تفسير سورة الانشقاق -2- من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ)

تفسير جزء عمَّ - 77 - مواصلة تفسير سورة الانشقاق{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15))

الحمد لله مُحوِّل الأحوال ومُطوِّر الأطوار الذي أحاط علمه بكلّ شيء وقدّر الأقدار، يولج النّهار في اللّيل ويولج اللّيل في النّهار، أرسل إلينا عبدهُ المُصطفى المُجتبى المُختار، جامع الأسرارُ ومَعدن الأنوارُ مَن ختمَ الله به الرّسالة والنّبوّة، وجعله سيّد أهل الفُتوّة، سيدنا محمّد بن عبد الله، الرّحمة المُهداة، والنّعمة المُسداة، 

ونسأل ربّنا أن يُصلّي ويُسلّم عليه أفضل الصّلوات وأزكى التّسليمات، وأن يَخصّنا من محبّته وقُربه ومُتابعته بِأَسنى ما خصّ به أهل المراتب الرّفيعات من خيار هذه الأمّة، وأن يُصلّي معه على آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن على مِنهاجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين معادن الأنوار، وعلى آلهم وصحبهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصّالحين وعلينا معهم وفيهم.

وبعد،،

فإنّنا والأيّام تمرّ بنا، وصفحة الشّهر الكريم تُطوى لِنَصل من أوّله إلى وسطه، ومن وسطه إلى آخرِه فَنُفارقه ويُفارقنا؛ فيقف بين يديّ الربّ فيشهد لكلّ مِنّا أو عليه؛ ثمّ يكون شاهدا يوم يقوم الأشهاد، يوم الوُقوف بين يدي ربّ العباد.

وقد وصلنا إلى استقبال اللّيلة المُقبلة، ليلة الفُرقان، ليلة السّابع عشر، التي كان في مثل صبيحتها وقعة بدرٍ، التي فرّق الله وفَرَقَ فيها بين الحقّ والباطل: (ليُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8]، وكانت مَجْلَى النّصر للأمين المأمون ولأتباعه إلى آخر الزّمان، فالله يُغنِّمنا اللّيلة وما فيها وجوده على أهليها ولا يَحرمنا أن نُحشر مع أهل بدر الكرام.

فإنّ في كل زمن وقرن من قرون أمّة النّبيّ محمّد من يُحشر مع أهل بدر، وأهل بدر مَحلّ نَظر الحقّ جلّ جلاله وأرباب الخصائص والمزايا وفي الحديث "أَنَّ جبريل قال لنبيِّنا: مَا تَعدُّون مَنْ حَضَرَ بَدْرًا فِيكُم؟ قال: هُمْ خيْرُنا، قال: كَذَاكَ مَنْ حَضَرَ بَدْرًا مِن أَهْل السّمَاء، هُم خَيْرُ مَن في السّماء"؛ قال:

  • الملائكة الذين حضروا معك في بدر خير من في السّماء، 
  • والصّحابة الذين حضروا معه في بدر خير من في الأرض، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى وحشرنا الله في زُمرتهم.

وإذا أُكرم القلب بالمحبّة والتّعلّق الذي يُفيد الحِرص على المُشابهة والتّخلّق؛ فلابد أن يُثمر جمعاً معهم في يوم الحشر؛ فالمرء يُحشر في حديث المصطفى مع مَن أَحبّ.

وقد وصلنا في تأمّل آيات ربّنا تعالى إلى معانٍ في سورة الانشقاق يُخبر الخلّاق فيها عن مظاهر خلقه ومُكوِّناته العظيمة من السّماوات والأرضين وما تَتَعرّض له من التّغيّر والتّبديل، كما مرّ معنا في تَأمِّل معاني قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2))، سَمِعت وأطاعت وحُقَّ لها ذلك وبحقٍّ فَعَلَتْ ذلك وجَدِيرٌ بِهَا وَأَوْلَى أَنْ تَفْعَلَ ذلك. 

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4))، ما في بَطْنِها من جميع الأجساد والكنوز، (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5))، إذا حَصَل ذلك فما هو يارب؟، 

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)) أي عند حصول ذلك يُلاقي كل إنسان جزاء كدْحهِ وثَمَرَة عمله كائنا من كان. (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)، مِن كلِّ مُكلَّفٍ وَصَلَتْهُ الرِّسَالَة، (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ)، عاملٌ عملا لربّك، ساعٍ ودائب في هذه الحياة تحت نظر ربّك إلى أن تَلْقَى ربَّك؛ 

  1. (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا)، سعيًا وعملاً تَدْأبُ عليه وتَجتهد فيه، (فَمُلَاقِيهِ) فملاقٍ ذلك السّعي والعمل في جزائه، في نتيجته، في عاقبته، في ثمرته.
  2. والقول الثاني (كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) فملاقٍ ربّك، (فَمُلَاقِيهِ) أي: يَتحوّل بك الحال إلى طَوْرٍ تنكشف عنك سِتاراتٌ مِن المُلْقَاةِ على عينك وقلبك وفكرك في الدنيا، وتصيرُ في ذلك الطَوْر منسوب إلى لقاء الرّبّ بانقطاعك عمّن سواه، ويقينك أنّه الإله، لا إله عداه، تعالى في عُلاه، وأنّ بيده ملكوت كلّ شيء؛ حينئذٍ أنت لَاقَيْتَ ربّك. 

(إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)) فاحذر أن تَلقاهُ وهو غاضبٌ عليك، واحذر أن تَلقاه وهو مُعرِضٌ عنك، واحذر أن تلقاهُ وهو ساخطٌ عليك (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) [السجدة:12]  في ذِلّة، في بُعد، في غضب، في سخط، في طرد، في حجاب، والمَرجِع إليه ضَرورة للمؤمن، للكافر، للصّالح، للطّالح. 

إلى أين يرجعون؟ مَن مِن بني آدم، مِن أيّام أبينا آدم عليه السّلام وكَوْنُهُ في الأرض إلى يَومه ومَن يَأتي بَعدنا، يَرجع مَرجعه وَنِهايته وَغَايته إلى حكومة، إلى دولة، إلى حِزب، إلى جَماعة، إلى طائفة؟ ما أحد يرجع إلى شيء من هذا، أو إلى أرض أو إلى سماء، إلى ربّ الكلّ، إلى خالق الكلّ، الكلّ يرجع إليه.

  • (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، تأتون في الأرض تصنعون لي شيء وتذهبون، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:115-116]، أن يَخلق الخلقَ عبثا،  (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون: 115].
  • (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ) -مَرجِعُهم ومَآبَهُم- (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26]، لا إله إلا الله! .

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)) ومادام لابدّ من هذا الكدح؛ فانظر الكدح في الحياة: 

  • إمّا أن يكون خيرًا وهدًى ونورًا وتقوى، وعاقبته هناءٌ وفوزٌ ونعيمٌ وسعادةٌ، 
  • وإمّا أن يكون هذا الكدح معصية ومخالفة وغفلة وإهمال وعاقبته ندامة وحسرة وخسران وعبث.

فما دام لابُدّ؛ فَلِمَ تختار الكدح الذي نهايته عذاب؟ لِمَ تختار الكدح الذي ثمرته ونتيجته طَرْد عن ربّ الأرباب؟ لِمَ تختار الذي نتيجته عقاب وبُعد؟ 

مادام لابدّ تَكدح؛ فَاكْدح الكدح الذي نِهايته سعادة ونِهايته خيرٌ لك، بذلك تُدرك أنّ الكسل واسْتسلامك له وحدهُ، خسارة عليك؛ فكيف بالذّنوب والمعاصي؟ والغفلة والكسل من أقوى أسباب الحِرمان والنّدامة؛ فكيف بالذّنوب؟ فكيف بالسّيّئات؟ فكيف بالمَعَاصِي؟ فَلِمَ؟ تَعَوَّذْ بِرَبِّك من العجز والكسل؛ 

فكيف من الذّنب، تكون أشدّ تعوّذًا من المعصية لأنّ المعصية تُغضب الربّ عليك، لأن المعصية عبارة عن جِنايتك على نفسك وتَجَرُّؤُك على المُنعم عليك، تَجَرُّؤُك على الخالق لك، تَجَرُّؤُك على القدير وأنت العاجز، على القويّ وأنت الضّعيف، تَجَرُّؤُك على القادر، تَجَرُّؤُك على الغنيّ وأنت الفقيرإليه، فَلِمَ تُحِبّ كدح المَعصية بعينٍ أو بأذنٍ أو بِلِسان أو ببطنٍ أو بِفرج أو بِيد؟ لِمَ؟ لِمَ؟ اِكْدَح كَدْحًا نِهايته سلامة، نهايته كَرامة، نِهايته فَوْزٌ وَنَعِيمٌ .

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)):  

  • وقد سمعنا قول نبيِّنا: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها" إمّا يَعتقها أو يُهلكها وكلّ النّاس يغدو، المؤمنون والكفّار والأخيار والأشرار، وكدحهم يُجمع لهم ونتيجته تُقابلهم. 
  • (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105]. 
  • (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التحريم: 7].   
  • (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) [النجم: 39]. 

وإذ قد أُكرمنا ربنا بالإيمان، والكتاب الذي أنزل، والرّسول الذي أَرسله إلينا، وبإيماننا به، آمنّا بجميع الرّسل والكتب المُنزلة عليهم؛ فلنُحسن استقبال لحظات أعمارنا بترتيب الكدح ليكون خيرا، ونبدأ أيّام البواقي من رمضان -النّصف الأخير من رمضان- وكان نبيّك يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها من رمضان ﷺ، وقد اعتكف بعض السّنوات من العشر الأواسط؛ فاكدح كدحًا حسنًا. 

أنت الآن جالس في مَجمع نَتأمّل في معاني خطاب الربّ الأعلى الأرفع جلّ جلاله، الذي بلّغه محمّد الأصدق ﷺ، الذي هو لكلّ خَيْرٍ أجمع، اِبْدَأ الكدح، الحاضر والسّامع؛ اِبْدَأ الكدح من الآن: 

  • كَدْح التّأمّل والتّفكّر.
  • كدح العزم والوجهة والنّيّة والإرادة الصّادقة.
  • كَدْحَ إرادة أن تُرضي الإله بكلّ ما تَعمله في الحياة إلى أن تَلقاه. 
  • وتأمّل كيف تقضي بقيّة شهرك. 

وانْوِ الآن وادْخُل في الكدح المشكور، الكدح الطّيّب، الكدح الذي مآله حُسنى ومآله ثواب ودرجات ورؤية ربّ الأرباب، ومرافقة للأطياب الأنجاب، وفيهم السّاري إلى قوس قاب، سيّد الأحباب. 

ابدأ هذا الكدح من لحظتك هذه وساعتك هذه، كيف تقضي بقية رمضان؟ بأيِّ نيّة؟ بأيِّ وجهة؟ بأيِّ أعمال؟ ماذا تَحضر مِن مجالس؟ مَن تُجالس؟ ماذا تقرأ مِن القرآن؟ ثمّ مَا حالك بعد انقضاء الشّهر إذا أمدّ الله في عمرك حتى انقضى الشّهر وأدركت ما بعده في أيّام العيد وما بعدها وما بَقِيَ لك من العمر؟ ماذا تنوي فيه ؟ 

وَلْيَكُنْ بذُورا لِكدحٍ حسن، بداية لكدح طيِّب من النّيّة التي تَنويها في هذه السّاعة، في هذا اليوم في رمضان، تستقبل بهذا الكدح الطيب ليلة الفرقان، ليلة السابع عشر، ويكون مَنْحًى لك ومُسترسَلًا في الخير النّازل ليلةً بعد ليلة ويومًا بعد يوم، لا حَرَمَنَا الله بَرَكة لَيْلَة أو بركة يوم، لا في رمضان أو في ما بعده.

لقد كان يُعلِّمنا النّبيّ إذا أصبحنا في اليوم أن نقول كما قرأتم في هذا الورد اللطيف: 

  • "اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَ هذا اليومِ فتحَهُ ونصرَهُ ونورَهُ وبرَكتَهُ وَهداهُ" يعني في كل يوم نصرٌ وفتحٌ ونورٌ وبركةٌ وهدى، الله أكبر!
  • "اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَ هذا اليومِ وَخَيْرَ مَافِيهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذَا اليَوْمِ وَشَرِّ مَافِيهِ" وإذا جاءت اللّيلة كذلك "نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَتْحَهَا وَنَصْرَهَا وَنُورَهَا وَبَرَكَتَهَا وَهُدَاهَا" ففي كلّ ليلة نصرٌ ونورٌ وبَركةٌ وهدى وفتحٌ. 

الله يجعلنا من أهل النّصر والفتح والهدى والبركة وأهل الخير ما في اللّيالي والأيّام ودَفَعَ الله عنّا شرّ اللّيالي والأيّام وما يكون فيها.

يقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)) فرتّب حياتك، نَظِّم أعمالك، انْتَبِه مِن أوقاتك، وكلّ نَفَسٍ مِن أنفاسك جَوْهرة لا قيمة لها، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)،  لبَّيْكَ يَا رَبَّنَا،  (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، أنت الحقّ و وعدك حقّ ولِقاؤك حقّ، ما مَضَى مِن كَدْحٍ، أَنْت أَعْلم بِمَا كان فيه، ما كان مِن سُوء، ما كان مِن ظُلمة، ما كان مِن غَفْلة، ما كان مِن ذَنْب، ما كان من هَفوة، ما كان مِن زَلّة صَغُرت أو كَبُرت، فإنّا نضعه بين يديك ونقول: ندمنا عليه يارب؛ سامحنا فيه، واعف عنا، وامحه عنا، وبدّل السّيئات إلى حسنات، 

وماكان من عمل ترضاه فخالطه شوائب رِياء أو عُجب أو كِبر أو حَسد أو غُرور فخلّصّه ممّا اختلط به من ذلك واجعله صافٍ مُصفَّى وزكّه لنا عندك وضاعفه إلى ما لا نِهاية بفضلك، وما بَقِيَ من الأعمار فجنِّبنا فيه كلّ كدح يُوجب النّدامة، كلّ كدح يُوجب الحسرة؛ واجْعَل كدحنا في مَا بَقِيَ من العمر في مَرضاتك وفي محبَّتك في القربة منك، ياالله!.

واحْفَظُوا وَصِيّة ربِّكم: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6))  لن تَرَ أَلْطَفَ مِن هذا الغَنِيِّ عنك الذي لا يَضُرُّه أن تَهْلَك وأن تَخسَر في الدّنيا والآخرة ولكن يقول؛ يُخاطِبك، يُكلِّمُك، يُرَاجِعك، يَتَنزّل إليك سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)؛ فَانْظر كيف تُلُاقيه وبِأيّ كَدحٍ  تَأتيه، إذا كان الأمر هكذا والحُكم على جميع المُكَلَّفين، فماهي النّتائج عِند اللّقاء؟ 

قال هل تريد أن ترى النّتيجة عند اللّقاء؟ أُخْبِرك عنها، الله! الله! الله! يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9))، اللهم اجْعلنا مِنهم، اللّهم اجْعلنا مِنهم، اللّهم اجْعلنا مِنهم، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)). 

وتكون هذه النّتائج للكدح أن تُؤتى كتابك باليمين، أو من وراء الظهر بالشمال؛ هذه نَتيجة حَتميّة لِلكدح، لِلعمل، لما ارتضيته في حياتك، أترتضي ما تزيِّنه لك نفسك وهواك ومجموعة من المُفسدين في الأرض؟ يُزيِّنون للنّاس الفساد، قال تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27] تَستحسن ما استحسنوه ومازيّنوه لك وترضى لنفسك بذلك، والذي خلقك زيّن لك العِبادة وزيّن لك التّقوى وزيّن لك الاستقامة وزيّن لك مُتابعة محمّد؛ فتترك ما زيّنه الله وماهو زَيْنٌ عند الله وزَينٌ في الحقيقة إلى مايزيّنه لك هؤلاء المُروّجون والمُفسدون وشياطين الإنس والجنّ من الأقوال والأفعال والبرامج، وكيفيّة الكلام والخطاب والزّيّ والمنطق والحركة!. 

تستحسن ماذا؟ يُزيّن لك ماذا؟ فإنّها موطن وموضع ومِنطقة فتنة للعباد، كيف يُزيّن لكلٍ عمله؟ 

  • فإن اختار أن يستحسن ما ليس بزَيْن عند الله، زُيّن له سوء عمله (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)، سوء، سوء، قبيح، خبيث، يُزيّن؟، (فَرَآهُ حَسَنًا)، لا حول ولا قوة إلا بالله!، (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) [فاطر: 8]. 
  • وإذا اختار ألا يستحسن إلا ماهو عند ربّه حسن، كشف له الحقيقة، فلم يُزيّن له إلا ماهو زين أبدًا سرمدا، وكل الذي زُيّن من غير هذا الزين عند الله يظهر قبْحه ويظهر وَبَاءُه ويظهر بلاءه ويظهر سوءه للكلّ، للكل! لا إله إلا الله! (كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ)  [البقرة:167] الله!. 

ويبقى الزّين، هو الزّين فقط، الزّين ما أحبّه الله: الصّدق، الأمانة، التّواضع، الصّلة، البرّ، التّلاوة، هذا الزّين؛ الإحسان، التّقوى، إعطاء الجار حقّه، حُسن النّظر فيما يُرضيه عنك، هذا الزّين؛ ذِكْرٌ لله زين، صَلَاةً على محمّد هذا الزين؛ الرّبّ يُصلّي عليك والنّبيّ يُصلّي عليك، الله أكبر! "وَ إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً" ﷺ، وهو جامع الحسن والزّين والأقرب إليه نَصيبه وَافِر مِن الزّين، فَيَا مَن زَيّن سيّد الوُجود بِزينة الحَقيقة، ارْبِطنا بِخَير الخَليقة، زيّنا بمحبَّته والاستمساك بِعروَته الوَثيقة حتّى تَحشرنا معه.

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)) فلا تستحسن إلا ما هو حسن عند ربّك، يُريدون أن يستعبدون شبابنا ونشأتنا فيُحسّنون لهم ماهو قبيح عند الرّبّ، وماهو قبيح في الآخرة وماهو قبيح في البرزخ، وما قُبْحه يظهر واضحا منه وساعة الغرغرة إلى الأبد، يُزيِّنونه لهم ويريدون أن يستجِرّوهم إليه؛ فردّ الله كيد المفسدين في نُحورهم ودفع عن المسلمين جميع شُرورهم، اللّهم آمين.

يقول تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)) وقد جاء في بعض الأخبار أن أخوين كان أحدهما كافر والآخر مسلم، وهذا يحاور صاحبه يقول: تؤمن بمحمّد؟ قال: نعم آمَن بمحمّد، محمّد رسول الله، صاحب الصّدق؛ يقول: إنّه يقول إنّ النّاس يَعودون، وأنّ الدّنيا تنقطع وأنّ النّاس يُحشرون بعد ذلك؛ قال: نعم؛ قال: قُلْ لِي الأرض أين تكون؟ أُنزل (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)) وجاء في الأخبار أنّ أوّل من يُؤتى كتابه بيمينه واحد من الصّحابة أخوه الكافر هذا، والكافر هذا أوّل من يُؤتى كتابه بشماله يوم القيامة؛ أخوين من أبّ وأمّ، هذا أوّل من يُؤتى كتابه بيمينه، وهذا أوّل من يُؤتى كتابه بشماله والعياذ بالله! اللّهمّ أعطِنا كُتُبُنا بِيَمِينِنَا وَأَدْخِلْنَا الجَنّة بِغَيْرِ حساب.

قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)) وهُمْ المؤمنون الذين هيّأ الله لهم دُخول الجنّة وحَسَناتهم غالبة عليهم، ويكون مِن سَتْر الله لِكَثِيرٍ منهم، لمّا يُعطيهم كُتُبهم، كَتَب فِيهِ كلّ شيء، يجعل في الظّاهر الحسنات وباطنه يَكْتُب السّيئات، حتّى كلّ مَن يَنظر في الكتاب يرى حسنات؛ حتى يُقال: هذا عبدٌ صالح ما عمل سيّئة؛ قال: انظر في الباطن دَاخَلْ سيّئات، الله يخفيها سبحانه إذا أراد أن يستر جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

 (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)) هذا مَوْقِف من مواقف القيامة، يكون بعد المقام المَحمود، بعد الشّفاعة العُظمى، بعد الخروج مِن تحت الشّمس والشّدّة؛ الأرض إذا تبدلت وكانت بذاك الوضع الذي يستوعب هؤلاء البشر، ومع ذلك يتزاحمون حتى يكون فوق القدم ألف قدم، من كثرة الزّحمة والعَرَقُ يسيل في الأرض ويغوص إلى سبعين ذِراع ويَلجم هذا إلى كعبيه وهذا إلى ركبتيه وهذا إلى حِقْويه وهذا إلى كتفه وهذا إلى فمه، وهذا كلّه مُنغطس تحت حرّ الشّمس والعَرق؛ لو كان مَوْت ماتوا؛ ولكن ما عاد في موت فيطلبون النّقل من هذه الشّدة ويقولون وَ لَوْ إلى النّار والنّار أشدّ، لكن مازال ما وَصَلُوهَا هم؛ فماذا يصنعون؟

يعلمون أنّ الأمرُ لواحد وهو الله، فكيف الآن يتوصّلون إلى هذا الإله؟ وكيف يَسترحمونه؟ وكيف يسألونه تحويل الحال هذا والخروج من هذه الشّدة؟ يعلمون أنّ له أصفياء وله محبوبون من العباد وأنّ أفضلهم الأنبياء؛ فيلجأون إلى الأنبياء؛ حتى في صحيح البخاري لفظ الاستغاثة، قال: "إِذَا كَرُبَ النَّاسُ فِي المَوْقِفْ اسْتَغَاثُوا بِآدَم" وفي الرّوايات الأخرى: "يَلُوذُونَ"، لَاذُوا واسْتَغَاثُوا، فَيَلُوذُونَ بِآدَم، يَأتون آدم: أنت أبو البشر، انظر أولادك في شِدّة، اسأل ربّك. يقول: نفسي، نفسي، إنّ ربّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله ولم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، اذْهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، ويأتون إلى نوح، ويعتذر، ويأتون إلى إبراهيم، ويعتذر، وإلى موسى فيعتذر، وعيسى فيعتذر، فإلى محمّد فيقول: أنا لها، هذا نبيِّكم؛ اللّهمّ ارْبُطنا به ربطًا لا يَنحلّ؛ ويسجد السّجدة المباركة؛ ويقول ربّ العرش: ارْفع رَأسك، سَلْ تُعْطَى، قُلْ يُسمَعْ لِقَوْلِك، اشفَع تُشَفّع؛ فيستفيد مِن هذه الشّفاعة جميع مَن في الموقف، فيُنقلون وتُرتفع الشّمس عنهم وإلى أرض الحِساب، هناك يكون أربعة أشياء:

  1. يكون العرْض على الله 
  2. ويكون إعطاء الصّحف بالأيمان والشمائل
  3. ويكون الميزان 
  4. ويكون المرور على الصراط.،لله!

فإذا جاءت ساعة إعطاء الصُّحف، يصير أمران: 

  1. أمر ممّا كتبتْ الملائكة والحَفظة ورقيب وعتيد، من كل إنسان مُكلّف إلى وفاته. 
  2. والأمر الثّاني، السِّجل الذي أودعهُ الله في رقبة الإنسان، شريحة عجيبة داخلك، تُسجّل كل ما تفعل وتقول. 

ثمّ تُخرج هذه الشّريحة، تُركّب في جهاز ثمّ تَنْتَشِرْ (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ)، من عند العُنُق، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ)، هذه أعمالك، هذا الكدح الذي كَدحته في الحياة، ( كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)  [الإسراء:13-14]. 

فإذا تطايرت الصُّحف، تُلقى من قِبَل العرش، كلّ الصّحف للنّاس المُكلّفين، كلّ صحيفة تقصد صاحبها مباشرة: 

  1. تأتي للمؤمن المُوفَّق من أمامه ويَمُدّ لها يمينه ويستلم الكتاب، فيجد الفضل، ويجد مُخبّأ ما كان مِن سيِّئاته ويعلم أنّه فاز؛ فَيَصِيح: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) [الحاقة:19]، (إِنِّي ظَنَنتُ)، كنتُ على يقين، أنا مُحاسب حِسابي في الدّنيا، (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ) [الحاقة:20-24] كدْحه كان مظبوط، طيّب. 
  2. الثاني: يأتي الكتاب من خلفهِ وتُغلّ يمينه إلى عُنقه ولا يقدر إلّا يمدّ يساره وبشماله يأخذ الكتاب فيحصّلها فضائح وعذاب؛ (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *يَا لَيْتَهَا)، يعني مَوْتَتِي هذه التي مُتّها عند النّفخ في الصّور، (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)، ما عاد شيء، لا حياة بعدها أو قَوْم، (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ) [الحاقة:25-28] هم كبّروك وأغروك وإنت صدّقت، ومن أجل المال سرقت وكذّبت وآذيت النّاس؛ قال: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ) إذًا ما الذي كان معك من سُلطة في الدّنيا، وكان عندك مركز مرموق وكنت في الوزارة الفلانية وكانت عندي الشركة الفلانية (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:29] مافي سلطان، مافي قوّة، (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [الحاقة:28-31].

 وهنا يذكر لنا حال الذي يؤتى كتابه بيمينه،  (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)) يعني يُعرض عليه عمله ويُخفّف عليه الحساب، هذا حسابه يسير، خفيف، عَرْض فقط، لا توجد مُساءلة، لا يوجد نقاش، بلا نقاش وقد قال ﷺ :"من نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّب"، أيّ واحد يُناقشونه، لابدّ من عذاب، قالت السيدة عائشة: "يَا رَسُولَ الله أَلَيْسَ يَقُولُ الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9))، قال: إِنَّمَا ذَلِكَ العَرْض"، مُجرّد عرض العمل من دون نقاش؛ هذا الحساب اليسير ويُدخِل الجّنّة صاحبه، أمّا إذا في حساب بتَدقيق يَهلك، أيّ واحد يأتيه حساب بتدقيق عليه ينتهي، لا إله إلا اللهّ! ما يَسَعَ النّاس إلّا رَحْمَة الله.

قال: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8))، مُجرّد العرض من دون تدقيق ولا محاسبة، (وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ (9))، يَرجع إلى أهله في الجنّة، أهل الجنّة أهله، أصحابه وجماعته، وخُصوص أهله وسط الجنّة؛ أزواجه من الآدميّات و الحور العين.

 (وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)) لِمَ؟ 

  • كان عائشًا في أهله على التّقوى، على الخوف من الله في الدّنيا، اليوم ينقلب إلى أهله مسرورا، كان إذا قال أهله: أنّهم سيعملون سرور ورعشة بآلة محرّمة، يقول: لا! منظر محرّم يقول: لا! بكلام ماجن يقول: لا! فالآن، اذهب مسرور إلى عند أهلك، كل أنواع السرور.
  • ذاك الثّاني كان هو وأهله في الدّنيا، وأصحابه من أهله وأصحابه؛ الكلام الماجن والغناء السّاقط والمخدّرات والمُسكرات وكلّ هذا، يبحثون لأنفسهم على السرور، مافي سرور في الدّنيا، ولكن يبحثون بهذه الأشياء. 

 أنت اذهب إلى أهلك الآن مسرورا، لكم كلّ السّرور، يامن امتثلتَ للأمر، يا من أحسنت الكدح في الحياة! 

وأنت كنت تبحث عن السّرور بمعصيتي في الدّنيا، يكفيك هذا، لا يوجد سرور الآن. (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14)) لا يوجد سرور، ما الذي صار يَحصُل؟ يدعو ثبورا، يدعو بالهلاك على نفسه، يا ويلاه، يا هلاكاه، يا ثبوراه، يصيح على نفسه، يصيح، يصيح، يصيح، (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11))، قال الله لأهل النار،(لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان: 14] ما يَنفع فيكم شيء. 

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)) فَيَا كلُّ مَن يَبحث عن المسرّة في الدّنيا بمخالفة الشّرع، ويلٌ لك ثمّ ويلٌ لك، ستُحرَم المسرّة إلى الأبد؛ وَيَامن ترك ما قال الشّيطان فيه مسرّة، وقال الرّحمن ورسوله فيه المضرّة، تَرَكَه من أجل الله ورجّح قول الله ورسوله على قول الشّيطان؛ لك السّرور كله، لك السّرور الأبدي، لك الفرح الدّائم السّرمديّ، اللّهمّ اجعل فرحنا برحمتك وفرحنا في طاعتك وَلَا يُزيَّن لنا إلا ماهو عندك زَيْن، ياربّنا.

  • (كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)  [الأنعام:108].  
  • (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)  [يونس:12]. 
  • يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، مَثَلُ الذين يعيشون عندنا في الدّنيا، بأيّ لقب كان، بأيّ اسم كان، بأيّ شيء يُذكر لهم، لايؤمنوا بالآخرة، (لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)، ما الذي يعملون؟ يَعْمَهُونَ، في عَمَه، العَمَه أحيانا يُسمّونه سياسة وأحيانا يُسمّونه برمجة وأحيانا يُسمّونه نظريّة، عَمَه، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)، تعرف الأعْمَه الذي ما يعرف الحقيقة ولا يدري ولا له نتيجة أو ثمرة، هذا هو، هم هؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل: 4]، لا إله إلا الله! 

و ما مظهر العَمَه! الأعمى قال لك: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ)، مقصد صحيح لا يوجد، غرض عظيم لا يوجد، إدراك لماذا خُلق؟ ما في، من خلقه؟ ما يعرف، عمه، عمه؛ يقول: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [محمد:12]، فَمَهْمَا هذا العَمَه سمّوه وتقلّبوا فيه بِصور وافتخروا، لاتَلْتَفت إليهم: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ)، سأُريكَ عَمَاهُم هذا بميزان صحيح، (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ)  [آل عمران: 196-198].

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9))، الله أكبر! (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)) يأخذه بشماله ومن خلفه؛ (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11))، يدعو على نفسه بالثّبور أي بالهلاك، وَاثبوراه! وَاهلاكاه! يصيح، يصيح، يصيح. 

(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ) في قراءات بعض أهل السبع: (ويُصَلّى سَعِيرًا (12))، في قراءة الآخرين: (وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12))، يَصلاها، يُلازمها، يُشوى فيها، يُحترق فيها، الملازمة مع الاحتراق (صَلْ)، وكانوا إذا أوقدوا النّار وجعلوا لها أخدودا في الأرض وأدخلوا الشّاة وسطها وأغلقوا، يقولوا: مَصْليّة، شاة مَصْلِيّة، (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12)) نارا مُحرقة، لمّا خلقها الله أُوقد عليها ألف عام حتى احْمرّت، وألف عام حتى ابْيضّت، وألف عام حتى اسْودّت؛ فهي سَوْدَاء مظلمة لا يُطفئ لَهِيبها، اللهم أجرنا من النار.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12)) وما هذا المآل الصّعب هذا والعاقبة الوخيمة؟ (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)) وكان مُستعجل يريد يلعب، يضحك وهو في الحياة الدّنيا، يريد يبحث لنفسه على الفرح والسرور بمعصية الله، ماعرف أنّ السرور والفرح لا يكون إلا في طاعة الله تعالى. "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ المُؤْمِن" هذا المؤمن، هذا الإيمان، ما بين الإيمان والكفر؟ تفرح بما يُقرِّبك إلى الله، ويسوءك ما يُبعدك عن الله، هذا الفرق بينك وبين الكافر، الكافر يفرح بما تهوى نفسه وبما يخدم شهواته والدّنيا وفقط، مايفرح إلّا بهذا، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8].

 يقول: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)) كان في أيّام الدّنيا يبحث عما يضحكه، مافي حقيقة فرح ولا سرور، لكن يريد يتناسى همومه، أكداره وخربطته في الحياة، كلّ ساعة يتناساها بماذا؟ يتكلّف الضّحك ويحب المُضحّك حتّى بأيّ شيء و بِغَيْبَة ونميمة ويريد له أيّ فرحات، أيّ طرب، آلة محرّمة، لا يوجد عنده آلة محرمة، ليست محرّمة كلّها و رقص، رقص، اختلاط، اختلاط، المهمّ يُخطأ. 

بعد ذلك لا يذهب منه، يصنع ضحكات، داخلهُ كَدَر، ما في طمأنينة، مافي سكينة، الله! يبعّد عقله، ما هذا؟ حيلة الفشلان؟ فاشل في الحياة، ما عنده شيء، يبحث عن شيء يبعد عقله، يبعد إحساسه، هات مخدرات! هات خمر! بعد ذلك، يرجع مرة ثانية و يفيق ويقول ماذا؟ الحياة كدح، كلّه بلوى، كلّه مصيبة؛ يرجع مرة ثانية، مشكلة طلعت والمشاكل زادت والآن زيادة على ذلك هنا الآن حدث في الأهل كذا وفوق ذلك الشركة ما أدري ما الذي حصل فيها وزيادة على ذلك هذا، وثاني مرّة يأخذ مخدرّات ويأخذ ثاني مرة ويصير مُدمن ويرجع مشاكل الحياة ثاني و يبحث عن السرور، مسكين، مافي سرور. 

قال: هذا السرور التي بحثت عليه في الدّنيا وعصيتنا ما عاد لك سرور عندنا، لا يوجد، انْقطع السّرور، في الدّنيا أين السّرور الذي كان معه، فقط هذا هو خياله، يقول لك إنه مرتاح، ما في راحة، مافي راحة؛ وعزّة الرّبّ ما يُفتح للمؤمن باب لذّة بالطّاعة لحظة من لحظاته، ماتساويها لذائذ أهل الغفلات  بأصنافها، ما تساويها، كانت الرّاحة عند المؤمنين، الراحة عند الصّادقين. 

  • يقول تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه: 124-123] وإن رأيته في عيشة ضنك، هذا باطنه، جوفه يلتهب وفيه أشياء يُغالط نفسه مغالطة. 
  •  فما الطّمأنينة إلا بذكر الله، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].

يقول (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)) وكل من يبحث في الحياة عن السّرور بالملْهيات والمغريات والمحرّمات، قل له: احذر! هذا كدر الدّنيا والآخرة وهمّ الدّنيا والآخرة وغمّ الدّنيا والآخرة.

يقول: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13))، في أيّام كان في الدّنيا، (إِنَّهُ ظَنَّ)، اعْتَقَدَ، (أَن لَّن يَحُورَ (14))، أن لن يرجع إلينا، ظنّ أنّه لا يوجد مرجع، لا يوجد مآب، لا يوجد حساب، لا يوجد رجعة إلى الرّبّ، (إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ)، وحوّر الشيء: رجوعه لازم. 

(إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَىٰ) كلٌٍ سيرجع، أظننتم أنّكم إلينا لا تُرجعون؟ بل الكلّ إليه يرجع: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:83]، (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ (15)) أيّام غيّك وطغيانك وبحثك عن السّرور بعصياننا، أين أنا كنت؟ أنا كنت معاك، أمهلتك، أعطيتك المُهلة وذكّرتك ما رجعت، ونبّهتك بالشّدّة وبالمُصيبة وبكذا وبكذا مارجعت (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)). 

ويواصل الحقّ الكلام عن شؤون وأحوال تكون في الدّنيا وفي الآخرة، رزقنا الله الاعتبار، والإدّكار و الاسْتنار بهذا النّور المبين، اللهم نوّر هذه القلوب بنورك المبين، بنور القرآن، بنور الذكر، بنور محمّد ﷺ. نسألك في ليلة الفرقان هذه أن تربطنا بأهل بدرربطًا لا انحلال له ولا انفكاك، نسلم به من الهلاك في الدّنيا ويوم تُحشر الخلائق أجمعين يا ملك الأملاك، اللّهمّ أعِذنا من النّدامة والحسرة في يوم القيامة، احْشُرنا في زمرة المظلّل بالغمامة وأنت راضِ عنّا، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

20 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

24 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام