تفسير سورة المطففين -7- تتمة السورة

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33))
ساعة طلوع الشَّمس؛ أطلعَ الله شُموسَ اليقين والمعرفة والمحبة في قلوبنا، ولا غربت عنَّا أبدًا.. عند طلوع الشمس لله عُتقاء من النّار، وكُنَّا نتحدَّث عن العشر الأواخر، والآن معنا الخمسة الأواخر، عسى القبول والبركة فيها، وحُسن اغتنامها يا أرحم الراحمين، والأعمال بخواتيمها.
الحمد لله مُنزل القرآن؛ بالهدى والبيان والدّلالة على الحقّ، وإيضاح وجهه، والتحذير من الباطل والزيغ والعصيان، على لسان سيد الأكوان، وجعل القرآن مُهيمنًا على جميع الكتب، كما جعل المُنزَل عليه مُقدمًا على جميع الرُّسل، فأدم اللهم صلواتك على المخصوص بوحيك الأعلى، وسرّك الأسمى، وقربك الأجل، وفضلك الأجزل؛ عبدك المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى من سار في دربهم إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتك المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإنَّا في حُلَل توفيق الله إيّانا، نقفُ في ساحات التّعرُّض لنفحاته وهباته وعطياته ونظراته ومنوحاته وفتوحاته وتكرُّماته وتجلّياته الكريمة في الشهر الكريم، في صُبح كل يوم من هذه الأيام؛ نتأمّل كلامه ونظامه وخطابه ووحيه وتنزيله، وتَنزُّله علينا وتفضله وتطوّله بهذا الخطاب وهذا الكلام وهذا الوحي، فلله الحمد على ما تنزل وعلى ما أنزل وعلى ما أرسل وعلى ما وفَّق وعلى ما جمع وعلى ما نفع، ويرفع من شاء أنْ يرفع.
اللهم ارفعنا عندك عليّ الدرجات يا رفيع الدرجات يا ذا العرش يا من (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر:15-16] وينادي مناديه: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (لمن الملك اليوم) وأهل السماوات والأرض قد ماتوا، فيقول الحق: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]؛ الذي قهر عباده بالموت، الله حي لا يموت، والإنس والجن يموتون يموتون..
فاجعل برب العرش عزك يستقر ويثبت *** فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
تأمَّلنا معاني في كلام ربّنا حتى انتهينا إلى ذكره؛ الرحيق المختوم والمُِزاج من التسنيم -العين التي يشرب بها المقرّبون- وقد روى الإمام أحمد والبيهقي وغيره: "ما من مؤمن يسقي مؤمنا شربة على ظمأ؛ إلا سقاه الله من الرحيق المختوم" -سبحان الله-.
- وقد رأيتُ بعض أهل الفضل والعلم والصّلاح، الشيخ مازن بن أبي بكر بافضل -عليه رحمة الله- مَرَّ في الشارع بقِربة ماء، يُعلِّقها بعض أهل البيوت في الشارع لمن أراد أن يمر، وكُنا أطفال نشرب، ناولونا من عندكم.. قال، وكان من أدبه وتواضعه يقول: أشربوا أنتم أولًا، فأخذنا نَصُب، قال: صُب قليل، أردنا فقط من الشُرب إدخال الفضيلة لأهل هذا البيت فقط؛ من شأن أهل القِربة هذه التي وضعوها في الشارع، ما قصدي أن يشربها! أردت أن أدخل لهم الفضل، يدخل لهم الثواب؛ فأنا سأشرب فقط من شأن هذا! قال: أردنا أن ندخل الفضيلة لأهل هذا الماء الذي سَبّلوه!! فكان هكذا أخيار الناس، يُراعون إدخال الفضل للآخرين، وإيصال الثواب إلى الآخرين؛ حِرصًا على العباد ورحمةًة بهم.
فلما توفي سمعتُ الحبيب محمد بن علوي بن شهاب يثني عليه ويقول: "غطّى ما عنده من الفضائل والعلم؛ بالتواضع.. وإنَّ آخر الزمان يَنتقي ربُّك خيار النّاس"، ذكَّر بهذا في المولد في مسجد سرور، ثم حضر التسبيح له في مسجد الوِعل، ثم مشينا معه في اليوم الثاني إلى المسيلة في اجتماع حَولية -الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر- فتوفي -الحبيب محمد بن علوي- عام ألف وأربعمائة، يعني قبل -سبع وثلاثين سنة- والحمد لله على ما قضى وقَدّر، والقوم الذين نذكرهم فيهم
- وصفَ الأبرار بأنهم (ما يُؤذون حتى الذر)؛ الله أكبر!!
- حتى الأرض يمشون عليها هونًا.
- ولا يُضمر لمسلم غِشًا ولا ضُرًا.
وهكذا كان بعض الذين أخذهم الإغترار بزخارف الدنيا ومظاهرها وقُواها المادّية والعسكرية والسياسية في ذلك الوقت، فدخل مع الشُّيوعيَّة يُؤذي الحبيب محمد ويتعمّد أذاه -بأنواع من الأذايا عُرف ذلك في البلد- ؛ ثم أُصيب بما أُصيب وتوفي.
فجاء أخوه إلى -الحبيب محمد- ويُقدم رِجل ويُؤخر أخرى، يقول: "ما عندي وجه، هذا أخي هذا آذى الحبيب تَعمّد أذاهُ، بأنواع من الأذى، أمره مفهوم معروف منشور بين الناس، سأقول له: الآن تعال صلِّ على أخي الذي كان يُؤذيك، مناسب ما هو مناسب؟! قال: سأكلمهُ، إنْ جاء فهو أفضل، وإن لم يأتِ، فإن أخي لا يستاهل.
فدخل إلى بيتهم واستقبلهُ: "مرحبًا، أهلًا وسهلاً.. أجلس، جئتَ في ساعة متأخرة! عسى ما أحد به شيء"؟ قال: أخي فلان توفي، قال: الله يرحمه. قال: أردناك أن تأتي وتحضر الصلاة، قال: مرحبا، قَبل الصلاة عليه سأذهب إلى البيت عندكم؛ وسأحضر العزاء، وسأخرج بعد ذلك إلى محل الصلاة، يقول:لا أصدِّق نفسي!! حتى يقول: أصبر قليلاً؛ فدخل وأحضر بعض فلوس دريهمات، قال: يمكن محتاجين لها من أجل تأتي مساعدة لكم، وخرجت في الدرَج وأنا أجري، ما أنا مصدق نفسي!! ما هذه الأخلاق؟ وماهؤلاء القوم؟!
ماقال: هذا الذي كان يستهزئ بي، هذا الذي كان يؤذينا، هذا الذي كان يمنعهم أن يُناولونا الدفتر، إذا جئت أكتب إسمي في التّسجيل -أيام الإقامة الجبرية- ويُعاتب الذين يناولونه، يقول: اجعلوه يخرج من السيارة ويحمله بنفسه، والفاعل والتَّارك إلى غير ذلك ما ذكر شيء من هذا؟! ولكن قال: سأذهب إلى بيتهم، وبعد ذلك سأخرج إلى الجبّانة؛ من شأن الصلاة عليه أو الجامع، وتعجبوا! قالوا: فعلاً جاء في اليوم الثاني، ومرّ علينا إلى البيت، يعزينا وخرج إلى محل الصلاة وصلى عليه.
وهكذا شأن الأبرار: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26))، ثم ذكر لنا الحق شؤونًا كثيرة من مراحل هذه الحياة مما يحصل بين الناس في هذه الدنيا، وهي مراحل مُتكررة لا يخلو منها زمان:
- مجرمون على ظهر الأرض في كل زمان
- يستهزؤون بالصالحين،
- ويتكلمون على الصالحين
هذه وقائع في حياتنا ومراحل يَمُرُّ بها الناس، متكررة موجودة في مختلف الأزمنة، ومن جُملتها: خير الزّمن (زمن نبينا محمد ﷺ) ففيه هذا الصنف
- وكانوا يستهزؤون بمن يأتي إلى عند النبي محمد ويضحكون عليه،
- ويتغامزون عليهم إذا مروا .ويسبونهم؛
هذه السُّنة؛ الله يتحدث عنها!! وظاهرها يذكرها في كتابه، وهي متكررة تكاد تكون دائمة! كلما ذهبت طائفة لحِقتهم أخرى على نفس النمط..
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29))، (كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) إستهزاءًا واستخفافًا واحتقارًا وتكبرًا وتَرفُّعًا، (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ) -مشوا أمامهم في الطريق- (يَتَغَامَزُونَ (30)) انظر كيف هذا!! يتكلمون عليهم، ويلمزونهم؛ بعيونهم وبأنوفهم وبألسنتهم، يضحكون (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا) رجعوا من مجلسهم الذي كانوا فيه، يضحكون على المؤمنين (انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)):
- معجبين بكفرهم وما هم فيه،
- أو فاكهين؛ متفكهين بالخوض في أعراض هؤلاء وسبهم والحطّ منهم.
(فَكِهِينَ) و (فاكهين):
- (فَكِهِينَ): مُعجبين.
- (فاكهين): متفكهين بِسَبّ القوم والكلام عليهم، فهم معجبون بكفرهم، ومتندِّرين على هؤلاء المؤمنين ويضحكون عليهم.
هكذا حال مؤمنين ومُجرمين، في كُلّ زمان يوجد مؤمنون ومجرمون: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)) من في عمرنا القصير مرَّت عليهم، كان مظاهر من مظاهر أهل الإجرام؛
- يُسَمُّون الدِّين: "أفيون الشعوب"، يضحكون عليهم،
- وظهرت في المراحل التي مَرَّت في عُمرنا القصير هذا، من يُسمون أهل العلم وأهل الخير: "الكهنوت"،
- مَرّت معنا أيضا وسمعنا في مراحلنا القصيرة من يُسمون آل الدين: "رجعيين، الرجعيين".
وألقاب أخرى سمعناه بآذاننا أطلقوها عليهم في الدنيا، وكانت تتبناها أحزاب واتجاهات وقوى ودول وحكومات؛ تتبنى إطلاق هذه الألفاظ على العلماء وعلى الصلحاء، وبأعيُننا رَأينا عواقِب هؤلاء وعواقب هؤلاء! وبأعيننا رأينا من خلف هؤلاء ومن خلف هُؤلاء! وبأعيننا رأينا عاقبة من خلف من هؤلاء بعضهم ببعض! الذي خلفوا هؤلاء وبعض الذين خلفوا هؤلاء، وانتهوا أيضًا وراحت عواقبهم؛ عبرة! وما رأينا حقيقة العزة؛ إلا مع المؤمنين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8] -الله-.
ممن تَلفَّظ على الوالد -عليه رحمة الله تعالى- بألفاظ وهو يدعو إلى الله تعالى، وتَقلَّد أمانة التصريح بالدعوة في وقت البطش والانتقام والشدة والخوف، ويقول: إلى متى هذا ينهق؟ كان حاضرا في المسجد، يقول:سنصلي وسنذهب، يكفيه من نهيق، وأنهى كلامهُ -الوالد- وكان مما حصل بالنسبة للفرد هذا، بعد الخروج من المسجد والرجوع إلى البيت؛ بات ينهق في بيته مُتغير، وكأنه حيوان وليس انسان! وتوفي في اليوم الثاني.
سَمِعتُ بعض الذين يذكرون للوالد الواقعة، يقول: أنا ما سمعت أحد ولا.. ما أَحبًَّ أن يلتفت إلى الكلام، وعُملت الخطَّة لإختطافه! فأين الذين دبّروا اختطافه واختطفوه اليوم؟ مِن كل مَنْ له ضلع في هذا صغير أو كبير، أين هو من هذا المجلس وهذا المظهر؟ هذا الذي اختطفتموه؛ هذه آثاره! فمن كان العزيز؟ ما كان بيده سلطة، السُّلطة بيد الآخرين الذين خطَّطوا لإختطافه، ما كان مُستَنِد لا إلى حزب، ولا إلى حكومة، وكانوا مُستندين إلى حزب وإلى دولة، وكانت الدَّولة مُستندة إلى دولة أخرى من كبار الدول على ما يُقال في عالم الحسّ والمادة، فالذين اعتمدوا على الدولة والدولة معتمدة على دولة كبرى، وصار مصيرهم الآن لمّا تذكرهم؛ لا أحد حتى يذكرهم بالخير! لا أحد يذكرهم! وآثار هؤلاء متجددة بارزة قائمة! -الله أكبر-.
هذا بعض ما شَهِدنا في أعمارِنا القصيرة! فكم كان قبلنا؟! ويكاد أيضًا التَّاريخ يكرّر نفسه بنفسه فيما يأتي بعدنا؛ فالفوز لمن ارتبط بالعزيز القوي الدائم الباقي الحكيم الحميد الحي القيوم الواحد: الله.. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
وفي دول كذلك أخرى من الدّول العربية، وغير العربية في خلال -فترة أعمارنا القصيرة هذه- كان مرّت بها كذلك مراحل وأحوال وكلام وو... وكلّها عِبَر، وكلّها تنتهي إلى هذه الحقيقة! وموجودٌ أهلِ الإجرام؛ الذين يضحكون من الذين آمنوا.
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)) سمعنا مثل ألفاظ المغفلة من هذا وهذا زمان أول، هذا من الكلام الفارغ القديم، ما يعرف هذا ما هو، وإلى غير ذلك من الألفاظ التي سمعناها.. وربما تتجدد من وقت إلى آخر، وتأتي بأشكال وبألفاظ أيضا متنوعة إلى وقتنا هذا، في أعداد كثيرة موجودة على مستوى أفراد وجماعات في العالم؛ مُستهزئين؛ إمّا بطوائف المؤمنين على العموم، أو ببعض طوائف المؤمنين ويضحكون منها، والسُّنة قائمة.
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)) أو (انقَلَبُوا فَاكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)) يُنسبونهم إلى الضلال، ينسبونهم إلى الفساد، الملأ المُقربين الكبار من قوم فرعون (أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يفسدوا.. ماهو عمل موسى؟ حتى يُفسد! هو موسى الذي قَتَّل أو أنتم؟ موسى اضطهد الخلق وآذاهم وقهرهم، أو أنتم؟ أين الفساد؟ (أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127]، وبعد مدة من ذلك الكلام في الماء: (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90] أين الكلام هذا؟ .. هذا الأمر مُتكرر في واقع البشر؛ مع قِلّة المُدّكِّر، مع قِلّة المُعتبِر، مع قِلّة مع قلة المتذكّر، وإلا الكلام هو نفسه.. هو توه قائم ومتردد ومتكرر في حياتنا وحياة البشرية..
يقول: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)) يقول الله: أقل القليل، أقل القليل: أن تحفظوا ألفاظكم، وتنتهجوا النهج الذي تريدونه ولو بمخالفة هؤلاء؛ ولكن لا تجعلون أنفسكم أهل السيطرة عليهم، وأهل السلطنة، وكأنكم وُكِّلتُم بهؤلاء النّاس.
الحق قال: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)) لا أحد وكّلهم! يقولون: هذا فِعْل وهذا تَرْك، وهم ليسوا مسؤولين عليهم، ولكن هكذا يفعل المجرمون! فنرى هذا، على الآحاد والأفراد، وعلى الدول عندنا، والدول الكبرى أيضا والدول الصغرى، يأتي يقول: البلد الفلاني فيه كذا كذا.. نحن لا بد نتدخل نصلح كذا كذا.
(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)) أقل شيء إن القوانين التي تتحدثون بها تقولون عنها؛ لا أحد يَتدخّل في الشؤون الداخلية، لكل دولة ذات استقلال، اقعدوا في دولتكم، ولكنهم وقت المصالح ووقت الأغراض، يقولون: نحن نريد أن نُنقذ هذا الشّعب، ماذا عملوا؟! -بسم الله الرحمن الرحيم- كان الشّعب يشكو من مآسي قليلة، وعنده استقرارت كثيرة، وخيرات كثيرة؛ مادية ودينية واجتماعية وعسكرية، وما إلى ذلك.. بعد ما جاؤوا ينقذونه؛ صارت المآسي أضعاف مُضاعفة! والقوى روّحت! والشعوب تفتّتت..!! يا جماعة اقعدوا في بلادكم، اتركوا عباد الله وبلدانهم وأماكنهم.
(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)) مَن وَكّلكم على العباد؟! أنتم من وكّلكم على الشعوب كلها وعلى الأمة؟ هُم مِنْ أنفسهم يجعلون من أنفسهم، وكالات خيالات، أوهام وضلال.. ويقولون: (إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)) ماذا بعد ذلك؟ بعضهم أحيانا يُصرّح؛ ويُعِدُّونه من المسؤولين الكبار! يقول حيث مصلحتنا نتصرَّف! هل هذا منطق؟ ثقافة تقدّم، حريّة، تطوّر؟! هذا الكلام، هل هو لائق بالقرن الحادي والعشرين على قولكم؟! هكذا!!
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)) وتسعى من أجل المغامزات؛ وصارت وسائل إعلامية، ووسائل تواصل اجتماعي، وصارت صور، وصارت أشياء، وصارت رسوم يعملونها وينشرونها هنا وهناك (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31) ) يضحكون، (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)) هذا الضَّلال عندكم؟!
- ومَنْ هو الضَّال عندهم؟! الضَّال عندهم: أي أحد يقف أمام مصالحهم ومراداتهم -ولو كانت بالباطل ولو كانت على حساب الآخرين- هذا ضال - الله-
- مَنْ الصَّالح عندهم؟ الذي يمشي تحت أرجاهم وعلى كيفهم؛ هذا صالح!
ما هذه الموازين هذه؟! هذه موازين الحضارة.. -إنّا لله- حضارة وإلّا حقارة؟ ما علمنا كيف هذه الحضارة! قل للمُغترّين بهذه الحضارات؛ العجماء الصماء البكماء الجوفاء المادية البحتة، لا أقام فيها عدل، ولا أقام فيها استقامة، ولا أقام فيها إنصاف، وماذا عملت بالواقع سواءً في بلدانهم أو في العالم، ماذا عملوا؟.
يقول تعالى: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)) يقول: ما وكّلناكم بهم، الله يُخاطب -الرب- حتى أهل الحق، يقول لهم: بيّنوا واستقيموا وتعاملوا بما شرعنا لكم، وما أنتم وكلاء، ولا أنتم حافظين، ولا أمرهم إليكم؛ حتى للأنبياء يقول هكذا! (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية:21-22] لا تعمل نفسك بين البشر كأنّك إله.. ربّ.
تمشي مكان وتعمل كذا.. هذا منطق؟ ليس بمنطق؛ هذا مرفوض بكل المقاييس، هذا الذي يدعو إليه الإسلام، فجاؤوا - هؤلاء الذين يدّعون الحضارة- يسبّون الإسلام، يتكلمون على الإسلام، ويقمعون الخلائق، ويلوون أعناق الناس ويضربونهم -عيب عليكم- ما هذا عقل! ما هذا منطق! ما هذه إنسانية! ما هذا شرف!
والإسلام يقول حتى -للأنبياء والرسل-: عليكم تذكير، عليكم تنبيه، عليكم توجيه، من قاتلكم قاتلوه؛ وإذا قاتلتموهم؛ لا تقتلوا الطفل، لا تقتلوا امرأة، لا تقتلوا مُدْبِر، لا تُمثّلوا بأحد.. انظر إلى العَظَمة هذه في دين الله، وماذا معهم هم في أنظمتهم! (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156]
إذا أردت حضارة -القرن الحادي والعشرين- لو قليل كم أسئلة لغوانتانامو فقط وحدها وتُريك كيف الحضارة! كيف الإنسانية! كيف التقدم! والناس مغمضين أعينهم وكأنهم لا يرون! هذا الهدى، هذا الحق وحده، هذا النور، هذا الصواب، هذا الحق ما عداه؛ باطل باطل باطل (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33)).
يقول الله: هكذا يجري في الحياة، فأحدّثكم عمّا سيجري بعد الحياة (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)) وجاءت على وجه المُقابلة، وفرق ما بين الفريقين؛ كبير، الفرق بين الفريقين: كبير..
- هؤلاء كانوا يضحكون إستهزاءً واستخفافًا وتكبرًا واحتقارًا.
- وهؤلاء اليوم يضحكون تَعجُّبًا وترثيًا، وشكرًا للذي سلّمهم من هذه المبادئ التي كان عليها هؤلاء، وتَعجُّبًا من هذه المبادئ التي كانوا يُصرّون عليها، لماذا أوصلتهم؟ إلى ماذا أوصلتهم؟ وما كانت عواقبهم ونهايتهم؟
فما الضحك مثل الضحك، فرق كبير! .. كانوا هؤلاء يستهزؤون ويضحكون ويتكبرون، لكن أولائك لا يتكبرون، فإنه ما يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر، لا يتكبرون؛ ولكن يتحسرون على هؤلاء وما فوّتوا، ويحمدون الله (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:57] أنتم كنتم تقولون كذا؟ كنتم تقولون كذا؟ فهم يضحكون على هذه العقليات، وهذه المبادىء الفاسدات، وهذه الخطط الخبيثات؛ التي ارتضاها لنفسهم هؤلاء.
(الْيَوْمَ) -اليوم في القيامة ثُمّ في الجنّة- (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)) فيُرَون عواقب الذي كانوا يضحكون عليكم.. كانوا يستهزؤون بكم ويُعاندونكم في الحياة الدنيا، وكيف لو اتبعتموهم ومشيتم معهم؟ انظروا كيف حالهم، وكيف حالكم؟ فيحمدون الله تعالى ويتعجّبون من هؤلاء، ولماذا ارتَضَوا لنفسهم بهذا المصير وهذه العاقبة.
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ) -قد عرفتَ الأريكة- (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35)) فالنظر إذًا مُمتد.. ينظرون إلى عواقب من آذاهم، ومن استهزأ بهم، ومن ضحك عليهم في الدنيا، ويَتيقَّنون أنَّ الحقّ هو الذي قال الله ورسوله، وكانوا يُودّون لأولئك، لو أنقذوا أنفُسَهم، كما قال -الله- عن الذي مات، ممن قتله أصحاب -القرية أنطاكية- التي أرسل إليهم اثنين وعزّز بثالث:
- (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ)، أنت تتبع الأنبياء هؤلاء؟ تتبع هؤلاء الذين جاؤوا؟ تُوحِّد الله؟ قال: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [يس:21-24] أنت هكذا؟ اقتلوه!
- (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) فلمّا دخل الجنة؛ ماذا عمل؟ (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)؛ فيُنقِذون أنفُسهم ويرجعون يَغنموا هذه الكرامة! لا يُصرّون على مُعاداة الأنبياء والرسل ويُهلكون إلى النار! (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27].
قال ابن عباس أو غيره: " نَصَحهُم حيّ، نَصَحهُم ميّت"! قال: حتى وهو ميت تمنّى أنَّهم يعرفون الحقيقة! (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27]. قال الله:
- (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) [يس:28-29] يعني؛ لمّا نُريد أن نُهلك قوم؛ لا نحتاج أن نأتي بجنود وعساكر، ونُزُل من السّماء وملائكة
- (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ) [يس:28] يعني، هلاك الخلق علينا يسير وسهل، لا يحتاج إلى مُعالجة، هي فقط كلمة واحدة: (كُن فَيَكُونُ) [يس:82] انتهى الأمر؛ إن كانت زلزلة، إن كانت صيحة، إن كان غرق، إن كان طوفان، أي شيء يهلكهم مباشرة -سبحان الله، سبحان القوي-!
- (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165] كُلها القوة له، وهو القوي وحده -سبحانه وتعالى- يقول: (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [يس:29-30]، لا إله إلا الله.
وكم قد أهلك الله من طوائف ومن أمم، وهكذا الأمر يتكرر! مثل الذي يغترّ بأي نوع من المعاصي ويسترسل فيه يتوب ويرجع، يتوب ويرجع، الى أن يَطبع على قلبه -والعياذ بالله- ويذهب الى الهاوية!! ما يَعقل، لو عقل إلى مسلك الأصفياء والأتقياء؛ خير له وأفضل وأنقى وأتقى.. ولكن يهدي الله من يشاء، ويضلُّ من يشاء..
اللهم اهدنا فيمن هديت، ولا تكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، إنّك إن تكلنا إلى أنفسنا؛ تكلنا إلى؛ نقص وعجز وضعف وعورة، ولكن إذا تولّيتنا أنت؛ أصلحتنا ووفقتنا وحميتنا وحرستنا وهديتنا وأخذت بأيدينا وسلّمتنا؛ من المصائب والمصاعب والمتاعب كلها.. تولنا فيمن توليت "اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت" يا أكرم الأكرمين.
يقول: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35)):
- ينظرون أيضا إلى النّعيم الذي أعدّه الله لهم،
- ينظرون إلى أزواجهم في الجنة،
- وينظرون إلى أنواع الأشجار والأنهار وما أوتوا في الجنة
- وينظرون إلى وجه ربهم الكريم..
فما أعجب نظر أهل الأرائك هؤلاء!! (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24))
يقول لله -تبارك وتعالى- بعد هذا كله: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36))؟ هل وصَلَهم الجَزاء على ما كانوا يتبخترون به؟ ويتبجحّون به؟ ويتكلمون عليه؟ ويؤذون الآخرين ويظلمون الحقوق؟ هل وصلهم الجزاء أو ما وصل؟ في ذلك اليوم كل واحد عرف محله ومكانه وجزاءه.
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)) بل هؤلاء، كلما نظر أحدهم إليهم يقول بعضهم: والله لقد جوزِيَ هؤلاء بما فعلوا.. والله لقد جوزِيِ هؤلاء. (هَلْ ثُوِّبَ)؟ جوزِيَ وحوسِبَ وعوقِبَ (الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)) نعم حلّ بهم ما كانوا يفعلون -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وما كانوا يعملون؛ فويلٌ لهم ولما عملوا، وويلٌ لمصيرهم ومئابهم -أعاذنا الله- من كل سوء.
- ويقال لهم: (لَّا تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُورًا وَٰحِدًا وَٱدْعُواْ ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:14]،
- والآخرون يقولون: (وَقَالُوا۟ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِیۤ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورࣱ شَكُورٌ* ٱلَّذِیۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا یَمَسُّنَا فِیهَا نَصَبࣱ وَلَا یَمَسُّنَا فِیهَا لُغُوبࣱ) [فاطر:34-35].
قال تعالى: (وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍۢ) في القيامة (مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ) ملَك أمام، ملك خلف؛ ما تدري (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا) [ق:21-22] الله حَدَّثك، والأنبياء حدثوك لكن أنت بقيت في الدنيا تسمع مايقوله الناس، وما أنت ملتفت لكلام الله ورسوله! (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ)، وهمك وخيالك وإباءك وميلك إلى الشهوات، اذهب الآن لها، انظر مافي أمامك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)، قرناء وأصدقاء مع بعضهم وأصحاب (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق:22-23] حاضر.
يقول الله: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) [ق:24-26] وقرينه الثاني -شيطانه-: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) هو يقول: أنا أطغيته وأنا أضللته! (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ* قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ) رسل جاؤوا وخُتِموا بمحمد، انتهت المسألة، الكلام واضح بَيّن (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) [ق:24-30] وأيضًا تريد مزيد! كم فيها؟ من بني آدم في كل ألف؛ تسع مئة وتسع وتسعين إلى النار؛ واحد إلى الجنة، وتريد مزيد أوه!! فيتجلّى الجبار عليها، فتقول: يكفينا، وإلّا ما تكتفي!! وقد أخذتْ من آل بني آدم في كل ألف، تسع مئة وتسع وتسعين؛ واحد إلى الجنة! وماتكتفي! وتقول: (هَلْ مِن مَّزِيدٍ).
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) -مُحافظ على مسلكه وعلى سمعه وبصره وعلى قلبه (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) [ق:31-33] حيث لا يراها إلّا الله.
وأما الذي يعمل المعصية يأتي ويُغالط، يكذب على أبيه، يكذب على صاحبه، يكذب على شرطة، يكذب على جماعة؛ وظنيت نفسك تخلَّصت أو ماذا؟! الحساب أمامك ما في خلاص.. من قال إنّك تخلَّصت يا أبله؟! يا مغفل؟ الحساب أمامك ما تخلصت! ظنيت نفسك تخلصت؟ تَحَيَّلت على قانون.. كذبت على أب.. كذبت على مسؤول، ما تخلّصت! من قال لك تخّلصت؟ عثرتك أمامك.. وحسابك أمامك.. بل تزيد لنفسك سوء -والعياذ بالله تعالى- (هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:32-37].
وتغيَّرت الأوضاع الآن في كثير من الأنحاء في العالم في كثير من الاتجاهات؛ ولكن الأشياء تتكرر بمُسميات أخرى، وباتجاهات أخرى، ففي تلك الفترة كان الذين يتكلَّمون على الدين، رؤساءهم الذين في المُعسكر الشرقي -على قولهم- في طوائف من شعوبهم خرَّجوا صُورهم وحرَّقوها! وكانت مُعظَّمة مُبَجَّلة مدة ثمانين سنة، أو زيادة، وبعد ذلك جاءوا إليها وحرَّقوها، وداسوها بأرجُلهم، بحيث إنَّهم هم الذين ذهبوا بالبلد إلى الداهية!!
وفي بداية، عندما وضعوا النظام، كانوا يقولون؛ سنحوِّل الدّنيا الى جنَّة! نحن نعرف أن هناك جنَّة عند الله ورسوله، وجنَّة عند الدَّجَاجِلة، وهذه جنَّة الدّجاجِلة ترجع هكذا، يقولون جنّة وهي نار! وتصبح شعوبهم تعبت، وتغيرت الأحوال هناك في روسيا نفسها، وكان القائِمون في البلد عندنا معتمدين على هنالك، وحصل ما حصل.. سُحِل كثير من أهل الخير، من أهل العلم، من أهل الصلاح؛ كانوا يسحبونهم بالحِبال هكذا في الشوارع أمام الناس، وشاء الحقّ -تعالى- ما تمرّ بنا الأيام نحن الذين شاهدنا أيّام الخوف وأيّام الشِّدة.
وكان يُعاتبني بعض أهل العلم يوم رَأونا حامل كتابي هكذا في الشارع؛ رجعت من الرّوحة من عند الحبيب -محمد بن علوي بن شهاب-، وكان يمرّ بعض أهل المسؤوليّة هناك ويتكلّمون؛ وأنا حامل كتابي وأتعجّب فيهم! فجاءنا يقول لي: بكتابك أمام هؤلاء؟ تريدهم أن يعملوا لنا مشكلة؟ أما تخفي الكتاب؟ اذهب بسرعة.. لماذا تظهر كتابك أمامهم؟! .. الخوف الذي كان في الناس وكان خطر أن يظهر كتاب من كتب الدين! فكنا نذهب الى بيوت بعض أهل العلم خُفية؛ من أجل القراءة عليهم!.
ما تمر بنا الأيام، إلا وبأنفسنا أتينا إلى بعض ولايات روسيا، ونزلنا إلى ولاية -الشيشان- ونجد الاستقبال والتَّكريم والحفاوة والمنائر أمامنا! والأذان يقول: الله أكبر -عجيب-!! ونعقد المحاضرات ونعقد المجالس ويقول: تعالوا، هؤلاء الذين كانوا وصل أثرهم إلى عندكم الآن، وأنتم في الحياة الدنيا، ترون أماكن تابعة لهم تُقيمون فيها هذا الدين وهذه المحاضرات، وتذكرون فيها مسلك الأخيار الذي يسحلوهم والذي قتلوهم -سبحان الله- فتعجبت!!.
ودخلنا وأتينا إلى جامعة هناك؛ مبنية فيها كلية للشريعة، يدرسون فيها المنهاج -الإمام النووي- وكتبنا الذي ندرسها في الشافعية.. ما هذا المكان؟! هذا المكان كان مطحنة. أي مطحنة؟ طاحونة. طاحونة ماذا؟ العلماء. أيه؟ كان يأتون بالعلماء ويطحنونهم هنا، ويُخرجون عظامهم مطحونة إلى البحر هناك، في هذا المكان نفسه، وقامت جامعة تُدَّرس فيها كُتبنا، وتُدَرَّس فيها منهجنا، ويدرَّس فيها -الله أكبر-.
قال: هو هذا المحل الذي كانوا عملوه طاحونة للعلماء، وقبل -مئة وسبعين سنة- طحنوا كذا كذا عالم.. وطحنوا كذا كذا وليّ.. في هذه الطاحونة، والآن يتخرّج منه العلماء! وحضرنا حفل أول تَخرُّج، وحضرنا حفل في ذلك المكان..! هذه الأشياء الله يرينا إياها ونحن في العمر القصير هذا! في هذه الحياة الدنيا! والآخرة كيف؟ الآخرة كيف؟ (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
تَغيّر الأمر والآن أصبح رئيسهم، بدل "الدين أفيون الشعوب" أصبح رئيسهم على ديانة! كانت ديانة باطلة وعلى نصرانية؛ ولكن كان لا نصرانيّة ولا يهوديّة ولا إسلام، ولا أي معنى من معاني الديّن يقرّ، ولا أحد يقدر يرفع صوته به. وبعد هذا الطحن للعلماء، أراد أن يظهر -الله سبحانه وتعالى- ما شاء وصارت فيها ولايات أخرى، من الولايات المُسلمة؛ تُعقد فيها المجالس تُعقد فيها المؤتمرات للمسلمين يُعقد فيها.. سبحان القوي! سبحان القادر! وهذا بترتيب من؟ وتخطيط من؟ في شيء من الاتجاهات هذه خَطّط لأن يعود هذا؟ ولا شيء.. فمن الذي خطط إذًا؟ القوي القادر القاهر؛ الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ فلنجعل اعتمادنا عليه واستنادنا إليه.
ربي عليك اعتمادي *** كما إليك استنادي
صدقًا و أقصى مرادي *** رضائك الدائم الحال
يا ربّ يا ربّ إني *** أسألك العفو عني
ولم يخبّ فيك ظَنّي *** يا مالك الملك يا وال
يا أكرم الأكرمين *** يا أرحم الرّاحمين
يا ربّ يا ربّ الأرباب *** عبدك فقيرك على الباب
أتى وقد بتَّ الأسباب *** مستدركًا بعد ما مال
يا واسع الجود جودك *** الخير خيرك و عندك
فوق الذي رام عبدك *** فأدرك برحمتك في الحال
اللهم كما أرَيتنا هذه الخيرات، وهذه التَّدبيرات الرّبانيّة منك على ظهر الأرض؛ فأتمم النّعمة علينا بنشر نور الهدى في أقطار الأرض طولها والعرض، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اجعل فينا وفي من يسمعنا وفي من يتّصل بنا أنوار تتلألأ؛ ينتشر بها الحق وينتشر بها النور وينتشر بها الهدى في البرية؛ فتُدخل أعدادًا كثيرة إلى تحت راية الحمد، ولواء الحمد، ويردون على الحوض المورود، ويكون مأواهم جنّات الخلود اللهم أكرمنا بذلك، وزدنا زيادات وبركات وخيرات كثيرات يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
ونحن بين يديك، نحن ومن يسمعنا من طوائف الأرض والموجودون في هذا المكان من مختلف أقطار الأرض، في ظل كل هذه الأوضاع القائمة في الأرض، والاجتماع قائم على الوجهة إليك وعلى تأمل وحيِك وما أنزلته على نبيك؛ لتُظهره على الدين كله، لك الحمد، لك المنة أتمم النعمة علينا وعليهم وعلى الأمة في المشارق والمغرب، وأرنا دين نبيك منصورا عاليا في جميع البلدان في جميع الأقطار على رغم جميع الكفار العتاه الطاغين المارقين الصادين عنك وعن رسولك.
إلهنا وعجّل بنشر الهداية ومن سبقت عليهم منك الشقاوة، فلا تبديل لقولك، فادفع شرهم وضرهم عنّا وعن جميع المسلمين، وردّ كيدهم في نحورهم يا قويّ يا متين، وأصلِحنا بما أصلحت به الصّالحين.
واجعلنا في القرآن مع أهل القرآن مستقيمين على منهج القرآن منوَّرين بنور القرآن، مهتدين بهدي القرآن، مغترفين من بحار علم القرآن؛ حتى تحشرنا مع القرآن، وأهل القرآن، مع نبي القرآن، الذي أنزلت عليه القرآن، يا كريم يا منان.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
26 رَمضان 1437