شرح عقيدة أهل السنة والجماعة -9- الإيمان بالحساب والميزان والصراط

عقيدة أهل الإسلام-9- الإيمان بالحساب والميزان والصراط
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب عقيدة أهل السنة والجماعة للإمام شيخ الإسلام عبد الله بن علوي الحداد، ضمن دروس الدورة التعليمية الحادية العشرين بدار المصطفى.

نص الدرس مكتوب:

ونؤمن بكل كتاب أنزله الله. وبكل رسول أرسله اللّه. وبملائكة الله؛ وبالقدر خيره وشره، ونشهد أن محمداً، عبد الله ورسوله، أرسله إلى الجن والإنس، والعرب والعجم، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأنه بلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة؛ وجاهد في الله حق جهاده؛ وأنه صادق أمين، مؤيد بالبراهين الصادقة والمعجزات الخارقة. وان الله فرض على العباد تصديقية وطاعته واتباعه؛ وأنه لا يقبل إيمان عبد وإن آمن به سبحانه حتى يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبجميع ما جاء به وأخبر عنه من أمور الدنيا والآخرة والبرزخ.

وأن يؤمن بالميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات، وبالصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم، وبحوض نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة؛ وماؤه من الجنة.

وأن يؤمن بشفاعة الأنبياء ثم الصديقين والشهداء؛ والعلماء والصالحين والمؤمنين، وأن الشفاعة العظمى مخصوصة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

 

الحمد لله الأول الآخر ، الباطن الظاهر ، العليم القادر، أرسل إلينا عبده الطاهر ، وحبيبه جامع المكارم والمحاسن والمفاخر ، سيدنا محمدا بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره كل مشرك وكافر ، وكل جاحد مكابر، اللهم صلِّ وسلم على هذا العبد الصفي الأصفى ، والحبيب المنتقى الأصفى المصطفى  وعلى آله وصحبه وأهل محبته وقربه ، وآبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا معهم وفيهم .

وبعد،،

ففي ما يجب على المؤمن من الإيمان به واعتقاده، ما بعث الله به الأنبياء ، مما يقال السمعيات ، وهي الغيوب التي لا طريق لنا إلى معرفتها إلا بالسمع عن الأنبياء عن ربنا سبحانه وتعالى ، وحدّثنا الشيخ بالسمعيات بسؤال منكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وبالبعث بعد الموت ، وحشْر الأجساد والأرواح إلى الله عز وجل، والوقوف بين يدي الله ، وبالحساب وهو محاسبة المكلَّف عن نواياه ومقاصده وعن أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ، وأن الناس يتفاوتون في هذا الحساب إلى مسَامَحٍ ومنَاقَشٍ وإلى من يدخل الجنة بغير حساب:

  1. فهناك صنف كريم يدخلون الجنة بغير حساب ، فلا يوقفون لميزان ولا يتعرضون لمناقشة ، ولا إلى سؤال بمسامحة ، وينجو بعدهم فتية وفئة يُسامَحون في الحساب ، فيُحاسَبون (حِسَابًا يَسِيرًا) [الإنشقاق:8]، أي مجرد العرض. 
  2. ثم فئة المناقشة ، وكل من نُوقش الحساب عُذب، من نوقش الحساب لا بد أن ينتهِ إلى شيء من العذاب ، اللهم أدخلنا جنتك بغير حساب . 

وهناك طوائف من هؤلاء من الأمم كلها ، ولكن وعد الله نبيه محمد: أن يُدخل من أمته الجنة بغير حساب عددا كبيرا، ثم حثيتين من حثيات الرب ، وفي رواية ثلاثة حثيات. وقد جاء في الحديث بسند ثقاة أنه  حدَّث عن مظهر من مظاهر قسم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فقال : « يُحشر في الناس -أو يُرفع بين الناس في الحشر- قوم ﻭُﺟُﻮﻫَﻬﻢ كالشَّمسِ يسُدُّونَ الأُفُقَ، قال: فيُقال : أمة النبي الأمي؟ وليتحشحش لها كل نبي ، يريد أن ينهض فيقوم ، فيُقال: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُه يَمُرُّونَ ، ثم ترفع فئة وجوههم كالقمر يسدون الأفق ، يُقال : أمة النبي الأمي ، فيتحشحش لها كل نبي ، فيُقال :  مُحَمَّدٌ وأُمَّتُه فيَمُرُّونَ ، ثم يُرفع فئة وجوههم كالكوكب في السماء يملؤون الأفق ، فيُقال : أمّة النبي، الأمي فيتحشحش لها كل نبي ، فيُقال: محمد وأمته ثم يعطيني ربي حثيتين -غَرفتين يغرفها لأمته من دون عدد ، قال : ثم يوضع الميزان ويؤتى بالكتب ، فهؤلاء يمشون قبل الميزان إلى الجنة، وهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ». 

ثلاث طوائف : 

  • طائفه منهم وجوههم كأنها الشمس  
  • وطائفة ثانية وجوههم كأنها القمر ليلة البدر  
  • وطائفة ثالثة كالكواكب 

فهم درجات ، ثم  ليس كل من يدخل الجنة بغير حساب أفضل وأعلى درجة في الجنة ممن يحاسب ، وبعض الذين يحاسبون لهم درجاتهم في الجنة أعلى ، يحاسبون لحكمة من الحكم ، بل وتشتاق أرواح بعضهم إلى خطاب الرب: عبدي ..عبدي.. يا عبدي.. يا عبدي ، ولذلك كان يقول سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه ورضي عنه-:  ما أحب أني متُ طفلا صغيرا ، ولا أوقف للحساب ، ولكن أحب أن يقول لي: يا عبدي .  ثم جاء في الرواية الأخرى أنه   قال: « وعدني ربِّي أن يُدخِلَ الجنَّةَ من أمَّتي سبعينَ ألفًا لا حسابَ عليهم ولا عذابَ معَ كلِّ ألفٍ سبعونَ ألفًا وثلاثُ حَثياتٍ من حَثياتِ ربِّي»، إن الله وعدني سبعين ألفا من أمتي يدخلوهم الجنة بغير حساب ، فاستزدتُ ربي ، حتى زادني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا ، وثلاث حثيات من حثيات ربي من دون عدد ، هذا يعطيه الله إياهم يدخلهم الجنة بغير حساب. قد سمعتم أن العارفين والأولياء من يقولون: إن طمعي لا في السبعين ألفا ولا مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألف ، ولكن في الحثيات الربانية نطمع أن ندخل فيها ، فهؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب. 

والآخرين يحاسبون حسابا يسيرا فيسامَحون في الحساب، وأول ما يُحاسَب عليه الإنسان في القبر ثم القيامة : الصلاة ، فإن وُجدت تامة ، قُبلت وسائر عمله ، وإن وُجدت ناقصة رُدت وسائر عمله ، يعني من وجدت صلواته ناقصة فلا يُسامح في الحساب ، يُشدد عليه «ومَن نُوقِشَ الحِسابَ عُذَب» ، ولما قال  : «ومَن نُوقِشَ الحِسابَ عُذَب» ، قالت السيدة عائشة لرسول الله : أليس يقول الله ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) [الإنشقاق:8-9]؟ قال: ذاك العرض يا موفقة ، ذاك مجرد العرض لا يوجد مناقشة فيه ، تعرض عليه أعماله ويُسامح ويمشي ، وأما إذا وجدت مناقشة فأين سيصل الإنسان؟!  ولو كانوا سيقومون عليك المناقشة ، حتى في حقوق الخلق في الدنيا فيما بينك وبينهم ، الساعة الفلانية واللحظة الفلانية والنظرة الفلانية والحركة الفلانية والكلمة الفلانية !! يا ألله بتروُح !! ما بتخرج بنتيجة !! ولكن عفو الله تعالى يسعَ عباده ، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.

(( وأن العباد يتفاوتون فيه إلى مُسَامَحٍ ومُناقّشٍ، وإلى من يدخل الجنة بغير حساب ))، قال تعالى: (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) [الأنبياء:47]، ومع ذلك كله ، فالكم الهائل لهؤلاء من المكلفين فكيف يحاسبون ؟ ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [البقرة:202]، في وقت واحد، الحساب ، و هذا بلا حساب وهذا مُسامح في الحساب، وهذا مُناقش مقدار يوم، مقدار أسبوع ، مقدار سنة ، مقدار عشر سنين ، مقدار مائة سنة ، مقدار ألف سنة وهو يُحاسب ، يحاسب وتنتهي المسألة ولا أحد يفلُت.

قال: (( وأن يؤمن بالميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات ))،  كما نقرأ قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف:8-9]، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) [الأنبياء:47]، قال ﷺ فيما رواه البخاري ومسلم : « كَلِمَتانِ حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ» ، "سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ". 

والميزان : كفتان يخلقهما الله تبارك وتعالى ، كل كفة أوسع مما بين السماء والأرض ، يُجمع فيها الحسنات في كفة والسيئات في كفة ، فيحول الله المعنويات إلى محسوسات في الآخرة ؛ فيكون وزن الأعمال ، وقد يُوضع الصحائف بالأعمال المكتوبة بحقائق تلك الأعمال ، فوزنها على قدر قدرها عند الله ، وما كان أخلص، وما كان أصدق العبد فيه مع الله  وما كان أحسن قبولًا عند الله؛ فهو أثقل في الميزان . كما أن السيئات ثقلها على حسب تجرِّي العبد على ربه ، استخفافه بأمره وقلة حيائهِ منه ، فتثقل السيئات بتلك المقادير المقدَّرة، وكلما كانت السيئة متهاوَن بها ، ومستخف بها الإنسان تكون أثقل في الميزان ، وكلما كانت الحسنة غير منسوبة إلى النفس ثقُلت في الميزان ، فكلما استَخفّ به من السيئات ثقل وزنه ، وكل ما اعتبره من الحسنات ونسَبَه إلى نفسه خفّ وزنه .

وفي العموم أثقل ما يكون من الحسنات في الميزان: حُسن الخلق ، وقد صح في الحديث فيما روى ابن حبان وغيره يقول ﷺ: « أثْقلُ ما يُوضَعُ في المِيزانِ حُسْنِ الخُلُقِ» ، فالخُلق الحسن أفضل ما يكون في الموازين ؛ لأنه ثقيل على النفس ، خصوصا من لم يجبله الله على الخلق الحسن ، فإنه يتكبد مجاهدة نفسه ومكابدتها ومصابرتها فتثقل وهكذا . وفي الغالب  كل ما ثقُل على النفس من الحسنات؛ فهو أثقل في الميزان ، كل ما كان أثقل وأشق على النفس؛ فهو أثقل في الميزان ، ما ثقل عليك هنا إلا من ثقله هناك ، وكل ما داخلَ الإنسان فيه هوى وإرادة، فخف ؛ فهو خفيف في الميزان ، كل ما داخل الإنسان فيه هوى وإرادة نفس؛ فيكون خفيفًا عليه، فيكون في الميزان خفيفا أيضا على قدر ما خفّ . وهكذا إلى أن يرتقي الإنسان مراقي النفس المطمئنة والراضية المرضية ، فهناك كل ما كان أثقل في الميزان؛ كان أحب إليه وكان ألذ عنده وإن كان على غيره أشق المشقات ، وإن كان على غيره أصعب الصعوبات؛ لكنه يكون عنده لذيذ ، فيكون عنده طيب أحسن ؛ ولكن هذا بعد ما تهذبت نفسه وتطهر وتقدس عن رجسه وعن إفكه وعن هواه .

قال: (( وأن يؤمن بالميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات ))، وهي أحد المواطن التي لا يعرف عامة الناس فيها كل واحد غيره ، ما عاد أحد يعرف أحد؛ من شدة الهول عند وضع الميزان، حتى ينظر أترجح حسناته أم سيئاته ؟ فيكون بجانبه؛ صاحبه .. قريبه .. ابنه ..  بنته ، ما يعرف أحد! حتى ينظر هل يثقل هذا أم هذا ؟ حتى لما ذكر عن الحشر كله من البداية في هول القيامة ، وذكر «يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا»، في مرَّة كلمته السيدة عائشة، وفي مرّة كلمته بعض أمهات المؤمنين تخاطبه تقول : وا سَوْأَتَاهْ!، سيدتنا سوده ، وا سَوْأَتَاهْ يا رسول الله !! كيف يحشرون حفاة عراة ينظر بعضهم إلى بعض ؟؟ قال : الأمر أكبر من أن يهمهم شيئاَ من ذلك ، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) [عبس:37]، فلا يُدري كيف يكون، فيتعلق قلبه بحاله حتى ينظر أينجو أم يهلك ، فلا يلتفت أحد.

 و أوَّلُ مَن يُكسَى بعد النبي ﷺ سيدنا الخليل إبراهيم ، ومن كسى لله كساه الله ، ومن كان عادته في الدنيا يستر عورات الناس ويكسو الناس؛ فتُستر عورته في القيامة ، ويُعجل له بالكسوة ويُكسى . ومن كان بعيدا عن كسوة الناس و كثير تتبع لعثرات الناس ، فهناك عوراته الحسية والمعنوية مكشوفة ، ظاهرة للناس ، ويُبعد عليه أن يُكسى كما كان بعيداَ عن محبة الكسوة لإخوانه في الدنيا ، فإن الجزاء من جنس العمل .

الميزان ، قال لما سئل ﷺ مرة ، فذكر الحال العام في القيامة وهو لعامة الناس ، وذلك لما قيل له أن الناس تذكر أقاربهم ، فقال : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحداَ أحداَ ، ولا يعرف أحد 

  • عند وضع الميزان حتى يرى، أيخفُّ وزنه أم يرجح ؟؟ 
  • وعند تطاير الصحف حتى يرى، أيُعطى كتابه بيمينه أو بشماله؟ 
  • وعند الأمر بالمرور على الصراط حتى ينظر، هل يسقط أو ينجو من النار ليمضي؟ أيثبت أم يسقط ؟   

فقال في هذه المواطن ، ما عاد أحد يذكر أحدا ، ولا يعرف أحدا ، بل قال الله عن عموم مواقف يوم القيامة : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) [عبس:34-36]، فهذا للعموم .  

ثم مواقف الشفعاء في القيامة ، يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ، وجاء في الحديث يقول سيدنا معاذ بن جبل عليه رضوان الله : «يحشر بين يديه العلماء» ، تُحشر زمرة العلماء مقدَّم فيهم معاذ بن جبل ، ممن يدخلون الجنة بغير حساب ، فيُقدَّم بين يديهم وهم شفعاء بعد الأنبياء، وحتى يُذكر عن سيدنا عمر رضوان الله عنه  قال : لو أَدْرَكَنِي الموت وأبو عبيدة حي - وتوفي أبو عبيدة في الطاعون كذلك سيدنا معاذ - قال : لو أدركني لاستخلفتُ على الأمة أبا عبيدة ، فإذا سألني ربي لم استخلفته على أمة محمد ، هذا؟ أقول لأني سمعت نبيك محمد يقول : «لِكلِّ أُمَّةٍ أمينٌ ، وأمينُ أمتي أبو عبيدَةُ بنُ الجرَّاحِ». 

ولما جاء وفد نجران قالوا : ابعث لنا رجلا أمينًا من أصحابك ؟  قال : «لأبعثنّ معكم رجلا أمينًا، حق أمين، حق أمين» ، فاستشرف لها الصحابة ، فدعا أبا عبيدة فأرسله ، قال : لو مات أبوعبيدة وأدركتُ معاذ بن جبل لولَّيته ، فإذا سألني ربي من وليت أمة حبيبي محمد ؟ أقول : سمعت رسولك يقول فيه : «إنه يحشر بين يدي العلماء يوم القيامة»؛ فكان سيدنا معاذ من أعلم الصحابة بالحلال والحرام ، ويحشر بين يدي العلماء يوم القيامة .وفيه إشارة إلى تنوع مظاهر الحشر وفئات المحشورين ومراتبهم ، وكل يُقدَّم عليه أحد ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) [الإسراء:71]. 

وصح أيضاَ في الحديث عن الإمام أحمد وغيره بأن سيدنا أنس بن مالك،  قال للنبي  : أسألك الشفاعة يوم القيامة يا رسول الله ، فقال: «أني فاعل»، إن شاء الله،  قال: قلت: يا رسول الله فأين أطلبك؟ قال: «اطلبني أول ما تطلبني على الصراط». قال: قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: «فاطلبني عند الميزان». قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن».  لماذا يتردد عند الميزان وعند الصراط ؟ من شان الشفاعة ، للنظر لحال الأمة ، فهي المحلات الصعبة الي ما عاد أحد يعرف أحد ، ولا عاد أحد يذكر أحد ، يجي فيها من أجل الشفاعة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .

وهكذا فتأتي الحسنات والسيئات تشوفها أمامك ؛الصلوات، القومات، التسبيحات ، الصدقات ، البر،  الخلق الحسن ،الكلمة الطيبة، الإحسان إلى الجيران، ومعاونة الملهوف والمحتاج ، كله أمامك ، كل واحدة ثقلها بحسب مكانتها عند الله ، بإخلاصك لوجه الله ، بصدقك مع الله فيها ، لها صور لائقة بمكانتها وروائح كذلك . وتأتي السيئات الكذبة الفلانية، والنظرة الفلانية ، الإصغاء والإنصات إلى قوم يكرهون إصغائك ، والإنصات إلى الآلات المحرمة ، حركة اليد، الرجل، البطن، الفرج، اللسان، العين ، كلها أمامك ، ولا واحدة تنقص ، كما هي في الكتاب ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) [الكهف:49]، ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) [آل عمران:30]، (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [التحريم:7]، ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) [الزلزلة:6]. 

فانظر.. ماذا تُقدم لنفسك ؟؟ هكذا في الميزان، ومن جملته تحصل عجائب عند الميزان ، فالأمر هذا لعامة الناس ، الحسنات والسيئات ، وذا أثقل وذا أثقل ، فكيف يكون الأمر ؟؟ من ثقلت حسناته فإلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار ومن استوت سواء بسواء فإلى الأعراف ، وهو سور الجنة، ثم ينقلهم الحق بعد ما يستقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، ينقلهم إلى الجنة ويدخلهم الجنة -سبحانه وتعالى- . يقال منهم الذي اُستشهد وخرج بدون رضا أبويه ، إذا كان في جهاد صحيح، بدون رضا أبويه ، يوقف في الأعراف ، فعدم رضا أبويه يمنعه من الدخول في الجنة ، واستشهاده يمنعه من دخول النار ، فيبقى في الأعراف ، يفوِّت على نفسه خير كثير . كذلك يذكر عن أطفال المشركين ، وعن بعض طوائف من المؤمنين، ومنهم من استوت حسناته وسيئاته فيرجعون هؤلاء إلى الأعراف ، منزل بين الجنة والنار عند سور الجنة .

قال: (( وأن يؤمن بالميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات )) فتحصل عجائب كثيرة ومنها أن بعض الناس أكرمه الله بالتوبة في حياته الدنيا وتوفاه على حال جميل ، وكان قد سُجلت عليه من قبل توبته سيئات كثيرة ، فيأمر الله أن يُنشر له سجل سيئاته ، ويُنشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل على مد البصر، مكتوب فيها السيئات ، فيوقن بالهلاك ، فيقال : إنك اليوم لا تُظلم ، إن لك عندنا وديعة ، يقول : يا رب ما الوديعة ؟ فيخرج له بطاقة مكتوب فيها ( لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) ، توفي عليها فكانت خاتمته حسنة ، يقول : يارب وأين تكون هذه البطاقة عند هذه السجلات ؟ يقول : إنك لا تُظلَم ، فتوضع (لا إله إلا الله) في كفة الحسنات فترجح الكفة ، ولا يثقل على اسم الله شيء ، لا شيء أثقل من اسم الله ، ( لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) ،  فطاشت تلك السجلات كلها ، تطيش ويثقل بلا إله إلا الله ، فينجو وهكذا .

فكثير من الناس تنقص عليه حسنة واحدة فيصيح، أعطيني حسنة واحدة ! لا يجد شي ! حسنة واحدة لترجح الكفة ! واحدة حسنة !! تسبيحه .. صدقة .. تهليلة .. آية قرآنية .. ولا شيء، انتهت حسناته !! ناقص عليه حسنة واحدة !! ومن جملة ذلك أن يحصل خلاف الأمر العام، ما أحد يُحصِّل حسنة من أحد . ذكر  أن رجلين ، واحد فنيت عليه الحسنات ، ما عاد بقي إلا واحدة حسنة ، فلا بد له من دخول النار بسبب موته على الإيمان ، عنده حسنة واحدة وقاعد يتفرَّج على نفسه أنه من أهل النار ! قال : فيجي واحد فتنقص عليه حسنة واحدة، تقول الملائكة الموكلين بالوزن : لو عندك حسنة واحدة ! قال : انظروني ، آتوني بحسنة .. يا أمي .. ياأبي !! يصيح على الناس ، اليوم ما حد يسمع ، فذلك يسمعه يصيح ، يقول له : مالك؟! يقول: ناقص علي حسنة واحدة !! يقول له : اسمع أنا باقي عندي حسنة واحدة ، خذها من شان ما نكون الأثنين في النار ، أنا لا بد لي من دخول النار ، فأنت لعاد تدخل النار ، خذ ، فيأتي بصك الحسنات ( صكاك الآخرة ) فتتعجب الملائكة، من أين جئت بهذه الحسنة ؟! قال : أعطاني إياها فلان !! قالوا له: لا أحد اليوم يعطي أحد حسنات !! يقول: فلان أعطاني إياها ، فينادي الله الملائكة تقول لهم : لماذا أعطيته ؟ في هذا اليوم !! والناس أشح شيء بالحسنات، وكل واحد يتلفت، عسى أحد ظلمه ! يبغي يأخذ حسنات منه ! يتمنى أن أحد ظلمهُ، أن أحد سبَّهُ، إن أحد تكلَّم عليه من غير حق ، يريد حسناتهم ! محتاجين الناس ، اليوم الناس أشح شيء بالحسنات ، يقول الله: إسألوه،  كيف أعطيت هذا ؟؟ يقول : ما عاد بقي من حسناتي إلا هذه، كلها راحت علي، هذا مقابل هذا، وهذا مقابل هذا، وباقي معي حسنة واحدة فقلت لا أدخل أنا وإياه الى النار، واحد إلى الجنة وواحد إلى النار ، واحد منا كان ليسلم من النار ، يقول الله : قولوا له، أتتكرم على الله وهو خالق الكرم ! خذ بيد صاحبك فادخل أنت وإياه إلى الجنة ، يقول له مقابل ما طابت نفسك أن تعطي هذا حسنة في هذا الموقف!! أنا اليوم أرحمك ، ادخل أنت وإياه الجنة ، فينجيه من عذاب النار ، سبحانه وتعالى ، لا إله إلا الله .

أبو القاسم القشيري يروي حديث عنه ﷺ،  أنه قال: و أن بعض الناس يقف في القيامة فترجح سيئاته، فيوقن بالهلاك فيخاف ، قال : فآخذه بيديه وأقول له : عندي لك بطاقة ، فأخرج له البطاقة أضعها في كفة حسناته فترجح ، قال : فيتعلق بي فيقول من أنت الذي نجاني الله بك وكشف كربتي في هذا الموقف الصعب ؟ قال فأقول : « أنا نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وهذه صلواتك التي كنت تصليها علي ، ادخرتها لك حتى سلَّمتها لك »، فأنت أحوج ما تكون إليها ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، هناك عجائب عند الوزن ، اللهم اجعل مآلنا خير واجعلنا ممن ثقلت موازينه .

(( وأن يؤمن بالميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات، وبالصراط ))، وما هو الصراط ؟ جسر ممدود على متن جهنم فوق النار، وذلك بعد أن تساق النار وتحيط بأهل الموقف من كل جانب ، يوضع الصراط عليها مرورًا عليها إلى الجنة ، ويُروى أنه في مسيرة ثلاث آلاف سنة ، ويروى أن ألف سنة ارتفاع، ثم  ألف سنة استواء، ثم ألف سنة هبوط . فبداية أطراف جهنم يصعد على الصراط ثم يستوي، ثم في الأطراف الأخرى ينزل إلى ما بين النار والجنة ، الجنة من وراء، هذا المرور على الصراط. 

(( وبالصراط )) وهو جسر ممدود على متن جهنم، لا إله إلا الله. عندئذ يكون المرور على قدر الإيمان والعمل الصالح، على قدر النور، ليس فيه اعتبار آخر ، لا قوي ولا ضعيف ، لا بدراجة ولا بسيارة ولا بطائرة ولا شيء إلا بإيمانك وعملك الصالح ، كم مقداره ؟ على قدره تمشي ، منهم:

  1. من يمشي أسرع من لمح البصر ، حتى يصل الى الناحية الثانية على طول ! الله أكبر ، هذه الطائفة الأولى
  2. و بعدهم الطائفة الثانية يمشون كالبرق الخاطف  
  3. والطائفة الثالثة يمشون كالريح المرسلة  
  4. وطائفة بعضهم يمشون مثل الجواد السريع المُضمَّر  
  5. وطائفة يجرون ، مثل الذي يجري ، مسكين كم سيجري هذا !! 
  6. وطائفة يمشون، أعمالهم الصالحة لم تُمكِّنهم من الجري ولكن يمشون !! 
  7. وطائفة يَحبُون حَبْوًا، ما نهض به إيمانه وعمله الصالح ما في ! ويشرد من الكلّاب هذا إلى الكلَّاب هذا التايع للنار، كم سيجلس هذا ؟؟ 
  8. وطائفة ما عندهم شيء، يسحبونهم على وجوههم ( فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) [الصافات:23]، يسحبون على وجوههم ويقذفون في النار -والعياذ بالله تعالى- كما من البداية يحشرون على وجوههم ، قالوا : كيف يمشون على وجوههم يا رسول الله ؟ قال : أليس الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ؟ الذي يمشيك على القدم يمشيك على الوجه. 

فالله يجيرنا من عذابه وغضبه ، ويدخلنا الجنة بغير حساب، قال : جسرٌ ممدودٌ على متن جهنم، أجارنا الله منه ورزقنا المرور على الصراط في زمرة الحبيب ﷺ مع أهل التقريب إنه أكرم الأكرمين . وبقي يذكر لنا عن مسألة الحوض والشفاعات ومن يخرج من النار ، فينفعنا الله بكل ذلك ويأتي معنا إن شاء الله في أيامنا المقبلة. 

اللهم ارزقنا كمال الإيمان واليقين ، وأعطنا كتبنا بأيماننا وأدخلنا جنتك بغير حساب ، ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل أقدام المنافقين والكافرين ، اللهم ثبتنا مع أقدام المقربين المؤمنين والصادقين المخلصين ، اللهم ادخلنا جنتك بغير حساب ، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا ، استرنا بسترك الجميل وهب لنا من عطائك الجزيل ما أنت أهله . 

بسر الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى  آله وأصحابه 

الفاتحة 

تاريخ النشر الهجري

13 شوّال 1436

تاريخ النشر الميلادي

28 يوليو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام