حقيقة الحرية والتحرر وعظمة الوحي والنبوة وميزان الرحمن
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ58، في ساحة جامع الرحبة، باستضافة حارتي الرحبة والبدور بمدينة تريم، ليلة السبت 21 شوال 1446هـ، بعنوان:
حقيقة الحرية والتحرر وعظمة الوحي والنبوة وميزان الرحمن
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله ربنا وربكم ورب كل شيء، خالق السماوات والأرض، فهو الأعلم قطعاً بجميع ما في السماوات وما في الأرض، اختار واصطفى رُسلاً يرسلهم إلى المُكلفين في الأرض، ختمهم بعبده المشفع يوم العرض محمد ﷺ، فكان غاية ما يصل إليه الناس بما أوتوا من قوى عَقلية وآلات أسماع وأبصار ومدارك وأذواق وأحاسيس.. غاية ما يصلون إليه ما اتفق مع الفطرة وتبيَّنَ بنور المرسلين أنه هدى وخير، كان خيراً يلزم منه صلاح في الحاضر والمعاش القصير، ولمن آمن فيما بعد هذه الحياة من البرزخ والمصير ويوم الحكم من قبل العلي الكبير، وافتراق جميع المكلفين إلى فريقين لا ثالث لهما: فريق في الجنة وفريق في السعير، جعلنا الله وإياكم من أهل جناته.
المعيار الحق للخير والشر:
فكان كل ما ادّعاهُ أحد في الأمم السابقة أنّ فيه مصالح صحية أو اجتماعية وخالف ما قاله نبيهم ورسولهم في ذلك الزمان، كان سبباً لاختلال وضع من اتبع ذلك الفكر وظهور النتائج العكسية السيئة في الدنيا، ثم المحاسبة والمصير والمرجع الكبير للعلي الكبير؛ يقوم فيه ميزان مَن؟ أي الطوائف؟ أي الجمعيات؟ أي الدول؟ أي الحكومات؟ يقوم ميزان من؟ فلا يبقى إلا هذا الميزان الذي بُعِث به الأنبياء فقط، الخير ما قالوا أنه خير، والشر ما قالوا أنه شر، وما عدا ذلك هباءٌ منثور، وما عدا ذلك ضلال لا أثر له ولا خبر له، في يوم قال الله عنه قوله الحق: (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
نتائج تخلف الأمة عن متابعة النبي ﷺ:
بذلك كله وفي تاريخ هذه الأمة منذ بُعِث نبيها المأمون الخاتم للنبيين إلى جميع المكلفين من الإنس والجن، رحمة للعالمين ﷺ، بشيراً ونذيراً (وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)، لا يمكنهم أن يتحصَّلوا من خلال تعاملهم مع أجناس الكون ومع بعضهم البعض في مختلف العلوم والسلوكيات، لا يمكنهم أن يتحصَّلوا على حقائق المنافع والفوائد القصيرة والطويلة، المُنقضية والأبدية، إلا من خلال موافقة إرشاده وهديه ودلالته، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، (ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
وكل ما يحاول على ظهر الأرض من بَث تغيير للمدارك، للثقافات، للعلوم وللمعالم، لا تمر السنوات إلا وينكشف باليقين أن كل ما خالف هدي الأمين باطل وخطأ وفساد، في الصحة، في الاجتماع، في الحكم، في السياسة، في الهندسة، في أي شيء في الوجود؛ ما خالف كلام هذا النبي تكون نتائجه تعب في الدنيا ومشاكل وآفات ظاهرة وباطنة، (وَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في مختلف المجالات صغيرها وكبيرها.
التلاعب بالمفاهيم ودعوات التخلف:
وما سمعتم من كلام أحبابنا في مجلسنا هذا في هذه الليلة، كله يدور حول هذه الحقيقة التي عند إدراكها يصل الإنسان إلى حقيقة حريته وتحرُّره من التبعية المقيتة، والتبعية المقيتة أن مخلوق يخضع لمخلوق على غير ميزان الخالق جل جلاله وتعالى.
وفي دوائرهم قال الله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ثم حدد: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)، صدق الله.
كم لعبوا بالمفاهيم -وكما سمعتم- من مدة إلى أخرى، يقولون: التخلف في العمل الفلاني، فإن كان هذا العمل موافقاً للشرع فاعلم أن الكلام باطل، ودع السنين تمر فالكل سيعرف أن هذا باطل وضلال.
التمسك بالسنة النبوية وأثره في المجتمع:
وما تحدثتم عنه في أيام الثمانينات، أصاب حضرموت واليمن من شرور هذه المسماة بالحضارات والأفكار المعاندة المضادة لميزان الوحي والتنزيل الإلهي، نالهم منها ما نال، ظهر في مثل هذه المظاهر والاستخفاف بشؤون السنن والواجبات والآداب.
سمعتم الحديث عن سُنن توقير الكبير: "وإنّ من إجلال الله توقير ذي الشيبة المسلم" يقول ﷺ، الآداب التي عرفناها في التوقير كنا نعرفها إلى حد أيام صغرنا في البلد، الأُسَر بمختلف صفاتها من كان أصغر من أخيه بسنة أو أقل من سنة يُقبِّل يده كل يوم، هذا أدركناه وعشنا إلى آخر الأيام مع كبارنا الذين أثّرت فيهم الأُسَر التأثير الإيجابي.
وجدناهم وبعيوننا رأيناهم، هذا ابن سبعين وهذا ابن ثمانية وستين، وكل يوم يُقبِّل هذا يد هذا، وكلما لقيناهم في أي مجمع، في ديارهم، في خارج ديارهم، في المجامع، وجدنا هذا يُقبِّل هذا لأن أخاه أكبر منه بسنة أو بسنتين، لأن أباه رباه على ذلك وأمه ربته على ذلك، ولم يتأثر بمقالات السفهاء ولا بأقاويل أهل الشرق والغرب التي لا تقوم على أساس من النور والوحي.
وبهذا ندرك أنه يجب أن نحرص على هذه الحرية الشريفة والتحرُّر الصحيح من التبعية للأراذل والأسافل، ونعلم أن الحق ما قال الله وما قال رسوله.
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقناتٌ أن ما قال واقعُ
وكل سُنّة من سننه فضلاً عن الفرائض، كم تجلب إلى الأمة: مِن طمأنينة وسكينة في الفكر وفي العقل وفي الهدوء، وفي أمن المجتمعات.
وهكذا سمعتم الحديث حتى عن استعمال القلنسوة، كنا نعهدها ما هي قلنسوة فقط، مع فقر الناس كان كثير ما يجد القلنسوة، حتى العمائم، مختلف أصناف أهل الحِرَف والمِهن عندنا بعمائمهم، قد تتميز من صاحب حرفة لصاحب حرفة لكنها عمامة الأصل فيها السنن.
وتلاقيهم في مهنهم وخارج مهنهم في مثل ذلك حتى في ألعابهم الشعبية، يعني السنن كانت هي المرتكز والمعتصم الذي يعود إليه قيادة المجتمع، المجتمع وضع قيادته في مأمون ائتمنه رب العرش. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، و (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أهمية تنظيم الوقت وفق الهدي النبوي:
شؤون الملابس كلها والمآكل والمنام كانت مُقيَّدة بقيد السنة، ونقرأ في وصاياهم:
ولا تسمر فتُقمَر عن الطاعات والدين ** تجنّب جمّ جداً من السفها الشياطين
يقولون عن عموم السمر في غير ما جاء به الذي يكون فيه بعض الأوقات ونادر الأوقات، يقولون السمرة قمرة، يعني خديعة تخدعك عن مصالحك
الذين كان برنامجهم اليومي يعودون من المساجد بعد صلاة العشاء، يتناولون ما تيسر من العشاء، والساعة الثامنة والنصف هم نيام، وآخر الليل نشطين، والصبح نشطين، والظهر نشطين، والصبح تمام متناسب، "بورِكَ لأمّتي في بكورها".
والنوم في أول الليل اكتشفوا فوائده وعوائده على الجسد، وهو الذي جاء في السنة، "كان يكره النوم قبلها - قبل صلاة العشاء - ويكره الحديث بعدها"، المسامرات الزائدة التي مالها حاجة بعد العشاء يعرض عنها ﷺ.
ترتيب هذا، هؤلاء الذين كان برنامجهم اليومي هذا، يصلون إلى الثمانين، إلى التسعين، بصرهم قوي، سمعهم تمام، حركتهم جيّدة، يطلعون في الدرج إلى الطابق الثاني والثالث، ولا يحتاج يجلس على كرسي، يقعد على الأرض ويسجد، أمام أعيننا رأيناهم.
معهم الأكل الحلال والأكل الطبيعي ما فيه الأشياء الضارة، والسنة في النوم، والسنة في اللباس، والسنة في الطعام، والسنة في المعاشرة مع الأهل، مع الأولاد.. ففازوا (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
التناقض بين شعارات الحضارة وواقعها المؤلم:
بذلك نجد أننا بِكُل شرف وعزة نرجع إلى مصدر الوحي والتنزيل لنهتدي به في أيامنا وليالينا، مُتحررين مِن أن يضحك علينا مخادع بشيء في الأفكار أو السلوكيات، بالميزان القويم الذي هو ميزان الله (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)، جل جلاله!
يجيء واحد لا وضع الأرض ولا رفع السماء ولا خلقنا، ويقول سنعطيكم ميزان وخلوا ميزان الرب! بأي حق؟ بأي منطق؟ بأي معنى؟ ضحكوا على العقول كثيراً، حتى كان من بين المؤمنين من استخف واستهان بِسنة محمد أو بما جاء به، أو من بعض الآيات - والعياذ بالله - وهذا يوقعهم في الكفر، مقابل مقولة لما أدري من من، ونظرية ما أدري لمن! جاء واحد من الفسقة والمفسدين والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وهكذا كانت النتائج إلى أن حضاراتهم انتهت إلى ما تشهدونه، في آخر تطوراتهم بعدما سمعتم قصف المساجد وقصف المستشفيات، أخذ بعض الذين يعملون في الإنقاذ، يعملون في الإطفاء، يعملون في الصحة للضرورة، أخذهم أو تقصّدهم أو دفن بعضهم أحياءً قبل أيام! بلغت القمة في الحضارة، حقوق الإنسان، التقدُّم!
إذا كان هذا هو معنى التقدُّم؟ فجميع أفكارهم التي يبثونها وهي مخالفة للشرع هذا معنى التقدم فيها؛ تسقط، تهبط، تنقطع عن العلي الأكبر، تخسر في يوم المحشر والعياذ بالله تبارك وتعالى، وتسبقك الخسارة لأيامك القصيرة في هذه الدنيا.
جاؤوا لنا بالنظام في الأراضي، في الزراعات، مخالف لشرع الله، ماذا جنينا منه؟ بعد الاكتفاء الذاتي صرنا ما نجد الذي يكفينا، وتعبنا.
وكل ما جاؤوا بالنظام في أي مجال يخالف منهج الله، ما هي النتائج منه؟ أمام العيون ترونها، ولكن تصامم عند الناس وتعامي كأنه لم يكن شيء.
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ).
الحمد لله. كما سمعتم، مهمتكم كبيرة في مثل هذه البلدة والوادي الميمون، أمامكم المهمات في الاستمساك بالعروة الوثقى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).
مضادة الفطرة والتكوين الرباني:
فيصلون إلى هذه المستويات، وقبل مدة يسيرة قاموا يخربطون في الجنس الإنساني نفسه ويعملون كلام طويل وعريض وصادفهم مباشرة نتائج صعبة، وسكتوا بعض الشيء.. خفّفوا، لأنه لا صحة ولا مجتمع من وراء الذي جاؤوا به، ولا استقرار ولا طمأنينة! سكتوا عن اضطرار، وإلا قد خاطبوا حتى كثير من الدول الإسلامية قالوا لابد تقومون بقانون عندكم لهؤلاء الشاذين الساقطين، وأفسحوا المجال حتى الذكر يتحول أنثى وهذه يتحول ذكر! ولعبة من اللعب، مسخرة من المساخر، مضادة للفطرة، للعقل، للتكوين الرباني الإلهي! وما يجنون منه إلا كل تعب، وإلا كل اهتزاز في الأمن وفي الطمأنينة وفي السكون وفي النفس! ولا طمأنينة إلا بذكر الله وبالعمل بشرعه.
دعوات مباركة:
أمامكم المهمة الكبيرة والعفو على التطويل، وإن شاء الله لا نزال في دائرة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، جعلنا الله وإياكم كذلك، ونجّانا من كل خُسر.
وغفر الله للمُتقدّمين معنا، منهم الحاج هادي بن سعيد منصور وجماعة كانوا في هذه الحارات وفي غيرها من حارات تريم، وممن كان له وجهة إلى الله تعالى، يريد به الوفاء بعهده وخدمة هذا الدين، اللهم ارفع درجاتهم واجمعنا بهم في أعلى الجنة.
واجزِ عنا إخواننا والمساهمين والقائمين خير، وهؤلاء الباذلين للجهد والمتطوّعين بالخدمات في هذه المجالات اقبلنا وإياهم، واجعلنا في الذين تعد لهم من عندك الجزاء الكريم والفضل العظيم، يا ذا الفضل العظيم.
وأنقذ الأمة في المشارق والمغارب، واكشف الغمة عنا وعنهم، وحول الأحوال إلى أحسنها، إنك أكرم الأكرمين. والحمد لله رب العالمين.
22 شوّال 1446