كشف الغمة 242- كتاب الصلاة (132) فصل في النهي عن الكلام والإمام يخطب
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: (132) فصل في النهي عن الكلام والإمام يخطب
صباح الثلاثاء 16 جمادى الآخرة 1446 هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:
- أثر مخاطبة النفس بما يسمع
- خبر الثلاثة في حضور المجلس
- هل يستثنى الكلام في الخطبة لتحذير؟
- إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت فقد لغوت
- مراتب حضور الجمعة
- إذا أراد أحد الخروج أثناء الجمعة
- ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة
- حكم الكلام أثناء الخطبة
- هل يُسلم الداخل إلى الجمعة؟
- حكم قراءة البعيد الذي لا يسمع الخطبة
- رد السلام وتشميت العاطس أثناء الخطبة
- من قال مه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له
- حكم ذكر الله والتسبيح مع الخطبة
- قصة قدوم الحسن والحسين مع خطبة النبي
- كان النبي ﷺ يترك خطبته لتعليم رجل
- الكلام قبل الخطبة أو بعدها ليس محل كراهة
- حكم نزول الخطيب من المنبر لحاجة
نص الدرس مكتوب:
فصل في النهي عن الكلام والإمام يخطب
"قال أنس -رضي الله عنه-: "كان رسول الله ﷺ ينهى عن الكلام والإمام يخطب ويرخص في تكلمه وتكليمه لمصلحة"، وكان رسول الله ﷺ كثيرًا ما يقول لمن يراه بعيدًا عن سماع الخطبة تعال إلى هنا، وكان رسول الله ﷺ يقول: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"، وكان ﷺ يقول: "يحضر يوم الجمعة ثلاثة نفر رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله -عز وجل- إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدًا فهو كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله تعالى يقول: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160].
وكان ﷺ يقول: "من دنا من الإمام فلغا ولم يسمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر"، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: لما نزل قوله تعالى: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور: 62]، لا يخرج أحدهم إذا أحدث حتى يستأذن الإمام بالإشارة فيشير له الإمام بالخروج، وكان ﷺ يأمرهم إذا أحدث أحدهم وأراد أن يخرج أن يمسك بأنفه كما تقدم ذلك في آداب الصلاة، وكان مجاهد وعطاء وغيرهما يقولون في قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا) [الأعراف: 204] إنها نزلت في الصلاة المكتوبة حين كان الناس يرفعون أصواتهم على إمامهم في الخطبة دون غيرهما.
وكان ﷺ يقول: "إذا عطس أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة فشمتوه"، قال أنس فكنا نشمته تارة باللفظ وتارة بالإشارة، وكان ﷺ يقول: "ادنوا من الإمام واجلسوا"، وكان ﷺ يقول: من قال مه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له وهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا"، وكان أبي بن كعب -رضي الله عنه- لا يكلم أحدًا ولو سأل عن علم، وكان عثمان -رضي الله عنه- وغيره لا يرون بأسًا أن يذكر العبد ربه في نفسه تكبيرًا وتهليلًا وتسبيحًا وقراءة، وكان أنس -رضي الله عنه- يقول: إذا تكلم شخص والإمام يخطب فإن كان بجنبك فاغمزه وإن كان بعيدًا منك فأشر إليه، وكان عثمان -رضي الله عنه- يقول: استمعوا وأنصتوا فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ مثل ما للمنصت السامع.
وكان رسول الله ﷺ يخطب يومًا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله ﷺ من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"، وكان ﷺ إذا جاءه شخص يسأل عن أمر دينه وهو يخطب أقبل عليه يمشي نحوه ويترك خطبته فيصير يعلمه مما علمه الله -عز وجل- ثم بعد ذلك يأتي الخطبة فيتمها، وكان عثمان -رضي الله عنه- يقول للرجل: هل اشتريت لنا الشيء الفلاني ثم يرجع إلى الخطبة.
وكان ﷺ إذا نزل من المنبر يوم الجمعة فكلمه الرجل في حاجته يتكلم معه حتى تفرغ حاجته ثم يتقدم ﷺ إلى مصلاه فيصلي، وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما فإذا أقيمت الصلاة ونزل عمر تكلموا".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الغراء، وبيانها على لسان خير الورى سيدنا محمد صلَّ الله عليه وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله من حبوا طهرًا، وأصحابه من رفعوا به قدرًا، وعلى أتباعه ممن على منوالاهم جرى سرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل أعلى الذرى، وآلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،
فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الفصل: ما يتعلق بالنهي عن الكلام والإمام يخطب؛ لكل حاضر للجمعة ممن يسمع الخطبة، وممن لا يسمع إما لبعدٍ أو لصمم أو لغير ذلك.
يقول: "قال أنس -رضي الله عنه-: "كان رسول الله ﷺ ينهى عن الكلام والإمام يخطب ويرخص في تكلُّمه وتكليمه لمصلحة"، الإمام نفسه أو الإمام يخاطب أحدًا من المؤمنين أو يخاطبه أحد من المؤمنين في أمر ومصلحة فيرد عليه.
-
لما جاء أنه كان يخطب الجمعة فقال أعرابي: "يا رسول الله، هلكت المواشي وانقطعت السبل، ادع الله لنا".
-
وجاء أيضًا وهو يخطب أنه جاءه الأعرابي قال: "يا رسول الله، متى الساعة؟".
-
كما جاء أنه كان وهو يخطب جاء أعرابي قال: "علمني مما علمك الله" فخرج يعلمه ﷺ.
وبذلك جاء نظر المجتهدين من الأئمة في حكم الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة والإنصات لها:
فقال الحنفية والمالكية: واجب ويحرم الكلام وغيره من كل ما يضاد الإنصات، وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد وهو المذهب القديم للإمام الشافعي.
وفي المذهب الجديد -للشافعي-: أن الإنصات سنة مؤكدة، وأن الذي يتكلم لغير حاجة وضرورة أثناء الخطبة ولو قوله لأخيه: "اسكت" أو "صه" أنه يذهب عليه ثواب الجمعة فلا يبقى له من ثوابها شيء؛ لأنه يكون قد لغا ومن لغا فلا جمعة له.
إذًا فيتأكد الإصغاء والاستماع إلى الخطبة، بل ويتأكد أن ينزل كل ما يسمع عليه وعلى ذاته ويخاطب نفسه به، فإن من تلبيسات إبليس على كثير من الناس أن يقرر في أنفسهم صرف المواعظ والإرشادات إلى الغير، وكل ما يسمعه ينزل على غيره، وأن المقصود به سواه ولا يخاطب نفسه هو به، وهذا من جملة الأساليب التي يحرم بها إبليس المؤمن؛ يحرمه بها الاستفادة والانتفاع من الموعظة ومن الذكرى ومما ينزل من الرحمة في تلك الساعة؛ فإنه إذا خاطب نفسه وقام عليها مقام العتاب والمحاسبة والمؤنب والموجه لها؛ انكسر قلبه لله فكان الله عنده فانهالت إليه خيرات الجمعة وبركاتها وما ينزل من الرحمات على أهلها.
وإذا أخذ يرى نفسه منزهًا، وأن الأوامر التي يؤمر بها قد عمل بها ولا خطاب عليه، وأن المناهي قد انتهى ولا خطاب عليه؛ فيورث ذلك إثارة للعجب أو الكبر أو سوء الظن بالعباد، فيكون ذلك حاجزًا بينه وبين نور الله ورحمة الله النازلة في ذلك المجلس وذلك المسجد وتلك الخطبة.
فينبغي أن ننصت ونصغي ويُنَّزل كلٌ مِنا الكلام على نفسه ويخاطب بذاته وشخصه، ويرى أنه المقصود بذلك.
"وكان رسول الله ﷺ كثيرًا ما يقول لمن يراه بعيدًا عن سماع الخطبة تعال إلى هنا" -ادخل- فينهى عن مظاهر الإعراض عن الخطبة، وعن مجالس الذكر ومجالس العلم، وأن ينتحي ناحية ويبعد بعيدًا وكأنه غير مبالٍ وغير معظم وغير حاضر القلب وغير منصت. وكان إذا رأى أحدًا استقل بمجلس بعيد وهو يخطب قال: "تعال إلى هنا"؛ ادخل مع القوم.
وقد حدثنا عن الثلاثة وهو في مجلس من مجالس العلم والذكر، فأقبل ثلاثة نفر: أما أحدهم فنظر إلى فرجة ودخل وجلس فيها، وأما الثاني فاستحيا فجلس خلف القوم، وأما الثالث فأعرض وراح، ثم قال ﷺ عند انفضاضهم: "ألا أخبركم بنبأ الثلاثة؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله إليه"؛ جعل حرصه على الحضور في المجلس، وانتباهه لمكان مناسب يجلس فيه، ودخوله إليه إيواءً إلى الله، وما قال: آوى إلى مجلس العلم ولا آوى إليّ، ولكن قال: "أوى إلى الله فآواه الله إليه". قال: "وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه"؛ قال شراح الحديث: ومن استحيا الله منه لم يعذبه. قال: "وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه" وفي رواية: "فأعرض عن الله"؛ ما قال أعرض عن المجلس ولا أعرض عني، قال: "أعرض عن الله فأعرض الله عنه" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ولذا قال سيدنا لقمان لابنه: "يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء".
وعلمنا بذلك حكم الاستماع والإنصات إلى الخطبة؛ وأنها واجبة عند المذاهب الثلاثة ومفروضة وكذلك الأوزاعي وكذلك القول القديم للإمام الشافعي، وحملوا عليها أيضًا قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 202]، قالوا: المراد خطبة الجمعة، وكذلك عموم قراءة القرآن متى قُرئ؛ فالسامع يجب عليه أن ينصت ويصغي.
وهكذا حتى لم يستثنِ الحنفية والحنابلة شيئًا من تحذير من يُخاف هلاكه إلى غير ذلك؛ وقال غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم بل حتى في الرواية عند الحنفية إنه: إذا رأى من يخاف سقوطه؛ أو تقصده حية؛ أو نحوه فينبهه وإن كان في أثناء الخطبة؛ بل ولو كان في أثناء الصلاة؛ لأداء حق المسلم فينبهه.
وأورد لنا في هذا أحاديث منها: كان الحديث الصحيح يقول: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"، جاء في الصحيحين وعند أبي داود والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد بن حنبل، "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة صه أو اسكت أو أنصت فقد لغوت".
ولكن إذا رأيت من يتكلم أثناء الخطبة فتشير إليه بالسكوت؛ وإن كان بجانبك غمزته؛ وإن كان بعيدًا أشرت إليه أن اسكت ولا تتكلم، فإن تكلمت فأنت لغوت؛ ولو تقول اسكت أو أنصت، ما أحد يتكلم وقت الخطبة، هذا كلام منك وقت الخطبة، وصرت كما قال: بعض الجهال صلوا وواحد منهم عند التشهد تكلم؛ فقال له الثاني: بطلت صلاتك، وقال الثالث: وأنت أيضا لما قلت له بطلت صلاتك، وقال الرابع: الحمدلله أنا ما تكلمت ولا شيء، بطلت صلاتهم كلهم، لا تقول له صه ولا اسكت ولكن تشير إليه أن يسكت تعظيمًا لحق الخطبة، فكيف بالذي يخطب الخطيب ويخرج الجوال -يتشوف- ينظر فيه؛ هذا بلا عقل اقعد في دارك أنت والجوال، لماذا تأتي للجمعة؟ للخطبة؟ لا تشتغل بجوال ولا غيره واستمع وأنصت وأنزل الموعظة على نفسك.
يقول: "كان ﷺ يقول: يحضر يوم الجمعة ثلاثة نفر -أي: ثلاث أقسام من الناس- رجل حضرها يلغو وهو حظه منها" -أي: ما له حظ إلا اللغو، لا كتِبْ حسنات ولا تكفير سيئات ولا رفع درجات ولا نزولهن؛ حظه اللغو فقط، ماعاد شي معه إلا اللغو- "ورجل حضرها يدعو" -ويشتغل بالدعاء والسؤال- "فهو رجل دعا الله -عز وجل- إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهو كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك بأن الله تعالى يقول: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ) [الأنعام: 160].
فهذا اليوم -يوم الجمعة- فهو بعشر أيام:
-
تحسن المجيء.
-
وتحضر قبل أن يخطب الخطيب وأن يصعد الخطيب إلى المنبر.
-
ولا تؤذي أحد.
-
ولا تفرق بين اثنين.
-
وتحسن الاستماع إلى الخطبة.
فتنصرف بغفر عشر أيام إلى الجمعة الآتية وزيادة ثلاثة أيام، الحسنة بعشر أمثالها.
"وكان ﷺ يقول : "من دنا من الإمام فلغا ولم يسمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر"، مع أنه قريب من الصفوف الأولى ولكنه يلغو، جاء الحديث في مسند الإمام أحمد وعند أبي داود.
"وكان ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: لما نزل قوله تعالى: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ۚ) [النور: 62]، لا يخرج أحدهم إذا أحدث حتى يستأذن الإمام بالإشارة فيشير له الإمام بالخروج، وكان ﷺ يأمرهم إذا أحدث أحدهم وأراد أن يخرج أن يمسك بأنفه كما تقدم ذلك في آداب الصلاة، وكان مجاهد وعطاء وغيرهما يقولون في قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا) [الأعراف: 204] إنها نزلت في الصلاة المكتوبة حين كان الناس يرفعون أصواتهم على إمامهم في الخطبة دون غيرهما"، و"في الخطبة" أي: خطبة الجمعة؛ يعني أصل نزولها من أجل الإنصات إلى الإمام لمَّا يقرأ في الصلاة وإلى الإمام حين يخطب الجمعة.
-
وإلى ذلك أيضًا مالَ الحنفية في تفسير الآية؛ وبذلك حرَّموا الكلام أثناء الخطبة وأثناء تلاوة القرآن، وقالوا: ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة؛ مثل الأكل والشرب والحركات المتوالية؛ كل ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة عندهم، والكلام يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة، والأكل والشرب كذلك كلها تحرم في الصلاة تحرم عندهم في الخطبة؛ فيكون في الخطبة كأنه في صلاة وقت الخطبة، ولذا قالوا: لا يصلي حتى التحية.
-
قال غيرهم من الأئمة: يصلِّي التحية ويخففهما، وقد ورد ذلك في الحديث.
وقال الحنفية: لا يصلي لا تحية ولا قضاء ولا أي شيء غير الإصغاء إلى الخطبة وإلى الإمام.
-
ومن هنا عَلِمتَ الكراهية عند الشافعية للكلام أثناء الخطبة وحكمهم بأنه يفوُّت الثواب وحرمته عند بقية الأئمة.
-
الرواية الراجحة عن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: أن الكلام حرام أثناء الخطبة.
-
وعلى القول بسنية الإنصات:
فالداخل هل يُسلِّم أم لا؟
-
قال الحنفية وغيرهم: لا يُسلِّم، الناس مشغولون بالإستماع للخطبة، اسكت ساكت، اقعد اجلس ولا تُسلِّم على أحد.
-
وقال الشافعية: إذا سلَّم الداخل صار فرض كفاية رد السلام عليه، فيجوز رد السلام عليه.
والبعيد الذي لا يسمع الخطبة -مايسمع صوت الخطيب-:
-
قال الحنابلة والشافعية: أن له يذكر أو يقرأ في نفسه من دون الجهر، يقرأ في نفسه من دون أن يجهر؛ كما إذا كان أصم لا يسمع الخطبة فيذكر في نفسه من دون أن يتلفظ ولا يُسمع غيره.
وعَلِمتَ قول الشافعية بوجوب رد السلام أو بسنية تشميت العاطس إذا عطس.
وقال الحنفية وغيرهم من الأئمة كالحنابلة: لا يُشمِّت ولا يرد السلام على أحد فإنه مشغول باستماع الخطبة.
"وكان ﷺ يقول: "إذا عطس أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة فشمتوه" في رواية البيهقي، وهو عند الشافعي أيضًا في المسند يقول: كره الحنفية والمالكية التشميت أثناء الخطبة، وإن عطس وحمد الله تسكت ساكت.
قال الشافعية في المذهب الجديد: يسن تشميت العاطس، وإن كان بغير الخطاب أفضل، وبدل ما يقول "يرحمك الله" يقول: "اللهم ارحمه" "رحمه الله" من دون ما يخاطب، هذا أفضل؛ واستدلوا بجواز الكلام بحديث "متى الساعة" وخطاب النبي ﷺ وهو في الخطبة، وخطاب سيدنا عمر لسيدنا عثمان وهو في الخطبة إلى غير ذلك.
-
إذًا فاعتمد الشافعية سنيِّة تشميت العاطس.
-
أما المذهب القديم عند الشافعي فكغيره من المذاهب يقول: لا يرد السلام ولا يشمت العاطس.
وجاء أن ابن مسعود رضي الله عنه دخل والنبي ﷺ يخطب فجلس إلى أُبَيّ رضي الله عنه فسأله عن شيء فلم يرد عليه، بعد الصلاة قال له: ما منعك أن ترد عليّ؟ قال: إنك لم تشهد معنا الجمعة، أنت ما حضرت الجمعة؛ قال: كيف وأنا عندكم؟ قال: لا، لا، ما أنت حاضر؛ قال: ليش؟ قال: لأنك تكلمت والنبي يخطب ما لك جمعة، قام ابن مسعود فدخل على النبي ﷺ وذكر له ذلك، فقال: "صَدَقَ أُبَيٌّ" ما دام تكلمت ما عاد لك جمعة؛ أي: ذهب عليك ثواب الجمعة، "صَدَق أُبَيّ"؛ إذًا فعلى القول بوجوب الإنصات لا يُشمِّت العاطس، في روايتين عند الإمام أحمد بن حنبل: منها الجواز، والقول الثاني: أنه إن كان ما يسمع الخطبة يُشمِّت العاطس، وأمَّا إن كان يسمع الخطبة فلا، وهكذا جاء عن الإمام أحمد: إذا سمعتَ الخطبة فاستمع وأنصت ولا تقرأ ولا تُشمِّت، وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ -أي: في نفسك- وشمِّت ورُدَّ السلام.
"قال أنس فكنا نشمته تارة باللفظ وتارة بالإشارة، وكان ﷺ يقول: "ادنوا من الإمام واجلسوا" -فالدنو من الإمام مستحب- "وكان ﷺ يقول: من قال مه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له وهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا".
هل يقرأها؟ حمار مُحمَّل أسفار -كتب فيها علم نافع- هل يقرأها؟ هل يفهمها؟ هل يعرف ما فيها؟ لا ينتفع بها، وهذا حضر الجمعة وما انتفع، مثل الحمار يحمل أسفاراً، ما معه من الجمعة شيء، كمثل الحمار يحمل الأسفار ماعنده مما فيها شيء، ولا يعرف أيش معناها ولا أيش فيها! فيحذر المؤمن ويُعظِّم شعائر الله.
"وكان أبي بن كعب -رضي الله عنه- لا يكلم أحدًا ولو سأل عن علم -وفي هذا الحديث الذي قرأناه-، وكان عثمان -رضي الله عنه- وغيره لا يرون بأسًا أن يذكر العبد ربه في نفسه تكبيرًا وتهليلًا وتسبيحًا وقراءة، وكان أنس -رضي الله عنه- يقول: إذا تكلم شخص والإمام يخطب فإن كان بجنبك فاغمزه وإن كان بعيدًا منك فأشر إليه، وكان عثمان يقول: استمعوا وأنصتوا فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ مثل ما للمنصت السامع".
-
وبهذا قال الحنفية: يُكره لسامع الخطبة أن يسبح ويحمد ويكبر ويقرأ شيئاً من القرآن ولو في نفسه، سواء كان سامعاً أو غير سامع.
-
ويقول المالكية: يجوز الذكر وهو خلاف الأولى إن كان قليلاً وبالسر، وأما بالجهر والكثرة فيقول: خلاص هذا أنهى استماع الخطبة؛ فالأولى إذًا كما يقول الشافعية والحنابلة: للسامع للخطبة أن يشتغل بالاستماع، وغير السامع يشتغل بالتلاوة سراً والذكر سراً.
-
قال الإمام أحمد: لا بأس أن يصلي على النبي ﷺ بينه وبين نفسه؛ وذلك لِمَا ورد من التعارض أو بين الأمر والأمر: الأمر برد السلام مع الأمر بالاستماع للخطبة، الأمر بتشميت العاطس مع الأمر بالاستماع للخطبة، الأمر بالصلاة على النبي ﷺ إذا ذُكر مع الأمر بالاستماع للخطبة؛ ولذا فإن الأماكن التي يجهر فيها المستمعون بالصلاة على النبي ﷺ فإن الخطيب الفقيه يسكت أثناء صلاتهم على النبي ﷺ حتى لا يكونوا أعرضوا عن سماع شيء من الخطبة، فيسكت حتى يكملوا صلاتهم ثم يواصل فيصلي بقلبه معهم.
"وكان رسول الله ﷺ يخطب يومًا فجاء الحسن والحسين -عليهما السلام- عليهما قميصان أحمران -فيه خطوط حُمر- يمشيان ويعثران فنزل رسول الله ﷺ من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه -على المنبر وأكمل الخطبة- ثم قال: "صدق الله رسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة -أي: اختبار وامتحان في إقامة حق الله معهم في تربيتهم وفي وضعها في محلها - نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما".
وذلك من أداء حق الطفل، من أداء حق الطفل المتعثر تحمله وتمسكه ما تتركه، فاختبرنا الله بحقوق الأولاد كما اختبر الأولاد بحقوق الآباء والأمهات، وسيدنا رسول الله خير من يؤدي الحقوق ويقوم بها، فأدى حق الطفلين ورفعهما وأكمل خطبته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"وكان ﷺ إذا جاءه شخص يسأل عن أمر دينه وهو يخطب أقبل عليه يمشي نحوه ويترك خطبته فيصير يعلمه مما علمه الله -عز وجل-".
حتى قال له في أثناء الخطبة أعرابي: "يا رسول الله علمني ديني مما أرسلك الله"، فخرج وجاءوا له بكرسي وقعد يعلم الأعرابي ثم عاد إلى خطبته ﷺ.
"وكان عثمان -رضي الله عنه- يقول للرجل: هل اشتريت لنا الشيء الفلاني ثم يرجع إلى الخطبة".
وذلك مما يتعلق بمصالح العامة للمسلمين.
"وكان ﷺ إذا نزل من المنبر يوم الجمعة فكلمه الرجل في حاجته يتكلم معه حتى تفرغ حاجته ثم يتقدم ﷺ إلى مصلاه فيصلي".
وإن كان ذلك مما لا ينبغي أن يتعرض له، -لا يتعرض أحد للإمام يكلمه-.
"وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما فإذا أقيمت الصلاة ونزل عمر تكلموا."
يعني الكلام المجمع على كراهته ماكان أثناء الخطبة، وأما ما كان قبلها أو فيما بعدها فليس محل للكراهة ولا محل للتحريم.
وهكذا يقول الشافعية: لا بأس أن ينزل الإمام عن المنبر للحاجة، فإنه ﷺ لما خطب على المنبر وحنَّ الجذع، مرَّ إلى الجذع وقد خار الجذع حتى تصدع وكاد أن ينشق، فمسحه بيده حتى سكن وكلَّمه ثم رجع إلى خطبته، في حديث يقول: "فاعتنقَها فسَكتَت" وقالوا: سمعنا حنينها يخف يخف مثل صبي تسكته أمه فيَقِلُّ بكاؤه حتى سكت؛ وجاء في رواية: "لو لم أفعل به هكذا لبقي يحن إلى يوم القيامة".
قال الشافعية: فإن نزل عن المنبر بعد ما تكلم استأنف الخطبة -ردها من أولها- لأنه إذا فصل فصلاً طويلاً انقطعت الخطبة.
قال الحنفية: الشرط ألا يفصل بين الخطبة والصلاة بأكل أو عمل قاطع، أما إذا لم يكن قاطعاً فلا تبطل الخطبة بذلك ويواصل الصلاة، فهكذا يجب أن تُعظَّم شعائر الله.
الله يحيي فينا أسرار الصلاة، وأسرار الجمعة، وأسرار الجماعة، وأسرار الاجتماع على ما يحبه منا ويرضى به عنا، إنه أكرم الأكرمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
22 جمادى الآخر 1446