(236)
(536)
(575)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بعيديد، تريم، 24 ربيع الأول 1446هـ بعنوان:
أساسيات فوارق أعمال المؤمنين وأعمال الكافرين وما يترتب عليه الإعمار والتخريب والإصلاح والإفساد في المستقبلَين القصير والكبير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، الحمد لله الخالق البارئ المبدِئ المنشئ المبدئ المعيد، الحي القيوم الواحد الأحد الغفور الرحيم الودود.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ).
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أكرم القادة الذين ارتضتهم حضرة الربوبية، وأشرف الهادين بأمر الله تبارك وتعالى إلى الطريقة السوية، جامع الصفات الكمالية، ومعدن الأسرار الربانية، وخزائن العلوم الاصطفائية، صاحب القبضة الأصلية والبهجة السنية والرتبة العلية، من اندرجت النبيون تحت لوائه فهم منه وإليه.
اللهم أدِم صلواتك على خير صادعٍ بالحق، وهادٍ إلى الطريق الأقوم الأصدق، سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، خيار أمته ممن آمن وصدّق، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان وبعُروة الاقتداء بهم توثق.
وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين هداة الخلق إلى سبيل الحق والهدى بأمرك يا حق، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين الذين سَعِدوا بإرادة الأزل بقولك وحكمك الأسبق، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا بر يا حي يا قيوم يا حق.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، التي بها عِمارة القلوب والقوالب، وصلاح أمر المعاش والمعاد، وخير الحياة القصيرة، وخير الحياة البرزخية، وخير حياة يوم القيامة، وخير الحياة الأبدية.
يا عباد الله، إنًّ المُكلّفين على ظهر الأرض من الإنس والجن هم محل خطاب الذي خلق السماوات والأرض، وهم مَناطُ الحُكم الأكبر مِمن خلق في يوم العرض.
المُكلّفون على ظهر هذه الأرض من الإنس والجن هم موطن إنزال الكتب وإرسال الرسل؛ ليستقيموا على المنهاج القويم ويثبُتوا على الصراط المستقيم.
فخيرات هذه الحياة الدنيا ومستقبلها القصير، وخيرات دار العقبى ومستقبلها العريض الطويل الخطير، كله منوطٌ بهؤلاء المُكلفين، بنياتهم وأفكارهم، وأعمالهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم في هذه الحياة.
ولقد اختار رب الأرض والسماء قدوات يحملون لهؤلاء المُكلفين منهاجه الذي ارتضاه لعباده في كل قوم وفي كل زمان وفي كل مكان، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة حتى أَبرزت القدرة والإرادة الإلهية إظهار ختم النبوة والرسالة بحمل منهاج قويم بلا اعوجاج، يحمله النور والسراج عن رب العالمين إلى العالمين، رحمة وبشارة ونذارة وهداية إلى الصراط المستقيم.
فختم الله النبوة بسيد أهل الصدق والفُتُوَّة، عبدالله وحبيبه المجتبى، الذي تودّع أمته الأيام هذه شهر ذكرى ميلاده وبروزه ووفادته إلى هذا العالم، وظهوره بأمر الله في قالب الناس وفي المكلفين، والذي نُشِّأ النَشأة الخاصة وأُدِّب الأدب الخاص ورُبّي التربية الخاصة، من قِبَل ملاحظة حضرة الربوبية وعناية حضرة الألوهية، فكان المُفرَد بين البرية صلوات ربي وسلامه عليه.
فما بقي على ظهر الأرض إلا أتباعه بصدق وحق، وهم أتباع جميع النبيين، وهم أتباع جميع المرسلين، وحدهم هم الذين تُعمَر بهم هذه الأرض ويصلح مستقبلها القصير، ثم عليهم وعلى أعمالهم يترتّب خير وحياة البرزخ والقيامة، والدخول إلى دار النعيم والكرامة، والسلامة من عذاب البرزخ ومن عذاب يوم القيامة وفضيحتها وخِزيها، ومن النيران الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
أيها العباد، فعلى حسب ما يقوم أتباع النبي الهاد، بهذا الأمر العظيم والشأن الكريم، نظام رب حكيم، منهج قويم وصراط مستقيم، فيه الواجب والمندوب والمُباح والمكروه والمُحرَّم، فيما يتعلق بالنيات والمقاصد، والأقوال والنظرات، والحركات والسكنات والمعاملات.
أيها المؤمنون، فالمؤمنون بالله مَنوطٌ بهم أمر هذه العِمارة والإصلاح؛ لأنفسهم وأهاليهم وأسرهم ومجتمعاتهم ومن يستجيب نِداءهم، وعليهم فرض أن يكون من بينهم مُفكِّرون مُتفرِّغون للقيام بعبء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الهدى، (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وبهم تحصل السلامة من الشذوذ والانحراف، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).
أيها المؤمنون، و فُرض على هؤلاء الأتباع لخير الأنام أن يكون من كل فرقة منهم من يتعمّق في التفقّه في الدين، لينذر البقية ويعينهم على الاستقامة على الطريقة السوية، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
أيها المؤمنون بالله، وعلى مُختلف أصناف هؤلاء المؤمنين من الفُقهاء العلماء، والعُباد الزُّهاد، والمجاهدين في سبيل الله، وأرباب الحِرف وأرباب التجارات منهم على منهج الله، وأرباب الصناعات، وأرباب الحركة في الحياة بمختلف أصنافهم؛ يترتب عليهم أمر صلاح المعاش والمَعاد، وأمر صلاح واستقرار أحوال الأُسَر والمجتمعات، ثم ما ينبسط إليه قدرتهم في التأثير وحُسن التغيير إلى الأجمل والأفضل مِن على ظهر هذه الأرض، ولذلك فإنّ انطلاقهم في الحركة في الحياة مَوزونة بميزان الحق الحي القيوم، عالم الظاهر والباطن، مُنَوَّرَة بنور الله، مُنضبطة بمنهج إلهي.
حينئذ يُخاطِبون أنفسهم بإخلاص النية وصفاء الطوِيّة، وإفراد القصد لرب البرية، في كل ما يحاولونه من أعمال أو يقومون به أو يصدرونه من أقوال وحركة في الحياة.
بالفقه في الدين يبيعون في الأسواق، بالفقه في الدين يصطنعون الحِرف والمِهن والأشغال، بالفقه في الدين يتعاملون مع الصغير والكبير والقريب والبعيد والمؤمن والكافر، معاملة محكومة بِنظام البارئ الفاطر، وقدوة النبي الطاهر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بذلك تمتاز حركتهم في الحياة.
وإذا قامت على الأمر الذي ذكرناه فعليها يترتب الإصلاح والفلاح، والفوز والنجاح، وانتشار الخير في النواح، وبث حقائق الألفة والأخوة والمحبة، والتعاون على البر والتقوى، والرفق والرّفد لبعضهم البعض، وكفِّ العدوان والظلم وأنواع الطغيان.
وعلى حركة وأعمال الكافرين بالله ثم من شابههم من الغافلين المُدّعين للإسلام والإيمان، لا يطالبون أنفسهم إلا بالشهوات والأهواء وما تهوى الأنفس، ويتصرّفون على وفق ذلك لكسب المصالح القصيرة مهما كانت حقيرة، وقضاء الشهوات الدنيئة وإرادة التسلُّط وكسب الأموال.
وعلى هذا يتحرك صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم، وشعوبهم ودولهم؛ ليس لهم من فكرٍ إلا إرادة الوصول إلى أغراضٍ حقيرة وشهواتٍ قصيرة، من تحكُّم على عباد الله، وادّعاء قيادة لخلق الله، ومن بسط اليد على ثروات الأرض وما أعد رب الأرض فيها من كنوز ومعادن، ومصالح ومعايش للناس زوّدها بها الحق ﷻ، ليصرفوها فيما يُصلِحهم وفيما وينفعهم، لا فيما يُفسِدهم ولا فيما يضرّهم، فأبى الطاغون إلا الإفساد وإلا الإضرار!
وشريعة الله تنادي في أُسُسها وقواعدها: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ"، "الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله".
والشريعة تنادي بالخيريّة للقريب والبعيد: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ".
وعلى قدر ما ينتشر مِن أنظمة هؤلاء، ولا يقيمون أنظمة إلا لخدمة هذه الأغراض الحقيرة القصيرة، (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)، (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا) ونسي هَيمنة الإله وإحاطة الإله، وعظمة الإله وعلم الإله والرجوع إلى الإله، نسي كل ذلك، فأعرَض عن ذكرنا (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)؛ انحصر في المال والملك وقضاء الشهواتِ التي تُسمى بهيمية، والتي إذا فلتتْ مِن الإنسان كان شرًا مِن البهيمة: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
(وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) فلا يتجاوز علمُهُم هذا مهما سمي بثقافة ومهما سمي بعلم، ومهما سمي بإدراك و مهما سمي باطلاع، ومهما سمي بتقدُّم و مهما سمي بتطوّر؛ فلا يتجاوزُون هذا الحدَّ؛ أغراض وشهواتٍ ومالٍ وسلطةٍ، يُمهّدُون لها ويتحرّكُون فيما يجلبها وفي خدمتها.
وعلى أعمال هؤلاء يقوم الفساد في الأرض، وعلى أعمال هؤلاء يحصل الشر على أهل الأرض، وعلى أعمال هؤلاء تكون الفضائح في يوم العرض والخزي في القيامة، ويكون الهلاك الأبدي.
إذًا فإنما استعمل الله من آمن به أن يبذل وسعه وعقله وفكره في حياته القصيرة ليعمر ما استطاع؛ أسرةً وبيتاً وأهلاً وأقاربًا وأصحابًا وأعمالًا يقوم بها على ظهر الأرض، على ضبط نظام إلهي ونوريةِ توجيهٍ رباني، في تبعية قدوة اختاره الله وهو سيد المرسلين ﷺ، يلحق به في القدوة أنبياءُ الله ورسُلُه، وصالحو عبادِ الله ﷻ مِن الصادقين والمنيبين.
أيها المؤمنون بالله.. ولهم بالقيام بهذه الأوامر شورى بينهم، يبتغُون بها موافقة مُرادِ الله ومرضاته، وهذا حال المؤمنين في نظام حياتهم التي يعمرونها و يعمرُون المستقبل الكبير.
فأحضِر قلبك، وعظم ربك، وانصب القدوة بين يديك، واعلم أنه لا يتَّبعه أحدٌ بإيمانٍ وصدقٍ إلا أحبهُ رب العرش العظيم، رب السماوات والأرضين، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
اللَّهُمَّ ثبِّتنا على درب حبيبك المصطفى، واجعلنا مِن أهل الصدق والوفاء، وحسن المتابعة والاقتفاء، وتولنا به في شؤوننا وأنت حسبنا وكفى.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)".
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، بسم الله الرحمن الرحيم
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ * أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خِزْيه وعذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، حمدًا نتحقّق به بحقائق الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد الحي القيوم الديان.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، مَن أُنزِل عليه القرآن وجاءنا بأقوم ميزان، وجمع الله له الصفات الحِسان.
اللهم صل وسلم على مختارك من البرية عبدك المجتبى محمد من أوحيت إليه الفرقان، وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وأصحابه المُلبين النداء الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك الذين رفعتَ لهم القدر والمكان والمقام والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عبادك الصالحين أهل الإخلاص والإيقان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا رحيم يا رحمن.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
فاتقوا الله وأحسِنوا التصرُّف بالأقوال والأفعال وما يصدُر منكم؛ فإن المؤمنين يقيمون الوزن لإحضار القصد والنية، ثم لطلب مرضاة رب البرية، ومتابعة الهادي إلى الطريقة السوية، وهم يَرتجونَ من الله فضلًا ورضوانًا حتى فيما يأكلون ويشربون، ويُعاشرون أهليهم ويلبسون، ويأخذون ويعطون، ويسمعون وينظرون، ويقولون ويفعلون.
كيف (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) ؟!
ولا يُراقب من كفر بالله ولا من شابه الكُفار من أهل الغفلة عن الله إلا مصالح الحياة، ومراقبة ما يخاف منه سجناً أو مؤاخذةً أو تغريمًا لمادةٍ، لا يُحرِّكه غير ذلك في انطلاقه في الحياة.
فقامت الفوارق بين المؤمنين بالخالق وبين الكفار في انطلاقهم في العمل في هذه الحياة؛ إنهم لا يعملون إلا للأهواء والأنفُس والشهوات، وإن المؤمن ليُسخِّر شهوته في مرضاة عالم الظواهر والخفيات؛ يُخضِعها ولا يخضع لها.
قالوا: يا رسولَ اللهِ، أيأتي أحدُنا شهوتَه -يعني أهله- ويكونُ له فيها أجرٌ ؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟" قالوا: بلى، قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له فيها أجرٌ"، فالمؤمنون يضبطون الشهوات ويضعونها في الحلال والكفار يُستعبَدون للشهوات.
ويُشابههم الغافلون من الذين ضعف إيمانُهم؛ يُستعبدون لها ويُستذلّون لها وتسير بهم إلى مسار الهلكة والرَّدى والخزي والفضيحة يوم القيامة.
أيها المؤمنون بالله، ويقوم المؤمنون بكل هذا، بمحبة ورغبة وتعظيم للإله، ومحبة لحبيبه ومصطفاه ﷺ، فهم يتابعونه على المحبة والتعظيم ويقتفون منهجهُ القويم، وبذلك تراهم مُكثرين من ذكر الله ومن الصلاة على رسوله ومصطفاه ﷺ.
ولا يذكرون الله إلا ذكرَهم ولا يصلُّون على نبيه إلا صلّى سبحانه عليهم؛ فهم يعيشون في معاني صفاء وداد ومشاعر محبة وأنس وطمأنينة.
يعيشون تلكم الحصون الحصينة في الحياة القصيرة، ثم ينالون الأجر وعظيم ما يُدّخرُ في الحياة الخطيرة والأبدية السرمدية.
أيها المؤمنون بالله، أنتم الذين اختارهم رب الأرض والسماء لِيقوموا بمنهاجه على ظهر هذه الأرض، فليكن توديعكم لربيع الأول:
فإن الكفار لا ينظرون إلا إلى الفانيات، وإذا عمروا ما عمروا في الظاهر كمثل وسائل الراحة كما يسمونها والترفيه، وكمثل القصور المبنية، وكمثل تعبيد الطرق ونحو ذلك، بلا طمأنينة ولا سكينة ولا قِيَم ثمينة، فما يجنون من وراء ذلك إلا تعبًا، ثم (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).
ولكنّ المؤمنين مهما عملوا من خير أرادوا به وجه الله فلا يضيع منه شيء، (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) ، (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ).
فهم وإن تصدّوا للصادّين عن سبيل الله وقاتلوهم، فوالله لا يقاتل الأنبياء وأتباعهم من أجل مالٍ ولا جاهٍ ولا غرض حقير، ولكن يُقاتلون من أجل تخليص الأمة من الكفر والظلم والشر والفساد والطغيان، وهدايتهم إلى الإله الرحمن ﷻ، ولا كذلك يُقاتل من لم يؤمن.
أيها المؤمنون بالله ﷻ، (إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
والفريق المقابل:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * ليَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
أيها المؤمنون، احمدوا الله الذي هداكم للإيمان وجعلكم من أمة مَن أنزل عليه القرآن؛ أكرم إنسان محمد المصطفى مِن عدنان.
وأكثروا الصلاة والسلام عليه ليلًا ونهارًا سرًّا وإجهارًا؛ فإن أولاكم به يوم القيامة أكثركم عليه صلاةً.
واسمعوا ما قال ربه تعالى في علاه، مُبتدئاً بنفسه مُثنيًا بالملائكة، موجّهًا للمؤمنين تعميمًا وتكريمًا لعبده وتفخيمًا:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلم على أخشع عبادك وأطوعهم لك وأعبدهم لحضرتك وأعرفهم بعظمتك، سيدنا المصطفى محمد نور الأنوار وسر الأسرار.
وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازرهِ في حالي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب حليف المحراب المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى محيي الليالي بتلاوة القرآن، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، ليث بني غالب إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى امهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا وأمهات المؤمنين وبنات سيد المرسلين.
وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والارجاس.
وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصحب الاكرمين وأهل البيت الطاهرين، وعلى جميع أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أيقِظ قلوب المسلمين، اللهم نوِّر بواطن المسلمين، اللهم وارزقهم حسن التلبية لندائك والاستجابة لدعائك والاتّباع لخاتم أنبيائك ﷺ.
اللهم اكشف عنهم الغمة، اللهم اجلِ عنهم الظلمة، اللهم ارفع عنهم النِّقمة.
اللهم الطف بالمسلمين في فلسطين و لبنان، وفي السودان والصومال وفي جميع أفريقيا وجميع آسيا وجميع أقطار الأرض، ورُدّ كيد الفجار الكافرين المعتدين الظالمين الغاصبين، واجعل اللهم كيدَهم في نحورِهِم، وادفع عن المسلمين جميع شرورهم.
اللـهـم حوِّل الأحوال إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال، وفعل الجُهَّال، واجعل الشهر الراحل عنا شاهداً لنا لا شاهداً علينا، وحجة لنا لا حجة علينا، ولا تجعله آخر العهد به واعدنا إلى أمثاله في صلاح أحوالنا والمسلمين.
واغفر لآبائنا وأمهاتنا ولذوي الحقوق علينا، ولنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يا خير الغافرين، واختم لنا بالحسنى وانت راضٍ عنا.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونستعيذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إنَّ اللـه أمر بثلاث ونهى عن ثلاث:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون).
فاذكرُوا اللـه العظيم يذكركُم واشكرُوهُ علَى نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
25 ربيع الأول 1446