(236)
(536)
(575)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بعيديد، تريم، 8 ربيع الثاني 1446هـ بعنوان:
مهمة العقل ووجوب حسن استعماله وتعيينه من أحق بالطاعة
لتحميل الخطبة (نسخة إلكترونية pdf):
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الحمدُلله، الحمد لله العظيم الجليل العلي الكبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، السميع البصير اللطيف الخبير، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا وقُرّةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير.
اللهم أدِم صلواتك على عبدك الجامع للكمالات الإنسانية، الواسع في المشاهد الروحية، خير البرية، عبدك المختار سيدنا محمد وعلى آله المطهرين وأصحابه المُكرّمين، ومن والاهم فيك واتَّبعهم بإحسان في الصدق واليقين، والقول والفعل والحركة والسكون، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، مَن جعلْتَهم أعلى الخلائق لديك منْزلة في الظهور والبطون، وعلى آلهم وصحبهم وأتباعهم وعلى ملائكتك المُقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، ومن يهدون بالحق وبه يعدلون، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا من يقول للشيء كُن فيكون.
أما بعد،،
عباد الله،، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، التي يقتضيها العقل إذا أُحسن استعماله، واستُنْتِج منه وظيفته ومُهمته التي خُلِق من أجلها، وكوّنَه لأجل ذلك ﷻ.
أيها المؤمنون بالله، بما يقتضيه عقل الإنسان على ظهر الأرض، يَعلم من يُطيع وبمن يقتدي وإلى أي صراط يَهتدي، فيَستقبلُ هذا العقل من كل عاقلٍ مكلّفٍ من الإنس والجن نورَ هدايةٍ من الله الذي خَلق، ووَحدَهُ للعبادة استَحق، فيتبيّن له الحقُّ والحقيقة، وأنه يجب عليه ويلزمُه أن تكون طاعته وانقيادُه لرب الخليقة، فيستمسك بالعروة الوثيقة، وهي عبوديتُه لله وعمله بطاعة الله وانطلاقه في الحياة فيما يرضاه.
وحينئذ يعملُ على التخلُّص من سلطة الهوى والشهوات، ومن دعوات إبليس وجنده؛ من شياطين الإنس والجن:
المُزيِّنين للقبائح
والمُغيِّرين للحقائق
والمُنكرين للحق
والمُتبعين للأهواء
فهم لا يعلمون حقيقة وجودهم في العالم ولا عظمة الموجِد ولا شأن الرجوع إليه، وفي أمثالهم أوحى الله لنبيه ليُسمعنا ويُبلِّغنا (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
إنّ الذين اجترحوا السيئات عطّلوا وظيفة العقل، وانحرفوا فيما آتاهم الله من هذه القوة العجيبة البديعة المعنوية، انحرفوا عن سواء السبيل وعن حُسن استعمال هذا العقل، واستخدامه فيما يُبَيّن لصاحبه مسار الظلم ومسار العدل، ومسار الأخذ بالنقل، استنارةً من هذا العقل ولهذا العقل.
أيها المؤمنون بالله، بَرَأَ الله الإنسان وخَلقه على هذه الصورة؛ جسمٌ من ترابٍ وماءٍ وحمأ مسنون و صلصال كالفخار.
نُفِخ فيه الروح:
وسُلِّط على نفسه أهواء وشهوات سُفلية.
ومُلئت روحه بمُراداتٍ وأذواقٍ عُلوية.
وجُعِل له هذا النور وهذا العقل ليُفرِّق به بين النافع والضار، والهُدى والضلال، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والصحيح والفاسد، والخير والشر، والنور والظُّلمة.
وحينئذ إذا أحسن استعمال هذه الموهبة الكبيرة الإلهية هَدتْهُ إلى عظمة من كوّنه وكوَّن الكون وسَخّره له، وأيقَنَ أن هذا العظيم المُكَوِّنُ لم يُبدئ الوجودَ ويخلُق هذا الكونَ عبثاً، ولا لعباً ولا هزواً، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)،
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
ولمّا نظر بعض العُقلاء بعقله وفطرته أيام الجاهلية إلى ما هُم عليه مِن أكْل القوي للضعيف، وهي حضارة عصركم وزمانكم وما انتهى إليه تقدُّم الحضارات في أيامكم، أن يأكل القوي الضعيف وأن يستبدّ كلُّ من استطاع تحصيل مَصلحةٍ أو غرضٍ بهوى أو شهوة بِمُراده، وأن يركنوا لعبادة أنفسهم وأهوائهم -وغير إلههم- بمظاهر من العبادات الباطلة الفاسدة، ومرجِعها عبادة لمُزيِّن ذلك لهم وآمرهم به وهو الشيطان الرجيم،
فقد عبدَ عبدةُ الأنفسِ والأهواءِ والشهواتِ إبليس،
وعبدَ عبدةُ الأصنامِ إبليس،
وعبدَ عبدةُ الأبقارِ إبليس،
وعبدَ عبدةُ الشمسِ والقمرِ إبليس،
وعبدَ كلُّ من عبدَ شيئاً غيرَ الله إبليس في ضمن عبادته لغير الله، لِكون الذي زَيّن له ذلك ودعاه إليه إبليس.
وبذلك قال ﷺ عن مِنّةِ الله على العقول التي استنارت بنور الله وشهدت أن لا إله إلا الله، فأقامت الصلاة، أنها معصومة من هذا النوع من تَسلُّط إبليس، فيما جاء في صحيح مسلم عن نبينا ﷺ "إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، فإن يطمع في شيء ففي التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ".
وما كان عبدة الأوثان مِن حواليه يقولون إنهم يعبدون الشيطان، ولكن حقيقةُ حالهم كانت عبادةٌ للشيطانِ الذي زيَّن لهم أن يعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وكلُّ عبادةٍ بمعنى كمالُ الاستسلام والخضوع أو اعتقادُ الألوهية أو الربوبية، أو رَدُّ فرْض ما فرض الله وإيجاب ما أوجب من أجل شيء، أو رفض تحريم ما حرم الله وإحلال ما حرم الله من أجلِ شيء، هذه أنواع العبادات تُصرف لغير الله تبارك وتعالى، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
أيها المؤمنون بالله ﷻ، بحسن استعمال العقل يُدرك كُل مكلَّف من الإنس والجن أنّ هذا الخَلق البديعَ للسماوات والأرض وما بينهما، خلق قادرٍ قويٍ عظيمٍ جليلٍ حكيمٍ، لم يَخلق الخَلْق عبثاً، يجب الخضوعُ له والاستسلامُ لجلاله والانقياد لعظمته والامتثال لأمره والاجتناب عما نهى عنه،
وفي ذلك :
سعادة المكلَّفِ ونَجاته وفوزه وربحه
وحيازته خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما،
وسلامَتُه من شر الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما.
ألا فأحْسِنوا استعمالَ هذه العقول، فعلى قَدرِ حُسنِ استعمالها يتمُّ:
التقرُّب إلى الله،
والدنو من حضرته،
والوعي عنه،
والفهم والإدراك لخطابه،
والمعرفة بجلاله وكماله.
انظر اللهم إلى قلوبنا وزيِّنها بأنوار المعرفة، واملأ أرواحنا بأسرار المحبة، وأكرم اللهم أسرارنا بأنوار الشهود، واجعلنا من أهل الوفاء بالعهود، يا برُّ يا ودود يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات بالذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خِزيهِ وعذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الحق الحي القيوم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جامع الأولين والآخرين ليوم الميقات المعلوم، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه السيد الطاهر المعصوم.
اللهم صلّ وسلم وبارك وكرِّم على أعقَل خلقك لِوَحْيك وخطابك وأسمائك وصفاتك وذاتك، وعلى آله المُتلقّين عنه، الوارثين لسره، وأصحابه المُقبلين عليه، المؤثرين له بأرواحهم وأنفسهم، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك المُصطَفيْن، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله وأحسنوا استعمال ما آتاكم من مَدارك وأفهامٍ ووعيٍ ومعرفةٍ وعلمٍ بموهبة العقل والإدراك التي وهبكم إياها بفضله، (لتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
فتستحيونَ منه وتخافونه وتهابونه وتُؤمِّلونه وترتجونه، وتتبتلون إليه وتتذللون بين يديه، وتطيعون أمره وتجتنبون زجره، وتوقنون أنه ليس في الوجود أحقُّ أن يُتبع إلا الله، ومن أمر الله بطاعته من رسله وأتباع وخلفاء وورثة رسله، من المنيبين والصادقين والعباد الصالحين، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
ولأجل هذا البيان وتحذير الإنسان أن يضعُف في حُسن استخدام عقله فيُستهوى لتبعية غير الله؛ جاءت الآيات المتتابعات (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَٰؤُلَاءِ) جميع أهل الأهواء والضلالات (إنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)، إنهم قاصرو النظر، إنهم محبوسون في مداركهم وعقولهم عن إدراك المدى البعيد والأمر الخطير والمستقبل الكبير،
(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)،
(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)،
(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وبذلك تعلم الخلل الكبير الذي وقع عند كثير من المسلمين، وبعضهم يدّعي الوعي أو يّدعي الثقافة أو التقدم والإدراك في نسيان هذه التحذيرات الربانية، حتى وَقعوا في شبكة التبعية لفجارٍ وكفارٍ وأشرارٍ، في شيء من الفكر أو السلوك، فوَرَدوا مورد الهَلَكة، وتجرَّأوا على من خلق، وأحلُّوا ما حرّم وحرّموا ما أحل، (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،
(فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).
هكذا جاءت التحذيرات من ربنا حتى لا نُسْتتبَع لزخرف القول الغرور، الذي يبُثّه عدو الله بواسطة جنده من شياطين الإنس والجن.
فيخزوُن أحدَنا ليكون عبداً لشهوته أو عبداً لهواه، ناسياً عظمة إلهه ومولاه، ويُفرِّق بين الخلوة والجلوة، يظن أن نظر الناس إليه هو المُعظّم الخطير، وينسى أن الأعظم والأخطر نظر العلي الكبير، والسميع البصير والعليم القدير واللطيف الخبير والواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يقول ﷻ (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
أيها المؤمنون، أحسنوا استخدامَ العقول، تدلّكم على أن الدليل الذي ارتضاه ربكم، سيدنا الرسول محمد بن عبد الله، الهادي إلى سبيل الله، المخاطَب من قِبل الله، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
فقوموا بواجبكم في حُسن استخدام مدارككم وعقولكم:
ليَعظُم عندَكم شأن العظيم،
ولئلا تُستتبَعوا لكل لئيم،
ولا تَدخلوا في حزب الرجيم.
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)،
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا * مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا).
أيها المؤمنون، اخرُجوا من الجمعةِ بعقولٍ عظَّمت الله، وأيقَنت بمصيرها إليه، ووقوفها غداً بين يديه، وأنه أعظم مُطّلعٍ عليها ومراقبٍ لها في سرِّها ونجواها وخلواتها وجلواتها، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
فأحيوا سُنن الأمين المأمون، في أنفسكم وأهليكم وأولادكم، وارفضوا سنن أعدائه وتقاليدهم وما جاءوا به مما يخالف منهج رسول الله وأمينه، فإنّ الشر في مخالفة الرسول (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وزِدنا عقلاً يا أكرم الأكرمين، فإن من قارف ذنباً فارقه عقلٌ لا يعود إليه، إذ غايتُه أن يُتْبِع ذلك الذنبَ بحسنة فتُكفِّرُ الذنب وتُذهبُ أثرَ ظُلمَتِه، ولو جاءت هذه الحسنة دونَ ذنبٍ سابقٍ لازدادَ له نورُ العقلِ، ولكن بسبب السيئةِ لم يزدد نورُ العقلِ بهذه الحسنة، فقد فارقه عقلٌ لا يعود إليه، بكل ذنب يذنبه.
ألا إنّ العقلَاء من أطاعَوا الإله، ألا إنّ الجاهلين من عصوا الله، (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
جعلنا الله من أولي الألباب، المُفكرين في خلق السماوات والأرض، القائلين (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
وصلُّوا على أَعقلِ خلقِ الله، وأوعاهم لأسرار الله، عبده المجتبى محمد بن عبد الله؛ ليلكم ونهاركم سرّكم و إجهاركم، فإن أولاكم به يوم القيامة أكثركم عليه صلاة، ولقد أمرنا الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بالملائكة وأيّه بالمؤمنين، فقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلِّم على النور المبين، خاتم النبيين، عبدك المصطفى الأمين، سيدنا محمد.
وعلى الخليفة من بعده صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حاليي السعة والضيق، في السر والإجهار، خليفة رسول الله سيدنا أبوبكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، ومُنفق الأموال في رضاء الكريم المنان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بِنَص السنة،
وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى، وعائشة الرضا، وأزواج المصطفى وبناته.
وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة أهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان،
وسائر الصحب الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا رحم الراحمين.
اللهم أعِز الإسلام وانصُر المسلمين، اللهم أذِل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمّر أعداء الدين، اللهم أعزّ المسلمين بحسن استخدام العقول، حتى لا يُسْتَهوَوا ويُسْتَغفلوا إلى الانقياد لما خالف أمرك، ولا إلى ما خرج عن سنة نبيك.
اللهم أعِزهم بالامتثال لأوامرك والانتهاء عن زواجرك، واتباع ما أوحيت إلى خاتم رسلك.
اللهم اجمع شملهم وألِّف ذات بينهم، اللهم ارفع عنهم سلطة عدوك وعدوهم من الفجار والصهاينة أهل الاعتداء والظلم والعدوان.
اللهم رُدَّ كيد أعدائك أعداء الدين في نحورهم، واكفِ المسلمين جميع شرورهم، اللهم تدارك المسلمين في فلسطين ولبنان، وفي الصومال وفي السودان وفي العراق وفي ليبيا وفي اليمن وفي الشام، اللهم تدارك المسلمين في شرق الأرض وغربها، واكشف كروبهم وردَّ كيد عدوهم في نحورهم.
اللهم لا تصرِفنا من الجمعة إلا وقد اجتمعت وجهتنا في الإقبال الصادق الكُليّ عليك، وحُسن التذلل بين يديك، وعياً لأسرار وحيك واستنارةً لعقولنا بأنوار تنزيلك، اللهم لا تقطعنا عن صدق الوفاء بعهدك، والظفر بمحبتك وودك، حتى نلقاك وأنت راض عنا، تُحب لقاءنا ونحب لقاءك، واشمل بذلك أهلينا وأولادنا ومن في ديارنا، يا حي يا قيوم واكشف جميع الهموم والغموم، بلِّغنا من الخير ما نروم وفوق ما نروم، مما أنت أهله وما أنت به أعلم في الدنيا ويوم الميقات المعلوم، وفي دار الكرامة والنظر إلى وجهك يا حي يا قيوم.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)
نَسْألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا مُحَمَّدٍ ﷺ، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد ﷺ، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يَزِدكم، ولذكر الله أكبر.
08 ربيع الثاني 1446