موازين الإستقامة والجهاد في مدرسة وسيرة خير العباد

للاستماع إلى المحاضرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله الحي القيوم الدائم الباقي، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الفائزون من حكم لهم بالفوز في يوم التلاقي والأشقياء من شقوا ذاك اليوم فحُرِموا دخولَ جنته وحلوا في دار البوار، أولئك الذين حقَّت عليهم الكلمة فهم وقود النار، ولقد أرسل إلينا عبدَه المختار نور الانوار وسر الأسرار سيد الأطهار محمد بن عبدالله بالهدى ودين الحق ليظهره، ليظهره جل جلاله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)

فحمداً لرب خصنا بمحمدٍ                فأخرجنا من ظلمة ودياجر

إلى نور إسلام وعلم وحكمة              ويمن وإيمان وخير الأوامر

فيارب ثبتنا على الحق والهدى           ويارب اقبضنا على خير ملة

(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، وأدِم الصلاةَ على مَن به من هديتنا وسلِّم سرمداً على مَن به أنقذتنا، عبدك الطهر الطاهر سيدنا محمد، وعلى آله الاطهار وأصحابه الأخيار وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار، وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان في خير مسار، إلى يوم الوقوف بين يديك يا كريم يا غفار.

 وأولئكم أيها الاحباب صفوةُ الله من بقية البريّة، فما المرجع إلا إلى فريقين وطائفتين، قال عنهما ربنا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أولئك هم شر البريّة، مَن كفر مِن أهل الكتاب والمشركين، وجميع من حُرم الدين، وجميع من أنكر ربّ العالمين، كلهم شر البرية.

 (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا فيهم، اللهم أدخلنا في دائرتهم، واجعل جميع أهلينا وأولادنا وذرارينا وأصحابنا وطلابنا منهم يارب العالمين (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)، وهل يخشى ربَّه من لم يعرفه؟ إنما يخشى اللهَ مَن عرف الله، وبذلك قال (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)، فإن كان هناك أمر يطلق عليه أنه علم بحقيقة، ويظل علماً إلى الأبد فهو المثمرُ لخشية الله، كل ما أثمر لخشيةِ الله فهو العلم، وإلى الأبد علم، علم على وجه الحقيقة مهما تنكرت الجهات، مهما تنكرت الحضارات، مهما تنكرت الاتجاهات، هذا هو العلم، وسيظل علم وسيبقى علم وسيدوم علمه في الآخرة هو العلم، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)، كل علمٍ أثمر لك خشيةَ الواحد الأحد، المطَّلع على خفاياك وضميرِك وما يجري ببالِك، الذي لا يفارقك بعلمه وإحاطته وقدرته لمحة ولا لحظة ولا خطرة، هو أعلم بك مِن نفسك، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يقول جل جلاله وتعالى في علاه، أهل العلم به يخشونه، وذلك جزاؤهم في عالم الآخرة، وعلامة خشيتِه كفٌّ عن كلِّ ما لم يتبيّن فيه العارف بالله، والعالم بالله، رِضى الله، كل مَن لا يتبين له فيه رضى الله يكفّ عنه، يبتعد عنه، ينأى عنه، لا يُقحم نفسه فيه، سواء كان قولاً أو نظراً أو فعلاً أو أخذاً أو عطاءً أو معاملةً، وفي هذه الحقيقة جاءتنا الأخبار أنه لو قُتل شخصٌ ظلماً في أقصى الغرب، وعلمه واحد في أقصى الشرق فرضيَ به، كان شريكاً في الإثم لمن قتله.. أقحم نفسَه، بمجرد رضاه بأمرٍ ليس فيه رضى ربه.

وبذلك أيضاً، جاءنا البلاغ النبوي عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنّ من فِتن أمّته ما يكون في آخر الزمان يكون القولُ فيها أمضى من حد السيف، وأخبرنا أن مِن الفتن في أمته في آخر الزمان ما يكون مبدؤه وريادتُه من المساجد أو من أهل العلم، وهو الصادق، وهو المتحدث عن الخالق بإذنِ الخالق وأمرِ الخالق، وهو خير الخلائق، صلوات ربي وسلامه عليه.

أحسن البيان، ومَن أنصت إليه قام على أتمِّ الاتزان، وصدقَ مع عالمِ السرّ والإعلان، في كل ما يقول ويفعل وينوي ويعتقد، فيسلّم حماه وجانبَه من اقتحام ما لم يتبين فيه رضى الملك العلام، ولقد سُئِل الإمام الشافعي عليه رضوان الله عن مسألة، سكت ساكتاً، قال بعض جلسائه لِمَ لا تجيب؟ أجب أيها الإمام، التفت إليه قال اصبر حتى أنظر، هل الخير في الجواب فأجيبه، أم في السكوت فأسكت، أنا لست مهذاراً ولا أتكلم بما أشتهي، أنا عبدٌ أطلب رضى رب، وأنظر هل الخير لي عند ربي ورضوانه في الكلام فأتكلم، أو في السكوت فأسكت، الكلام والسكوت له ميزان، عند الإله الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه.

وقد قال المبلّغ الناصح، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت)، يقول خيراً واضحاً بيّناً،  خير ما فيه شي، ما فيه سوء، مافيه شر، مافيه ضر، أو ظلم، يصمت (أو فليسكت)، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر يحمل الميزان، بسبب الإيمان بأن المؤمن بالله واليوم الآخر يخشى، يخشى أي شيء؟ أقول لك أي شيء! يخشى صاحب القوة في كل شيء، صاحب القدرة في كل شيء، من بيده ملكوت كل شيء، وهو الأحقّ أن يُخشى من كل شيء.

فلذلك يقول خيراً أو يصمت، ويكف عن الشر، ويكفّ عن قولِ السوء، هكذا جاءتنا التوجيهاتُ الإلهية والنبوية، في المسار الذي نمضي عليه، في أنظارنا، في مسموعاتنا، في أقوالنا، في أفعالنا، في معاملاتنا، في استخدامنا للمتاح على ظهر الحياة.

 وأنتم كما تسمعون هذا أثر من آثار حقيقة موجودة في العالم، أهل مسار الكفر يبنون أمورهم على الحياة الدنيا وأنها كل شيء، وهي في الحقيقة جنتهم، بغُصَصها، بأمراضها، بشرورها، بحروبها، بجميع آفاتها هي جنتُهم، ليس لهم جنة غيرها، أولئك حطب النار، قصر نظرُهم على هذه الحياة، فليس – والله - فيهم من يصلح قدوةً لمؤمن بالله واليوم الآخر، ليس فيهم من يصلح قدوةً للمؤمن بالله واليوم الآخر، المؤمن بالله واليوم الآخر قدوتُه محمد، تعرف محمد؟ صاحب الاسم المرقوم على عرشِ الحي القيوم، هو القدوةُ لمن آمن بالله واليوم الآخر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ومتَّبعوه في مختلف الشؤون، تبرز عليهم آثار سيرته الكريمة في مراحل عمره الذي مضى، سواء منها ما كان أيام بداية الدعوة والإسرار بها، أو ما كان بعد الجهر، وظهر الجهر وتهيّأ للاستجابة من تهيّأ، ولو على تباطؤ وقلَّة في البداية، وجاهرَ مَن جاهر بالتبِّ وقال تباً لك ودافع الجبار، كلها مراحل، أتباعُه كلما مروا بمرحلة من تلك المراحل، لا يفارقُهم جودُ اللطيف بلطفِه الشامل، ولا حقائق عنايته وهو رب العاجل والآجل، جل جلاله.

أو في مرحلة الشدة بمكة، أو مرحلة الذهاب إلى الطائف للإبلاغ، وما لاقى هناك، أو في حالة دخوله إلى مكة في جوار وجه من الكفار، المُطعم بن عدي، يدخل في جواره، مُراعياً للأسباب عبوديةً غير عابئ بشأنها ولا ما هي ولا معتمد عليها، وبعث إلى الأول ليدخل في جواره، ويعتذر له، ويقول إننا لا نجير على قريش، ويبعث إلى الثاني فيعتذر، ويبعث إلى المطعم بن عدي فيقول معك ويدخل ويخرج معه مع أولاده السبعة معه، بأسلحتهم إلى عند الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم يطوف وهؤلاء بأسلحتهم، ويُنظَر المنظر يقول له أبوجهل ما هذا؟ مُتبع أو مجير؟ قال بل مُجير، قال أهون إذاً، مجير ما اتبعت محمد، صلى الله عليه وصحبه وسلم. إذاً لن تُخفَر في جوارك، ولا جواره هذه صورة أقامها صلى الله عليه وسلم، أدباً، أدباً، أدباً (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)، أيصعبون على الرب؟ ولكن محمداً سيد أهل الأدب، وأعلى الخلائق في أشرف الرتب وعلّم الأمة هكذا، دخل فيه.

 حتى لما مر على القصة في السيرة الشيخ يوسف النبهاني، عليه رحمة الله، تعجبت رسول الله وصفوته يدخل في جوار هذا المشرك في مكة، قال فلما كان في الليل أراني الله تعالى مظهره وهو داخل إلى مكة، فرأيت الجلال والعزة كلها محيطة به من كل جانب، عرفت أنه هو الأعز وأنه هو الأشرف، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وما كان من هجرته وأيام هجرته، أو ما كان مِن أيام غزواته، أو قدومِه المدينة واستقراره فيها، أو ما كان مِن أيام صُلح الحديبية، أو ما كان من أيام الفتح لمكة، او ما كان من أيام حُنين والطائف، أو ما كان من أيام خيبر، أو ما كان من أيام مراسلته للملوك، أو خروجه إلى غزوة تبوك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهي مراحل لا تُخطئ ورثته وأهل الاتباع بالصدق له شؤونها وأحوالها، في كل ما يمرّ بهم من المراحل في الحياة، قريباً وبعيداً، ولا يكون إلا زيادة العناية الإلهية والرحمة الربانية بهذه الأمة، كل ما اشتد الضعف، وكل ما اشتد البعد في جوانب، اشتدت العناية وعَظُمت الرعاية لأنه صاحب خطاب من القوي القادر رب الأرباب ومسبِّب الاسباب يخاطبه فيه، والعجيب أن الخطاب أيام رجوعه من تحت مكة في الحديبية يقول له (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) خطاب مِن قوي فعّال لما يريد، لا يحجزه شيء، ولا يمنعه أحد، وهو القادر على كل شيء.

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) فأنى يخرج عنها أتباعُه؟ وهل يريدون شيئا من غيره؟ ومن غير شأنه وأحواله؟ وهذا شانه وحاله، وكلُّ من اتسعت دائرتُه لهم من أتباع ومحبين ظلوا تحت آثار وثمار وقاطر وصبَّاب (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) بيّنتها آية (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء)، ولذا تسمعون في كلام العارفين بالله، يقول ابن عطاء الله: لو كان لا يصل إليك أحد إلا بعد تمام طهره وصفائه ما وصل إليك أحد! ولكن إذا أردتَ أن توصل عبداً إليك، أضفيتَ صفتك على صفته فوصل إليك، بما منك إليه لا بما منه إليك، يصل إلى الله بما من الله، إليه لا بما منه إلى الله جل جلاله وتعالى في علاه.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) ويُضفي مِن سر التمام على المتعلقين بك والسائرين في دربك، كلٌّ في مقامه ورتبته معنى من التمام يتم نعمته عليه، (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) مهما كثُرت الأقاويل، وانتشرت الأضاليل، فأتباعُه في هداية، (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا* وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)، وبذلك اطمأنَّت قلوب أرباب اليقين والتمكين، (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)، إنما خشوا أن يكون تقصيرُ أحدهم سبباً لتأخير هذا النصر في زمان أو في مكان، وبذلك ألحُّوا عليه وقالوا (لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، وقالوا (لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)، و(اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، متصلين بهذا الإله، فبانَت الفوارق أهل اتجاه الكفر يقولون لمَن يتبعهم والمصيبة أنهم يقولون لأولاد المسلمين: هذه الحياة هي كل شيء، وأنتَ امام مصلحتك، وما تهواه نفسُك، لا تحابي ولا تبالي ولا تهاب أبا ولا أما، ولا صغيرا ولا كبيرا، بل إذا بدا يكبر ترسل رسائل من شرطاتهم، ومراكز السوء، في إفساد الناس لا تربية الناس، إن لك إرهاب من أبيك أو من أمك فاتصل بهذا الرقم، حتى تنحلّ روابط الاتصال بنور التربية، أو سراية آثار إقامة الوجهة والقيم، فيعرّضون أولاد المسلمين للانحلال والاختلال في فكرهم وفي مسارهم، هذا ما يحصل من جناح وطائفة منهم وأرباب غرور أو أرباب عداء، يحصل، وهم أصناف في الدائرة الواحدة، في الوزارة الواحدة، في المكتب الواحد أصناف، وإن كانوا كفار، هم أصناف، كالمسلمين، في المجلس الواحد وهم أصناف في مراتب فهمهم ووعيهم وصلتهم بربّهم، وإدراكهم لسرّ الخطاب، ورُتب مسارِهم، ومشي أقدامهم.. أصناف، هم درجات وهؤلاء دركات في الدنيا ثم في الجنة درجات وفي النار دركات، (جَزَاء وِفَاقًا) (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، ما يضيع شيء، وبمقدار الذرّات، (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، كل شيء بحسابه، فأن نربيَ أنفسنا وعقولنا وأفكارنا وأولادنا على إدراك المصير والدار الآخرة، وأنها هي الحياة، (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)، والمصدّق لهم في هذا الطرح الفاسد، الساقط، إذا جاء في القيامة بكى، وقال (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، ما أنت تقول معك هذيك الحياة! هذه الحياة، (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

فهي الحياة نعم! هي الحياة، لا نسبة لحقائقها وما فيها لهذا العمر القصير الذي نمضي به على ظهر الأرض، وبذلك يفتحون أبواب المُتع الساقطة القصيرة، ليصدُّوا، ليقطعوا عن الله وعن عمارة الدار الآخرة، وعندنا موازين في الشرع، لاستعمال المُتَع، بما لا يضيِّع علينا المقام الأرفع ولا الخير الأمتع، بما لا يحجزنا عن دائرة الصفاء وأهل الصفاء وسيّدهم المصطفى ولا يقطع، بل نأخذها فنحوّلها مرتقىً عليه نطلع، وسبباً به نُرفع، ما غضضنا عنه وما أمسكنا عنه وما صبرنا عنه كان لنا درجات، وما استعملناه استعملناه في طلبِ رضوانه بميزان شرعِه فكان لنا درجات، وهم ما تركوه إما لمصلحةٍ من مصالحهم خوفاً من أحدهم على صحّة أو شيء من مظاهر أمره أو لعدم القدرة عليه مكتوبٌ عليه ما أراد أن يفعله بقصدِه فهو في الترك خاسر، وما فعله أقبل عليه ناسٍ للفاطر واليوم الآخر فهو في ما فعلَه خاسر، خاسر في الفعل وخاسر في الترك، ولكن الذين آمنوا بالله واليوم الآخر ربحوا في الفعل وربحوا في التّرك، من أجله يتركون وعلى ميزان شرعه يفعلون، ولخواطرهم يراقبون.

حتى في وقت الشدائد ووسط الحروب، كم سمعتم رجوع سيدنا علي بن أبي طالب بسيفه من فوق الكافر المحارب المعاند، صارعَه فصرعَه وهوى عليه بالسيف فبصقَ في وجه الإمام فردَّ السيف وترك الضرب، ما هذا؟ هذا ميزان الطُّهر، هذا ميزان الصفاء، هذا ميزان الاستقامة في الفعل والتّرك، قاتلَه من أجل الله وتركه من أجل الله، قيل له كيف يرحمك الله؟ تكون في صراعه فلما تمكّنت منه تركتُه! قال كنت أقاتلُه لله، فلما بصقَ في وجهي غضبت نفسي وأرادت أن أضربَه لها، هذا سيف اسمه ذو الفقار أعطاني إياه المختار، ما يضرب لغير الله، هذه اليد وهذا السيف ما تضرب لغير الله، أرادت أن أضرب هذا الكافر لأنه بصق في، فاعرض هذا على من يدَّعِي الجهاد، في سبيل الله، ويسمّي نفسه مجاهد ويسمي صاحبه شهيد، اعرض هذا عليه، إذا بصق في وجهك الكافر هل ترجع؟ بدل الضربة يضرب عشر ضربات، ينتقم لنفسه، هذا لأنه ما تربّى، علي جاهد بعد ما دخل مدرسة محمد، خرج من المدرسة مجاهد بهذه الصورة، ومن لم يدخل هذه المدرسة كيف يجاهد؟ ولهذا مستعدّ يقول له اسرق جهاداً، يسرق جهاداً، انهب جهاداً، انكح جهاداً بغير وجه صحيح في الشرع قالوا صلّح نكاحاً جهاداً، إيش عاد باقي؟ كل الدماء والأعراض والأموال ما تربّى ما خرج من مدرسة الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهكذا أثنوا على واحد عنده في المعركة قُتِل قالوا هنيئاً له الجنة، قال ما يدريك؟ لعله كان يتكلم في ما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه. هذا ميزان الجهاد، ولا من أوحي إليه في شانه؟ أو أُمر تكلم ببيانه عما يتعلق من ذلك الشان، ومن لا أبقى الخلقَ على أدب مع الرحمن، وأعلنها لهم قائلاً (ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته).

لذا ترى النفسَ تسارعُ لما لها حظٌّ فيه، هذه أبواب الجهاد، البكاء في الخلوة، باب من أبواب الجهاد في سبيل الله، ولو أن باكٍ مخلصاً لوجه الله بكى في أمّة لرحمَها الله، يرحم القوم كلهم اللي فيهم باكي، ويدفع العذاب عنهم ما يتعجل ببكاء واحد لله مخلص، ما عنده دافع غير خوف ربّه سبحانه، وذِلّته لربه ومحبته لربه وشفقته على أمة محمدٍ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

هذه البكيات نحتاجها، وأين عشَّاقُها الذين يبذلون الجهد فيها؟ بيتك من يوم ابتنى إلى اليوم كم بكيات فيه في الخلوة؟ مِن كم من أفراد الأسرة؟ إن كان من يوم ابتنى إلى الليلة ماشي افتح المشروع هذا، جهاد، افتح مشروع الجهاد، قُم، جاهد في ما ينازل الأمة، سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم، قد وُعِد مِن قِبل الرحمن، وقال في البيان باللسان، عندما كلّمه سيدنا سعد بن معاذ (سيروا وأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)، ثم قام في هذا الباب الذي ذكرت لك الوعد معه ومصارع القوم ينظرها ولكن بات يا حيّ يا قيّوم، باكياً متذللاً، خاشعاً، خاضعاً، بين يدي الرّحمن، في سجدات، في ركعات، في قومات، ووصلوا بتعبهم من الطريق والأعمال التي يقومون بها، واحتاجوا إلى نصيب من النوم ولم ينم هو، وبات يقول يا حيّ يا قيّوم، ويناجي المولى جل جلاله، هذا عملٌ من أعمال سيّد المجاهدين، صلوات ربي وسلامه عليه.

حتى طالت سجداتُه في المناجاة، وقوماته بين يدي الله، رافعاً يديه حتى يسقط الرداء من على الكتف، وحتى يشفق الصدّيق سيدنا أبوبكر لحالة الحبيب، ويحمل الرداء ويرده على الكتف، ويضمّ رسول الله إلى صدره يقول "رسول الله كفاك بعض مناشدتك لربك، إن ربك منجز لك ما وعدك، والله لن يخزيك الله أبدا"، واستمرّ في هذا الحال..

 أين هذا في ديارنا؟ أين هذا في أماكننا؟ اطرقوا هذا الباب من أبواب الجهاد، واجعلوا مِن بين غرفكم غرفة فيها الباكي من أجل الله، في ساعات من الليل، يتوجهون بها إلى الله تعالى، وإن بقيت لكم مثلُ هذه المجالس وما يحضرها من الملائكة والأرواح الطاهرة ولها شأنٌ حول العرش وفي السماوات، لكن من نتائجها أن يُرجع ما فقدناه من أسرار الاتصالات بالإله جل جلاله في الديار وفي الأسر وفي مسار الحياة، فلن يصلح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلُح به أولُها، وبقيامهم بهذه الشؤون تأتي أقضية وأقدار الذي يقول للشيء كن فيكون، ويُغيث، ولمّا قابلوهم في اليوم الثاني نصرهم الله، ثم ذكر الله الغزوة وأشار إليها وذكر السبب الكبير الأول، في إنزاله النصرة لهم في ذاك اليوم، هذا الباب الذي ذكرناه (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، ما قال إذ تصفون صفوفكم، ولا تحدون أسلحتكم، وما معهم إلا ثمانية سيوف في يوم بدر كان معهم ثمانية، تعرف ثمانية؟ ثمانية سيوف يقاتلون بها تسعمائة وخمسين رجلا بسيوفهم، وهذه ثمانية سيوف، والبقية معهم رماح وسهام، ماشي سيوف، وواحد من الثمانية انكسر في المعركة، يقاتل به وجاء به إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم قال انكسر سيفي يا رسول الله ولا معه رمح ولا معه سهم، عود حطب كان جنب النبي تناوله قال خذ هذا فقاتل به، أمسكه من النبي فاستحال سيفه حديد أبيض قوي مسنون، وأخذ يقاتل به وبقي معه وورث من بعده.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

هذا الصابر الطاهر عليه الصلاة والسلام، السيد الشاكر.. سار الله بنا في مساره في الباطن والظاهر، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

افتحوا أبواب الجهاد في سبيل الله، تعليم الأحكام في المدن وفي القُرى، جُهَّال بالفرائض، في الطهارات، في الصلوات، في الزكوات، في الصيام، في المعاشرات، في المعاملات، جاهِدوا في سبيل الله، علّموا الاحكام، انصحوا بعضَكم البعض، أيقِظوا القلوب، اخرجوا من الغفلة إلى الذّكر، قطيعة للأرحام منتشرة، جاهدوا في سبيل الله بوصلِ ما بين الأرحام، والإصلاح بين المتخاصمين، لا تخيفنا دول صغرى ولا كبرى، لكن نخاف أن نُصاب بذنوبنا، وإذا صدقنا مع الله وكثُر الصادقون منّا، فما بقي أرباب الإهمال والغفلة إلا مَن لا يُذكر لقلّتهم، فلو اجتمعت قوى الشرق والغرب علينا لرُدّت دوننا، بحقٍّ نقولها، بصدقٍ نقولُها، بثقةٍ نقولُها، بإيمانٍ نقولُها، ولكن نؤتى من قِبَل ذنوبنا، نؤتى مِن قبل سيئاتنا، هذه الإغراءات التي في بلاد الغرب صار يُغرى بها ناس من أولادنا وفي بلداننا، فما كأنّهم بين بلاد المؤمنين، يُذهبون في حالهم المخصوص خصائص الإسلام والإيمان وبلاد الإسلام تذهب بالنسبة لهم، وكم من فرد عايش في بلد من بلد المسلمين، حاله وقلبه وبالُه كمن يعيش في بلد الفجّار والكفّار بعيداً لا نصيب له من خير البلد التي هو فيها، ولا من نورها ولا من طمأنينتها لقوة إعراضه، لتفاحُش إعراضه عن الرب، لرضاه بالدّنايا، لاستماعه لدعوات أولئك الفُسّاق، وأولئك البعيدين والعياذ بالله تعالى.

فالحمدلله الذي أكرمنا وإياكم بهذه الأضواء والنور الساطع المبين، والله يدخلنا في حماه، ويجعلنا من أهل رضاه، يارب لا صرفتنا من الجمع إلا ونحن عندك مقبولين، وفي دائرة رضاك داخلين، وفي مَن تحبّ معدودين، وفي زمرة المصطفى يوم القيامة محشورين أجمعين آمين يارب العالمين، وقل للسميع القريب المجيب آمين، فلعلّه يؤمِّن معك من الملائكة في الأرض والسماوات مَن يستجيب اللهُ لنا بهم فيارب العالمين أجب دعاءنا آمين، أريتَنا عجائب من اللطف في ما مضى فأدمِ اللهم لنا ذلك وزِدنا من فضلك. ياربي، في اليمن، وتدارك أهل الشام، وأهل الشرق والغرب، برحمة منك يا أرحم الراحمين.

رضيتُ بما قسم الله لي *** وفوّضتُ أمري إلى خالقي

 كما أحسن الله في ما مضى*** كذلك يحسن في ما بقي

 إذا أزمةٌ نزلت قِبلي ** وضقتُ وضاقت بها حيلي

 تذكرتُ قول الإمام علي** رضيتُ بما قسم الله لي

 وفوضتُ أمري إلى خالقي

 فما عتم الضيق حتى انقضى ** وجاءت تباشير عين الرضى

وقد أطفأ الله جمر الغضى** كما أحسن الله في ما مضى

كذلك يحسن في ما بقي

 أحسنتَ في ما قد مضى** أبِّد وزد يا محسنا

وأحيني لك مسلما ** وتوفّني بك مؤمنا

 يا الله، يا الله، كن لنا في الدارين، من كل خوف آمنا، آمنا من الأخواف، وتولّنا بالألطاف، عجِّل لنا بالإسعاف، وكن لنا في الظاهر والخاف، يا الله، يا الله، يا الله، أنت المُرتجى، أنت المُبتغى، أنت المُدَّخر، عليك الاعتماد، إليك الاستناد، يا رب العباد، ادفع شرَّ أهل الكفر والعناد، والضرّ والفساد، وأنقذ إخواننا المسلمين، ومن تورّط منهم في ما تورّط، اللهمّ فائذن اللهم بإنقاذٍ من عندك، تكشف به الغُمم ولا يقعوا في حبل من يتفرج عليهم أو يزج بهم ممن عاداك أو عادى نبيّك، أو أراد أن يرى بينهم بأسهم بينهم، يا حيّ يا قيّوم تدارك أهل لا إله إلا الله، بسرِّ لا إله إلا الله، وبحقِّ لا إله إلا الله، وبنور لا إله إلا الله، لا تسلِّط الشيطانُ وحزبه على أهل لا إله إلا الله، ولا تحوِّلهم أتباعاً لهم، يجنّدون بعضهم على بعض، ليذوق بعضُهم بأس بعض، اللهم تدارك أهل لا إله إلا الله، واجعلنا عندك مِن خواص أهل لا إله إلا الله، بحقِّ لا إله إلا الله، وأهل لا إله إلا الله، وسيّد أهلِ لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حقِّقنا بحقائقها يا الله، واجعلنا وهؤلاء ومَن يسمعنا من المجاهدين في سبيلك على سبيل ودرب حبيبك محمد، صادقين معك، مُوفين بعهدك، مقبلين بالكليّة عليك، يا الله.

وأرِ أنظارَنا رايات نبيك مرفرفة في جميع الجهات، ظاهرة في جميع البريّات، على رغم أهل الكفر والفسوق والعصيان، وأهل المخالفة لك وأهل المنكرات، يا الله، يا الله، يا الله، يا حيّ يا قيّوم، يا حي يا قيوم، يا حيّ يا قيّوم، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، أصلح لنا شانَنا كله، كلّه يارب، كلّه يارب، ما علمنا منه وما لم نعلم، لكل فردٍ منا وأهلينا ومن يسمعنا، ولأهلينا والأقارب والأصحاب والطلاب، شاننا كلّه أصلحه يا مصلح، أصلح شاننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين، ولا تكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين، ولا تكِلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، برحمتك يا أرحم الراحمين والحمدلله رب العالمين.

 للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة

تاريخ النشر الهجري

07 جمادى الآخر 1436

تاريخ النشر الميلادي

27 مارس 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية