(236)
(536)
(575)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في الجامع الكبير بمدينة الشحر، ساحل حضرموت، 15 ربيع الثاني 1446هـ بعنوان:
حسن استماع النداء واغتنام الأيام بالتزود للقاء الملك العلام
لتحميل الخطبة (نسخة إلكترونية pdf)
فوائد مكتوبة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمدُ لله، مالك المُلكِ ومُكَوِّن الأكوان، وإليه مرجِع الأول والآخر والقاصي والدَّان.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له عالمُ الإسرار والإعلان، جامعُ الأولين والآخرين ليومٍ يضعُ فيه الميزان، ويحكمُ بين عبادهِ فيما كانوا فيه يختلفون، حتى ينتهي مَآلهُم إلى مُخلَّدٍ في نعيمهِ في الجِنان، وإلى مُخلَّدٍ في عذاب النيران (الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ).
وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، خير هادٍ هدى إلى الطريقة، وبيَّن لنا الشريعة والحقيقة، فهو خير الخليقة، وأكرمُ الخلق على الله تبارك وتعالى في كل مقامٍ وشأن، في السرّ والإعلان.
اللهم أَدِم صلواتك على عبدك الهادي إليك والدال عليك، سيدنا المُجتبى محمد وعلى آله المُطهرين وأصحابه الغرّ الميامين، ومن والاهم فيك واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبلُ غيرها ولا يرحمُ إلا أهلها ولا يُثيبُ إلا عليها، تَستكِنُّ بحقيقتها في القلوب وتبدو آثارها على اللسان والعينين والأذنين والفرج والبطن واليدين والرجلين، في مسعى الإنسان في سرِّهِ والإعلان، بِرقابةٍ يرْقُبهُ فيها الحي القيوم الديَّان، وما أمر ملائكته الكرام من التسجيل لكل كثيرٍ وقليل، وقصد ونية وفعلٍ وقيل، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
أيها المؤمنون بالله، يَرقُب المؤمن عظمة إلٰهه في كل شأنه؛ في ظاهره وباطنه، في أقواله وأفعاله، ومقاصده ونياته.
فيقومُ بالتقوى ويَستمسِك بعُروتها الوثقى، فيكون الفائز بأسرار الخلافة عن الله في هذه الأرض، والفائزَ بالنجاةِ بل وبالسرورِ في يوم العرض (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ).
أيها المؤمنون بالله، جاءنا خاتم الرّسالة بخير دلالة على الحق والهدى؛ تُنقِذنا من مهاوي الأهواء وغلبة الشهوات واتباع شياطين الإنس والجن، إلى رُقيٍّ تَكمُل فيه المتابعة للمصطفى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، في القصد والنية والقول والعمل والحركة والسكون، فيصيرُ الهوى تَبَعًا لما جاء به الهادي إلى سبيل السواء صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فيكمُل الإيمان ولن يَكمُل دون ذلك بنص القرآن الكريم، بل بحلف الإله الرحمن بربوبيته مخاطبًا خير خليقته: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وكان يقول الإمام الزُهري عليه رحمة الله: مِنَ الله الإرسال، وعلى رسولِه البلاغ، وعلينا التسليم.
وعلينا التسليم بالانتظام في شرع الحكيم العليم، السميع العليم، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الخالق لكل شيء جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وتنتهي بالمؤمن حالاتهُ إلى شرف هذا التسليم بالتمام، عند تخلّيه عن الظلام والأوهام؛ ظلام الالتفات إلى غير الله، ووهْم الشرف فيما سوى العبودية لله جلَّ جلاله، التي كان يُعبِّر عنها سيدنا المصطفى ﷺ بقوله: "إنما أنا عبد آكلُ كما يأكلُ العبد، و أجْلِسُ كما يجلسُ العبدُ".
صلِّ يا ربِّ على أكرم عبد وخير عبد عبدك، الذي سجد لك وخضع لجلالك، عبدك المختار سيدنا محمد ﷺ، واجعل لنا سِرايةً من سر عُبوديته وعَبديته وعُبودَته لك؛ حتى نتخلى عن أهوائنا وعن مرادات نفوسنا، موقنين أنك الأعلم وأنك الأعظم وأنك الأجل وأنك الأكبر وأنك الأرحم، وأنك المحيط بكل شيء علمًا، لا إله إلا أنت جلَّ جلالك.
تُسلُك بعبادك الصالحين مَسالك العبودية المَحْضة، فيقومون بأمرك مخلصين لوجهك، صادقين معك، من حين أن يستيقظ أحدهم إلى أن يعود إلى منامه:
بل وينام على أدب معك،
وينام على حضور معك،
وينام على اقتداءٍ بِنبيك ﷺ،
مُستعملاً للسنن الكريمة،
حاضر القلب مع عظمتك،
ناوياً قيام الليل والاستغفار بالأسحار،
وفعل الخيرات إن بعثتهُ في يومه الثاني.
قائلاً عند بعثك له: "الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ ما أمَاتَنَا، وإلَيْهِ النُّشُورُ"، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).
وكان كلما استيقظ نبينا ﷺ من نومهِ، تلا هذه الآيات أواخر سورة آل عمران:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَْ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) جعلنا الله منهم، (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ).
هذا مسلك المختار، وتَبِعَهُ الأخيار، لهم تكرار هذه العهود والمواثيق مع الإله الحق، والتأمُّل في معاني صِلَتهم به وما بينه وبينهم، واعتبارهم بهذه السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وأنّ الجبار الأعلى لم يخلُق منها شيئاً عَبثاً، ولكن لحِكَمٍ كبيرة كان من أكبرها مرجِع المكلَّفين إليه في يوم القيامة والحُكم فيما بينهم،
وشهادة الأرض بما عُمِل عليها من خير أو شر، وإذعانُ جميع الكائنات للحي القيوم ﷻ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
أيها الحاضر في الجمعة، مؤمناً بالله ﷻ :
كيف تبيت؟
كيف تُصبح؟
ما يُنازِل قلبَك عند الاستيقاظ من النوم؟
ما ينازِل شعورك في خلال اليوم؟
وما يتبعه من الليلة؟ مِن تذكُّر، من تبصُّر، مِن اقتداء، مِن اهتداء.
ومِن إدراك المهمة التي خُلقت لأجلها في تحقيق العبودية للحق ﷻ ؟
و امتدادُ نور سلطان الألوهية لتخشاه في الغيب والشهادة، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).
وحينئذٍ يصدُرُ منك في الليل والنهار؛ ما ينفع وما يُفيد وما يُقرِّب للرب، وما يصل خيره إلى الخلق، مُمسِكاً في الفعل والقول عما يضرُّك ويضرُّ غيرك، وعما يصلُ به السوء إليك أو إلى من سِواك.
فإن لهذه الأقوال والأفعال شؤونٌ كبيرة بل وخطيرة في الدنيا وفي الآخرة.
ما تكسبهُ الأيدي وما يتصرَّف به المُكلّف على ظهر الأرض:
يترتب عليه شأنه في الدنيا؛ مِن عناية ولطف وعطف، أو إبعاد وطرد ولعن
وما يترتب عليه عند الموت؛ مِن حُسن خاتمة أو سوء خاتمة.
وما يترتب على ذلك في البرازخ؛ ما بين ذي قبرٍ هو روضة من رياض الجنة، وما بين ذي قبرٍ هو حفرة من حُفَر النار.
وما يجري من العرض في القبور إما الجنة غدواً وعشياً، أو أعلى من ذلك أرواحٌ تطير في جنان الله ﷻ، وإما عرضٌ للنار غدواً وعشياً.
كما قال الجبار في قوم فرعون:
وهم من يوم أن غرقوا في البحر إلى ليلتنا هذه (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
ثم يترتب على هذه الأقوال والأفعال وما تتعلق بها القلب من مقاصد ونيات، أخبار القيامة وأحوال القيامة:
فمن مستورٍ بالستر الجميل.
ومن مكشوفٍ عورته، باديةً فضائحه، بارزةً قبائحه.
ومن بين من يُعطى كتابه بيمينه.
ومن بين من يُعطى بشماله.
ومن بين من يَرجح ميزان حسناته ويثقُل.
ومن يخف ميزان حسناته وتَرجُح سيئاته.
ما بين مَن يُنادى عليه؛ "لقد سعد فلان بن فلان لا يشقى بعدها أبداً".
ومَا بين من يُنادى عليه؛ "لقد شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً".
مَا بين مُثبَّت على الصراط.
ومَا بين زائغ القدم هاوٍ في النار.
وما بين مُخلّدٍ في الجنة.
وما بين مُخلّدٍ في عذاب السعير.
إنها أمور خطيرة كلها، تترتب على مشاعرك وأقوالك وأفعالك وما يصدر منك في ليلك ونهارك.
يا أيها المؤمن بالله، ألا (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، واجعلنا في الهُداة المُهتدين، ورقِّنا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، أكرمنا بالعبودية المحضة الخالصة، وارزقنا اللهم غنيمة الأيام والليالي وغنيمة العمر القصير؛ ليكون زاداً لنا إلى السفر الطويل، ووسيلةً إلى نيل رضوانك وواسع امتنانك، وسُكنى جنانك مع محبوبيك يا أكرم الأكرمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)،
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(فَإِذَا جَاۤءَتِ ٱلطَّاۤمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ * یَوۡمَ یَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ * وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِمَن یَرَىٰ * فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا * فَإِنَّ ٱلۡجَحِیمَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ * وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ * یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَیَّانَ مُرۡسَىٰهَا * فِیمَ أَنتَ مِن ذِكۡرَىٰهَاۤ * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَىٰهَاۤ * إِنَّمَاۤ أَنتَ مُنذِرُ مَن یَخۡشَىٰهَا * كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَهَا لَمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا عَشِیَّةً أَوۡ ضُحَىٰهَا).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على صراطهِ المستقيم، وأجارنا من خزْيهِ وعذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله العلي الكبير، السميع البصير، العليم القدير، اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المُحيط عِلمًا بكل ما في كل ضمير، استوى عنده الجهر والإسرار، فلا يغيبُ عن علمه ولا يعزُبُ مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض في الإسرار ولا الإجهار.
وأشهدُ أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ونبيه وحبيبه وصفيُّهُ وخليله، بَعثه للعالمين رحمةً وكنا به خير أمة، ومِنَّا من أصغى قلبه لندائه، فاستوى على حسن الاقتداء به واقتفائه، وتحقَقَ بالعبودية لإلهه؛ فطابت له الحياة، طِيبةً يذوقها أهل الصدق مع الله دون من سواهم.
أشار إليها بقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ورُفع إلى درجة المحبة من الله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
أدم يا ربنا الصلوات والتسليمات منك على خير البرية، عبدك الهادي إلى الطريقة السوية، سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن على منهاجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله فيما تستقبلون به نداء الرحمن ونداء رسوله، بقلوبكم ووِجهاتكم، وما تقضون به لياليكم وأيامكم، وما تنطقون به بألسنتكم التي خلقها الله لتَذكروه بها وتَحمدوه وتَشكروه، وتُصلُّوا على حبيبه، وتَتلوا كتابه، وتَنطقوا بما أحب منكم.
وهو القائل ﷻ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
ويقول رسوله مُبلِّغاً: "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيصْمُتْ".
وقال لسيدنا معاذ: "ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم"، حصاد الألسن وما تكلمتْ به.
أيها المؤمنون بالله، راقبوا الرحمن في الأقوال والأفعال والنظرات، ألا تدرون أنه لو صَدرت منك نظرة إلى مسلم بعين احتقار فأحاطَت بك مُتّ على غير هدى ومعك من الشر ما يكفيك، "بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ"، (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، من يهمز بعينه ومن يلمز بلسانه (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
منهم المغترّون بظواهر الحياة الدنيا (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ) - ليرمينّ- (فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ).
فأقيموا الميزان.. ولا تطغوا في الميزان.. ولا تُخسروا الميزان، فيما تُعاملون به الرحمن؛ في أقوالكم وأفعالكم وما تصبحون وتمسون فيه.
نزِّهوا قلوبكم وأعضاءَكم ودياركم وأجهِزتكم عما لا يُرضي علام الغيوب، عما لا يُرضي مَن نواصيكُم بيده، وعما لا يُرضي مَن مرجعكم إليه، واغنموا الحياة فيمن أمتع الله به يوماً أو يومين وما إلى ذلك، وما هي إلا ليلة بعد ليلة، ويوم إلى يوم، وشهر إلى شهر؛
مراحل يُدنينَ الجديد إلى البِلى ** ويوصلنَ أعضاء الأنام إلى القبرِ
ويترُكن أزواج الغيور لغيرهِ ** ويسلُبنَ ما يحوي الشحيح من الوَفرِ
أيها المؤمنون،، وفي كل يوم نودع صغيراً وكبيراً وذكراً وأنثى من بيننا يتقدمون إلى ما نحن به لاحقون، فالغنيمة الغنيمة لليالي والأيام لِكُلِّ ذي وَعي وفهم؛ ليستقيم على منهاج الله، ويَقوم بشرعه في نفسه وأسرته وأهله وأولاده، ويُحكِمَ أعضاءهُ بزمام القلب الذي يخاف الله ويخشى الرجوع إليه والمصير إليه.
ولما سُئِل الإمام الشافعي عن مسألة سكت، فأُعيد عليه السؤال فسكت، فقال بعض من بجانبه: ما لك تسكت؟ قال: "أصبر حتى أُفكر وأرى الخير لي عند الله؛ أن أُجيب فأجيب أو أن أسكت فأسكت"، إنما أطلب الخير لي عند الله فيما أقول وفيما أصمت.
أيها المؤمنون،، تهذيبٌ به هُذِّبنا على لسان صاحب الرسالة ﷺ، يجب أن يَحيا هذا التهذيب فينا وفي أُسرنا وأهلينا، فقد سُلّم الزمام للكثير لما يُلقى إليهم من قِبل الغافلين والمارقين والفاسقين.
أيها المؤمنون، استقامة الفردِ: سَبب لرفع البلاء، سبب لنصرة المظلومين من المسلمين.
وإصرار المصرّ على المعصية: سبب لتسلُّط الكفار والأشرار، وسببٌ لبطء الفرج والتفريج للكروب.
ألا فاسألوا بقلوبكم وألسنتكم وبمعاملاتكم الفرج من الله واللطف لكم ولأمة هذا الحبيب ﷺ.
فقد صارت الأخبار تنقُل إليكم في كل يوم حوادث غريبة؛ منها ما تجدّد من الظاهر الجلي الواضح من الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، ومن تَقَصُّد الأبرياء والعزل والمساجد والمستشفيات والنساء والأطفال وغير ذلك.
ومنها ما كان مُقدِّمة لذلك وكثير لا يشعرون به؛ من غفلات انتشرت في بيوتنا ومن تطاول بألسنتنا وأفعالنا على شرع الله ومنهاجه وعلى المؤمنين من عباد الله، ومن بغضاء وشحناء سكنت قلوب الكثير من المؤمنين، ومن غفلة وتساهل أوقع العديد من أبناء وبنات المسلمين في المحرمات؛ منظورات ومسموعات وفي تناول المخدرات، في غفلةٍ من الأب وغفلةٍ من الأم لا عذر لهما فيها، ولا بد أن يُسألا عن بنيهم وبناتهم.
أيها المؤمنون، أقيموا تقوى الله واغنموا الأيام والليالي، وأعِدّوا العُدة للقائه تعالى في علاه، فمصيرنا إليه وعرضنا يكون عليه، ووقوفنا غدًا بين يديه.
اللهم أكرمنا باغتنام الحياة، وارزقنا خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، وقِنا شر الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما، واجعلنا من المتَزوّدين بخيرِ زاد والمُتهَيِّئين لدار المعاد، يا كريم يا جواد.
وأكثروا الصلاة والسلام على خير العباد، أكرم داعٍ ومعلمٍ وهادٍ، الشفيع الأعظم في يوم التناد، عبد الله وحبيبه محمد ﷺ، فإن رب العرش يصلي على من صلى على عبده المصطفى بكل صلاة واحدة عشر صلوات، وإنّ أولانا به يوم القيامة أكثرُنا عليه صلاة.
ولقد أمرنا الله فابتدأ بنفسه وثنّى بالملائكة وأيّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبرًا وآمِرًا لهم تكريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المهداة والنِّعمة المُسداة والسراج المنير، عبدك المصطفى سيدنا محمد.
وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسهِ في الغار، مؤازرهِ في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب حليف المحراب، المُنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، ومُنفق الأموال ابتغاء وجه المنان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخِ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانة نبيك بِنَص السنة.
وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا.
وعلى الحمزة والعباس، وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس.
وعلى أهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وعلى سائر الصحب الأكرمين، وأهل البيت الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألِّف ذات بين المؤمنين، اللهم أيقظ قلوب أهل الدين وارزقهم الاستعداد للقاء والتمسك بحبل التُّقى.
اللهم وارفع عنهم البأساء والشقاء وموجبات الخزي في الدنيا وفي دار اللقاء.
اللهم ألِّف ذات بين أهل "لا إله إلا الله" وحققهم بحقائق "لا إله إلا الله"، واحشرنا وإياهم في زمرة خواص أهل "لا إله إلا الله".
اللهم رُد كيد المعتدين والغاصبين والظالمين من الصهاينة ومن أعانهم، وشتِّت شملهم، وفرّق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم واشْغِلهم بأنفسهم واكفِ المسلمين جميع شرورهم.
اللهم إنّهم قد اعتدوا وطغوا وبغوا، وأنت القوي القادر، يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا مُنشئ السحاب، يا هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، واكفِ المسلمين جميع شرور المعتدين يا حي يا قيوم.
اللهم تدارك الأمة، اللـهُم اكشِف الغمة، اللـهُم أجْلِ الظلمة، اللهم ادفع النقمة، اللـهُم ابسط بساط الرحمة، اللهم والِ علينا النعمة، اللـهُم كُن لنا بما أنت أهله في كل مهمة.
اللـهُم اسلك بنا سبيل المصطفى محمد ﷺ ومنهجه الأرشد في كل غيب ومشهد، واغفر للمتقدمين في مساجدنا هذه ومدننا وُبلداننا، واجمعنا بهم في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدُكَ ونبيُّكَ وسيدُنا محمد ﷺ، ونعوذ بك من شر ما استعاذ به عبدُكَ ونبيُّكَ وسيدُنا محمد ﷺ، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عبادَ الله.. إنَّ اللَّهَ أمر بثلاثٍ ونهى عن ثلاثٍ:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا اللَّه العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر اللَّه أكبر.
17 ربيع الثاني 1446