تفسير سورة الأعلى -3- متابعة التفسير من قوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15))
الحمد لله مُكرمنا بأنوار الوحي والتّنزيل، ومُيَسِّرِهِ لنا بِلسان نبيّه أهل التَّفضِيلِ والتَّبجِيلِ، أكرمِ هادٍ وأكرم دليلٍ، فصَلِّ اللهم يا رحمن على عبدك المُصطفى مِن عدنان الذي أنزلتَ عليه القرآن، صلاةً تَجعل بها حظَّنا من أَوْفَى الحظوظ بالانتفاع بما أَوحيتَ إلى ذلك الإنسان، وبما اختصصته به من البَيان والمَعان، وصَلِّ معه على آله المُطهرين عن الأدْران وعلى أصحابه الغُرِّ الأعْيان، وعلى مَن تبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وآلهم وصحبهم وعلى ملائكتك المُقربين، وجميع عبادك الصّالحين وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الرّاحمين ويا أكرم الأكرمين.
وبعد،،،
فإنَّا في رياض جنَّات التأمُّلِ لوحي الله والتَّعَلُّمِ لِمَا أوحاه تعالى على مصطفاه في أيّام رمضان المبارك المُعَظَّم، مررنا ببعض المعاني التي في سورة "الأعلى" (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8)).
وعَلِمنا من معاني (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ):
- أن يَسَّرَ الله الشّريعة والدّين على يَدِهِ ﷺ،
- وكذلك يَسَّرَ له حِفظ القرآن وأدَاءه وبيانه على الوجه الأتمّ الأكمل، كما قال: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ)، قال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ).
- وكذلك أنواع الطّاعات والخيرات التي أُجرِيَت على يَدِهِ الكريمة.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ)، والتَّيسِيرُ، أيكون للعَمَلِ يَعمله الإنسان أم التَّيسِيرُ للإنسانِ يَعمَلُ العمل؟!
- والمُتَبَادر الذي عليه أهل اللّغة أن يقولون: "يُسِّرَ العمل" أو "يُسِّرَ الإنسان للعمل"،
- ولكنَّ القرآن جاء بقوله: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ)
- وقال أيضاً ﷺ: "كُلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ له"
- وذلك أيضاً في الآية الأخرى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) [الليل:7] و(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ) [الليل:10]، كما في ذكر في "والليل إذا يغشى".
فكان لهذا الاختيار نسبة التَّيسِير للفَاعِلِ والعَامِل؛ أنَّ الفِعلَ يُمكن وُجوده وعَدمه، وهو بالنِّسبة للفاعل يُمكِنُ أن يَعزِمَ عليه فيُنجِزَهُ وَيقومُ به؛ ويُمكِنُ أن يَتركه، فقُدِّمَت الفاعِليِّة على التَّارِكِيَّة؛ فكان في قِيامِه بالفِعل أن يُسِّرَ ذلك الفَاعل لذلك الفِعل فكان المَعنَى أَدقّ؛ ولا تأتي لَفظَة عَن الحقّ ورَسوله إلّا وَطَيَّها وتَحتَها مِن المعاني مَا هُو أَجلّ وأَعمق، وَمَا هو أَفضَل وَأَدقّ وَأَحقّ، فَسُبحان الحَكيم العَليم وَصَلى الله على رَسوله الكَريم.
- (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ): وكذلك يَنال التَّيسير كُلُّ مَن اِتَّصَلَ بِهذا الذي اِحتَلَّ أَعلى مَراكز التّيسير مِن العَليِّ الكَبير.
- (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ): فمن اتّصَل بِك وأَحبَّك ووَالَاكَ أَمْدَدْنَاه ويَسَّرنَاه لِليُسرَى، بِالتَّبَعِيَّة لَك.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8))، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ)، وهم أتباع هذا النبيّ، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) [الليل:5-7]، وهنا خاطب الرأس وقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8)) فاندرج في الخطاب المَرؤوس والتّابع الذي قال عنه في الآية الأخرى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) [الليل:7] فبانت إمَاَمته ﷺ في كُلِّ شَرَفٍ وقَدْرٍ ومَكَانِةٍ ورِفْعَةٍ وخَيرٍ.
وإنَّ رسول الله مِنْ غَيْرِ مِرْيَـــةِ *** إِمَامٌ على الإِطْلَاقِ في كُلِّ حَضْرَةِ
وَجِيهٌ لَدَى الرَّحمَنِ في كُلِّ مَوْطِنٍ *** وصَدْرُ صدور العَارِفِينَ الأئمَّةِ
وبذلك نسمع قوله:
- "أنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ"،
- "وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ"،
- "وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ"،
- "وَأَنَا أَوَّلُ مَن يَأتِي بَاب الجَنّة فأُحَرِّكُ حِلَقَها وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ"،
- و"إنَّ الله حَرَّم الجنَّة عّلَى الأَنْبِياء حتَّى أَدخُلَهَا أَنَا وَحَرَّمَهَا عَلَى الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي"،
فهو المُقَدَّم الإمام على الإطلاق.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ(8)) ومن معاني "اليُسْرَى" الجنّة، وهو أوّل داخل لها؛ فإذا حَرَّك حِلَقَ الجنّة قال رِضوان خَازن الجنة: مَن؟. قال: محمد. قال: مرحباً وأهلاً بِك، أُمِرْتُ ألَّا أَدَعَ أحداً يَدخلها قَبلك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ): نَجعَلُ مَسَارَكَ مُوصِلَاً إلى الجنّة. وهو القائل: "مَن أطاعَني دخل الجنَّةَ ومَن عَصاني فقَد أبَى"، كل الناس يدخل الجنة إلا مَن أبى، قالوا: وَمَن يَأبَى يَا رَسولَ الله؟ قال: "مَن أطاعَني دخل الجنَّةَ ومَن عَصَانِي فَقَد أبَى" فكُلُّ مَن عَصَى هَذَا الرّسول فَقَد رَفَض الجَنَّة، رَفَض الكَرَامَة مِن الله تَعَالَى.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8)) ثُمّ أنَّ مَن ارْتَقَى في الإنسانيّة مَرقَى كَمَال، كان أَبرَزَ سَعيِه وَ جُهدِه وَحَرَكتِه أنْ يُكَمِّلَ غيرَه وأنْ يَسعَى في تَكمِيلِ غيرِه؛ فهذه مُهمّة أهل الكمال؛ فَكُلُّ مَن كَمُلَ في شيءٍ، فعلامة صِحَّة رُسُوخ قَدَمه في ذلك الكمال، أنْ يُيَسِّر السّبيل ويَدعو لإيصال الغَير لأن يَكمُلَ، ولمَّا قال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ)، في أعلى درجات كَمالها، (فَذَكِّرْ)، كَمِّل غَيرك، قَرِّب غَيرَك، اِهْدِ غَيرَك، نَوِّر غَيرَك، طَهِّر مَن سِواك، (فَذَكِّرْ)، ولذا كان التّذكر بالله مُهمِّة الأصفياء، الأبرِياء، الأخْيار، الأتقِياء الذين يَنْتَقيهم الرَّبُّ سُبحانه وتعالى ليُذَكِّرُوا به ولِيَدلُّوا عَليه على حسب مَراتبهم، تَسمَع اسمه تعالى أو وَصفًا مِن أوصافه أو حُكمًا من أَحكامه مِن لِسان هذا؛ فَتمتَلِىء بِها وَ تَزْهُو بِها وتَنبَعِث عِندك البَواعِث للقِيَام بِحقِّه؛ تَسمع نَفس الاسم، تَسمع نَفس الحُكم، تَسمع نَفس الصِّفة مِن لِسان غَيره؛ فَلا يَحصل لَك شَيء مِن هَذه القوّة؛ لِأنّ ذاك فَي مَرتبة كَمَالٍ فِي مَعرِفَتِه بالله تَبَارك وَتَعالى دون ذلك و(هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّه) [آل عمران:163] و"كُلُّ كَلاَمٍ يَبْرُزُ وَعَلَيْهِ كِسْوَةُ الْقَلْبِ الَّذِى مِنْهُ بَرَزَ".
(فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9))، اِختَر للتّذكِير أحسنَ الأساليب وَأَبْدَع الوَسَائل، (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ) فإنَّ النَّفع بِالتَّذكير حَاصِلٌ لَا مَحَالة، ويُذكَرُ أنّه لمّا نَزل قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات:52-54]، حَزِِنَ ﷺ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ دَنَا هَلَاكُ الأُمّة؛ فَأَتْبَعَهَا بِقَوْلِه: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55].
- كُلُّ مَن سَبَق لَهُ في عِطاء الله وإِفضاله وإمدَادِه؛ إِيمان،
- وكُلُّ مَن سبَقَ له مِن فيض الله عَليه؛ خَشية مِن الله تعالى،
- وكُلُّ مَن أُمِدَّ وأُعطِيَ نور القلب وحَقيقة القلب
- وكلُّ مَن أُعطِيَ من فضل الله حُسْنَ السَّمَاعِ بِحضور القلب؛
فإنّ هؤلاء هُم الذين يَنتَفِعُون بالذِّكرَى؛ وَقَد يَكون فِيهم مَن لم يَظهَر عليه الأَثر بَعد؛ ولكن قَد سَبَقَ له فِي مَشيئة الله، وقُسِمَ له مِن خَزائِنِه نَصِيبٌ مِن الإيمان، نَصِيبٌ مِن الخَشية، نَصِيبٌ مِن القَلب الوَاعي؛ فيتذَكَّر ويَبعَث فِيه هَذا الذِّكر؛ حَتّى يَصِل إلى تِلك الحَقِيقة والقِسمُ الذي قُسِمَ له.
إذن فَتَذكِيرُ المُذَكِّرينَ بالحقّ وآياتِه وصِفاته كَبَذْرِ البَاذِرِينَ في الأرض، يَبذرُون البُذُور ليُنبِتَ الله منها ما شاء؛ إلّا أنّه غَالباً مَا كَانت الأرضُ صَالِحةً وَوَقَعَ فِيها البَذْرُ الطيِّب وَأُسقِيَ بالماء الطيِّب؛ فَلَابدّ أَن يُنبِتَ طَيِّبَا، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف:58]، لا شيء مِن نفسه يَفعل! ولا شئ مِن نفسه باستقلاليّة يَنفَعِل، لا قليل ولا كثير، لا صغير ولا كبير!؛ الرَّبُّ قَيُّومٌ فوق كُلِّ ذَرَّة مِن ذرّات الكائنات، لا شيء من نفسه يَنْفَعل، ولا شيء يَهِبُّ من نفسه ؛ريح، ولا شيء يَنزِل من نفسه؛ مطر، ولا شيء ينبت من نفسه؛ حبَّة، لا شيء! ولا شيء باستقلاليّة يتكوَّن! بل بِقيُّومِيَّةِ القيّوم وقُدرته وتَصنِيعه وتَكْيِيفه وتَقدِيره وتَصوِيره تُوجد الأشياء:
- (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:49].
- (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ)، إن من شيء، أيّ شيء يَنْفَعل،
- (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) [الحجر:21].
- وهؤلاء من على الأرض -مُؤمنون وكفّار وأخيار وأشرار ولهم مَساعِي-:
- (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:20].
- (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) [الإسراء:18-20].
فهو قَيُّومٌ وَبِقُدرَته يَجرِي كلّ حركة وسكون، وَفِعل المُسلمين والكفّار، والسُّعَاة للدّنيا والسُّعَاة للآخرة؛ تحت نَظَرِه وَحِكمَتِه وَتَدبِيرِهِ؛ فيَا محيطاً بكُلِّ شيءٍ، ارحمنا وأصلح لنا كلّ شيء، واغفِر لنا كلّ شيء، ولا تَسألنا عن شيء، ولا تُعذِّبنا على شيء، يا قَادِرًا على كلّ شيء، يا عَالِمَاً بِكُلِّ شيءٍ، هذه أسرار الألوهيّة والربوبيّة على كُلِّ ذَرَّةٍ من ذَرَّاتِ الكائنات، سبحان الحي القيوم:
- (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة:255]
- (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، إنما مسألة الجزاء وكشف الحقيقة، (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]، بتقديره، ولا القيامة بنفسها تقوم، ولا لها استقلال، ولا الجنّة ولا النّار ولا ملائكة العذاب ولا ملائكة الجنّة، في أحد له استقلال بذاته؟ لا يوجد.
الأمر أمره والمُلْكُ مُلكه والخلق خلقه والكون كونه (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) [مريم:93]. "عَبْدًا"، عبيد.
هو اللهُ لا رَبٌّ سِوَاه وكلهم *** عبيدٌ وتحت الحُكُم من غَيْرِ فَارِقِ
نعم بعضهم ممن يُحِبُّ ويَرتَضِي *** لطاعتِهِ والبعضُ عَاصٍ و مَارِقِ
فَيَا مَن وَفَّقَ أهل الخير للخير وأعانهم عليه وفِّقنا للخير وأَعِنَّا عليه.
أوْ تظنّ أن يجري مثل هذا الدرس وتجيء وتحضر أنت باستقلالية غير الحقّ؟ لا لا.. ما في غير الحق يُستَقل بهذا.. لا مُتكلّم ولا سامع؛ ولا آتٍ من قريب ولا بعيد؛ إلّا وقد رُتِّبَت الخُطوات كلّها وأُنزِلَت من خزائن القدرة والإرادة حتّى جرى كُلُّ شيء كما أراد.
بتوفيقه صار المُطِيع يُطِيعُهُ *** وخَالَفَ بالخُذلَانِ كُلُّ مُفَارِقِ
فَسَل رَبَّك التوفيق؛ يَا مَن وَفَّقَ أهل الخير للخير وأعانهم عليه وفِّقنا للخير وأَعِنَّا عليه.
فَسَلْ رَبَّكَ التوفيق والعَفْوَ والرِّضَا *** وكَوْنَاً مع أَهْلِ الهُدَى والحَقَائقِ
وكما وفَّقتنا اللهم لهذا؛ فاجعلنا ومَن يَسْمَعُنا مقبولين عندك نَجْنِي ثمار هذا في الحياة وعند الوفاة وفي البرازخ ويوم المُوافاة وفي دار الكرامة، يا الله،
إنَّ مَجلِسَاً واحداً يقبله الله منك له عجائب من إدرار الفضل والإنعام بمختلَفِ المعاني الواسعات في الحياة وعند الممات وفي البرازخ وفي مواقف القيامة وفي دار الكرامة؛ فالشّأن أن يقبلك، وإذا قَبِلك فلا يَستطيع ذِهنٌ أن يتصوَّر ما يُعطيك وما يَهبك وما يتفضَّل به عليك، اللهم اقبلنا.
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)، لأنّه يعلم إبراهيم إذا قَبِلَ الله؛ فكم في كل حجرة وضعها في البيت؟ وكم؟ وما هي النتيجة؟، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، هذا الذي وفَّقتنا للقيام به، أرِنا أثره وأرِنا عِمارته وأرِنا أداءه المُهمّة ونحن أحياء، (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:127-128].
كم وجدنا من عهده ﷺ إلى اليوم من صُلَحَاء الأمة وخيارهم أُرُوا مناسكهم؛ إن قالوا قولا أثمر وأفاد ونفع ورأوا ثمرته أمامهم، وإن أَلَّفوا كتاباً قُرِىء واُنتفِعَ به وأَثَّرَ ورأوا الثّمرات أمامهم -وهم في الدنيا قبل الآخرة- ودام بعد أن انتقلوا، وإن بنوا مسجداً وإن بنوا معهداً عُمِر وقَامَ وأفاد وأدَّى مهمَّته؛ فعندهم إرث دعوة: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا).
وبذلك كان يقول أهل المعرفة: "إنَّ من بَرَكة العمر أن يُيسّر الله للإنسان أكلاً من عمل يده، وأن يرى وَلَدَ وَلَدِه، وأن تُقرأ مؤلفاته عليه" من بَرَكة العمر، اللّهم بارك في أعمارنا.
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9))، فإذا عَلِمتَ هذه الوظيفة العَلِيَّة من رَبِّ البريّة لخير البريّة، اِنبَعَثَت عندك الرّغبة أن تقوم أنت بخدمة التّذكير فتُشَابِهَ خَيْرَ البَرِيَّة؛
- تُذَكِّر نفسك، تُذَكِّر أهلك،
- تُذَكِّر صَحْبَك، تُذَكِّر رُفَقَاءك،
- تُذَكِّر أهل بلدك،
- تُذَكِّر القُرَى التي تمرّ فيها والمدن، ومَن تمكَّنت من الوصول إلى تذكيره بكتابة وبهاتف وبمُجالسة وبزيارة، إلى غير ذلك.
(فَذَكِّرْ) يقول الله لسيد الخلق؛ ذَكِّر الخلق بي، بعظمتي، بآياتي، ليَحوزوا التَّعَرُّفَ منّي إليهم، ليَنالوا نصيبهم من قربي، لِيُدرِكُوا الحقيقة، لِيَنعَمُوا بالإفضال من حضرتي؛ حتى ينتهوا إلى لذَّةِ النَّظَر إلى وجهه الكريم.
”ذَكِّرْ"، (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9))، وهي نافعة لذلك المُذَكِّر، ولكن البلاغ العام يجب فيه التذكير؛ حتى تبلغ الدعوة، والتكرير والمتابعة عند وجود الانتفاع وأسبابه ووسائله والارتقاء بصاحبه كذلك، وكان مَن حواليه ممّن لم يستجب ولم يُلَبِّي؛ واصل سِرَّ دعوته لهم بوسائل متعددة حتى كاتب ملوك الأرض. ومَن استجاب له ممّن حواليه كان في تذكيره إياهم يَسقِي كُلَّاً منهم بما اِستَعَدَّ وتهيَّأَ له من المَنزلة والمَقام الذي هو فيه ليُرَقِّيه، وكانوا في المجلس الواحد بين يديه وصفوفاً مأمومين خلفه تَسقِيهم صَلاتُه وصِلَاتُه وتذكيراته، كُلٌّ منهم من المقام الذي هو فيه ما يتهَيَّأ به لأن يعلو.
بل وكان في بلاغاته هذه مُودَعَات أسرارٍ من قِبَلِ الحقِّ الذي أمره بالتّذكير والتّبليغ، مُرسَلَةٌ محفوظةٌ لأصحابها الذين سيأتون من بعده ليُدرك كلٌّ منهم نصيبه من سِرِّ تذكيره ويَعلَقَ به سِرُّ مافي ذلك التّذكير من تنويرٍ وتبصيرٍ وتَقرِيبٍ وتَحبِيب.
- يقول: "نضَّر الله وجه امرىء سَمِعَ مِنَّا مقالةً فَوَعَاهَا فأدَّاها كما سمِعها"
- "بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع"
ربما أحد يأتي من بعدي يَستفيد ويَنتفع من كلامي ما لم يستفده الذي قَبله، لأنه قد أُودِعَ في كلامه مَنافع أمته الآتين من بعده إلى يوم القيامة؛ فهو في خلال عمره القصير بَلَّغ مَن في زمانه ومَن بعد زمانه وتَرَكَ التَّرِكَة الكبيرة والثروة العظيمة النّافعة المفيدة لكل مُقبِلٍ ولِكُلِّ مُتَوجِّهٍ يتوجَّه إلى الرَّبِّ إلى أن تقوم الساعة.
حتى إذا نزل سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام إلى ظهر الأرض، يجد في كلامه وما بلَّغهم نورا له فيما يقوم به من إحياء دينه؛ فيَسْتَنُّ بسنته ويهتدي بهديه، وبذلك كان يُقَال هو نبيّ الأنبياء؛ إذْ كلهم عنده كالمَأمومين، ومهما حضروا فهو الإمام ﷺ، ولَمَّا جُمِعُوا جميعاً ليلة المعراج كان هو الإمام.
وصَلَّى وصلُّوا خلفه فإذن هو *** المُقَدَّمُ وهو الرَّأسً لِأَهلِ الرئاسَةِ
وقد جَمَعَ الأسرار والأمر كُلَّه *** محمدٌ المبعوثٌ للخَلْقِ رَحْمَةِ
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)):
- (فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55].
- (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
- (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ) [غافر:13].
أسرار الإنابة، أسرار الخشية، أسرار الإيمان بحسب ما قَسَمَ الرحمن، هي مَحَلُّ التّفاعل مع أثر الذّكر الذي يَنتُجُ عن النبوّة والرّسالة؛ ثمّ يُحمَلُ من قِبَلِ الصّحابة، فالتّابعين، فتابع التابعين، وكُلُّ مَن سَبَقَ له نَصِيبٌ من الإيمان، نَصِيبٌ من الخشية، نَصِيبٌ من الإنابة، نَصِيبٌ من الـ (قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]؛ يتأثَّر حينما يَصِلُ إليه ذلك الكلام أو ذلك البلاغ وذلك الخبر وتلك الذّكرى.
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)) إنّما يَخشَى مَن عَرَف، وكلُّ مَن عَرَفَ الإله خَشِيَه ورَجَاه سبحانه وتعالى، ضرورةً بقدر المعرفة، تعظُم خشيتك، يعظم طمعك ورجاؤك؛ لأنه الله، كُلَّمَا عرفته، عرفت أنه هو محلّ الرّجاء، بل هو محلّ الرّجاء وحده وهو محلّ الخوف وحده لأن الأمر بيده وحده؛ فإن تخاف من أيّ شيء؛ الشّيء الذي تخاف منه في قبضته، وإن ترجو أيّ شيء، الشّيء الذي ترجوه تحت يده؛ فهو أحق أن يُخَاف من كُلِّ شيء، وأحقُّ أن يُرجَى من أيِّ شيء.
لذا رأى الحسن بن عليّ جده ﷺ يقول له، وقد أخَّرَ عليه مُعاوية ما اشترط عليه عند تسليم الحُكم والخِلافة الظاهرة، أن يرسله إليه ليصرفه ما بين الأضياف وأهل الحاجة والمسكنَة؛ فلم يرسل إليه في بعض السّنوات وتأخَّر؛ فدعا بدواةٍ وقلم ليكتب، ليُذَكّره؛ ثمّ ترك ذلك، فلمَّا نام رأى جدّه ﷺ يقول: "كيف حالك يا ولدي؟"؛ فذكرله، قال: "أدعوتَ بقلمٍ وقرطاسٍ لتكتب إلى مخلوق مثلك؟". قال: "كان ذلك يارسول الله ولكني تركته". قال: "فلا تفعل". قال: "فمَا؟". قال: قُلْ "اللهم اقذف في قلبي رجاءك واقطع رجائي عمّن سِواك حتّى لا أرجُوَ أحدا غيرك، اللهم وما ضَعُفَ عنه رأيي وقَصُرَ عنه طلبي ولم يَجري على لساني ممّا أعطيتَ أحداً من الأوّلين والآخرين من اليَقين فَخُصَّني به يا رب العالمين“ وحفظ الدعاء ودعا الله به. في خلال أسبوع أرسل إليه الأميرالذي يَعتاده، وزيادة؛ فرأى النبي: "كيف حالك يا بني؟" قال: قد حصل كذا كذا. قال: "هكذا يا ولدي مَن رجا الخالق ولم يرجُ المخلوقين"، تحصل له ضائقة أو شدّة، فيأتِيه فرج كبير وَخيرٌ وَفِير، وهو في كلا الحالتين في عبوديّةّ وفي رُقِيّ وفي سُموّ؛ وهكذا يُعامِلُ الله مَن اختاره واصطفاه؛ اللهم ثَبِّتنا على ما تحبّ واجعلنا فيمن تحبّ، في عافية.
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)): وعلى قدر خَشيِتنا، كلّما تَلوْنا آية وكلّما سَمعِنا حديثًا وكلّما ذُكِّرنا بأمرٍ من أوصاف الله وأخبار أو إخبار الدّار الآخرة؛ يحصُل التّذكُّر عندنا، وما هذا التّذكّر! إنّما التّذكّر يكون لشيءٍ قد سبق علمٌ به؛ وهل سبَقَ شيء من العلم؟؛ قال: (وَذَكِّرْ) [الذاريات:55]، تذكَّر يعني شيء قد كان معروفا ومعلوما، وبعد ذلك تُذَكِّرُه به لأنه نَسِيه؛ وقد سبق أنّه قد أُخِذَت العهود من قِبَلِ الحقِّ من هذه الأرواح كلّها، قد آمنت به في عالم الذَّرِّ وعالم الأرواح (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا) [الأعراف:172]، وقد جَبَلهم على فِطرة تدلّهم عليه، وقد جعل من البراهين والأدلّة أمامهم ما يجعل الأمر بَيِّناً وواضحا، ولهذا قال: (وَذَكِّرْ) [الذاريات:55]، الأمر معلوم والأمر واضح فقط ذَكِّرهم؛ فقد أُودِع في أرواحِهِم سِرُّ المعرفة، سِرُّ الإيمان ذَكِّرهم أن يرجعوا إلى أصلهم، يرجعوا إلى شَرفهم وكرامتهم ولا يَخسرون في مدّة الحياة الدّنيا بالإعراض والإدبار؛ ثمّ يخسرون الدّنيا والآخرة.
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)) فكأنَّ الذي يُهدَى له مِن هذا التّعليم، كان أصله مَسقِيٌّ بِهِ في روحه؛ فهو الآن يَتَذكّره.
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا)، يتجنَّب التَّذكُّر والإنابة والرّجعة والتّأثُّر؛ (الْأَشْقَى (11))، صاحب الشّقاوة، (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)) يَصْلَاها: يُلَازِمُها ويُشوَى بها.
(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12))، التي هي نار الآخرة، ومُقابلتها الصّغرى نار الّدنيا، (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا)، فَيَستَريح مِن العذاب، (وَلَا يَحْيَىٰ (13))، حياةً طيّبة (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56]، لا يَمُوت فيها و لا يَحيى.
(ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13))، (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167]، لا يُقضَى عليهم فيموتوا، ولا يُخَفَّف عنهم مِن عذابها، لا يُقضى عليهم فيموتوا؛ (لَا يَمُوتُ)، ولا يخفف عنهم من عذابها (لَا يَحْيَىٰ)، مافي عنده حياة طيّبة، بل هو في عذابٍ مستمرّ؛ أجارنا الله من عذابه.
(ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13) قَدْ أَفْلَحَ)، نال السّعادة والفوز، الفلاح: السّعادة والفوز، (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14))؛ تَطَهَّر، تَنَقَّى، تَصَفَّى مِن الشّوائب، مِن الأكدار، مِن الشِّرك، مِن الكُفر، مِن الذّنوب والمَعاصي، مِن المَكروهات، مِن الشُّبُهات، مِن الاِلتِفَات الى غير الله.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14)):
- تَزَكَّىٰ: تَطَهَّر وتَنَقَّى من الشّرك والكفر، من الذّنوب والمعاصي، من البِدْعَة والزَّيغ، من الكِبْر والعُجُب والرِّياء والغُرور والحَسد والحِقد،
- تَزَكَّىٰ، وقيل في معناها تَزَكَّىٰ: تَكَثَّر من التّقوى والأعمال الصالحة، لأن الزّكاة: النَّمَاء. تَنَامِي الشّيء وتَكاثُره.
كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)، تزكَّى، تَنَمَّى، تطوَّر، تكَثَّر مِن الخير والتّقوى، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:1-11].
كما قال جَلَّ جلاله: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:2-5].
(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14)) فالفَلاحُ بهذه التّنمية وهذه التّزكية، كما مَالَ بعضهم من الصّحابة فمن بعدهم إلى أنَّ من معانيها: الزّكاة، إمَّا الزكاة مطلقاً، تزَكَّى أخرج الزّكاة؛ وإمَّا زكاة يوم عيد الفطر.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14)) يقول نافع: إنَّ ابن عمر إذا جاء يوم عيد الفطر؛ فأراد الخروج إلى مصلى العيد، قال: يا نافع أخرجتَ الزكاة أم لا؟ قال فإن قلتُ: نعم، خرج إلى المصلّى؛ وإن قلتُ: لا، وقف وقال: الآن قبل أن نخرج؛ فإنَّ الله يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15))، أي ذهب إلى العيد ليُصلّي؛ فكان يُخرجها قبل الصّلاة، مع أنَّ الآيات نزلت بمكة قبل مشروعيّة العيد وقبل فرض الزّكاة؛ إلَّا أنَّ الله أحاط علما بكل شيء وكلامه يَحتمل معاني من الواقع والآتي.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ (15)) فحقائق ذِكرنا لله على قَدر مُستويات تَزكِيَتِنا، إنّما نَذكر الله على حسَب رُتبتنا في زكاة النّفوس، وقد وصف الله أهل الإيمان وهم على درجة في تزكية النفس، قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال:2]؛ فرُتبتك في الذّكر على حسب مَنزِلتك في التّزكية، كلّما تزكَّيتَ وتَطَهَّرتَ أكثر، كان ذِكرك أقوى وأعظم وأرفع وأوسع ذوقًا ومعنًى وتحَقُّقًَا؛ فما كلّ الذّاكرين سواء، وإن كان كُلُّ مؤمن ذكر الله بأيّ أدنى وِجهة إلى الله، لم يخلُ مِن فائض جودٍ وخيرٍ، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، ولكن يَذكُر عِباده بمُستوياتٍ ومراتبٍ، كما يَذكرُونَه على مُستوياتٍ ومراتِبٍ.
- "فَإِنَّمَا الذِكْرُ كَالسُّلْطَانِ في القُرَبِ" ؛ في الطاعات والعبادات.
- "الذكر منشور الولاية" قال بعض الأنبياء لربِّنا: إلهي دُلَّني على عَلَامتك فيمن تُحِبّ حتّى أُحِبّ وفيمن لا تُحِبّ حتّى لا أُحِبّ؟؛ فأوحى الله إليه: "إذا رأيتَ العبد يُكثِر مِن ذِكري فاعلم أنّي أذِنتُ له وأنّي أحبّه، وإذا رأيت العبد لا يُكثِر مِن ذكري فاعلم أنّي لم آذن له وأنّي لا أحبه"؛ فمَن أحبَّه الله أعانه على كثرة ذِكره.
- قال سيدنا النبيّ لسيدنا معاذ: "يا مُعَاذُ إنِّي أُحِبُّكَ فَلا تدَعنَّ أن تَقُول بعد كلِّ صلاةٍ: اللهمَّ أَعِنِّي على ذكرِكَ وشُكْرِكَ ، وحُسْنِ عِبادَتِكَ"؛ اللهم أَعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..
وظننّا أن نختم السّورة وانتهى الوقت ونختمها إن شاء الله في أيّامنا المُقبلة، اللّهمّ اجعلنا ممّن يتذكَّر، واجعلنا ممّن يتنوَّر ويتبصَّر، ويتزكَّى ويتطهَّر؛ حتّى يَذكُرك في أعلى مَراتب الذِّكر وتَذكُره بِأَسْنَى ما تَذكُر به مَحبُوبيك مِن الصّادقين معك في السّرّ والجهر، اللهم أعِنَّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عِبادتك.
وَفِّر حَظَّنا مِن هذه الخيرات والعَطايا الجَزيلات في رمضان، ليالي رمضان وأيّامه؛ حتّى نخرج ونحن في الذّاكرين وفي الشّاكرين.
- "اجعلني لك ذَكَّاراً" كما جاء في الدّعاء المأثور، "ذَكَّارا": كثير الذّكر.
- وكما قال لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب:41].
- وقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) [الأنفال:45].
اللهم أَعِنَّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، وثَبِّتنا واجعلنا من أهل الذِّكر الكثير والخَير الوَفير، وحُسْن المَسير، وارتِقاء أعلى مَراتب القُرب منك والدُّنُوِّ مِن حضرتك يا عَلِيُّ يا كبير.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
06 رَمضان 1437