حقيقة النور والاعتبارات الحقية والخلقية وشأن المستقبل

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ60، في الساحة الشرقية لجامع السعيد، باستضافة حارتي الروضة والسعيد بمدينة تريم، ليلة السبت 18 ذو القعدة 1446هـ، بعنوان:

حقيقة النور والاعتبارات الحقية والخلقية وشأن المستقبل

نص المحاضرة:

الحمد لله، حمداً تتنوَّر به القلوب نوراً يضيء في رابطة بالأصل في (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ربنا أتمِم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، ربنا أتمِم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ). 

بداية الخلافة في الأرض

وقد جعل الله تبارك وتعالى مصدر التنوير لعباده، خصوصاً العقلاء منهم المكلفين من الإنس والجن: النبوة والرسالة، ابتداءً بآدم النبي -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- وإعطاء الحق له الهدى الذي يُعلِّمه أولاده على ظهر الأرض، ويبدأ بالقيام به هو وزوجته حواء، (قَالَ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).

وابتدأت الخلافة المخصوصة على وجه الأرض بآدم وحواء بعد (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، ثم جاء النسل وعلَّموا مَن وُلِد من أبنائهم وبناتهم، وكانوا بذاك العدد: إحدى وعشرون من البنين وعشرون من البنات الإناث.. بهم بدأت الأسرة الأولى في حمل أسرار الخلافة المُثلى العظيمة، التي نُوِّهَ بشأنها بين الملائكة قبل خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

انتقال النور المحمدي عبر الأنبياء

وبقي مصدر هذا النور مُرتبطاً بأصلٍ في هذا النور، وذلك أن الله تعالى لما كوَّن الخلق ابتدأ بالنور فخلق نور محمد ﷺ، وأن الله أشرق نور محمد في جبهة آدم، ولم يزل حتى حملت زوجته حواء على ظهر الأرض، وانتقل النور إلى جبهة حواء حتى ولدت شيثاً فبرز في وجه شيث، ولم يزل نور مخصوص يُرى في جبهة شيث على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، حتى حملت زوجته بالولد الذي يكون جداً لرسول الله ﷺ، فانتقل إلى بطن الأم ومنه إلى الابن، وهكذا إلى أن برز في جبهة إدريس حين وضعته أمه، وانتقل من أبيه إلى أمه وقت الحمل به، ثم ظهر في جبهته حتى حملت زوجته بالابن الذي يكون جداً لرسول الله ﷺ، فانتقل إليه النور، وهكذا إلى نوح عليه السلام، وبرز هذا في نوح، ثم في ولد نوح، وهكذا تسلسل في كبار مِمن يختارهم الله حتى جاء إلى إبراهيم عليه السلام.

وفي هذا جاءنا الحديث الصحيح أنّ سيدنا العباس يقول لرسول الله: ائذن لي أن أمتدحك بشعر، فذكر نوره الذي برز من أول وتنقّل في هذه الأصلاب، وقال: 

"من قبلها" أي قبل حياة الدنيا "طِبتَ في الظلال" أي في الجنة مع آدم والنور في جبهة آدم. 

مِن قبلها طبتَ في الظلال وفي ** مستودعٍ حيث يخصف الورقُ

حتى عصى آدم ربه وحواء وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. 

حيث يخصف الورقُ

ثم هبطتَ البلاد لا بشر أنت ** ولا مضغة ولا علقُ

بل نطفة تركب السفين - سفينة نوح - وقد ألجم نسراً وأهله الغرقُ

تُنقَّل من صالبٍ إلى رحمٍ - وفي رواية قال: وردتَ نار الخليل مُكتتماً في صلبه أنت كيف يحترقُ؟

 لما أُلقي إبراهيم في النار وأنت كنت في صلبه موجود! 

وردت نار الخليل مكتتماً في ** صلبه أنت كيف يحترقُ؟

حتى احتوى بيتك من خِندف علياء دونها النطقُ

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفقُ

ثم أنزل الله عليه: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ). فكان هذا مركز النور ﷺ، هو هكذا في الدنيا، وهو كذلك في البرزخ، وهو كذلك في موقف القيامة الذي يقول فيه: "أنا لها"، والذي يكون فيه أول شافع وأول مُشفّع، ويكون صاحب المقام المحمود ﷺ (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

حال من لم يستضئ بالنور المحمدي

فكل مُكلَّف من الإنس والجن مرَّت حياته الدنيا يستطيع أن يستضيء بهذا النور ويأخذه فلم يستضئ فهو الخاسر وهو الذي أبى مستقبله بالفشل، بل بالعذاب والعقاب والتعب.

(يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلَّذِينَ كَفَرُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)، الظالم يقول: ليتني مع محمد، والفاسق والمجرم والملحد (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) كلهم يتمنون صِلة بهذا الرسول وقُرباً منه في موقف القيامة.

ولا يدخل من المكلفين للجنة أحد حتى يستظل بظل لواء الحمد، الذي يحمله النبي محمد، فيجتمع آدم ومن دونه من النبيين وجميع من يدخل الجنة تحت لواء محمد، ومنه ينتقلون بعد ذلك إلى منازلهم في جنة الله، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.

بشارة الأنبياء بالنبي محمد ﷺ

هذه الحقيقة الإيمانية هي التي بها قامت دعائم أهل الصدق من عباد الله المخلصين، فالأنبياء قبل نبينا كانوا يُبشِّرون بنبينا، وأُخذ عليهم من قبل خالقهم الذي نبَّأهم واصطفاهم للرسالة أن إذا بعثه وأظهره في أوقاتهم أن يؤمنوا به ويتبعوه (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

هكذا قامت دعائم الأنبياء، يقول سيدنا عيسى في بيان رسالته: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، لِمَ مبشراً؟ البشارة معك؟ (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، فهكذا حملت رسالات الأنبياء البشارة بسيد الأنبياء.

محبة الصحابة للنبي ﷺ

ثم قامت دعائم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على الاتصال القوي بهذا النور النبوي، وكانوا إذا ذكروهُ دمعت عيونهم وامتلأت جوانحهم شوقاً وقشعريرة وحنيناً إلى اللقاء، بل وهم معه في الحياة، يكون أحدهم بين أهله وولده في وقت طعامه وارتياحه في البيت، فيذكرهُ فينزعج ويخرج من بين أهله وولده وطعامه لينظر إلى وجهه، وقالوا: كان أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ ﷺ، وبقية الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان، كلهم مضوا على هذه الحقيقة وهذا الأساس.

الميزان الحق في تقييم الناس

إيمانهم بربهم اقتضى الإيمان بملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، وإذا بخير الخلائق عند الخالق محمد ﷺ، سيد المرسلين وخاتم النبيين، أشرف خلائق الرسل، وأفضل الرسل أولو العزم، وأفضل أولي العزم محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.

إذا ذكرنا هذا نشير أو نُبيِّن أن ما يضعه الخلائق من اعتباراتهم في إكبار ذا أو إنزال هذا منزلة إجلال أو تعظيم ذا، ما جاء على غير هذا القياس فمهتاس، باطل، ليست له حقيقة، مجِّد من شئت، عظِّم من شئت على غير ذا الميزان، فيصبح الأمر كذب في كذب ودجل في دجل، ولا له قيمة، لكن هذا الميزان مستمر وباقٍ إلى البرازخ، إلى القيامة، إلى الجنة، حتى أهل النار كلهم يقرون بذلك ويلهجون ويتمنون أنهم مع محمد، وعرفوا من عظمة الله عظمة من اجتباهم واصطفاهم من ملائكته وأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، وأنّ الكل يرجعون بعد ذلك إلى الأفضل والأفضل الأكمل أبو الزهراء محمد خاتم الرسل ﷺ.

هذه الحقيقة التي هي في ميزان الله تعالى، هؤلاء هم الأتقى عند الله، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). وما يضعه الناس بعد ذلك من اعتبارات وترتيبات خلاف هذا تضمحل وتتلاشى، أكثرها في الدنيا قبل الآخرة، وأما في الآخرة: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

حال أهل النار وتحاجّهم

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)، الصلات التي بينهم: هذا مقدَّم وهذا معظَّم وهذا قدوة وهذا مفكر.. ذهبت! (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)، لم يبق شيء إلا (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)، الكبار هؤلاء الذين أغوونا عنك وصرفونا عن منهجك وأغرونا، أغرونا بالدنيا، هؤلاء أضلونا (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ)، زِد عليهم عذاب وألم وعقاب، (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)، (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ).

وهكذا: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا). نحن وإياكم سواء، عذاب عذاب، عقاب عقاب، هذا جزاء ما جنينا في الدنيا، الترتيبات التي وضعناها كلها باطلة فاسدة، بقي فقط ترتيب الحق جل جلاله وتعالى في علاه.

يقول جل جلاله: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ) يقول الكفار في الآخرة - منهم كفار زمانكم هذا، منهم هم والذين قبلهم يتجمعون - (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم السبب! جعلتمونا نستهزئ بالمؤمنين والإيمان ونتبعكم على أفكاركم المُتقدمة المُتطورة اللي سميتموها بأي اسم! (لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) الخطط تلك التي تعملونها والترتيبات والمكر يا خِباث! التي عملتموها لنا في الدنيا، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

الذين تنفعهم الأموال والأولاد

وهكذا يقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى (وَقَالُوا) - هذه اعتباراتهم - (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ)، هذا الذي جعلتموه غاية لكم ما هو شيء عندنا إذا ما أطعتمونا فيه ولا أقمتموه على منهاجنا، (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا).

لهذا سمعتم مثل التواصي بتراث طَيّب مرتبط بنور الوحي والشريعة، يجب أن نقوم عليه (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) إلا من آمن وعمل صالحاً، يُرَبّون أنفسهم وأولادهم على مسلك يقصدون به وجه الله بنورانية الوحي، فهؤلاء الذين تنفعهم الأموال والأولاد، أما أموال وأولاد من غير هذا المنهج ما تنفع (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ).

حال من افتقد الطمأنينة الإيمانية

سمعتم هذا الذي يملك الأبراج في مختلف دول في العالم يريد الموت ويحاول نحر نفسه، ما عنده راحة، ما عنده طمأنينة! ما عنده ذرّة من هذه السكينة المُتنزِّلة في مجالسكم، لو حصَّل ذرة منها ما سينتحر ولا سيفكر في الانتحار، لكن ماله مسكين، ما أنقذه في الدنيا قبل الآخرة، ما أنقذه ماله في الدنيا قبل الآخرة.

وهكذا حتى يسعد قلبه بمعرفته بربه ويذعن له ويخضع (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وهكذا وترون الفطرة عند كل مُنصف عاقل تحكي ذلك وتقرّ به، وهذه المرأة التي طلبوا منكم تدعو الله أن يهديها للإسلام - الله ينوِّر قلبها بنور الإسلام - تتحدث عما شعرت به في باطنها، قالت: اجتماع خاص بالنساء وحدهن أجلس فيه، أحس بعظمة وشرف وطمأنينة ما شعرت به في حياتي الماضية، عادها لم تسلم بعد، الله يهديها إلى الإسلام وينوِّر قلبها بالإسلام، إنه أكرم الأكرمين، وهكذا رأت أن الشرف في زيارة أهل القيم، أهل الشيم، أهل الفضائل، وشعرت بطمأنينة، وشعرت بشيء يدخل في قلبها، ما دخل بالمال ولا دخل بالمظاهر ولا دخل بالتكنولوجيا، ولكن (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) جل جلاله وتعالى في علاه.

المحافظة على التركة النبوية

إذاً كله يتحتّم علينا أن ننتبه من هذه التركة النبوية المحمدية والخصائص التي خُصَّ بها كثير من الناس هنا وهناك، والتي خُصَّت مدرستكم بوفرة منها، يجب أن تحافظوا عليها.

وكذلك كما سمعتم أن تحسنوا بثها ونشرها إلى هنا وهناك، فإنها أمانة وتَرِكة للمرسل للجميع رحمة ﷺ، وأن تُحسنوا المحافظة عليها في بلدانكم، لا يغرّكم غار، ولا يلوي أعناقكم من يأتي بالتلبيس والتدليس والدجل، ويرى أن أسلوب العيد مثلاً في شيء من هذه الزمالات التي سمعتم عنها تؤدي إلى استعمال التنباك، إلى اتخاذ القات وهذا قد يؤدي إلى ما وراءه من الآفات، ومعظم النار من مُستصغر الشررِ، الشرر الصغير هو الذي يلتهب ويحرق البلد كلها.

فيجب أن نعرف هذه الحقائق ونتعاون على مكارم الأخلاق والشيم، وما يرضي إلهنا الخلاق جل جلاله، والعمل بسنن سيدنا محمد ﷺ وحُسن تطبيقها في ألبستنا، في أطعمتنا، في كلماتنا، في دخولنا وخروجنا، في علائقنا بعضنا البعض، في صلواتنا، في بيعنا، في شرائنا، في جميع أحوالنا (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).

اللهم اجعلنا مِمن يرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله كثيراً، واجعل قدوتنا بمحمد ﷺ، لكل ذكرٍ منا وأنثى، صغيرٍ وكبير، يا حي يا قيوم، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.

جزى الله شيخ الحارة، عاقل الحارة خير بمشاعره الطيبة، وزاده توفيقاً وبث للنور والخير، جزى الله سبحانه وتعالى إخواننا المتكلمين، سمعتم حديثهم وكلامهم عن التراث وعن الاقتداء والاهتداء بخير الناس ﷺ (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الدعاء للأمة الإسلامية

أكرِمنا اللهم بحقيقة التبعية لخير البرية، واحشرنا في زمرته، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، واقبل حجاج بيتك وزائري نبيك، ورُدهم إلى أوطانهم في عافية وسلامة تامة كاملة، واشركنا فيما نزلت عليهم وأكرمتهم به وفي أدعيتهم وتوجّهاتهم.

وخلِّص اللهم بيت المقدس من سُلطات المعتدين والمفسدين الذين يقتحمون الساحات وينوون اقتحام المسجد ومبانيه، اللهم ادفع شرهم عنا، وهم الذين في كل يوم يُرون العالم من الظلم والفتك والتجويع والإبادة الجماعية وأمثال هذا من المنكرات والقبائح والجرائم ما يندى له الجبين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، رَدَّ الله كيدهم في نحورهم، ودفع عن المسلمين جميع شرورهم. 

وأيقظ قلوب هذه الأمة لتتصل بالقوي، وما لها قوة غير اتصالها بالقوي المتين جل جلاله، عبر من جاءنا بالدين القوي والمنهج السوي، والذي يقول سبحانه وتعالى عنه: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)، ويقول عنه سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).

يقول جل جلاله وتعالى في علاه في وصف هذا المرسل الذي جاءنا بهذه الرسالة صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) ذي قوة عند ذي العرش، تعرف معنى ذو قوة عند ذي العرش؟ ليس في سلاح نووي ولا هو عند طائفة ولا عند دولة تذهب وتهلك، ذي قوة عند ذي العرش مكين! (مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) صلوات ربي وسلامه عليه.

فيا ما أقل عقل من عظَّم القوة الحسية على هذه القوة العظيمة المعنوية الدائمة السرمدية، ثبتنا الله وقوّانا بالإيمان واليقين، ورزقنا متابعة حبيبه الأمين في كل شأن وحال وحين، وجمعنا وإياكم على ما يحب فيمن يحب في لطف وعافية، وزاد هذه الحارات في البلدة من الإقبال والإنابة والإخبات والتواصي بالحق والصبر والثبات على ما هو أحب وأطيب وأنفع للبلاد والعباد ظاهراً وباطناً، والحمد لله رب العالمين.

يملأ قلوبنا باليقين والإيمان والصدق، ويثبتنا في خيار الخلق، ويرزقنا قصب السبق، ويرزقنا الاستمساك بالعروة الوثقى، ويتولانا بما تولى به أهل التقى، ويصلح البلاد والعباد والأمة، ويديم لبلداننا هذه أمناً من عنده وطمأنينة من عنده، ويقيها البلايا والكروب والآفات وجميع المحذورات في الظواهر وفي الخفيات، ويجعلنا من خواص الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وأحيا فينا سنن نبينا ﷺ، وكل ما يرضيه عنا في الأقوال والأفعال والنيات والمقاصد، وفرَّج كروب الأمة وكشف الغمة، وجاد بمحض الفضل والجود والرحمة، وحَوَّل الأحوال إلى أحسنها، وخَتم لكل منا بأكمل حسن الخاتمة مع رضاه الأكبر ونظر إليه سبحانه، نظرة يجعل بها كل فرد منا وممن في بيوتنا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، ولا يجعل فينا شقياً ولا محروماً ولا مطروداً ولا مأزوراً ولا مأثوماً ولا مقطوعاً عن ركب السعادة في الغيب والشهادة، وفي يوم يقوم العباد بين يدي رب العباد، يجعلنا في زمرة خير معلم وهادٍ.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، وزدنا من نوالك ما أنت أهله، يا سميع يا بصير، يا عليم يا خبير.

تاريخ النشر الهجري

20 ذو الحِجّة 1446

تاريخ النشر الميلادي

15 يونيو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية