تفسير سورة النَّبَأ -2- متابعة السورة من قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17))
الحمد لله مُكرمنا بقرآن نتلوه، وبِبَيانٍ نتفهّمه ونعيه، وبنبيٍّ نتّبعه ونَقتَفِيه، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن يُحبّه ويُواليه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وآلهم وصحبهم والملائكة المقرّبين، وكلّ عبدٍ يُحبّه تعالى ويَصطفيه، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإنّنا في نِعَم تأمّل كلام ربّنا جلّ جلاله وتعالى في علاه، وما نغْتنم به بُكُورات وغُدُوات أيّام معدودات في شهر كريم، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة:185]، تأمّلنا ما ذكر الحقّ لنا في سورة النّبأ، وذاكم النّبأ العظيم، جَمْعُنا بعد البعث، كما أخبر المبعوث بالحقّ محمّد، وكما بيّن القرآن المُنزل عليه، وذلك أكبر الأحداث وأعظم الأخبار قطعا، لا يمكن أن تتحدّث العقول ولا الذَّوَاكِرُ ولا الأفهام عن شيء أعظم من ذلك الذي سيتعرّض له الإنسان، (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)) [ص:67-68].
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5))، ليس الأمر كما يظنّون ولا يتوهّمون ولا ما يَلُوكُون من الأقوال بألسنتهم إِذْ يَتَقَوّلون، بل سيعلمون ثم سيعلمون، سيعلم المؤمنون وسيعلم الكافرون:
- سيعلم المؤمنون، فضل مولاهم عليهم، وإكرامه إيّاهم، ويرون أنّما وَفَّقهم له من الإيمان والعمل الصالح، ترتّب عليه مِن ثوابه وحسن جزائه، أكبر ممّا يظنّون وأعظم ممّا يتوهّمون.
- ويعلم الكافرون أن اغْترارهم باتّباع الأنفس والأهواء، ومَيْلهم إلى الشّهوات في الحياة القصيرة أَرْدَاهم وجلبَ لهم عذابا وشدّة وبُعْدا وبلاء فوق ما يظنّون وأعظم ممّا يتصوّرون.
وكلٌّ سينتهي إلى العلم بهذه الحقيقة، (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6))، سبحانك يا مَن مهّدتها لنا، وعبّر بالمِهاد تشبيها بالمَهْد الذي يُهيّء للصّبي يكون مُناسبا له، فليس من حوالينا من الكواكب ما مُهِّدَ لنا كما مُهِّدَ هذا الكوكب الأرضيّ لنحيا فيه ولنعيش فيه، لله الحمد والمِنّة.
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)) فَلَا تميد بنا الكرة الأرضية في هذا الفضاء الوسيع؛ فإنّه لو مادت لا يمسكها غير الله، وقد هيّأها لنا بوضع الجبال فيها، (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا).
قال مولانا: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8))، أصنافا مُصنّفة، ذكورا وإناثا، بألوان مُتنوّعة، بأشكال بديعة عجيبة مختلفة، بأحجام متنوّعة مختلفة، بمقدُورات متنوّعة متقابلة مع بعضها البعض.
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)) إذا تعرّضت أجسادكم للتّعب والإعياء بسبب الشُّغل أو العمل أو الحركة أو المرض وما إلى ذلك، قطعنا عنكم ذلك التّعب والإعياء بالنّوم، وجعلنا لكم نوما تستعيدون فيه نشاطكم وقُواكم
(سُبَاتًا) والسَّبْتُ: القطع، يقطع حركتكم وقت النوم، ويقطع بالنّوم إعياءكم وتعبكم، ويُجدّد لكم النّشاط.
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9))، أو بمعنى مُتقطّع، لا يدوم؛ فيستعْدمون به مصالحكم في الحياة؛ ولكن في أوقات أو بسبب الحاجات يكون من أكبر النِّعم، إذا زاد على حدّه يكون من أكبر المتاعب، من أكبر المشاكل؛ فلهذا قال: (سُبَاتًا) متقطّعا، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ) [الروم 23].
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9))، قال الله: رتّبنا نحن هذا، فهل في عالم البشريّة مِن البشر أنفسهم أو غيرهم من الكائنات، مَن يقوى على تغيير سنّتنا هذه؟ مَن في هذا الوجود؟ لا البشر ولا غيرهم يُغيّر طبيعة البشر، وأنا الذي وضعت هذه الطبيعة، فمن يُغيّرها؟ فمن يُبدّلها؟ مهما ادَّعوا، لا يستطيعون ذلك.
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)) وتتمكّنون من قطْعه عند الحاجة ليس كالغَشْيِ ولا كالصّرع الذي يصيبكم فما عاد تستطيعون حيلة؛ ولكن يطرأ عليكم أمر، يحصل معكم موقف تمتنع من النّوم، تُدافع النّوم، تَصبر عن النّوم، ممكن! سبات متقطّع، تقدرون على قطعه، لم نجعله مثل الغَشْيِ أو مثل الصّرع لا تحسّ بشيء ولا تتحرّك؟ فالمصروع تُكلّمه، لا يتكلّم ولا يَسمعك ماذا تقول، والمَغْشِيِّ عليه، لكن تقول للنائم : يا فلان! -خاصّ باسمه-، مرحبا! عجيب! النوم سبات، هذه يمكن قطعه.
يقول الله لو رفعنا المِعيار عليكم وغشّيناكم، مَن يُقوِّمكم؟ كيف تقومون؟ بل ينام أحدكم على صوت، كحارس على صوت المكينة، فإذا انقطع الصّوت قام، عجيب! الآن سْكُونْ، كان صوت مشوّش الان ذهب التّشويش، يُدرك أنّ هذا الصوت معناه استمرار العمليّة في مكينته، فإذا انقطع الصّوت يدرك أن شيئا قد حدث، فيقوم؛ يقوم مِن انقطاع الصوت ليس من إحداث الصّوت، الله أكبر!
حتّى النوم بالشكل البديع المتناسب مع الحياة ومع مصلحة الجسد بالصّورة هذه التي وضعها جلّ جلاله، هل مِن واضع غيره يضع للإنسان حقائق في هذا المعاش ويقوم به ويطوّره؟ هذا الكلام من أيّام آدم وإلى اليوم ولن يقدروا أن يغيّروا شيئا؛ لا الإنس ولا الجنّ ولا غيرهم من الكائنات، وضع واضع، خالق، مكوّن، هو الله، أكبر!
- (مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ) [الملك:3]
- (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ) [السجدة:7]
- (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2]
هذه بعض معاني التّقدير في النّوم الآن ذكرناها، النوم مقدّر واليقظة مقدّرة والعينين مقدّرة والسمع مقدّر والبصر مقدّر والمعدة مقدّرة والأمعاء مقدّرة، كلّه بتقدير بديع، الزّيادة فيه، النّقص فيه، يُغيّر ويُبَعِّد حكما كثيرة، فما هذا التّقدير البديع! ومِن عند من جاء؟
حُقّ لعقول أهل الشّرق والغرب أن تسجد لربّها، أن تخضع لإلهها الذي كوّن، (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ) [لقمان:11].
قال الكافر لسيّدنا إبراهيم : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ )، قال: إذا فهمُك لم يُدرك الدّقائق، سنجيء لك بأمور واضحة، (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)؛ ما دام أنت إله، أنا ربي الذي خلقني وخلقك وخلق هذا، كلّ يوم يأتي بالشّمس من جهة المشرق؛ فَهَيَّا اجْعَلْهَا بُكرة تطلع مِن المغرب أنت، تظهر عكس دورة الكرّة الأرضية؛ (فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة:258]، بُهِتْ!..
وليس هذا اليوم فقط الذي يُبْهِتْهُم، يكررون فقط؛ "تطوّروا، تقدّموا"، اقلبوا الدّورة للكرّة الأرضية، اجعل الشّمس تطلع من المغرب، ممكن؟ هيّا! أنت قوّة جبّارة، كما تقولون، قوّة جبّارة! تقدّم فظيع! فظيع!، (فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)؛ يا حضارة! (فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، من المغرب! لا هو ولا أجهزته ولا ما عنده، هذا وضع من فوق! فاسجد لهذا الإله الذي وضع هذا الوضع، متكبّر ومتعالي.
أنت خاضع لشيء ثاني، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [الرعد:15]، هم خاضعون أصلًا، لكن ندعوهم أن يسجدوا طوعا لينفعهم ذلك؛ أمّا السجود كرْهاً هم أمامنا ساجدين، ما الذي يقدِرون أن يعملوا في الكون؟! تحت تدبيرات المكوّن كما وضعها، لا قوّة لذي قوّة إلّا في ما سلّط فقط، ولا نفع كائن ما كان إلّا فيما سخّر فقط! فيما سخّر هو! "وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَت الأَقْلَامُ وَجَفَّت الصُّحُف"، فسبحان الخالق الكبير!
الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على نعمة الإيمان، اللّهمّ كما أنعمت علينا بالإسلام فزِدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزِدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه، ياأرحم الرّاحمين! وكما أنعمت علينا برمضان فبارك لنا فيه، وكما بلّغتنا أواخره فبارك لنا فيها، يا الله!
كم مَن ناس يزيد إيمانهم في هذه الأيام، زيادة ما وجدوها في عام كامل وعامين ولا ثلاثة أعوام من قبل، في خلال أيام، في أواخر رمضان يشرق نور الإيمان في قلوبهم؛ فيُدركون مدارك ما كانت على أذهانهم، والمدارك هذه شريفة وعزيزة، خيرها باقي إلى الأبد، ليست مثل أيّ ثقافة ولا أي فهم ولا أي معلومة، هذه المعلومات العزيزة لا يُعطيها الله إلّا من يحبّ، "إنَّ اللهَ يُعطي الدُّنيا مَن يُحِبُّ ومَن لا يُحِبُّ، ولا يُعطي الدِّينَ إلَّا مَن يُحِبُّ، فمَن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحَبَّهُ"
هذه المعلومات شريفة عزيزة، هي أسباب القرب ورفْعة الدرجة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍۚ) [المجادلة:11]؛ فهذه عطايا في مثل هذه الأيّام، موهوبة من الرّحمن لمن أقبل بالصدق، فأقبِل بقلبك على ربّك ترى عنده كلّ خير ولا خير لك إلا من مولاك، قطعا! فأقْبل عليه، ترى منه فوق ما تؤمّل وأعظم مّما تتصوّر، نِعم الجواد الكريم.
يقول سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10))، لباس الإنسان ما يلبسه فيستره ويغطّيه، وجعلنا الّليل غطاء، بظلمته يستر الأشياء؛ فتصير مغطّاة.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10))، جعلنا اللّيل لباسا، والملابس الظاهرة عندنا؛
- إنّها الملابس التي يُتجمّل بها على وجه الحقيقة
- تُستر بها العورات
- وتَحصُل بها الزّينة على وجه الحقيقة
- وتظهر فيها أثر النّعمة
وعندنا ملبوسات مُزرية، قبيحة، سيّئة؛ إمّا شفّافة، تظهر العورة أو مقطّعة أو مفتوحة من جانب من الجوانب إلى غير ذلك؛ حتى تُنافي تماما حكمة وجود اللّباس، اللّباس من أجل السّتر وحقيقة الزينة
يجيئون الآن بأشكال مُبهذلة، ليس فيها ستر، يجعلون منها لباسات غالية؛ ويقول لك: موضة جديدة ويعطيها أهله، ما الذي تفعله؟ إمّا ينكشف ساق امرأته، وإمّا ينكشف فخذها، إمّا ينكشف بطنها، إمّا ينكشف ظهرها ويقول لك موضة
حكمة اللّباس كلّها اختفت، اللباس هو من شأن السّتر ومن شأن حقيقة الزّينة! هذه ليست زينة، هذه بَهذلة، بَهذلة! حتّى أيّام طُفولة البنات ما يفعلن بألعابهن مثل هذا، فلا تراها تلبّس لُعبة صغيرة لباس مفتوح من الجانب هذا وواحد مشقوق من الجانب هذا؛ حتّى وهنّ يلعبن صغار بحكم الفطرة، ما يلعبن على اللّعب باللّعبات واللّعب التي يلعب اليوم بها مُدّعي الثقافة ومدّعي التّقدّم على أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا وأّعمامنا وعماتنا يلعبون بهنّ لعب؛ لا فيها جمال ولا زينة ولا حكمة اللّباس؛ كلها ليست موجودة!
ويقول لك: لباس موضة جديدة غالية بثمن باهض، يلعبون بجسد امرأتك وبنتك ودفعت لهم فلوس، عاقل كبير أنت! متقدّم إلى أبعد الحدود! مثقّف كبير! ما هذا الحاصل بك؟ ما الحال الذي بك الآن؟ ما أنت عالم بنفسك تمشي أين، وتضع رجلك أين؟ ناس يلعبون عليك ويأخذون فلوسك؟! وزيادة على ذلك يسلبونك أدبك ويسلبون قيَمك، ويسلبون أخلاقك ويسلبون تراثك ويسلبون دينك وتعطيهم فلوس زيادة؟! وفرحان زيادة على ذلك، ابْنَتُهُ من التّقدّميّات.. ما الذي فَعلت؟ أظهرت زينتها للأجانب، كشفت أمام النّسوان، هل هذه الثقافة، هذه؟ هل هذا علم؟! هل هذا مكسب؟! ما هو هذا بالضبط؟! إلى هذا الحدّ وصل عقلك؟! سبحان الله!
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10))، اللّباس المعنوي في اللّيل، يستر النّاس في الظّلام؛ فمنهم من يتّخذ مِن هذا اللّيل ساعات مُناجات للخالق، ولَذَاذة مُخاطبة للعظيم الإله الموجد، وخلوة مع المُكوّن، يغيب فيها عن الأكوان؛ فهذا مثل الذي يلبس في الظاهر؛ أحسن اللّباس وأفخره وأجمله وأتمّه وأكمله سترا وزينة وجمالا وإظهارا للنّعمة؛
والأخر يجيء اللّيل فيستتر؛ فيميل إلى سهرات السّوء وإلى المناظر الخبيثة وإلى السينما الهابطة وإلى رفقة البلاء والسّوء يجلس معهم، إمّا على المخدّرات أو أمور..؛ هذا اللّباس المُزري، اللّباس المُزري، المُنحطّ، الكاشف للعورات، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
لذا اشتاقت أرواح الصّالحين في الأمّة ومن قبلها من الأمم إلى مجيء اللّيل وكانوا يحبّون مجيء الليل لأنّهم يَخلُون فيه بربّهم وتطيب لهم فيه المناجاة ويقول :
نُصِبَتْ لِأَهْلِ المُنَاجَاة فِي حُنْدُسِ اللَّيْلِ أَعْلَامْ
وَاسْتَعْذَبُ السُّهْدْ -السَّهَر- وَامْسَوْا قِيَامْ إِذْ نَامْ مَنْ نَامْ
وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ لَطَائِفْ بَهْجَاتُ فَضْلٍ وَإِكْرَامْ
مِنْ لَذَّةٍ لَا تُكَيَّفٍ وَلَا تُصَوَّرْ بِالأَفْهَامْ
قَدْ ذَاقَهَا مَنْ عَانَاهْ وَهَامَ فِيهَا الذي هَامْ
وَاسْتَوْحَشَ الخَلْقُ وَاضْحَكْ فِي الفَيَافِي وَالآكَامْ
سمعت؟ الله أكبر! يحنّون إلى اللّيل حنين، لِمَا يجدون فيه من اللّباس الجميل، الله أكبر! الله، لا إله الّا هو!
إنجلى لهن سرّ النّداء الأعلى، نداء الحقّ لهم، يَا عِبَادِي! يَاعِبَادِي! يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا! يقول:
هَذَا الذِّي نَادَانِي وَقْتَ السُّحِيرْ أَشْجَانِي *** نِدَاهْ لِي أَسْقَانِي مِنْ قَرَقَفَاهُ الهَانِي
سَكِرْتْ بِهِ وَافَنَانِي عَنْ كُلِّ ضِدٍّ ثَانِـــي *** مِنْ قَاصِيٍ أَوْ دَانِي فِي العَالَمِ الجِسْمَانِي
أَنَسْتْ أُنْسَ الأُنْسِ فِي مَهْرَجَـانِ القُدْسِ *** وَافَنْيَتُ هَيْكَلْ نَفْسِي وَقَالِبِي وَحِسِّي
وَزَالَ وَهْــمُ اللَّبْسِ وَحَبْسَاةُ الحَبْسِ *** بِالبَارِقِ النُّورَانِيِّ وَالوَارِدِ الرَّبَّانِيِّ
تسمع! فيقول واحد مِن صلحاء الأمّة: "لي أربعون سنة ما غَمَّنِي شيء إلّا طلوع الفجر"؛ ما يُغمّ قلبي شيء إلّا لَيَطلع عليّ الفجر، أفقد لذّة المناجاة التي تكون في ظلمة اللّيل.
سمِع الدّيك يصرخ في عَدَنْ -الإمام أبوبكر العدني العيدروس- يصرخ مؤذِنًا أنّ الفجر قريب قال : "ديك اسْكُت لَيْتَكَ أَخْرَسْ، لَا تُفَرِّقْ بِينْ إِلْفِينْ، صُبْحْ سَالِكْ لَاتَنَفَّسْ، اجْعَلْ اللَّيٍلَ كَاللَّيْلِين"، ألِفَ المناجاة وأنت تؤذن للفجر ليطلع؟! اترك الوقت يطول، الله! الله!
- مَن لم يلبس هذا اللباس، شخص آخر مسكين، لايملك هذا اللّباس، سمع قول العارف الذي يقول: "لي أربعون سنة ما غَمَّنِي شيء إلّا طلوع الفجر"، وأنا لي سنين ما يغمّنا إلّا الفجر، قال: لِم يُقُوِّمُونني من النوم؟! يبيت نائم، وعندما يأتي الفجر يُنَبِّهُونَه ويُقَوِّمُونَه، يغضب، انظر! هذا العكس، الله!
- والذي يذوق لذّة المناجاة، يقول ﷺ : "ذَاقَ طَعْمَ الإيمَان مَن رَضِيَ بِالله رَبًّا وَ بِالإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا"، يا رسول الله! قيام إلى أن تتورّم قدماك، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر؟ ،"أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟"، يقول: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟"
وَهْوَ بِحَقٍّ الشُّكْرُ مَا أَوْلَاهُ *** إِذْ قَامَ حَتَّى وَرِمَتْ رِجْلَاهُ
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10))، يُغطّي بظلامه كلّ شيء؛
- فيلبس فيها هؤلاء من ملابس لذّة المُناجاة ومعاني القُرب من الله، ملابس فاخرة عجيبة باهرة
- ويلبس الآخرون من ملابس الغفلة والبعد والأعراض له والمخالفة له، ملابس بشعة خبيثة ساقطة هابطة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
كلّ هذا يحصل في الّليالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].
(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11))، النَّهَارَ مَعَاشًا، وقت مناسب لجمع معائشكم ورعاية مصالحكم وتوفيركم العيشة الطّيّبة.
(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)) فالذين يأخذون من المعائش والرّزق ما كان حلالا وطيّبا، من دون أذى ولا ضرّ ولا غِشّ ولا غِلّ ولا إجحاف على أحد ويصرفونه في محلّه، أدركوا بركة النّهار، كما أدركوا أولئك بركة اللّيل؛ والذين يجيئون للمعاش في النّهار بالغشّ بالظّلم بالخيانة بالسّرقة، لا حول ولا قوّة إلّا بالله! أدركوا الشّؤم في نهارهم.
ويقول الله لحبيبه محمّد وهو خير مَن أدرك بركة اللّيل وبركة النّهار، يقول له؛ (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) [المزمل:7]، يَسْبح في تبليغ النّاس، وإرشادهم، وتقويم أمورهم، والنّظر في مصالحهم وبَلَاغهم عن ربّهم، وتزكيتهم وتعليمهم، وتلاوة أيات مولاهم، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) ﷺ.
في اللّيل ماذا يعمل؟ (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل:2]، هذا عمله في اللّيل (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، يقول: أنت يا حبيبنا مُهيّأ لأنْ ننزل عليك وحي، لم ينَزَل على أحد قبلك، ولن ينزل على أحد بعدك، فيه هداية الأمّة جميعهم، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، لا يَزن وزنه شيء! لو نزل على الجبال لدُكّت، لكن قلبك هَيّأناه، وبِلِسانك يَسَّرْناه، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، يقول، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا)، يعني واطئ القلب واللّسان، (وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)
فَدُم على سرّ صِلَتَك الخاصّة الكبرى بنا، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)، انْقَطِعْ إليه، (رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ)، إِذَا توَكل أحد على غيره، اتركه، أنت هذا هو القادر والمُحقّ اتخذه هو وكيلك، (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)، والأقاويل هذه التي حواليك، (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل:2-10]؛ فالجمال يُتابعه حتّى في الهجر، وَصْفه ما أجمل منه وإذا هَجَرَ، هَجَرَ هَجْرًا جَمِيلًا.
(وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، يتأنّى بهم أنْ يرجعوا، أنْ يَأُوبُوا، أنْ يَتُوبُوا؛ كلّما لاحت بَاِرقَة لأحد أمسك به وقرّبه إلى الخير؛ حتّى هَجْرُهُ جَمِيل، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، هَجَرَهُمْ، وَلَا سَابَبْهُمْ وَلَا شَاتَمَهُم ولا أثار نفسيّاتهم وَلَا عَمَل شيء، وأعرض عمّا يقولون مِن الجهل، واستمرّ على دعوتهم بالدّعاء لهم: (اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون، اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون)، هجِر جميل؛ فالجمال مَنُوط به ﷺ، وَصْلُهُ أَجْمَلُ وَصْل وَهَجْرُهُ جَمِيل، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل:10]، وكذلك عَطَاؤه عطاء جميل، وصَفْحُهُ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر:85]، لأنّك مَعْدِنُ الجمال، هكذا جَعَلَهُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، الله أكبر!
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) [المزمل:11]، قال: أُتْرُكنا لهم، أنت على ما برأناك مِن رحمة ورأفة في عبوديّتك لنا، والتّصرُّف فيهم مِن قِبَل الألوهيّة، مِن قِبَلِي أنا سأرتّب وأُعطي كلّ واحد جزاؤه، ما عليك، أنت ما قصّرت ولا تسبّبت في تعذيب أحد ولا إضلال أحد، أنت تسبّبت في هِدايتهم؛ فالحقّ يُطمْئِنه ويقول: أنا عليّ هذا، من عند الألوهيّة، هذا ما هو أنت السبب في أن يصل العذاب إلى أحد، أنت حرصت على أن يرتفع العذاب عنه وأنْ يَدْخُلُوا جنّتنا، لكن أنا ربّهم، سأعذّب كلّ مَن يَستحقّ العذاب، لا إله إلّا الله! وَعَفْوُ الله وَاسِع، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا) [النور:21].
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)) هذا سَقْف، (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ) [الأنبياء:32]، كيف سماها بناء؟ نحن عندنا في عالم الكرة الأرضيّة هذه التي نعيش فيها، البناء أبعد عن الآفات وحدوث الحوادث، والسّقوط من السقف ربما يتعرّض للخلل، السّماء سقف، لكن لقوّة الصّنع فيها وإحكام الخِلْقَة لها وقُوَّتْهَا، سمّاها بناء قال: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا) [الذاريات:47]. (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ)، فاختار لفظ البناء وهو سقف، (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12))
هذا فيما يتناسب مع حالتنا في عالم الأرض؛ وإلّا فما البناء وما السّقف؟! عند الرّبّ هذا كلّه واحد، الأرض في الهواء، والكواكب الأخرى في فضاء وهواء؛ والسّماء فوق محيطة أيضا بالهواء، لا إله إلّا الله!
وفوقها السّماء الثّانية والثّالثة وإلى عرش الرّحمن جلّ جَلاله؛ فكلّه بناء وكلّه سقف وكلّه..، سبحان الله! لكن بالنّسبة لما أَقْدَرَنَا عليه وجعله أمام أبصارنا ومُدْرَكَاتِنَا من التّرتيب، نُفرّق بين البناء الذي التصق بالأرض والسّقف من فوق؛ ولمّا كان البناء عندنا أبعد عن الآفات وعن التّشقّق، السقف سمّاه بناء، ذلك المحكم الفوقي السّقف، سمّاه بناء.
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا)، سبع سماوات، (شِدَادًا (12))، مُحكمة الصّنع قويّة، لايُؤثّر عليها مرور الزّمان ولا تَوَالي الأحداث، الله أكبر! قرون بعد قرون، وقرون بعد قرون، وقرون بعد قرون، وملايين من السّنين، مُحكمة، متقنة، صنع واحد من عند واحد، ولا احتاجت إلى الصّيانة ولا إلى التّرميم ولا شيء؛
لكن كلّ ما تَسبَّب فيه البشر، وإن كان هو مِن فِعل الله؛ لكن بأسباب المَخلوقات، قالوا يريد له ترميم، وبعد مدّة يحصل فيه شيء، وإذا هو قويّ مُتقن، يُجَاوِزُ له مئات السّنين، ولكن لا بدّ من أن نحافظ عليه، يذهب، يزول، سواء نُصلّحه أو ما نُصلّحه
لكن هذه؟ من يمسَكها؟ من يقوّيها؟ من يصونها؟ من؟ الله أكبر!
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا (13))، مِن جملة ما خلقنا من النّجوم، واحد مُتعلّق بالأرض، يطلع عليها في كلّ يوم وليلة ويدور، تَدور حَوله الشّمس.
يقول: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13))، وهّاج، يتوهّج نورا وحرارة؛ فالوَهَج في الغالب هو ما جمع النور والحرارة، قيل أنه النور وحده أو الحرارة وحدها؛ لكن كلّه مجموع في الشّمس حرّ ونور موجود، (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)، مُتوهِّجًا، يَبُثَّ نورا وحرارة. (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)).
ولمّا كانت نورانيّة المصطفى ليست فيها الحرارة، قال: (وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب :46]، نور خالص هذا، ليس فيه شيء يخرق ولا يضرّ، (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:46]، وجاء عند الشمس قال : (سِرَاجًا وَهَّاجًا).
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ(14))، المُعصرات، السحائب التي آن عصرها بالمُعصرات الرّياح، الرّياح التي تُلقِّحُها، إذا آن عصر السُّحب بقدرة الله، بتوقيت الله، بواسطة الرّياح، يَهِبُّ عليها الرّياح، اللّواقح التي تلقّح السّحاب؛ فتُنزل الماء.
(وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ)، أَنزل مِن السّماء، (مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ) [النور:43]، يقول الله، وسبحان الله! شكل السّحب فوق، تشبه شكل الجبال على ظهر الأرض تماما، بأنواع وأشكال الجبال التي على سطح الأرض، السحب بين الأرض والسماء أشكالها تشابه الجبال هذه التي على ظهر الأرض، لو تأمّلتها من الطّائرة ونظرت فيها من هناك وهناك، تجد مُشاكلة ومُناسبة عجيبة بين هذه وهذه، سبحان الخلّاق!
يقول تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14))، يعني صَبَّابا، يصبّ بقوّة، قويّ الانصباب (ثَجَّاجًا)، حتّى تَروى به الأرض، حتّى تَحيا، وحتّى يَنتفع به النّاس.
(وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16))، (نُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا)، هذه أشجار بأصنافها:
- إمّا أن يكون لها ساق،
- وإمّا أن لا يكون لها ساق؛
فإذا كان لا ساق لها فتُفرش في الأرض ويُقال لها أيضا النّجم، ويُخرج منها الحبّ؛ واعتنى بذكر الحَبِّ لأنّه مصدر المعيشة للخلق على ظهر الأرض، قُوتُهم وغِذاءهم؛ فابْتَدَأ بالحَبِّ، (حَبًّا وَنَبَاتًا (15))، من أنواع ما يحصل من الفواكه.
(وَجَنَّاتٍ)، التي تتكوّن من الأشجار ذات السّيقان، بساتين، (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16))، ألفافا مُلتفّ بعضها إلى بعض، مُتقارب بعضها من بعض،(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16))
يقول؛ بعد هذه القدرة التي أمامكم والصّنع البديع، بعد هذا؛ تشكّون في نبوّة نبيّنا؟ تشكّون في بَعثكم إلينا؟ تشكّون في قدرتنا على إحيَائكم مرّة أخرى؟
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)، جعلنا كلّ هذا بقدرتنا وإرادتنا؛ فماذا بعد هذا؟
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17))، اليوم مُحقّق وواقع، لا مرْية فيه، فقط له وقت وقّتناه، لن يأتِ إلّا في وقته الذي ذكرنا لكم؛ فقط ما بينكم وبينه إلّا انتهاء المُدّة التي حدّدناها وما أطلعنا النّاس عليها؛ فإذا انتهى، جاء الوقت.
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ (17))، مُؤقّت بوقت لا يتقدّم ولا يتأخّر، ما بينكم وبينه فاصل، إلّا الوقت فقط ينقضي ويجيء، أمّا هو محقّق لا مجال للتّردّد فيه ولا للشّكّ فيه ولا للتّعجيز فيه؛ ما الذي يُعجزنا؟ فقط هو ميقات مؤقت بيوم:
- (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ ) [الشورى:21].
- يقول الله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [الشورى:14].
- لكنّه لها (مِيقَاتًا (17))، (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [ابراهيم:42] كما قال الله تبارك وتعالى، سبحان الملك العظيم!
زادنا الله إيمانا، زادنا الله يقينا، زادنا الله معرفة، زادنا الله نورا، زادنا الله شهودا لجلاله وعظمته في كلّ شيء، وبارك لنا فيما بقي مِن رمضان، بركة نزداد بها في كلّ يوم إيمانا، وفي كلّ ليلة إيمانا، وفي كلّ ساعة، وفي كلّ ركعة، وفي كلّ أية نسمعها، زدنا إيمانا، يا من قلت عن الصّالحين، (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2]، زدنا إيمانا ويقينا، وكن لنا بما أنت أهله ظاهرا وباطنا، وتولّنا في الدّنيا والأخرة ولايتك للمَحبُوبين بِرحمتك.
بسرِّ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
22 رَمضان 1438