التوحيد ومقاصد القرآن ومكانة سورة الإخلاص
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في مسجد الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، في منطقة غور الأردن - الأردن، 17 جمادى الأولى 1445هـ بعنوان:
التوحيد ومقاصد القرآن ومكانة سورة الإخلاص
نص الخطبة مكتوب:
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف:1-5] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الكهف:3-4]، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أفلح من عرفهُ فخافهُ ورجاه، وأطاعه واتّقاه، واستعد في العمر القصير للقاه، وباء بالخيبة والخسران من أعرض عن هذا الإله وتولّى يتَّبع شهواته وهواه، فأرداه هواه، وعدوّه إبليس إلى الخزي العظيم في الدنيا وفي منقلبه ومثواه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه المنيب الأواه، جامع القلوب على إدراك الحقيقة والحق في كل ظاهر الأمر وخفاياه، خاتم رسل الله وأنبياه، أصفى أصفياء الله، وأكرم الأولين والآخرين على الله، الهادي بإذن الله والدال على الله، اللهم أدم صلواتك على السراج المنير البشير النذير، عبدك الهادي إليك سيدنا محمد، من أنزلْتَ القرآن على قلبه ويسَّرته بلسانه فحسن واتسع بساط بيانه لكل فرد من أمته، صَدَق معك في إسراره وإعلانه، فهديته بهذا القرآن إلى موجبات الفوز الأكبر والرضوان، وجعلت له في الدنيا طمأنينة لا يجدها أرباب الأموال والسلطات ممن لم يصدق معك، ولم يُدرِك ذلك الوصل منك مهما ملكوه، وهيئته في الأخرى للجنان ومُرافَقة سيد الأكوان والعباد الصالحين من النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء أولي العرفان.
أما بعد،،
عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله التي إمامها سيد الوجود، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك التقي المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها العباد، إن كل نبيّ تلا على قومه خبر ربِّه ونبأه وما أرسله به، وخُصُّصنا بأن الذي تلا علينا كلام ربِّنا أصفى أصفيائه وخاتم أنبيائه محمدٌ سيد المرسلين، صلوات ربِّي وسلامُه عليه، فكُنَّا خيرَ أمَّة كُشِفَت به عنا الغُمَّة وجُلِيَت به عنا الظلمة، فتلا علينا كتابَ ربِّه ولا يزال بمعناه وروحِه وأنوار بلاغِه يتلوه (..لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ..) [الإسراء:106]
(..لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..) [النحل:44]، بيَّن الله لنا على لسان رسوله ﷺ وجعل (..الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء:9]، فهو الكتابُ الهادي المُمِدَّ بالنور كل من تأمَّلَه وتدبَّرَه (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]، وكان المقصود الأعظم من إنزال الكتاب دعوة الخلائق إلى الخالق، وتذكرة العبيد بالإله المعبود وإيصالهم إلى نصيبٍ من المعرفة، وإن كان لا يُحيطُ بمعرفته ملكٌ مقرَّب ولا نبي مُرسل ولا أحد من أهل الأرض ولا أهل السماء، ولكن نصيبٌ يقسمُه الله لمن سبقت له سابِقة السعادة، فيعرف من جلال الله وعظمته وأسمائه وصفاته وكبريائه وعُلُوِّه وإنعامه وإفضاله ما يتضاءل التعبير عنه، ويقلُّ التفكير عنه فضلًا من الله يخصُّ به من يشاء، فيعرف هذا الإله جل جلاله، ومن عرف الله سبحانه فاتَّقاه فقد سَعِدَ في الدارين، ونال أزكى وأعلى ما يُمكن أن يُكتسبَ لأحدٍ على ظهر الأرض بل وفي السماء، فما أُكرِم إنسٌ ولا جنٌّ ولا مَلَك بأعظم من معرفة الإله الذي ملك، وبيده ملكوتُ كل شيء وإليه المرجع.
وإن نعيم أهل الجِنان في الجِنان على قدر معرفتهم بالإله الرحمن، فكان المقصود الأعظم من هذا الكتاب تعريفُ الخلق بهذا الخالق الوهاب -جل جلاله- وبيان السبيل إلى المعرفة والاستِزادة منها بالأوامر والنواهي، وبيان أخبار الأمم السابقة، وبيان المُستقبل الأكبر الأعظم الأخطر، المُستقبل الذي يبدأ من حين الغرغرة، من ساعة خروج الروح من الجسد، هذا المُستقبل الكبير الخطير الطويل؛ لا والله! بل مُستقبل الأهم عشرين سنة ولا ثلاثين ولا أربعين يقضيها الإنسان على ظهر الأرض ستمر بأي حال من الأحوال، لكن ما بعد الغرغرة -من حياة البرزخ إلى يوم الوقت النفخ في الصور- أمرٌ كبير وشانٌ خطير، إما نعيمٌ يُعرضُ على الجنة في كل صباحٍ وعشية تُعرَضُ عليه منازلُ فيها، وإما عذابٌ يُعرَضُ فيه على السعير والنار وتعرَضُ عليه منازلُه فيها، كما قال -جل جلاله- في قوم فرعون؛ وكم لهم من حين ماتوا؟ السنة أو السنتين أو عشر أو عشرين؟ كم أعمارهم؟ وكم لهم من حينما غرقوا في البحر مع فرعون إلى اليوم؟ وهم من ذاك اليوم إلى يومنا هذا (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا…)، غدُواً في كل صباحٍ وفي كل مساء، وفي صباح يومنا هذا عُرِضوا على النار فما أكسبهم فرعون؟ وما أكسبهم الغرور بسلطة فرعون؟ وما أكسبهم الإصرار على تكذيب موسى وقد جاء بالحقِّ من الله جل جلاله؟ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46]، وفي القراءة الأخرى (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) خسروا مُستقبلهم الأكبر، وكذلك يخسرُه كل من كفر وكُلُ من كذّب واستكبر، وكُلُ من لأجل الشهوات والهوى عن مسلك الحقِّ نَفَر.
أيها المؤمنون بالله -جلّ جلاله- مستقبلنا الأكبر يبدأ من حين الغرغرة، ولنا بعدها (..بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:100]، وتتواصل شؤون المستقبل الأكبر (..فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، ذاكم يوم القيامة (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:5-7]، فكل آتٍ قريب (..وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:227] وبعد ذاك استقرار إما في الجنة وإما في النار، لا ألف سنة ولا مليون ولا مليار! بل سنون تترى وأحقاباً تتوالى لا غاية لها ولا نهاية، والله إن هذا المستقبل الأخطر، فما على ظهر الأرض من يُفكِّر في المستقبل الأكبر ويُحسن الاستِعداد له والضمان للسلامة فيه إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء، لا الكفار الذين يُغرُوننا بالوظائف لأجل عشرين سنة وثلاثين وأربعين ونحوها ويفسِدون علينا مُستقبلنا الأكبر الدائم، إنما الذي علَّمنا الانتباه للمُستقبل الأكبر أنبياء الله ورسله وأتباعهم كأمثال أبي عبيدة الذي شُرِّفتُم بمجيئه إليكم وإلى رحابكم وموته في هذه الرحاب وهو أمينُ هذه الأمة.
أيها المؤمنون بالله عز وجل،، وإنّ في الكتاب لسُوَراً يعلُو بعضُها على بعضٍ في النور والقُرب والثواب من الله تعالى، وكلُّها عظيم، وإنّ من أعظم السور ما تعلَّق بمعرفة الله والدعوة إليه والدلالة عليه، وتنزيهه وتقديسه سبحانه وتعالى، ومن أعظم ذلكم ما جاء في سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لقد قال الكفار لسيدنا المُختار، صِفْ لنا ربَّك صِفْ لنا ربَّك هذا الذي تدعونا إليه؟ فأنزل الله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) هو المُقدَّس، أحدٌ لا نظيرَ له ولا مثيلَ ولا شريكَ ولا وزيرَ، أحدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله جل جلاله.
خُصَّت السورة من ذكر أسماء الله باسم الأحد واسم الصمد؛ لم يأتيا في غيرها من سور القرآن الكريم، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) المقصود عند الشدائد والحوائِج على الدوام، يُصمد إليه -يُقصد- لأي شِدَّةٍ ولأي بليةٍ ولأي كُربةٍ، وترى حتى من المُشركين والمُلحدين من إذا داهمته النكبات والغصص في الدنيا يشعُر بقلبه وقد يُعبِّر بلسانه يا الله، يعلم أن له إلهًا يرجِع إليه -جل جلاله وتعالى في علاه- هكذا هو الصمدُ الذي يُقصَدُ إليه -جل جلاله وتعالى في علاه- (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) أي مثيلًا أو مشابهًا أو نظيرًا (أَحَدٌ) هو المُقدَّسُ عن مشابهة الأشياء، ليس كمثله شيء وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
أيها المؤمنون، ولقد تعلَّق قلوبُ بعض الصحابة بـ (قل هو الله أحد) فصار يُكثِر قراءتها، ولقد جاء في السنة أنه خرج هذا الصحابي يوماً وقد عيَّنه النبيُّ أميراً على سريَّة، فكان يُصلي بهم، فمهما قرأ في المغرب أو العشاء أو الفجر أيَّ سورةٍ أو أيَّ آيات ختمها بـ(قل هو الله أحد) حتى عَجِبَ بعض الصحابة وقالوا: رأينا منك أمراً لم نرَهُ من رسول الله ﷺ في كل ركعة تقرأ هذه السورة! فإما اقرأ بغيرها وإما اقرأ بها واترك غيرها!؟ قال أنا هكذا أُصلي فإن أراد أحدٌ منكم أن يُصلي بكم إمامًا فليتفضل، قالوا: لا، بل أنت أميرُنا وأنت إمامُنا. فلما رجعوا الى المدينة أخبروا النبي ولم يقل له ابتدعت، ولم يقل له بالغت ولم يقل له جئت بأمرٍ من عندك في الصلاة، قال: اسألوه ما سبب ذلك؟ سأله قال: يا رسول الله، إني أحبُّها لأنها صفة الرحمن! فقال ﷺ: إن الله قد أحبَّك كما أحبَبتها، إن الله قد أحبَّك كما أحببتها، وفي الرواية الأخرى: حبُّك إيّاها أدخَلك الجنة، حبُّك إيّاها أدخَلك الجنة.
حتى جاءنا في السُّنة الكريمة أنه "لا يُواظِب أحدٌ على سورة الإخلاص بعد كل صلاةٍ عشراً أو في كل يومٍ خمسين إلا نُودي يوم القيامة إذا جاء وقتُ النفخ في الصور قم يا مادِح الله فادخُل الجنة" قم يا مادح الله فادخل الجنة، بما مدحَ به نفسه قبل أن يمدحَه خلقُه -جل جلاله وتعالى في علاه- إنها صفةُ الرحمن وتُحِبُّها قلوبُ أهل الإيمان.
ولقد جاءنا في الحديث عنه ﷺ أنه قال: "من قرأ عشراً من سورة الإخلاص بُنِيَ له بَيْتٌ في الجنة" قال سيدنا عمر إذاً نُكثِر يا رسول الله وتكثُر قصورُنا قال: "الله أكثر وأطيَب" الله أكثر وأطيَب! وهكذا جاء أن "من قرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص بعد صلاة كان في حفظ الله إلى الصلاة الأخرى"، كان في حفظ الله إلى الصلاة الأخرى، وجاء في الحديث: "من قرأ بعد صلاة الجمعة فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص والفلق والناس كان في ذمة الله وحفظه إلى الجمعة الأخرى" ولقد جاء في بعض الروايات "قراءتها سبعاً سبعاً فاتحة الكتاب والإخلاص والمعوذتين".
أيها المؤمنون بالله، سورة الإخلاص متعلِّقة بتوحيد الواحد الأحد، "فهي تعدِل ثلثَ القرآن"، كما تعدَّدَت الروايات عن من أُنزِل عليه القرآن ﷺ، وجاء في الصحيحين وغيرهما إنها تعدِل ثلثَ القرآن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌّ، تَعَجَّبَ بعضُ الناس من بعض الصحابة يُكرِّرُها طول ليلته وفي آخر الليلِ، فذكرَ ذلك للنبي كأنه يتقلَّلها، قال: "أما والذي نفسي بيدَه إنها لتعدِل ثلثَ القرآن".
اللهم أكرِمنا بالإخلاص وارزُقنا الدخول في الخواص، من أهل الصدق والاختصاص، من الذين ارتبطوا بالقرآن وامتزجوا بالقرآن وظهر فيهم سرُّ القرآن ونور القرآن، يا كريم يا منَّان يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقوله لنا ويقول الحقُّ المُبين: (إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:204] وقال تبارك وتعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98]
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ* أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..) [الزمر:23-24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على الصراط المُستقيم، وأجارنا من خِزْيِهِ وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُنزِل القرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بارِئ الأكوان وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله أحسنَ البلاغ والبيان، اللهم صلِّ وسلِّم على الصفوة العُظمى مُختارِكَ من أهل الأرض والسماء عبدك المُجتبى محمد، وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائِه وإخوانِه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتِك المُقرَّبين، وجميع عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عباد الله،،
فإني أوصيكم وإيّاي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا يرحمكم الله، (..إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56].
أيها المؤمنون بالله، (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإسراء:9-10] أجرنا من عذابك الأليم، وهب لنا أجرك الكبير، يا علي يا كبير يا أرحم الراحمين.
إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين، ومن رُفِع في القرآن لا يُخفض أبدًا، ومن خُفِض بالقرآن فهو المخفوض الواقع في الردَى هاهنا وغدَا.
اللهم ارفعنا بالقرآن وانفعنا بالقرآن وارزُقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، "من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار"، اجعل القرآن إمامنا يا ربنا، أكثروا من تدبُّر هذه السورة ثم غيرها من بقية آيات ربكم، ففيها صلتُكم به وتعرُّفُه عليكم لتعرفوه، من خلال ما أوحَى إلى قلب سيد العارفين به، عبده المصطفى محمد ﷺ.
ولقد حثَّنا على قراءتها وقال: "من قرأ سورة الإخلاص والمعوِّذتين ثلاثاً صباحاً ومساءً لم يُصِبه شرٌّ ولا مكروه" لم يُصِبه شرٌّ ولا مكروه بقراءة هذه السورة ثلاث مرات، فهل تعلَّق بها قلوبُ أبنائنا وبناتنا؟ وهل تُتلَى في بيوتنا ومنازلنا؟ هل لنا صِلَةٌ بهذا الذكر الأعظم؟ ذكرُ كلام ربِّنا أن نذكُره بما أوحَى، أن نذكُره بما أنزل على قلب نبيّه، أن نُخاطِبه بما خاطبَنا، أن نُناجِيه بما أوحَى وأنزلَ علينا سبحانه وتعالى.
أيها المؤمنون، لتلهج الألسن بذكر الله، وإن الارتباط بالقرآن وأسرار التوحيد هي أسباب النصر والعزَّة في الدارين، والشرف الأكبر في الحياتين، ألا فأكثروا منها واعلموا أن تضرُّعكم إلى الله وابتِهالكم إليه السبب الأقوى في الغياث لكم ولإخوانكم في غزة والضفة الغربية وفي جميع أنحاء بيت المقدس وأكنافه، وحفظاً لبلدكم ومن فيها وما فيها.
ألا أطيعوا الله واتقوه، وأكثروا تلاوة كتابه -جل جلاله- وقوموا على حقائق التوحيد لهذا الإله، فهو الذي يخذُلُ كل من عاداه، وعلى مسلك (...كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ…) [البقرة:249] (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175] الشيطان يخوِّف أولياءه! هذا وحي الله، هل له وحيٌ غير ذلك؟ يقول لا يُقاوم الكافرون الفلانيون، ولا يُقدر على القوى العالمية ولا يُقدر على وعلى وعلى...(إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ..) يا رب في وحيك؛ ما إرشادك لنا؟ (..فَلَا تَخَافُوهُمْ..) فحرامٌ على قلبٍ آمن بالله أن يخاف قوى الكفرة مهما كثُرت، مهما كبُرت، مهما خطَّطوا، مهما خبَّطوا، مهما أرادوا، أليس فوق المُلك مَلِك؟ أليس فوق السماوات والأرض إله؟
أيها المؤمنون بالله، قال سيدنا هود عليه السلام -وقد قال قومه-: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) [هود:54-55]، أنتم أيها القوة التي كنتم تقولون (..مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً..) هكذا كان يقول عاد من أشدُّ منا قوة، وهذا لسان خُلفَاء عاد من الكفار في كل زمان (..وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً…) [فصلت:15] يقول: (...فَكِيدُونِي جَمِيعًا..) بقوتكم هذه (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) [هود:55]، لماذا يا هود؟ أأنت غير بشر؟ أأنت من غير لحمٍ ودم؟ أأنت غير مخلوق؟ لا لا لا (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ..) [هود:56] صغير ولا كبير أمير ولا مأمور قائد جيش ولا قائد كتيبة ولا جندي ولا ضابط، (...مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [هود:56-59] كذَّبوا بالرسل واتَّبعوا أمرَ الجبابرة المُعانِدين، وكم من المسلمين من يهوي في هذه الهاوِية؟ يتخلَّف عن كمال اليقين بما قال له سيد الممرسلين، ويصدِّق بعضَ ما يقول الكفَّارون العنيدون، (..وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ…) [هود:59-60] وبُعداً لكل من كذّب المرسلين، وبعداً وبعداً وبعداً لمن كذّب سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد.
فيا أيها المؤمنون المصدِّقون به، تأمَّلوا قرآنه وأكثروا من قُل هو الله أحد، وتحصَّنوا بذكر الواحد الأحد، واصدقوا مع الله في الغيب والمشهد، واستنصِروه ينصُركم واذكُروه والجأوا إليه (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ..) [الأنفال:9] اللهم أغِثنا والمسلمين وادفعِ السوء عنا والمُؤمنين، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتُك يا رب العالمين، أعِذنا من هجر القرآن واجعل القرآن شاهِداً لنا لا شاهِداً علينا وحُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، واجعله بين أيدينا يقودُنا إلى جنَّات معرفتِك وقُربِك والخُلود مع نبيِّك وأصفيائِك، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
وانصُرنا بالقرآن وانصُر به إخواننا في غزَّة والضفة الغربيَّة، وفي أكناف بيت المقدس نصرًا عزيزًا مؤزَّرًا. اجمع شملهم، ألِّف ذات بينهم، اقبل الشهداء منهم، ثبِّت قلوبهم على إرادة وجهك ولا تجعل لهم إرادةً إلا أن تكون كلمتك هي العليا، فتُعليهم بدينِك وتُعلي الإسلام، يا من أعليت الصادقين معك، يا من نصرت المُوقِنين بآياتِك، يا من قلت (..وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:9] يا من قلت: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51] انصُر المؤمنين في غزَّة والضفة الغربيَّة وفي أكناف بيت المقدس وفي كل مكانٍ من بقاعٍ الأرض، انصُر المُجاهدين في سبيلك، انصُر القائمين بأمرِك، اخذُل المُعتدين والظالمين والغاصِبين والفاجرين والكافرين، رُدَّ كيدهم في نُحورهم، ادفَع عن المسلمين جميع شرورهم، خالف بين وجوههم وكلماتهم، واجعل الدائرة عليهم.
اللهم يا مُنزِل الكتاب، يا سريعَ الحساب يا منشِئ السحاب يا هازِم الأحزاب؛ اهزُمهم وزلزِلهم اهزُمهم وزلزِلهم، ورُدَّ شرورهم عن أهل لا إله إلا الله، يا حيُّ يا قيوم، اللهم وخُذ بيد مَلِك هذه البلاد -الملك عبد الله الثاني- وتولَّه وارعه وولي عهده ومن معه، ووفِقهم لتقواك ولرِضاك، ولما فيه النفع والفرج والخير والصلاح في الظاهر والباطن والدين والدنيا، يا حيُّ يا قيوم خُذ بأيديهم إلى كل خير وسلِّمهم وأهل المملكة من كل شرٍّ وضير، وابسط لهم بساط النور والهُدى، وأصلِح ما خفيَ وما بدا، وادفع شرور العِدا.
اللهم فرِّج كُرب أمة نبيك محمد، وارفع الشدائِد عن أمة نبيك محمد، واجمع شملَ أمة نبيك محمد، ورُدَّ كيدَ الخائنين والظالمين عن أمة نبيك سيدنا محمد، واجعلنا في خيار أمة سيدنا محمد، وفيمن قاموا بحق الأمانة، بحق أمين الأمة أبي عبيدة ومن سار في تلك المسالك الرشيدة، اجعلنا ممن قام بحق الأمانة وأدَّاها على وجهها، ولا تصرفنا من جمعتنا إلا مملوءةً قلوبنا بأنوار الإيمان واليقين والصدق معك في كلِ شأنٍ وحالٍ وحين، يا من شرعت لنا الجمعة لتجتمع قلوبنا عليك وتجمع لنا الخيرات من المغفرة والتأليف بين القلوب والاستقامة والتقوى، اقبلنا في جمعتنا واصرفنا منها ظافرين بأسنى حِكَمِهَا وأعظم فوائدها، وما تتجلى على أهلها يا حي يا قيوم، ننصرف إلى ذكرك (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10] اجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وثبِّتنا أكمل الثبات واختم لنا بأكمل حسن الخاتمات عند الممات، اجعل آخر كلام كل منا من هذه الدنيا لا إله إلا الله، متحقِّقاً بحقائقها يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم والأموات إلى يوم الميقات يا أكرم الأكرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (..رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10] (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147] (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250] (..رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف:10] نسألُك لنا وللأمة من خير ما سألَك منه عبدُك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذَك منه عبدُك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المُستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن الله أمر بثلاثٍ ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90] فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
18 جمادى الأول 1445