تفسير سورة الأعلى -5- تتمة السورة، و مقدمة لتفسير سورة الطارق

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (16) وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (17) إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ (19))
الحمد لله مَولانا المُوفِّق، المُمِدُّ سبحانه وتعالى مِن خَزائن تَوفِيقِه بِعَجَائِبِ الإفضال لِمَن لَهُم يُوفِّق، وما يُجريهِ عليهم مِن صالح النّيّات والمقاصد والكلمات والأعمال يَحفظ ويُوَثّق، وصلى الله وسلم وبارك وكرم على عبده المُجتبى المُصطفى محمّد، وعلى آله وصحبه أهل المَنهج الأَرْشد، وعلى مَن اتّبع هَديَهُ بِإحسانٍ إلى يَوم غَد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والملائكة المُقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم .
وبعد،،
فإنّنا في إمدادات التّوفيق من المَلِكِ الحقّ، الكريم، الرّحيم، الرّفيق؛ نُواصل في ليالي الشّهر الكريم وأيّامِه، ما يُكرم الحقّ تعالى به عباده مِن إفضاله وإنعامه وأعلى ذلك، ما كان مِن شُؤون القِيام بِما فَرض ونَدب، فَعَلَى ذلك وبذلك تُرتَقى المَنازل والرُّتَب، وتُكشف البَلِيّات والكُرَب، ويَدفع الهَمّ والغَمّ والنَّصَب والعَطب، فما أَفلَح عبدٌ إلاَّ إِذا أَخلَص القَصد للرّبّ، وعظَّم مَنهَجَهُ واتّبَع حَبيبهُ الأطيَب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وَنَرجو بِما نَقوم به من أعمال ونُواصله في الأيّام واللّيال، أن نكون مُتّبِعين لِبَدر الكَمال، في جُلوسنا في مَجالس الذّكر والعِلم وفي صَلاتنا الجَماعة وفي مُصافحاتنا وفي ذِكرنا لله تبارك وتعالى، اللّهم اجعل كل ذلك على قَدَم التَّبَعِيَّة لِخير البَريّة، يُثمِر لنا مَحبّتك السَّنِيَّة العَلِيّة، بِشَاهد قولك: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31].
وقد تَأمَّلنا في بِساط هذا التَّوفيق الرّبّانِي، بَعض المَعاني، في الآيات الكريمة في سورة الأعلى؛ حتّى انتهينا إلى آخرها؛ وقد أخبر سبحانه، أنَّ هذا الكلام الذي بَيّنه لنا، هُو الحقُّ الدّائم الثّابت الذي أَنزله على جميع الأنبياء والمرسلين؛ وهنا نعلمُ قَدْر الثّوابِت في المُعتقدات وفي القِيم؛ فهي شُؤون لا تقبل التّبديل ولا التّغيير ولا يَأتي فيها النّسخ ولا تَختلفُ فيها جَميع الأُمم مِن اتْبَاع الأنبياء وشَرائعهم التي جَاؤوا بِها عن الله تعالى، مِن مِثلِ عََظمة إيثار الآخرة على الدُّنيا، وإنّما يكون ذلك الإيثار نَتيجة عِلمٍ ومَعرفةٍ وفِقهٍ ونَظرٍ واعتبارٍ وادِّكَار، لا يُؤثر الإنسان شيئاً على آخر إلاَّ وعنده من الدَّوافع والنَّوازع نتيجة ما أدرك وعرف سَواءً كان على صواب أو خطأ أنَّ ذلك الذي آثرهُ أَنفع له أو خَيْرٌ له.
وإذا صَحَّت المَعرفة وصَفَتْ؛ فلا شيء خَيْرٌ من الله؛ وبذلك يتمّ إيثار الحقّ في قُلوب الصّادقين، العارفين، المُوقنين الذين انكشفت لهم الحقيقة؛ فلا يؤثرون على الله شيئًا؛ فيُؤثرهم الحقُّ على من سِواهم؛ ثم لا يكون إيثارهم للآخرة على الدّنيا إلّا من باب إيثار الله؛ فقد آثروهُ على الدّنيا وعلى الآخرة؛ ولكن الآخرة والرَّغبة فيها، إن اقْتَصَرَ مِن قَاصِر النَّظَر على ما ذُكر مِن مَتاع الجسد في عالم الجَنّة؛ فذلك نُقصانٌ وقُصورٌ وإيثار لِمخلوق على مخلوق، وإذا نُظِر إليه أنّه مَحلّ الجِوار للحقِّ والمُخْتار ومَوْطن الرِِّضى ومَحلّ النَّظر إلى وجه الله الكريم، صار الإيثار لله لا لِذات الدّار الآخرة؛ فالدّار الآخرة مَخلوقة كالدّنيا.
ولّما مَرَّ سيدنا عيسى عليه السّلام فِيمَا يُذْكَرعَلَى قوم يَعبدون الله مُعتزلين في شِعْبٍ، سَأَلَهُم: لِمَ تَعْبُدُونَ الله؟ قالوا: خَوْفاً مِن نَارِه، فَقَال: مَخْلُوقاً خِفتم؟ ثمّ مَشَى؛ فَوَجَدَ قوماً يَعْبُدُون الله فِي شِعْبٍ؛ فَسَأَلَهُم لِمَ تَعْبُدُون الله؟ فذكروا وقالوا: طَمَعا في جنّته. قال: مَخلوقاً رَجوتم، ومشى؛ فوجد عبَّاداً، سألهم: لم تعبدون الله؟ قالوا: لأنّهُ ربّنا يستحقّ العبادة. قال: مَعَكُم أَعبد الله. تَرفّعتُم عن رجاء وخوف المَخلوقين؛
بمَعنى أنَّ أولئك لَاحظوا في الجنّة وفي النّار نَعيماً وعَذاباً يَرجع إلى أَجسادهم، وهؤلاء عَلِموا أنّ الأمر أكبر مِن ذلك وأنّ لَهم ربّ يَجب أن يَعبدوه ولهم بذلك الشّرف والعزّةُ والكرامة؛ فحينئذٍ فهو الذي يَدفع عنهم أصناف العذاب وهو الذي يُلذِّذُهم بأنواع الثّواب، بل ويُؤتيهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى في الفَصْل في القضيّة، وأمر الدّنيا والآخرة: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)) والقول الفَصل الوَاحد في المسألة (وَالْآخِرَةُ خَيِرٌ وَأَبْقَى (17)) فكل من آثر الحياة الدّنيا فجاهِل؛ كلّ مَنْ آثر الحياة الدنيا فمُخطئ؛ كل من آثر الحياة الدنيا ضالّ، كل مَنْ أثرَ الحياة الدنيا آثرْ الأقلّ والأحقر على ما هو خَيْر وأَبقى، ومُؤثِرو الحياة الدّنيا يَعيشون في غُصَصِها ونَعِيمَها المَشُوب بالمكدِّرات؛ ثمّ لا حظَّ لهم من النّعيم الخالص في الدّار الآخرة، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيَّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الُحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الأعراف:32]، لهم الطَّيِّبات والصَّالِحات يُشَارِكهم فيها غَيْرهم مِن الكفّار ومُؤثِروا الدّنيا، لكن خَالِصة يَوم القِيامة لَهم وَحدهم، يوم القيامة ما عاد لأولئك شيء؛ فليس لهم إلّا مظاهر من اللّذائذ والنّعيم المَشُوبة بالمُكدِّرات والمُنغِّصات وهي في الدّنيا ،أمَّا خالصة لا تكون لهم إلّا للمؤمنين وَحدهم، جعلنا الله من خواصهم.
(بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيِرٌ وَأَبْقَىٰ (17)) أَرْفَع قَدْراً ومَنزلةً وذَاتاً وجَوهراً ومَعدناً، (وَأَبْقَىٰ): دائمة، لا فناء فيها، بل لا مرض، بل لا همَّا، بل لا غمَّا ولا كَدَر، بل لا وسخ ولا قَذر؛ وهذا لا يُمكن أنْ يُوجد في الدّنيا؛ فهل يُمكن للمترفِّعين في عالم الدّنيا المتطوِّرين، المتحرّرين، أرباب الثّروات والمُتعِ فيها، أن يُقال: يُوجد لكم مساكن وبُيوت لا قَذر فيها؛ ما يوجد لهم أبدان لا قَذر فيها، أمعاءهم ملآنة، ما في أبدان لهم لَا قَذَرفيها، في أبدانهم القَذرُ مَستورٌ تحت هذه البطون؛ ثم يُزَاوِلون خُروجه مِنهم؛
هذه الحياة الدّنيا، هذا حَقارتها، وصَدق الإمام عليّ بن أبي طالب وهو يقول: "مَن كَانَتْ هِمَّتُهُ مَا يَدْخُلُ بَطْنَه؛ فَقِيمَتُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"؛ إنسان ما له قيمة هذا، تافه، إذا هِمَّتُهُ ما يَدخل بطنه؛ فهِمَّة المُؤمن على ظهر الأرض مَا يَزداد به إيمانُه ويَقِينُه، ما يَعرف به ربّه؛ فنِعْمَ الإنسان هذا، وأمّا الذي نَهْمَتُه وهِمَّتُهُ ما يدخل بطنه؛ فقيمته ما يخرج منها.
إذاً (الْآخِرَةُ خَيِرٌ وَأَبْقَىٰ (17)) بكلّ المقاييس وبكلّ المعاني ومِنْ كل الجوانب، الله أكبر! وكم كُنَّا نُشاهد في عوامّ النّاس من يَترقّب ذلك النّعيم ويَرتضيه ويُؤثرهُ؛ فيترقّب مواطن الوَرَع والاحتياطَ في دينِهِ، والسِّرِّ بطاعاتِه وصدقاتِه وكثيرٍ من خيراتِه ورفْضِ تعجُّل المُقابِل من الأُجرة وغيرها، نَسمَعُهم يُصرِّحون، خصوصا إذا عَمِلوا لفقيرٍ أو مُحتاجٍ أو لصالحٍ أو لعالمٍ أو لوليٍّ، يقول: "أنا ما أُريد المُقابل هنا، أُريده في غير هذا اليوم."؛ يعني أُوثِر الآخرة، هذا معناه، أنا أُوثِر ما هو (خَيِرٌ وَأَبْقَىٰ (17))، ما أُريد هذا، خُذْ تَفَضَّل هَذَا حَقُّك، قال: "لا..لا، أُتركه عِندك، أُريده يُوَافِق لِي يَوما غَير هذا اليوم"؛ يعني يُريد مَا هُو (خَيِرٌ وَأَبْقَىٰ).
هذه خُلاصة من وَعْيِ وَثَقَافَةِ المُؤمنين، طَغَتْ عَلَيها هذه المَنشورات للحَضارة الزّائفة الماديّة الحقيرة؛ حتّى غَلَب على كثيرٍ من المُسلمين أنفُسُهم، أنّ هذا مُقابِل ماذا؟ وهذا ما فائدتي فيه؟ ولا يقصد فائدة إلاَّ ما كان فلوس ونحوها من المَتاع الدّنيويّ فقط.
وَصَدَق ما وَرَدَ "لِكُلِّ أُمَّةٍ عِجْل"، بني إسرائيل لهم عِجْلٌ يَعبُدُونه مِن دون الله، "وَعِجْلُ أُمَّتِي الدِّينَارُ وَالدِّرْهَم"، ولقد زُخرِف هذا العِجل في كلّ أَبواق هذه الحضارة الزّائفة الماديّة؛ حتّى سَكِرَ المُسلمون بِمَا تُوحِي إليهم الكفّار مِن تَعظيم هذا المَتاع وكأنّه هُو المَقصود والمُعظّم والذي خُلقنا مِن أجله، وحاشى الله أن يَجعلنا بهذه المَثابة التّافهة السّاقطة، خَلقنا لهُ وخَلقنا لعبادتهِ شَرفاً وكَرامةً وعِزةً.
وقد قال الحقّ عن هذه الأصناف مِن أهل هذا الفِكر المُتحجِّرالنَّاقص:
- قال تبارك وتعالى في ذِكر أحوالهم: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَّنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا) [النجم:29]، الذين فَقَدُوا إدراك الحقيقة، أبْعَد مِنهم.
- (فَأَعْرِضْ عَنْ مَّنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنِيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنْ الْعِلْمِ)؛ هؤلاء المَحْصُورُون، القَاصِرُون، المُتَحَجِّرون، (ذَلِكَ مَبْلَغُهُم)، فقط ما عندهم إلاَّ هذا، مساكين؛ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيِلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ) [النجم:29-30].
- وقال: (وَلٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُم عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون) [الروم:6-7]، فَسَمَّاهم لَا يَعْلَمُونَ، جُهّال، وهم أَكْثر مَنْ أمامنا في ظُلمة هذا الجَهل يَرتَعون، ولِعَوَاقِبِه الوَخِيمَة يَقْدَمُون، والعياذ بالله، فالحمد لله على نعمة الإسلام.
اللّهم زدنا إسلاماً وزدنا إيماناً وزدنا يقيناً ومعرفةً، يا أرحم الراحمين، وهيِّئْنا للتي هي أفضل وخيرٌ وأبقى.
قال تعالى: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17))، قال: هذه الحقائق، هذا الوَعْي ،هذا الإدراك، هو الذي أوحيناه إلى جميع أنبيائنا على ظَهر هذه الأرض على مُختلف الأطوار والأزمان، (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)) يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه؛ فجميع الصُحف المُنزلة وجميع الكُتب التي جاء بها الرُّسل، تقوم على "لا إله إِلاَّ الله وعلى محمد رسول الله" فخَبَره في كل تلك الكُتب وأُخِذَ الميثاق على جميع الأنبياء أَنْ يُؤمنوا به، وأَلْقى الأنبياء إلى أُمَمِهم، إذا بُعثَ محمّد فاتّبِعوه؛ بل لمّا كان أواخر الأنبياء قبل البعثة قال: أنا حامل لكم رِسالة، معي بِشارة برسول يأتي من بعدي (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا) ، ما الذي معك في هذه الرسالة والنبوّة التي عندك؟، (مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف:6]، صلى الله عليه وصحبه وسلم.
فمع ثبات المبدأ العظيم الذي نعتزّ به ونفتخر ونسأل الله أن يجعلنا من خواصّ أهله، مبدأ لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، وهذا الشّعار المَكتوب على أبواب الجنة وعلى قوائم العرش لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، وعلى قلوب المؤمنين مَنقوش كذلك كَمَا نُقِشَ على العرش وكَمَا نُقِشَ على أبواب الجنة، لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث -إن شاء الله- من الآمنين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
مَعَ هَذا المَبدأ العظيم، القِيم الثّوابت:
- أنَّ الآخرة خيرٌ من الدنيا،
- أنَّ الزنا والفواحش حرام،
- أنَّ الربا حرام،
- أنَّ الكذب حرام،
- أنَّ الغش حرام،
- وجوب الصلاة، وجوب الزكاة ،وجوب الصيام؛ مُجمَع على ذلك، لا تختلف فيه قط شريعة رَسُولٍ من آدم إلى محمد كلّهم على هذا الإسلام،
إنّما الاختلاف في فَرعيات الأحكام فِيمَا يتعلّق بالمُعاملة بَينهم، رِِعَايَة لتَقلُّب أَطوارِ النّاس وفِعل مَا هو أَصلحُ و أَنجحُ وأَفلحُ لكلّ طَائفة ولكلّ أمّة يُبعثُ فيها النّبيّ، أمّا هذه الثّوابت فَهِي هِي، لا يُختلَف عليها، وَمِنها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17))؛ في كلّ الصُّحف مَوجود هذا المعنى، معنى هذا الكلام موجود في كل الصُّحف، لكلّ الرُّسُل على أَلْسُن كل الرُّسل الذين جاؤوا، هذا هو، مبدأ حقّ لا يتغيَّر ولا يَختلف، (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18))
- قيل إشارة إلى السّورة كلها.
- وقيل من عند قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15))، (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)).
وهكذا جاء "عن أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه قال:" قلت: يا رسول الله! فَمَا كانت صُحف إبراهيم؟"، قال: أَمْثَالٌ كُلُّها" وذَكَرَ له بعض ما في الصُّحف: احتقار المظاهر الزّائِفة، تعظيم الباقِيات الدّائِمات الفانِيات، قُلْ:
- نَقَلَ لَهُ مِن صحف إبراهيم: ”أيها المَلِك المُتسلِّط المُبتلى المغرور، لم أَبعثك لتجمع الدّنيا بعضها على بعض؛ ولكن بَعثتك لتَرُدّ عنّي دعوة المظلوم؛ فإنّي لا أرُدّها وَلو كانت مِن كافر“. اتّقِ دعوة المَظلوم ولو كان كافراً، لو ظَلمْتَ كافراً ودَعا عليك، يستجيب الله له، الله!
- يَقول في صُحف إبراهيم: ”وعلى العَاقِل، مَا لَم يَكن مَغلوباً عَلَى عَقله“، أحد متمسّك بعقله، عنده عقل متمكِّن منه، ”أن يكون له ثلاث ساعات في خلال اليوم واللّيلة؛ ساعة يُناجي فيها ربّه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يَتفكّر فيما صَنَع، وساعة يَخلو فيها لحاجته مِن الحلال، فإنّ في هذه السّاعة عوناً لتلك السّاعات الثّلاث واستجماعاً للقلوب وتَفريغاً لها، لِيَنْتَظم شَأن المَسار في الحياة بِاعْتِدَال“، الله أكبر! منهج الوَسطيّة ومنهج الاستِيعاب وحُسن الجَمع؛ هكذا الأنبياء مَشَوْا وأَتْبَاعُهُم.
- يقول في صُحف سيّدنا إبراهيم عليه السلام: ”وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مُقبِلاً على شأنه، حافظاً للسانِه، فإنَّ مَن حَسَب كَلامَه مِن عَمَلِه أقلَّ الكلام إلّا فيما يَعنيه“، الذي يعرف أنّ كلامه مِن عمله، يُحاسَبُ عَلَيه، ما يتكلّم إلاَّ بشيء مَضبُوط، ”وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث؛ مَرَمَّةً لِمَعاشِه أو تَزَوُّد لِمَعادِه أو تَلذّذ في غير مُحرَّم“، الله أكبر! أمثال هذا صُحف إبراهيم الخليل -عليه السلام- أخلاق وحُسن اتِّساق، في وِفاق، لمَنهج الخلاَّق، تقوم به الحياة على نَسَق حَسَن، يجمع بين السِّرّ والعَلَن.
يقول: "قلت يا رسول الله: فما كانت صُحف موسى؟" قال: "كانت عِبَراً كلّها صُحف موسى" ، مثل ماذا؟ ذكر له النبيّ نموذجا
- قال: ”عَجِبتُ لِمَن أَيْقَنَ بِالمَوتِ كَيْفَ يَفْرَح؟!“، يعني فَرَحاً يَقطع عن الاستعداد والتّزوُّد للآخرة، لو واحد رشَّحوه! أو انتخبوا هذا!أو صَنَعوا له وِزارة!، جلس يفرح! الموت وراءك أم لا؟! اِعْقَلْ!! انتبه لنفسك! اُترك هذا الفرح الطّاغي الذي يُطغيك عن مهمّتك.
- ”عَجِبتُ“، يقول: ”لِمَن أَيْقَنَ بِالمَوتِ كَيْفَ يَفْرَح؟! وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ ثُمَّ يَضْحَكْ! وَلِمَنْ يَرَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا!“، قال: ما هذا العقل! يريد وزارة، وأمامه خمسين وزير يَعرِفهم، ”تَقَلَّبُوا“، أَتُريد أن تتقلّب أو ماذا؟! أراد وراءهم، لايريد إلاَّ الرّئاسة وهو يعرف أربعين، ثلاثين رئيس تخربطوا، تريد أن تتخربط مثلهم؟ وإلّا ما معك؟ يريد..
- ”عَجِبتُ“، قال: ”يَرَى تَقَلُّب الدّنيا بأهلها ثمّ يطمئنّ إليها“. يريدها هي، ماذا!، ما ترى ماصنعت بأصحابها وأربابها وأهلها؟!، ولمّا تصوّرت الدّنيا لسيدنا عيسى يقول لها: كيف حال خُطَّابِك؟ قالت: أنا ما أخطب، يخطبونني ليتزوّجوا عليّ؛ فأُفقدهم كلّ ما عندهم. قال لها: كلّهم طلَّقوك أم تَرَكْتِيهِم؟! قالت: هَيْهَات! كُلّهم قَتَلَت، قَتَلْتُهُم كُلُّهم، لا أحد يُطلِّقني مِنْهُم، أَنَا أَقْتِّلُهم واحدا بعد الثّاني. قال: عجباً لأزواجك الباقين! أَلَا يَعْتَبِرُون بِأَزْواجِك المَاضين؟! وَاحِدَة تَقتُلُ كُلّ مَنْ تَزَوَّجَها وهذا خَاطِبُها يريد إلاَّ أن يَتَزَوَّجَها، قتَّالَة، كلّ مَن تَزوّجها قَتَلَتْهُ وهو يريدها.
- يقول في صُحف سيدنا موسى عليه السلام: ”عجبتُ لمن يَرَى تَقَلُّب الدنيا وتَقَلُّبَهَا بِأَهلها ثمّ يَطْمَئِنّ إليها، ولَكِن الذين اِطْمَأَنُّوا بالحقّ فَكَانُوا مُلُوكَ الدُّنيا والآخرة“:
جاء بعض الملوك الأخيار مرّة مِنْ آل كثير مِن سَيؤُون وإلى عَينات عند الحسين ابن الشّيخ أبي بكر يقول: "أنا تَرَكتُ السّلطَنة والرِّئاسة وأخاف على نفسي وأَخشى حِسَابا مَا أقدرعليه من ربّي، أريد أن أغنم باقي عمري في طاعة الله بيني وبين الله وأريدكم أن تُوَلُّون الإمارة مَن شِئتم والسّلطنة مَنْ أَرَدتم وتَدْعون الله لِيغْفِرلي مَا مَضى ويوفِّقَنِي في الباقي ويتوفَّاني عِندَكم أو في المدينة المنوّرة". ولاختبار صِدقه، قال له: "مَا لَنَا دَخْل في الوِلاية ولا في الحُكم، هذا لكم، ومَغفِرة الذُّنوب بِيَد الله ومن يَغفِر الذّنوب إلّا الله، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34]"، بكى وأَلَحَّ فقالوا له: "هذا الرّجل صادق، يا حُسين، ترك السّلطنة، ترك المُلك وترك الدّنيا وجاء راغبا إلى الله ورسوله"، قال: "بسم الله، مرحبا، نتوجَّه إلى الله بالمغفرة لك، اُصْدُق معه وإنّه لَغفّار ونسأله لَا تموت إلاَّ عِندنا في هذه البلدة أو في المدينة، أمّا السّلطنة، أمَّا الإمارة، أمّا المُلك هذا، لو كانت تَصْلُحُ الوِلاية للحمير ما ارْتَضَيْنَاهَا لِحِمَارِنَا". هذه الدّنيا التي عِنْدكم والمُلك هذا، قال: "لو كانت تَصْلُحُ للدّوابّ، مااُرْتَضَيْنَاهَا لِحِمَارِنا الدّابّة، ما نريده أن يكون سُلطَانها".
الله! هذا يعرف الحقيقة، هذا يعرف ما الذي يؤثر؛ لكن انظر أحد من أقاربك وأبناء عمّك، ترى فيه تقوى وَوَرع، ولِّه، تَبْرَأُ ذِمّتك إنْ شاء الله وَأنْ تَبْحث عمّن ترى أنّه أَصلح للعباد وأَهْيَب مِنْ الله تعالى، يخاف الله فَوَلِّه؛ وَلَّى بعض بني عمُومَاتِه ومشى على حالٍ جميلٍ باقي عُمُرِه وَقُرْبَ مَوتِه، وَصَل إلى عِينَات وَمَات في عِينات وَقَبْرُهُ الآن هناك معروف في السُّورِ الذي بِجَانِبِ قُبَّة الشّيخ.
رأيت يقول: "هذه الولايات التي لكم، لو تَصْلُحُ للدّوابّ مااُرتَضَينَاها لِدَابّةٍ لَنَا، تريدنا أن أعطيها لواحد من أصحابي!"؛ لمّا رَأَوْا المُلك الكبير، اِحتَقَرُوا المُلك الصّغير؛ فَهُم مُلُوك الدُّنيا والآخرة.
- يقول في صحف سيدنا موسى: ”عَجِبتُ لِمَن يَرَى الدُّنيا وتَقَلُّبَها بِأَهلَها ثمّ يَطمَئِنّ إليها، ولِمَن أَيقَنَ بِالقََدَرِ ثُمّ يَنْصَبْ ولِمَن أَيْقَنَ بالحِسَاب ثُمّ لَا يَعْمَل“، عِبَر.
قلت: "يا رسول الله هل أنزل عليك شيء ممّا كان في صُحف إبراهيم وموسى؟" قال: "نعم (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19))"، صلى الله على نبيّنا وعليه وسلم.
وهكذا كانت تَحْمِل كُتب الله للعباد هذه الحقائق وَ صلّى الله على موسى و صلّى الله على إبراهيم و صلّى الله على الأنبياء والمُرسلين مع نبيِّنا الأمين ﷺ.
﷽
(وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ (1) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلطَّارِقُ (2) ٱلنَّجۡمُ ٱلثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفۡسٖ لَّمَّا عَلَيۡهَا حَافِظٞ (4) فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ (5))
ونأتي بعد سورة الأعلى إلى سورة الطّارق؛ و الطّارق: قَصَدَ الله بِهِ نَجماً مُضِيئاً فِي السّماء؛ إمَّا كل النجوم المُضيئة أو نجماً مَخصوصاً تسمّى باسمه سورة "سورة الطارق" حَلف فيها بالسّماء والنّجم هذا.
- وأصل الطارق: ما يطرُق باللّيل، كُلُّ ما يَأتِيك باللّيل ويَظهرعليك باللّيل -طارق- في لغة العرب.
- ثم قد يُستعمل مجازاً على ما يأتي في النهار.
ثم لمَّا كانت النّجوم ما تظهر إلاَّ في اللّيل سُمِّي بالطارق، فَهِي طوارق، تَطرُق باللّيل، تظهر وتبرز.
قال تعالى: (وَالسَّمَاءِ (1)) يقسم بالسّماء المتينة، البديعة الصنع، المُحكمة، الكبيرة، المحيطة بهذه الكواكب وهذه الأرض، السماء.
- قال تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:17].
- (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) [النازعات:27-28]، رَفَعَ هذا السَّمك، الرَّفع الكبيرهذا، كلُّه بلا أعمدة؟! بِلَا أعمدة؛ يُطوِّرون، يَتَطوَّرُون، يُقَوِّي العَمود؛ مِن دون عَمود، لا يمكن، هذا لمّا يتطوّر، يقوَّي العمود، تمام! يعمل لك حُفرا في الأرض، كم هذا التّطوّر الذي عنده؟ يبحث لَهُ عمودا؛ لكن هذه السّماء أين عمودها؟! و ما هذا الصُّنع البديع المُتقن! وكم سنين لها! أين صيانتها؟! وأين تًرْمِيمها؟ أحد رمّمها؟ لا أحد يُرمِّمُها أو يعمل لها صيانة، ولا يتعهَّدها عليها.
- قال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:6-12]؛ مُحكمة الصّنع، من يوم خلقها وهي؛ لا صِيانة ولا ترميم ولا يحصل لها شيء، الله أكبر! ملايين السّنين، ملايين ملايين ملايين السّنين قائمة، لا إله إلاَّ الله!
- فأين مباني عَاد؟ وأين مباني فِرعَون؟ (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، وأين مباني مَن بَعدهم، حَدَثَت هنا وهناك؟ لاإله إلا الله
- و ما هذا البناء؟! (بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) [النازعات:27-29].
يقول: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1))، ويقسم أيضاً بالطاّرق؛ هذا النجم المُضيء، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3))، المُضيء الذي يَثقُب الظّلام بِضَوئِه.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)) يحلف الحقّ تعالى بالسّماء والطّارق، أنَّ كلَّ نفس عليها حافظ، (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))، وفي قراءة، (إِنَّ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) ولَمَا عليها حافظ.
- (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ)، يعني مَا كل نفسٍ إلاَّ عليها حافظ، (لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)).
- و(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) يعني: وإنَّ كل نفس عليها حافظ.
كل نفس عليها حافظ، بمعنى لا توجد بينكم نفس تستقل بذاتها، لا يوجد، لا مؤمن، لا كافر، لا صغير، لا كبير، نفس منفوسة مخلوقة بقدرة الحق ّتبارك وتعالى، تَحفظها أسباب ووسائط وعندها ملائكة وهو يَرْقُبُها من فوق ويُسيِّرها وإلاَّ ما في نفس مُستقلّة بذاتها، لا للمسلم أو للكافر، (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56]، جلّ جلاله الله.
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) ما قامت نفسٌ بذاتها؛ ولكن قدَّر ودَبّر وكوَّن أجساد هذه النّفوس من النُّطفة والعَلَقة والمُضغَة والعِظام وكَسَاها لَحما ونَفَخَ فيها الرّوح ويَسَّرَ لها السّبيل وخرجت وكبَّرها وعَرَّفها، و(أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]، جلّ جلاله! ويمشي على ظهر الأرض، في أرض مُمَهدّة، هذا حِفظ معك ولو سَاخَت عليك الأرض، من يمسكها بعد ذلك؟ ياالله، مُرسَّاة.
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) وأمامك كواكب مَمسُوكة فوقك، لو يسقط فوقك ماذا تفعل؟ أيّ واحد من هذه الكواكب يجيء فوقك، تحمل كم أنت؟ ماذا؟ تنتهي كلّها، الله! أنتم ومصانعكم وما عندكم لو شيء واحد من الكواكب، يسقط، لا يبقى منكم شيء، طيّب، عليكم حافظ يا جماعة!، (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ):
- أوّل حافظ: الرّقيب القوي القادر الخالق المحيط الصانع الذي بيده نواصيك، الله.
- ثاني حفظة: ملائكة كِرام (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطار:10-12]، يُحصُون عَلَيكُم أعمَالكم و( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، بأمر الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاها؛ فَتَجِد الإنسان يمشي في الصّحراء، قد تكون محلّ السّباع، قد تكون محلّ الهوامّ والدّوابّ، ينام فيها ساعتين وثلاث وأربع، لا شيء يدخل أُذُنُه، لا شيء، طيب! أين الجنيّ الذي في هذه الصّحراء؟! أين الهوامّ التي في هذه الصّحراء؟! أين العقارب التي في هذه الصّحراء؟! لماذا لا تأتي تعمل شغلها فيه؟! حِفِظْ (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ).
- وعندهم الصُّحف بأمر الله، يحفظونه مِنْ أمر الله، يعني بأمر الله؛ فإذا قدَّر عليه شيء في السّاعة الفلانية، في المكان الفلاني، في اللحظة الفلانية، يَنْهَشُهُ عقرب، تَنهشُهُ حيّة، اسكت! ساكت يا مَلك! اقعد مَحَلَّك! اُتركه، اترك العقرب يُؤدّي وظيفته، مهِمَّته التي وُكِّلْ بها، اترك الحيّة تُؤدي وظيفتها، اترك الأسد يؤدّي مهمَّته؛ فقط توكَّل، توقَّف الحَفَظَة، مِن دون الأمر مِن فَوق، مَمنُوع.
ولولا الحَفَظَة من الملائكة على الإنس لَلَعِبَتْ بهم الجِنّ، أنت ما تراهم، هم يرونك، وما المانع أن تمشي في الطريق وحدك، وأحد يُمسك رجلك، و أحد يمسك يدك أو شيء، تَمشي آمن مُطمئنّ. لو مليون جنّيّ أمامك، ما يقدرون يفعلون شيء، ما هذا؟! حتى إذا جاء قضاء مُبرم في هذا، في الساعة الفلانية، في اللحظة الفلانية، يتسلّط على هذا بمقدار كذا كذا و يأخذ حقه بتقدير العزيز العليم -جلّ جلاله-.
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))، تَفَكَّرُوا مِن بِدَايَاتِكُم أنتم، (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5))؛ رزقنا الله حُسن النَّظر وجَعَلنا ممّن اعتَبَر وادَّكَر واحْفَظَنَا من الشّرور والآفات وكلّ محظور أحاط به عِلمه، بما حفظ به الذِّكر الحكيم ونَصَرَنا بما نَصَرَ به المُرسلين.
اللّهمّ ثبِّتنا على الحقّ فيما نَقول ونَفعل ونَعتقد واجْعَلْنَا مِن خَواصِّ مَن يَقتَدِي بِحبيبك محمّد صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، وعليك وحدك يَعتمد وإليك يَستند، لا تَكلنا إلى أنفسنا بِحقِّك عليك ولا إلى أَحدٍ مِن خلقك طَرفة عين، يا حيّ يا قيّوم. اللّهمّ احفظنا مِنْ بين أيدينا ومِنْ خلفنا وعن أيماننا وعن شَمائلنا ومِن فوقنا ونعوذ بعظمتك أنْ نُغتال مِن تَحتنا. اللّهمّ ارزقنا كمال الاستقامة واتحفنا بالكرامة في الدّنيا والقيامة.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
08 رَمضان 1437