تفسير جزء عمَّ - 76 - تفسير الآيات الأولى من سورة الانشقاق
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6))

الحمد لله مَولانا العليم الحكيم، والشّكر لِمولانا المُنعم الرّؤوف الرّحيم، ونسأله أن يُديم أَزكى الصّلاة والتّسليم، على عبده المُجتبى المُصطفى محمد بن عبد الله ذي القََدر العظيم، مَن أُنزل عليه القرآن الكريم، وجَعله الله أَكرم هادٍ إلى الصّراط المستقيم، أَدِم ربّي صلواتك عليه في كلِّ لَمحةٍ ونَفَسٍ مِنْكَ عَنَّا، وعن أحبابنا وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه، من أحبابه وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصّالحين وعلينا معهم وفيهم.

 وبعد،،، 

فإنّا في مواصلة تعرضنا لرحمات الله وَنَفحاته الكبيرة واِستِمْطارِنا لِجُوده الواسع سبحانه وتعالى، الذي يَتلقّاه أهل القلوب المُنيرة في تأمُّلنا لكلامه سبحانه وتعالى، نُواصل استقبال النّصف الثّاني من الشّهر الكريم الذي أُنزل فيه القرآن، رَاجين أن يجعله الرّحمن خيرا لنا من النّصف الذي مَضَى، وأَبرك علينا وأَبهى وأَزهى وأَصفى وأَوفى حتّى نُدرك مِن سرّ الشّهر غَاياته، ونَرقى مع مَن يُرقِّيهم الحقّ تعالى في عَلِيِّ دَرَجاته، ولا يَتأخّر مِنّا مُتأخِّر؛ فَيَنْقَطِع عن العطاء الأكبر؛ فيُفوِّتُ أكثر مِمّا حَصّل؛ اللّهمّ أَمِدَّنا بالتّوفيق، وألحِقنا بِخير فريق، وارزُقنا الثّبات على ما هو أحبّ إليك في ما نَأتي ونَدعوا ونَقول ونَفعل، يا أكرم الأكرمين.

وقد وصلنا إلى سورة الإنشقاق، يُخبِر فيها الخلّاق عمّا سَيُحدِث فيما خَلَق وعمّا يُبَدِّل ويُغَيِّرُ به مَصنوعاته وكَائناته -جلَ جلاله وتعالى في علاه- مِن السّماوات والأرضين؛ ويجب على كُلّ عاقلٍ له عَقْل مِن هؤلاء البَشَر، أن يُدرك أنّ القُوّة التي كَوّنَت هذا الكون بهذه الصّورة البديعة، قوّة مُطلقة لا يُمكن أن تُحكَم بعقلِ أحدٍ ولا أن تُحكَم بما كَوَّنت، أَما كُوِّنَ يَحكم المُكَوِِّنْ؟ أم المُكوِِّن يَحْكُم مَا كَوَّن؟ 

  • المُكوِِّنُ يَحكُم ما كَوَّن، 
  • المُكوِِّن يُغيِِّر ما كَوَّن، 
  • المُكَون يُبَدِّل ما كَوَّن، 
  • المُكوِّن يُفْنِي مَا كَوَّن، 
  • المُكَوِّن يَقلِبُ صِفات مَا كَوَّن. 

هذا كلام منطقيّ، صحيح، مُتناسب مع العقل، متناسب مع الحُجّة، مُتناسب مع البُرهان، مُتناسب مع الفِطرة؛ أمّا أن يأتي منّا جماعة مِن البشر، يقولون: "هذا الكون وصْفه كذا، فكيف يقول المُكَوِّن أنّه يَرجِعُ كذا؟"، كيف يقول؟ مَنْ؟ المُكَوِّن.

الكون وَصْفُه كَذَا، وأَنت وَاحد مِن الكَائنات وَجِئْت حَصَّلْت الكون وَصْفه كذا، الكون خَلَقَ نَفسه بِنَفسه؟ لا، ما يعقل، ما يعقل؛ تُريد أن تتكلّم على مُكوِّن الكَون! هو الذي كَوّنه، ممكن أن يَحْذِفه، ممكن أن يُزيله، ممكن أن يُزيِّده، ممكن أن يُنقِّصه، وأظهروا فينا من السُذّج ممّن يشتغل على إغوائهم وإلهائهم، بعض الحمقى من الكفرة ولكن الأحمق يَغرُّ الأحمق. 

وفينا من يقول: كيف الشّمس -في الحديث- تَدْنُو مِنْ رُؤُوس النّاس في القيامة؛ حتّى يَكون كالميل؟ ماالذي عندك من إشكال؟ يَموت النّاس مِن حرارتها، حَرارتها ما يَتَحمُّلها النّاس، هذه الحرارة تحرق الأشياء!

الشّمس خلقها الله بهذه الصورة، يَقدر يُزِيلها أو ما يَقدر؟ يَقدر يُغيّرها أو ما يقدر؟ يقدر يُغَيِّر ضَوءها أو ما يقدر؟ يقدر يُغيِّر حرارتها أو ما يَقدر؟ يَقدِر؛ عجيب! أنت تتكلم مِن أيّ منطق، أنت تريد أن تحكم ربّ الشّمس بالشّمس! ربّ الشمس هو الذي يحكم الشّمس، يا أبله!  بِهَيئَتها هذه التي هي عَلَيها اليوم والتي تعرَّفت منها ما تعرّفت، وما جَهِلْت مِن حَقيقتِها أكثر، هي ربك! حتّى تُريد أن تحكم بها خبر نبيّ خالقها؛ إذا تكلّم مُرسَل خالقها؛ فاسكت يا مخلوق! أتريد أن تَنْصِب لي من هذه الكائنات آلهة، أردّ بها كلام الذي خلقها؟ إنّها مخلوقة، إنّها مُسخّرة، إنّها مأمورة، إنّها مقهورة، وأنت مثلها؛ القاهر واحد اسمه الله، الله! 

ويَومَها يُنَادِي مُنَادِي: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) [غافر: 16] وَلا يُجِيبُ أَحَد ويَقُول : (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]؛ الذي قَهَرَعِبَاده بالموت وبكلّ شيء؛ فهذا ليس مَنطق أَنْ يَحتجّوا لنا بمخلوقات خَلَقها في هيئة مُعيّنة؛ ثم يُخبَر أن يُغيِّرهذا، يقول: "لا، لا، ما تغيَّر"؛ ما معنى ما تغيّر؟ يعني هي صارت الآن فعّالة وآلهة متأبِّيَة على مُكوِّنها، ماهذا الكلام؟ ما هذا الكلام؟ ما معناه؟ وزيادة على ذلك هم يَتَشَدَّقُون بأنّهم العُقلاء وأنّهم المفكّرين! ولكن أكثر النّاس لا يعقلون، يحدّث مُكوّن السّموات والأرض عن السّماء والأرض. 

بسم الله الرحمن الرحيم: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)) فكما أَحكمَ صُنعها وجَلست ملايين السّنين لا تحتاج ترميم ولا تحتاج صيانة ولا تحتاج تبديل ولا تحتاج قِطع غيار ولا شيء، آية، تُتِمّ الآية أيضا هذا البديع المُحكم (انشَقَّتْ)، الله أكبر! كما ذكر عن هذه الجبال. 

والجبال هذه بعظمتها، حتّى أنّه بالنّظر القصير، عندما ينظر إليها الإنسان يرى أنّها مِن أثبت ما يكون، وعند نظرتك العاديّة إلي الجبال، ترى أنّها مُتحرِّكة أو ساكنة؟ تراها ساكنة أو لا؟ ساكنة تراها، بنظرك المجرّد ساكنة.

  • (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ)، في دورة الكرة الأرضية تَدُور، (تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل:88]، لا إله إلا الله! وما أشبه هذا بهذا في المرور، دورة الأرض بالمرور، سبحان الله! 
  • ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل:88] وهذا الصّنع البديع؛ جبال لها ملايين السّنين، في وقت تأتي؛ تُنسف نسفا، تُخرج من الأرض، تُدقّ مع الأرض، تَتَفتّت، تَصير كالعِهن، تُنسف، لا يَبقى لها أثر ،الله! (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [طه:105] 

إذًا لا غَرابة، هو الذي كَوّن وهو الذي يَنسف؛ كلام منطقي، تمام! 

واحد لا خَلق ولا كَوَّن ويأتي يتكلّم يقول: "هذا خلق، ولا بدّ يكون كذا"، أنت خلقت؟! لا، ما أنا خلقت؛ أنت ما خلقت  وذاك خلق نفسه؟ لا، ما خلق نفسه! هو خلق نفسه أو أنت خلقته، ما الذي دَخَّلك! اترك خالقه يفعل فيه ما يشاء ويكوّن فيه ما شاء، الله أكبر! وأنت بِنفسك، تجري الأمور فيك على غير مُرادك لأنّك مخلوق. 

  •  والآن تَنْصب لي الجبل أو تَنصب لي السّماء إله، أستغفر الله! (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) [مريم:93]، هذا إيماننا، هذا يَقيننا، هذا ديننا، هذا الحقّ، هذا المنطق، هذا العقل. 
  • (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ) [الطور:35-36] 
  • قال الله وأنا لمّا كَوّنتها أين هم كانوا؟ (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف:51] ؛ لاشيء، ما حَضروا.

والآن يأتي ويقول لك هذا كان كذا وهذا كان كذا، كيف عرفتَ؟ أين كنت؟ أنت أين كنت؟ يا مُفكِّر، يا فيلسوف، يا مُتأمّل، أين كنت؟ وقت خلق السّماء أين كنت؟ وأبوك وجدّك وأبو جدّك وأبو جدّ جدّ جدّك؟ أين كنت؟ كلّكم غير موجودين؛ الآن، اليوم جئت تُريد تتفلسف لي!

والعوام عندنا، يُردِّدون المَثَل، يقولون: "متى جئت يا نصر، يَقول لهم: أمس بعد العصر" و بعد وحده جاء؛ وحده مُحْدَث، قال: (وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ) [الكهف:51]؛ حتّى لمّا كوّنك أنت، أين كنت أنت؟ وكوّن روحك ولمّا أخذ نُطفتك وقَلَبَهَا إلى عَلَقَة، أين كنت؟ لا إله إلا هو! 

محمّد يُخبرك أنّ النُّطفة تَتَحوّل إلى علقة، تَتحوّل إلى مُضغة، قل لي: استعمل أيّ مِنظار مِن مناظريكم هذه، متى اكتشفتم هذا؟ متى عَرفتم هذا؟ متى أَدركتم هذا؟ في سنواتكم هذه جئتم لهم بهذه وشاهدتم وأخذتم تتأمّلون؛ فأين مِنظار محمّد؟ ولِمَ بِالدِّقّة؟ يَحْكِي القول قبل ألف وأربع مئة سنة وما تَستطيعون أن تَنقْضوا منه شيء؛ محمّد جاء مِن عند رَبّك؛ فآمِن به خَيْرٌ لك، وإلّا فأنت الخاسر (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) [النساء:42]. 

يقول ربّي: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)) آية من آياته العظيمة عند قيام السّاعة؛ فتمرّ بمراحل؛ خَلَقََها سبحانه وتعالى في يومين وأَوْحى في كلّ سماء أمرها، والأرض أربع أيام: 

  • أوّل يومين دحاها 
  • وبعد ذلك سوّى السّموات 
  • وبعد ذلك رجع إلى الأرض، ورتّب كل ما يحتاجه المخلوقون عليها من إنس وجنّ وحيوان إلى يوم القيامة، تمام! (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [النازعات:30-33]، وهذا المتاع لكم ولأنعامكم إلى أجل. 

(فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ) [النازعات:34]، عند وجود الطّامّة الكُبرى، خالق الأشياء يُقلِّبها ويُغيِّرها؛ فتمرّ السّماء بمراحل بعد هذا الاتقان في الصّنعة، وجعلنا (فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:12]، بعد هذا الاتقان كلّه والشّدّة والقوّة، أبى الله -سبحانه- لِكلِّ مخلوق مهما تقوّى إلّا..، كما قال في الدّنيا: "أَبَى الله أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ"، إلّا وَضَعَه. 

وهكذا، كانوا يتحدَّثون في هذين اليومين عن وفاة محمّد علي كلاي الله يرحمه، كان صاحب مصارعة، جاء بعد ذلك واحد صَرَعَه، بعض الناس يتعجبون، ذَكَرُوه عند الحبيب محمد الهدّار، قال "أَبَى الله أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ"؛ بعد ذلك، بعد هذه الملاكمات الكبيرة والتي تُسمّى بالأسطورة، شلل أتاه، جاءه شلل، وآخر أيّامه مشلول؛ القوّة لواحد (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) [البقرة:165] القويّ هو الواحد فقط.

أمّا شؤون الدّنيا، مهما كانت، النبي ﷺ كانت عنده ناقة، العضباء، سريعة الجري، ما تُسبق، كلما جاء أحد يُسابقها تَسبقه، وكان جماعة من الصّحابة فرحين بذلك، جاء واحد أعرابيّ على ناقة وسَبَقَها؛ فكأنّ بعض الصّحابة تَشَوَّشُوا و حَزِنُوا، قال: "أَبَى الله أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ".

 فبَقِي ما خرج عن مَعْنَى الدُّنيا ممّا استَحكَمت علاقته بالدّائم سبحانه وتعالى،؛ فَخَلَعَ عليه مِن عِزِّهِ بديمومَيِّتِه تبارك وتعالى؛ هذا الذي يَبْقَى في العزَّة أبدا: 

  • (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]. 
  • (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10].

وأَعَزُّ الخلق محمّد ﷺ؛ فلذا ترى عِزَّته دائمة، أمّا كلّ ما تعلّق بشؤون الدّنيا لا يرتفع شيء إلّا وُضِع، وفي الأمثلة السّائرة بين عامّة بني آدم: 

  • يقول: ما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع 
  • وما من نخلة -يقول العوام عندنا- نخلة ترتفع في السّماء إلا انقصفت، لا بد يأتي يوم تنقصف فيه، 

هذا شأن الكائنات، حتّى الجبال، حتّى البحار، حتّى السّموات، كلّ المخلوقات هذه؛ فلا تغترّ بمخلوق، لا تَركنْ إلى مخلوق، لا تَعتمِدْ على مخلوق، لا تَتوكِّلْ على مخلوق، لا تَنبهرْ بمخلوق؛ انظر العظمة للخالق -جلّ جلاله وتعالى في علاه- الله أكبر! فيا فوز من أعزّه الله. 

ولكونِ النّجوم المعنويّة من أنوار المعرفة بالله والقُرب منه والعناية منه والوعي لأسرار الوحي، هذه النّجوم؛ أرواح وقلوب العارفين والصّالحين، ملتصقة بعظمة الله وجلاله، اختلفت عن هذه النّجوم؛ فمختلف النّجوم التي بيننا وبين السّماء تَنكَدِر، تتناثَر، تسقط؛ لكن هذه النجوم لا، الله! سرّ اتّصالها بالعزيز الدّائم الباقي، ليس مِثل اتّصال هذه النّجوم، خَصّصها بمعرفة دائمة. 

ولهذا كان شاعرهم يقول: 

أَمُرتَقِبَ النُّجومِ مِنَ السَّماءِ

الذي يَتَشَوَّفُ النّجوم في السّماء ويتعجَّب، وجاؤوا لك بالفضاء وجاؤوا لك بالفلك وجاؤوا لك.. ويقولون اكتشفنا كوكبا وبعد ذلك كوكبين، وبعد ذلك يأتون فجأة و يقولون مئة كوكب، وكم في كَوْنِ ربِّك من كواكب، ترى هذه النّجوم؛ قال:

 أَمُرتَقِبَ النُّجومِ مِنَ السَّماءِ *** نُجُومُ الأرضِ أَبهَرُ في الضِّياءِ

قال عندك وسط الأرض نجوم أعظم من هذه، أنت ما تراها، أنت ما تُدرِك! نُجُومُ الأرضِ أَبهَرُ في الضِّياءِ. 

فَتلكَ تَبْينُ وَقتًا ثم تَخفَى -إذا جاءت الشّمس اختفت تلك النّجوم- *** وهذي لا تُكَدَّرُ بالخَفَاءِ 

 هِدايةُ تِلكَ.. وغاية نورها، تَستمِدُّ منه، تعرف الطّريق، هذا جهة كذا وهذا جهة كذا 

هِدايةُ تِلكَ في ظُلَمِ الليالي *** هِدايةُ هَذهِ كَشفُ الغِطاءِ

تكشف الغطاء عن قلبك لترى من غيب ربّك وعجائبه، قال هذه النّجوم الأعجب. 

وهكذا،، فإذا رأينا الحقّ يُسمّي هذه الشّمس سراجا، ثمّ سمّى حبيبَه محمد  ﷺ سراجا:

  • (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *  وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) [الأحزاب:45-46].
  • قال: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير:1]، وقال: (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79] 

شمسٌ تُكوّر وشمسٌ تَزداد نورها ويَعظم قَدرُها، الله أكبر! إذا جاءت هذه التّغيّرات العُظمى في الوُجود. 

لهذا كان يَتعجّب بعض العلماء من عقليّات بعض العوامّ، يقول: "إذا صَنَعوا القنابل التي عندهم هذه والتي يهدّدون النّاس بها والتي يَدّعون أنّها تأخذ شيء من ربع الأرض والتي يدَّعون أنّها تأخذ نصفها و ما إلى ذلك، فإذا قال: قامت القيامة"؛ قال: القيامة أكبر من حرب، القيامة أكبر من قنابل، القيامة لا شمس، ولا قمر، ولا سماء أولى ولا ثانية ولا ثالثة، ولا ملايين الكواكب، ولا الأرض؛ ما القيامة؟ ما هي حربكم أو قنابلكم الهيدروجينية أو شيء من هذه الأمور، الأمر أكبر! (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *  يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) [الحج:1-2]. 

يُحدِّثنا خالق السّماء عن السّماء يقول: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1))؛ فترجع تمرّ بمراحل، تَمُورُ بأهلها، تَدُورُ، قال: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا)، تَدُورُ دَوَرَان، لا إله إلا الله، (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) [الطور:9-10] هذه مرحلة، بعد هذا المَوْر، تشقُّقات وانفطارات (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) [الإنفطار:1] كما سيأتي معنا. 

(إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)) تَنشقّ وتتفطّر، الله أكبر! ويُعاد التّكوِين من جديد، أرض غير الأرض، والسماء غير السّماء، تعود كما تَفنى أكثر الأجسام؛ ثمّ تعود عَوْدا آخر؛ حتّى الأجسام التي تبقى بإذن الله وقُدرته، هذه آية من آياته، أجسام كُلُّ بني آدم، كلّ التّكوين والعناصر واحدة، هذا تأكله الأرض وهذا ما تأكله؛ أرض واحدة، في مكان واحد، هذا تأكله وهذا ما تأكله؛ ما هذا! في مقبرة واحدة، هذا تأكله وهذا ما تأكله، الله أكبر! 

إذًا ليس الحُكم للأرض أو لِدِيدَانِهَا أو لِحِيتَانِهَا أو لكلّ التّحليلات التي يقولون فيها أهل الطّبيعة؛ الحكم لربّ الأرض. 

قل لي: لماذا تُفرِّق بين جسد وجسد؟ يقول:هات محلّلينك، قل له: اعمل تحليل، أين السّرّ في هذا الجسد؟ لا إله إلا الله! فيَتقاتل مسلمون وكفّار في محلّ واحد، يُقتَلون في وقت واحد؛ وبعد يومين، هؤلاء منفّخين ورائحتهم مَنْتَنَة وهؤلاء كأنّهم الآن ماتوا ورائحتهم مِسكيّة. 

أَوَادِمْ كلّهم من طين، كلّهم بشر، كلّهم لحم ودمّ، كلّهم في محلّ واحد، قُتِلوا في ساعة واحدة، وهذا انتفخ وهذا كأنّه الآن قُتِل، وهذا نَتِن وهذا طَاب رِيحُه، بدون ما أحد يضع له عطر، بعد الموت فاح العِطر منه، سبحان الله! 

الحُكم لربّ الأجسام لا للأجسام، الحُكم لربّ الأرواح لا للأرواح، الحُكم لربّ السّماء لا للسّماء، الحُكم لربّ الأرض لا للأرض، الحُكم لربّ النّبات لا للنّبات، يأتون يرون شيء الله خلقه وكوّنه أمامهم وجعل فيه سُنّة، يريدون أن يَحكمُوننا بها ويُلزِموننا بها. 

نقول: لا..لا..لا، الكَون كَون والمُكوِّن مكوِّن والمَخلوق مَخلوق والخالق خالق، هيهات ما المخلوق مثل الخالق، ما أحد يحمل خصوصيّة ومزايا الخالق ويحطّها في مخلوق أبدا، لا إله إلا الله! 

  • (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ۖ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) [الطور:35-38] 
  • وما الذي يُؤخّرهم عن الاستجابة لدعوة الحقّ؟ (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)، يقع الكيد عليهم، (أَمْ لَهُمْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الطور:40-43] 

قال تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1))، آمنّا بك يا ربّ الأرض والسّماء، (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا (2))، استمعتْ لأمره إذ أمرها بالإنشقاق، (أَذِنَتْ لِرَبِّهَا). 

  • أَذِنَتْ: اِستَمعت، أَنْصتت، أطاعت،
  • "مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَقْرَأُ القُرْآنَ يَتَرَنَّم بِه" يعني ما أصغى واستمع وأحبّ شيء، مثل استماعه إلى صوت نبيٍّ يقرأ القرآن؛ 
  • فكذلك أَذِنَتْ السّماء، (أَذِنَتْ لِرَبِّهَا) يعني أصغت وطاعت وأطاعت ربَّها، كما لمّا كوّنها قال: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]، لما يَشقُّها نفس الشّيء. 
  • (وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهَا) الذي كَوّنها، الذي ربّاها، الذي خلقها. 
  • (رَبِّهَا) يعني هي مخلوق مهما رأيتَ فيها من عظمة، هي مخلوق، سبحان الخالق! 

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)) حُقَّ لها، وَصَحَّ لَهَا أن تمتَثِل أَمْرَ ربِّها، ليست أمثَالكم أيُّها البشر المُخالفون لأمرِ الله، وأيُّها الجِنّ المُخالفون لأمر الله، أعطاكم اختيار؛ فقُمْتُم تُخالفون ولكن بقِيّة الكائنات عَرَفت قَدْر ربِّها، لا يوجد منها ما خالف الله ولا منها خَرَج عن أمر الله؛ 

  • (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) حُقّ لها، علمت الحقَّ لربّها؛ فانقادت لأمر ربّها -جلّ جلاله- وأنتم تنْزِل له كَمْ أوامر ونواهي وتَلْعبون بها، لا إله إلا الله! 
  • (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) حُقّ لها، وَصحّ، وَجَدِير لها أن تنقاد، تخضع لأمر ربِّها، إذْ أمرها بالإنشقاق فانشقت. 

(إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ)، هذه التي نحن عليها الآن، (مُدَّتْ (3)) حتى مَثَّلها ابن عباس: "تمد مد الأديم العُكاظي" من أجل تَسَع النّاس لأنّ الله لمّا أخرج الذّرّ من صُلب سيَدنا آدم عليه السلام -نَسَم بَنِيهِ إلى يوم القيامة- رأتْهم الملائكة، قالوا: يا ربّنا، هؤلاء تُسكِنُهم الأرض، قال: نعم، قالوا: ما تسعهم، قال: إنّي جاعل مَوْتَى، لا يَجتمعون مرة في دفعة واحدة، هؤلاء أحياء وهؤلاء يموتون؛ قالوا: والموت أمامهم هكذا يأخذ منهم!! إذًا لا يَهناهم العيش، كيف يَهناهم العيش والموت أمامهم؟ قال: إنّي جاعل أملا، أخلق لهم الأمل، يُقْبِرُون الموتى ويأكلون ويشربون ويضحكون، يَنسون الموتى، إنّي جاعل أملا، سبحان الله! فَتَسَعُهُم الأرض. 

فالأرض يُبدِّلها الله غَيْرَهَا؛ فَتَمَرُّ أيضا بمراحل بعد أن تَمُور وتَدُور، تُؤمر بإخراج كل من في بطنها، كلّ الأشياء التي تكوّنت من بطنها، ما لم تكن أصلا في وقت التّكوين تُخرج، مِن جُملتها أجساد الموتى فتُخرجها؛ قال تعالى: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) [الزلزلة:2]. 

  • وأجساد الموتى التي أكلتها الأرض والتي لم تأكلها، تَجتمع كلّها ما بين النّفختين، والتي لم تأكلها الأرض باقية على الشّكل الذي ماتت عليه. 
  • ولكن عند النفخة الثانية وعَوْد الرّوح إليها، تُنشأ نشأة مناسبة لعالم القيامة، 
  • وبعد القيامة كل جسد يذهب إلى الجنّة أو النار يُبدَّل، سبحان الله! 

وأنت ترى الإنسان يُخلَق جسده من النّطفة والعلقة والمُضغة والهيكل العظمي ثم ينشأ اللحم عليه، أتظنّ أنّ الذي رتّب هذا لا يقدر أن يخلق الإنسان إلا بهذه الصّورة، الله! هذه الصّورة حِكمته أو هو الذي اختارها يا هذا! إذًا أيضا يُكوّن الإنسان تكوينا، كما قال في هذا: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) [المؤمنون:14] 

  • كذلك في البرازخ، كذلك في القيامة؛ خلق آخر، تكوين لائق عند الأمر بالانصراف إلى الجنة أو النار، إنشاء جديد، تكوين جديد،ليتهيأ هذا الجسد للجنّة وهذا للنّار-أجارنا الله- 

حتّى أنّ الميِّت على الكُفر من المُعاندين، المُلحدين، يَغْلُظ جسده ويَكبر ويَقوى حتّى تَكون غِلَظ جِلدُ الكافر مَسِيرَة ثلاثة أيام، هذا الجلد، ووراءه اللّحم، ووراءه العظم، الله ! وأهل الجنّة من أجل التّنعّم بما فيها، وللتّناسب بها يدخل بهذا الشكل الذي عنده، وماذا يعمل؟ وماذا يأكل؟ يكبرون على أصل الخِلقة، والتّكوين على صورة أبيهم آدم، طُول ستّين ذراع، عُرض سبع أذرع، أمّا السِّنّ، ثلاث وثلاثين سنة، وقف عندك، لا يزيد، كيف؟ يمرّ مقدار ألف سنة، كم أعمارهم؟ ثلاث وثلاثين سنة، يمر مقدار مليون سنة، كم أعمار الجماعة؟ ثلاث وثلاثين سنة، الله أكبر! 

الآن يَكتشفون هذه الأجساد، إذا خرجت من هذا القفص، من هذا الغلاف الجوّي إلى ما بعد، عامّة خصائص الجسد في الأرض تذهب، ومنها بعد الخروج من الجاذبية، جسد يمشي فوق، تحت، أمام، يمين، شمال، مافي جاذبية يصير عادي يطير، يطلع، ينزل، يستوي الأمر، الله واحد! و ما يُؤثر عليه مرور الوقت، خارج هذا الذي ينقله من شباب إلى كهولة، من كهولة إلى شيخوخة، لا توجد هذه العوامل، يبقى هو كما هو. 

سيدنا عيسى عليه السلام في السّنّ الذي رُفع فيه إلى السّماء، يَخرج إلى الأرض بنفس السّنّ؛ و إلا لو كان على ظهر الأرض ألف وتسعمائة سنة، ألف وتسعمائة سنة وأربعة عشر الآن، و فوق ذلك بالسّنين الشّمسية، تزيد فوقها عدد السّنين القمرية ثلاثمائة، هذا الجسد الذي يعيش على الأرض بهذه الصورة ماعاد يقدر يقوم ولا يقدر يتحرّك؛

 يَخرج قويّ ويتزوّج ويُولد له، والآن له من حين وُلِد ألف وتسعمائة وأربعة عشر سنة، خمسة عشر سنة بالسّنين الشّمسية، فَتزيد لها؛ فتصير قريب الألفين بالسّنين القمرية؛ عندنا الآن ألفين وكم؟ ألفين وستّة عشر بالسّنين الشّمسيّة، زِد عليها ستمئة سنة فوقها؛ تكون ألفين وستمائة، هذا عمره، لو هذا الجسد عائش على ظهر الأرض ألفين سنة، كيف يمشي؟ حتى وَلَا في أيّام نوح، حتّى في أيّام نوح يكون قد انهدّ؛ لكنّه عائش في السّماء، ما يتأثّر. 

ولهذا أهل الجنّة أعمارهم ثلاث وثلاثين سنة، بعد مليون سنة، ثلاث وثلاثين سنة، بعد مليونين، ثلاث وثلاثين سنة، بعد مليار من السّنين، كم عمرك؟ ثلاث وثلاثين سنة؛ يعني التّركيبة والقُوّة التي عند ابن ثلاث وثلاثين هي، هذه ثابتة عندهم، اللّهم أدخِلنا جنّتك.

(إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)) فتمرّ الأرض بمراحل بعد دورانها، يأتي إخراج ما فيها، ما في جوفها؛ ثم امتدادها:

  • فمِنها تُنزَع الجبال: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ) [الحاقة:14] تتفتت الجبال كلّها.
  • ثم تصير كالعِهن المَنفوش. 
  • ثم تُنسف نهائيا: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) -لا نزول ولا طلوع- (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:105-107]؛ لا يوجد يطلع أو.. 
  • تستوي الأرض فيكون سطح الكرة الأرضية كلّه مستوي تماما، تُخرَج الكنوز التي فيها، الأجساد التي فيها بعد النفخة الأولى، يرد الله الأجساد التي بَلِيَتْ، الأجساد التي هِيَ هِيَ كأجساد الأنبياء وأجساد الشهداء، كما هي.
  • وتَقدّم معنا في سورة البروج أنّه في عهد سيدنا عمر بن الخطاب أنّهم وجدوا الغلام الذي قتله الملك، هذا الذي آمنوا بسببه أصحاب الأخدود، وجدوه في الحفرة واضعا يده في المحلّ الذي رمَوا فيه السّهم، وأنهم إذا رفعوه عنه خرج الدّم وأنّه يردّها كما كانت، قال: دعوه وما معه وادفنوه في مكان حصين كما هو؛ من أيام الأخدود إلى أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أجساد كما هي؛ فتكون على ظهر الأرض؛ 
  • حتى جاء في رواية الحديث "أنا أوّلُ من تنشقُّ عنه الأرض" هذا في الصحيحين. 
  • ولكن في رواية أخرى يقول: "فَأَسْتَوِي فَوْقَ قَبْرِي"؛ أجلس، 

كأنّ هذا تنشقّ عنهم الأرض قبل اسْتِتْبَابِ أمر انهاضهم وقيامهم، وإلَّا كونه ﷺ في أعلى مراتب الحياة بمجرّد انشقاق الأرض يستوي جالسا وينتصب. 

قال فأرى الأرض تتحرك، فأقول: ما لكِ!، قالت: أُمرتُ أن أُخرج كلّ ما في جوفي؛ تقول له أُمرت أن أُخرِج كلّ ما في جوفي، أنا سأُخرج الآن كلّ شيء، ممّا يستكن وسط الجوف، ممّا لم يَكن وقت خَلْقَِها؛ سواء من الذّهب أو من الفضّة أو من الأشياء التي طرأت من حديد وغيره أو من الأجساد؛ فتقْلبُها كلّها إلى فوق الأرض. 

وعندئذٍ يَأمر الحقّ إسرافيل أن ينفخ النّفخة الثّانية، تَطير الأرواح ويَقوم النّاس؛ فَيكون ممّن استُثني من الصّعقة سيدنا موسى الكليم؛ قد رأى عظمة (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ) [الأعراف:143]. 

فعندما ينفخ النفخة الأولى في الصور يصعق من في الأرض، واحد منهم -موسى- لا يُصعق وهذه الصّعقة التي يسميها أهل الكفار (مَرْقَدٍ) رقدوا بين النّفختين، صعقوا، رقدوا. 

فإذا نفخ النفخة الثانية (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) [يس:52]، عند الصّعقة، هذه الفترة التي عند الصّعقة (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا)؛ تقول لهم الملائكة: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52] الذي قاله محمد وآدم وإدريس هو الحقّ، هو الصواب (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). 

لا أحد في القيامة يقول وصدقت الحكومات أو صدقت الأحزاب أو صدق العلم الحديث أو العلم القديم ولكن قال: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)؛ صدق المرسلون؛ اللهم اجعلنا في تبعيّة المرسلين؛ قال: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) صلوات الله وسلامه عليهم. 

يقول: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)) تُمَدّ وتُمَدّ بعد أن تستوي الأجزاء التي خرجت منها والجبال التي دُكَّت بها والبحار قد تفجّرت؛ ماعاد بقي إلا كلّها تمتدّ امتداد واحد، تسع النّاس كلّهم؛ هذه الأرض.

  • لكنها ليست الأرض التي عِشنا فيها، تبدّلت! (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم:48] 
  • السّماوات كذلك بعد الإنشقاق، بعد ذلك يلحمها ويردّها، سبحانه وتعالى! ولكن بتكوين آخر جلّ جلاله، 
  • والآدميّ هذا في حالته في البرزخ مُكوَّن بعد ذلك في القيامة، بعد ذلك عند دخول الجنّة ودخول النّار يتكوّن؛ حتّى بعض الذين يخرجون من النّار ويدخلون الجنّة، يجعل الله لهم نهرا يَغتسلون فيه، تُبدَّل أجسادهم وتُبدَّل وجوههم وتُبدَّل ألوانهم ويدخلون ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [يس:79] 

هو الذي خلقهم أوّل مرّة وكوّنهم كذا (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) [آل عمران:6] بعد ذلك يُصوِّرك كيف يشاء؛ وأنت في القبر وأنت في القيامة، يُصوِّرك كما شاء، هو المصوّر جل جلاله. 

قال: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)) أصغت واسْتَمَعَت، قال لها أَخرجي أَخرجت، قال لها امتَطِّي امتَطّتْ، قال لها  سبحانه وتعالى امتدّي امتدّت، كما قال: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) [الزلزلة:4-5] هو أمرها قال لها تحدّثي تحدّثت والأمر أمره، الله أكبر! 

قال: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)) اسْتَمَعت وأَطاعت، (وَحُقَّتْ)، ماذا بعد هذا؟ (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ (6)) سَاعِي مَسْعَى، ودَائِب دَأب في الحياة، كلَ من في الدَنيا في كَدْح، "كلُّ النّاسِ يَغدو، فبائعٌ نفسَهُ فمعتقُها أو مُوبِقُها" كلّ النّاس يَغْدُو؛ لكن إذا تَغدو في علم، في خير، في طاعة، في عبادة، في صلاة، في ذكر، أليست نعمة عليك من الله! اللّهمّ لك الحمد و"كلُّ النّاسِ يغدو ، فبائعٌ نفسَهُ فمعتقُها أو موبِقُها" إمّا يُعتِقها أو يُهلِكها.

 قال: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ)، يعني إلى وقت لقاء ربّك، (كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)) فمُلاقي ربّك ومُلاقي كَدْحَك، العمل الذي عملته قدّامك؛ فهكذا كلّ ما  تعمله، تُحّصِّله قدّامك، سَوَاء أو ما هو سواء، طيّب ما هو طيِّب، خير أوشرّ، حسنة سيّئة الذي تريد تحصّله قدّامك اصنعه (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:16].

فالله يُرزقنا الاستعداد والتّزوّد بأشرف زاد و يجعل خير أيّامنا يوم نلقاه حتّى نلقاه وهو راضٍ عنّا، يا ربّ السّماوات والأرضين لا تَغرَّنا بشيء في السّماوات أو في الأرضين؛ يا فاطر السّماوات والأرضين حَرّرنا من رِِقّ السّماوات والأرضين، واجعل يقيننا عليك، واعتمادنا عليك، واستنادنا إليك، وصِدقنا معك في كلّ الأحوال، نفي بعهدك ونظفر بِحبّك ووِدّك وندخل في دوائر حبيبك وعبدك. 

احشرنا في زمرته، املأ قُلوبنا بمحبّته، يا ربّ! نحن وايّاهم ومن يَسمعنا من أمّته، ما اجتمعنا أو استمعنا إلا مؤمنين، مصدّقين، موقنين أنّك الخالق وأنّه الصّادق، وأنّه المُبلِّغ عنك وأنّه الهادي إليك؛ فبحقّه عليك، اجعلنا في زُمرته يوم القيامة، وأورِدنا مَوارِد قُربه يوم الطّامة، نرِد على حوضه، نشرب من كأسه، اللّهمّ ونستظلّ بظلّ لواء الحمد الذي يَحمله ونمرّ معه على الصّراط، وندخل معه الجّنّة. 

اللّهمّ أدخلنا معه الجّنّة؛ فإنّه أوّل من يَدخلها، وأنزِلنا معه في قُصُورها؛ فإنّه أوّل من يَنزلها، برحمتك يا أرحم الرّاحمين ويثبّتنا وإيّاكم في ديوان الصّالحين من المحبوبين والمقرّبين في لطفٍ وعافية وإلى حضرة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

18 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

23 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام