصيرة وزائلة منتهية.. فهم هكذا حُقراءُ قاصرون.. كل ما يستعملونه مِن دهاءٍ ومكرٍ وحِيل يسخِّرون له الجواهرَ الصالحة لمعرفةِ الله ومعرفةِ الحقيقة يقطعونها عن معرفة الرَّبِّ! يُسخِّرونها لهذه السَّوَاقِط الباطلة الزائلة الفانية.. ويغترُّون بذلك! ويفترُون! ويتجبَّرُون! ويتكبَّرُون! -والعياذ بالله تبارك وتعالى-

ومصيرهم خطيرٌ وخيم، عذابٌ مهين، أليمٌ شديدٌ عظيم، تحت قهرِ قهَّار {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ..} فيَا فوز أهل الطمأنينة به {..يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}

ولمَّا عاشَوا ومضَت أيامُهم وأعمارُهم في هذا الانحصارِ والقصر والحبسِ تمادَوا مع ذلك، ومع تمادِيهم غرُّوا مَن عداهُم حتى أثَّروا في عقليَّات المسلمين.

كان مِن حقِّ المسلمين أن يشكروا نعمةَ الله ويستشعروا مِنَّته عليهم بالهداية إلى الحقِّ والهدى وأن يُنقِذوا أولئك مِن هذا القَصْر!!

وإذا بأعدادٍ كبيرةٍ مِن هؤلاء المسلمين ينقصرُون حيث انقصروا! وينحبسون حيث انحبسوا! ويُحصَرون حيث حُصِروا! ويسقطون حيث سقطَ أولئك، ويتأثرون بتأثيرهم!

وما سمعتم من انتشار الإسلام من بعض ما أرسل الله -تبارك وتعالى- من آثار بعثة نبيِّه بالهدى ودين الحق {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}

محمد المبعوث بالهداية ** والحق والتحقيق والولاية

إنسان عين الكشف والعناية **وروح معنى جملة المظاهر

وكل معنى انفصل عنه فهو جسمٌ لا روحَ له.. وما مقدار الأجسام بلا أرواح؟

مِن آثار هذا المصطفى سمعتم من كلام أخٍ عاش في أستراليا، أصوله من مصر وما يعرف يتكلم باللغة العربية ليتعلمها.. أصوله من مصر عاش هناك، نازَل قلبَه أثرٌ من هذا النور.. وقال لكم نظرنا ونظر الناس من حوالينا إلى الظواهر -نظر المشائخ والعلماء إلى العمق والباطن-

هذا نظر الأنبياء، هذا ما نُصِحنا به من خالقنا؛ ألَّا نغترَّ بالظَّواهر، ولا نَركَن إليها، ولا نعتمد عليها، بل حذَّرنا أبلغَ التحذير {إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا..} ما يعرفون المعنويات ما يعرفون الحقائق ما يعرفون الغايات والنهايات {لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ}

آياته؟ أوَّلُها محمد! والقرآن والسنة! والآيات الكبرى الآيات الكونية، السماوات والأرض وما فيها {وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا كسبُهم! حصروا أنفسَهم! حبسوا أنفسَهم! دخلوا في هذا الحَبْسِ وهذا الانحصارِ في الفانيات والماديَّات.. وكأنَّها خلقَتهم! أو كأنهم لها خُلِقوا!

وعِزَّةِ العزيز لا خلقَتهم هي ولا هُم لها خُلِقوا!

خلقهمُ الله، وخلقَهم لعبادتِه ليُثيبَهم (مالا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر) فجَهِلوا أنفسَهم ونسوا أنفسَهم! {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} فعاشوا مُستَعبدِين -وإن عندهم قوى وأجهزة وجهد وسهر وتعب في الحياة- وراء هذا الحصر والقصر والحبس حولها نُدَنْدِن: يا سلطة، يا جاه، يا مال، يا شهوات!!

بس! تعرف وبس؟ ساقطين.. ما عندهم إلا هذا، ما يعرفون الروح، ما يعرفون الملأ الأعلى، ما يعرفون الجنة! ما يعرفون معاني القرب مِن ربِّهم! ما يعرفون صفاتِه! ما يعرفون أسماءَه!

فماذا ينفعهم مِن معرفة هذه الأجهزة؟ وهذه المواد؟ وهذه العلوم التي تدور بينهم مِن ظاهرِ الحياة الدنيا؟ وإلى أين توصلهم؟ وبماذا تكافئهم؟ وبماذا تجازيهم؟ وماذا أعدَّت لهم؟!

وهكذا يعيشون -والعياذ بالله تبارك وتعالى- في هذا القصور والأسر والحبس! فإذا انتبهوا وارتفعت الستارة {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}  {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ..} تعالوا إلى هنا {..كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}

لا إله إلا الله!

هل يرجع أحد مِن أموات بني آدم إلى حكومة؟ أو يرجع إلى وزارة؟ أو يرجع إلى شركة؟ أو يرجع إلى حزب؟ هيّا قولوا لي بالله عليكم؟

والله ما أحد يرجع إلى شيء..

إليه يرجعون، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} – جلَّ جلاله وتعالى في علاه-

{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}

أما جاءكم الرسول؟ أما بُلِّغتُم الرسالة؟ ألم نقل لكم أنه لا مرجع لكم إلا عند ربكم؟

والملحد والكافر وفرعون والنمرود وقوم عاد والملحدين الذي في زماننا والمستهزئين بالأنبياء والمستهزئين بدين الله -تبارك وتعالى- أين سيذهبون؟ يرجعون إلى هذا الرَّب؛ ولكنهم خاضعين.. ولكنهم ناكسوا رؤوسهم في خزي -والعياذ بالله تبارك وتعالى- {إِنَّ ٱلْخِزْىَ ٱلْيَوْمَ وَٱلسُّوٓءَ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} {وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِى ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ ٱلْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}

وسعيهم صار في ضلال، وخططهم؟ صارت ضلال، وسياستهم؟ صارت ضلالا،

وملكهم؟ صار ضلالا.. زال وما بقي منه شيء

{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} فايش الحقيقة يا رب؟ {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ..} الكل يعتذر، الذي كان ينكر والذي كان يجحد، والذي كان يسب والذي كان يحارب يرجع يعتذر يقول سامحنا، آمنا رجعنا تبنا نتبع {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}

استحقوا ذلك لجراءتِهم على مَلِكِ الممالك! خالقهم ومنشئهم المُنعِم عليهم.. جحدوا! وكذَّبوا وأصرُّوا واستكبروا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-!

فلهم ذلك الجزاء {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ..}

كنتم بسياساتكم تقولون سنُهين ذا، ونطلّع ذا، وننزّل ذا.. تصلّحون حركات تضحكون على أنفسكم؛ وما هي إلا تحت حِكَم من عند الخالق الكبير؛ يَرفع ويَخفِض ويُعطي ويَمنَع، ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممَّن يشاء بحِكَم من عنده -جلَّ جلاله-، ولكن ضحكوا على أنفسهم ظنّوا أنهم هم جابوا وطلَّعوا ونزَّلوا..

عليكم الحساب فقط فيما كان تحت دائرة الاختيار والتصرف، تحت حِكَم مِن فوق ولكن الحساب عليكم.. لماذا تصرَّفتم كذا؟ لماذا قلتم كذا؟ لماذا فعلتم كذا؟

ظنُّوا أنفسَهم يرفعون أو يخفضون والرافع الخافض غيرهم؛ هو "الله "، ظنُّوا أنفسَهم ينفعون أو يضرُّون والنافع الضارُّ غيرهم -جَلَّ جلاله-، ظنُّوا أنفسَهم يعطُون ويمنعُون والمعطِي المانع غيرهم -جَلَّ جلاله تعالى في علاه-.

وفِّر حظَّنا مِن عطاياك الواسعة، ومِنَنِك المتتابعة، يا أرحمَ الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

فلتُحسِنُوا النَّظَر في الأمور ولا تغرُّكم ظواهرَها.. فالمغرورون بها كثير! كثير! كثير! ويجرُون وراءَها كأنهم بلا عقول، كأنَّهم بلا وَعي!

وسبحان الله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} و: {إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} و: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} من ربي.. هذا كلامُ إمامِنا وقدوتِنا بتعليمِ ربِّنا وخالقِنا..

ونحن وراءه، ونحن وراءه، ونحن وراءه.. ما حيِينا، وحينَ نموت، وفي البرزخ، ويومَ القيامة -إن شاء الله- وفي الجنة وراءَه يا رب، وراء محمد عبدِك المصطفى يا رب، صغيرنا وكبيرنا، ذكرنا وأنثانا، أولنا وآخرنا، لا نُخدَع بالمظاهر ولا الظواهر، ونُدرِك عظمتَك يا فاطر، يا أوَّل يا آخر، يا باطن يا ظاهر، يا جامعَ الأولين والآخرين في اليوم الآخر يوم المَحَاشر: اجعلنا في زمرةِ النبيِّ الطاهر.. يا الله .. يا الله

لا تَخَلَّف عنه مِنَّا أوَّلٌ ولا آخِر، ولا ذكر ولا أنثى، ولا صغير ولا كبير.. آمين يا اللـه

فإنَّا نعوذ بك وبوجهِك وأسمائك وصفاتِك أن يتخلَّف أحدٌ مِنَّا عن ركبِ هذا الحبيب! وعن الدخول في دائرته!

فويلٌ لمن تخلَّف! إلى أين؟! ويُذهَب به إلى أين؟ ومع مَن يكون؟!

يا رب: هيِّئ لنا صدقَ الارتباطِ به، والثباتَ على دربِه، اجعله مقتدانا في ظواهرِنا وخفايانا، في أقوالِنا وأفعالِنا، ومقاصدِنا ونياتنا، وجميع شؤوننا، لا نستبدلُ به قدوةً سواه، ولا نستبدل به متبوعاً عداه، بجاهِه عليك، وبمنزلتِه لديك، اجعل كلَّ هذه العيونِ ترى وجهَه يومَ القيامة، عيون الحاضرين والسامعين، ومَن يوالينا فيك، شرِّفها بالنَّظَر إلى طلعته الغرَّاء وجبهتِه النورانيَّة في ذلك اليوم يا الله، شرِّفنا بالورودِ على حوضِه، وبمصافحةِ كفِّه وتقبيلِ يدِه، والدخولِ معه، برحمتك يا أرحم الراحمين.. في يومٍ قلتَ عنه: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} -فاجعلنا معه- {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

وبقولِهم قولوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

قُلْ لربِّك: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

تشبَّهنا بهم يا ربَّنا، وأحببناهم مِن أجلك يا ربَّنا، وحبيبُك قال: (مَن تشبَّه بقوم فهو منهم) و: (مَن أحبَّ قوماً حشره اللهُ في زمرتِه) فبحَقِّ كتابِك والتنزيلِ ورسولِك الجليل، احشُرنا معهم، واجعلنا منهم

 يا الله.. يا الله .. يا الله

ندخل مع طه وآله في الصفوف الأَوَّلَات ** معهم وفيهم في الدار ذِهْ والآخِرَات

يا مجيبَ الدعوات، يا قاضي الحاجات، يا مفرِّجَ الكربات، يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحمَ الراحمين.

ومظلَّته الكريمة.. فما يجتمع تحت لوائه في القيامة جميعُ أهل الجنة في أيام الحياة الدنيا تحت مظلَّته يدخل كُلُّ مَن سبَقَت لهم السعادة وكل مَن أراد الله لهم حسنَ الخاتمة يدخلون تحت هذه المظلَّة؛ والدخول بهذه العلائق القلبيَّة، وهذه المحبَّات وهذه الاتصالات

كما أنَّ شؤونَ الظواهر في الدنيا وزَّعت الناسَ مِن أصول متعدِّدة ذاك دخل تحت جنسيَّة كذا بدواعي حركة الحياة ومظاهرها، ولكن وسط هذه الحياة ومظاهرها هناك انتماءاتٌ معنوية وقلبية، والناس لمَّا أدركوا حاجاتِهم الحسيَّة اضطروا إلى الانتقال مِن وطن إلى وطن وبلد إلى بلد، وصاحب ذا الدولة يأخذ جنسية هذا وصاحب ذا جنسية هذا.. هناك انتماءات معنوية، لا عبرة فيها للجنسيات من طرف الأرض إلى طرفها.. مائتي دولة ما تساوي لحظة من تسجيل في ثَبَتِ القُربِ في تبعيَّة محمد، المائتي الدولة كلها وجنسياتها ما تساوي شيئا عند هذه، وهذه شغَّالة تُسَجِّل فيها ذا ويسجل فيها ذا

ولذا لا تستغربوا.. شاهدتُم وستشاهدونهم من أماكن المادَّة والمظاهر سيفدون إلى مثل هذه المواطن؛ لنَيلِ الجواهر، ولإدراك ما هو مخبوٌّ من عطاء الكريم الفاطر، وإرث النبي الطاهر -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وتَرِكَة الأكابر..

وفي وقتٍ من الأوقات تُرَى هذه المظاهر -بترول الأرض أو ذهبها أو فضتها أو معادنها الأخرى أو ثرواتها- ستصير خادمةً لمخُلَّفات هؤلاء.. الذي خلفوه؟ هم ما خلَّفوا بترول ولكن سيكون البترول تحت ما خلَّفوه، هم ما خلّفوا ذهبا، ولكن سيُستخدَم الذهب ويُستعبَد ويُستَذل تحت ما خلّفوه؛ مِن قِيَم، مِن شِيَم، مِن صفات، مِن مسالك، مِن روابط بالحق-جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- وسُتُذَلّ وستُسَخَّر، كما قال سيدنا في كنوزِ كسرى وقيصر: (لتُنفقَنّ في سبيل الله) وأُنفِقَت، وأقول لكم: اللي تشوفونه من الذي يتضارب عليه هؤلاء أهل الغفلة وأهل الحجاب سيُنفَق في سبيل الله {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} بتدبيرٍ مِن فوق.

ممَّن عبَّر عن إرادتِه بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

وهذه مظاهرُ رحمتِه بالعباد؛ لأنه إذا أعرضَ عن العباد -سبحانه وتعالى- وأوكلَهم إلى سواه صرَفوا جميعَ هذه الأشياء التي يتكالبون عليها إلى الأهواءِ وإلى الشهواتِ وإلى الشر؛ وإذا رحمَهم ورضي عنهم جاءوا بها وسلَّمُوها للخير، وسلَّموها للهدى، وخدموا بها الشرعَ والتقوى؛ فضل من فضل الله -تبارك وتعالى- سبقَ إليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار

وفي مظهره حرَّك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثمانين ألف حطَّها عثمانُ من أجل جيش العسرة "تبوك" (ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم) يعني عثمان سخَّر ممتلكاتِه وحاجاتِه للمقصد الأسمى؛ عرف الحقيقة، ما حُبس عند ظاهر.

وجاء سيدنا عمر.. ما تركت لأهلك وولدك؟ قال: نصف مالي جئت به لك يا رسول الله، وتركت لأهلي وولدي النصف الآخر. قليل وصل سيدنا أبو بكر.. ما تركت لأهلك وولدك يا أبا بكر؟ تركتُ لهم اللهَ ورسوله جئتُكَ بمَالي كله.. "تركت لهم اللهَ ورسوله".

أدركوا عليهم الرضوان! وقاموا بحقِّ الخلافة من بعده، خير قيام.

ومِن بركاتهم وصلت إلينا هذه الأنوار، ووصلت إلينا هذه الخيرات، وتتابعَت من تلك السُّبُل الواضحة القوية والحبال المتينة السَّنِيَّة.. فلله الحمدُ والمِنَّة..

فيا ربِّ ثَبِّتنا على الحقِّ والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خيرِ مِلَّةِ

فبالحَقِّ فلنأخُذ علومَ طريقهم **  يَدَاً بِيَدٍ حتى مقام النبوة

سأحمل نفسي ما استطعت على ** اقتفاء سبيلهم حتى أُوَسَّدَ في الرَّمِلْ

عجِّل بتفريج كروب المسلمين، ودفعِ البلاء عن المؤمنين.

 يا الله: ومن استأجرَهم أعداؤك مِن إبليس وجندِه للإيذاء وللضر بالمسلمين وللزَّعزعة وللقلقِ ولِلهَمِّ ادفع شرَّهم عنَّا وعن الأمة أجمعين، وعجِّل بهدايةِ كلِّ مَن لم تسبِق عليه الشقاوة، ومَن سبقَت عليه الشقاوةُ كُفَّ شرَّه عنَّا وعن جميع أهل الإسلام، وعجِّل بهلاكِهم وبُعدهم يا ذا الجلال والإكرام، يا قويُّ يا متينُ يا حيُّ يا قيّوم.

يا الله يا رحمن يا حي يا قيوم يا ذا الجلال، برحمتِك يا أرحم الراحمين، وجودِك يا أجودَ الأجودين، ووجاهةِ حبيبِك الأمين، صَلِّ وسلِّم عليه في كُلِّ حالٍ وحينٍ، وآله وصحبِه والتابعين، والأنبياء والمرسلين والملائكة المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.. والحمدُ لله رب العالمين.

للاستماع إلى المحاضرة:

ولمشاهدتها: 

العربية