تفسير سورة النازعات -2- متابعة السورة من قوله تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)

تفسير جزء عمَّ - 99 - مواصلة تفسير سورة النازعات {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ (20) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (26))

الحمدلله مكرمنا بتدبّر آياته، والاستماع إلى تعليماته وتوجيهاته، وصلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده ورسوله سيدنا محمد خير بريّاته، وعلى آله وأصحابه وأهل محبّته ومودّاته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم والملائكة المُقَربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. 

أما بعد،،،

فإنَّا في تَنعُّمِنا في خطاب ربنا وتدبّره والنّظر في كلام ربّنا سبحانه وتعالى وتذكّره، مررنا على معانٍ من آيات أوائل -سورة النّازعات-، وربُّ الأرباب تكرّم علينا بالخطاب على يد سيد الأحباب، فله الحمد وله الشكر، أكرمنا وإياكم ومن يتّصل ويسمع من هنا وهناك في بُكرات شهر رمضان المُبارك، والبرَكةُ في كلّ لحظة من لحظاته، وفي البُكور بركة تتضاعف في رمضان، في بُكور كلّ يومٍ نُبكّر إلى تأمُّل كلام الإله الخالق الربّ العظيم البديع الفاطِر الرحمن -جلّ جلاله-. 

فالحمدلله الذي شرّفنا بهذه الكرامة، ونسأله أن يُتم النِّعمة علينا، نستمع الآن إلى آياته ونتدبر بعض معانيها؛ ليكون ذلك مفْتاحا للواحِد مِنَّا ولكلّ مُنْصِت وسامع لأن يتسع منه الوعي والفهم والعلم والإدراك والمعرفة لمعاني وحي الله، اتساعًا يليق بعظمة الواسع وكلامه، وتهيؤ المؤمن بصفاء باطنه، وتَخلّيه عن هواه، بحسن متابعة رسول الله ومصطفاه.

إذْ كل على قدر الصفا والاقتداء *** نال الهدى في أحسن استقبال

ثم التهيؤ لهذا الاتساع في معاني كلام ربّنا العظيمات الوِساع، التي يقوم عليها في هذه الحياة أعظم الانتفاع، نطرقُ أبْوابًا من المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، وكل ذلك تهيئةٌ لحسن اللقاء، ونيل الكرامة عند المُلتقى، وهل شرف هذا الإنسان وكرامته إلّا بلقاء خالقه والخالق عنه راضٍ؟! وهل إنْ فاته ذلك، له أدنى ذرّةٍ من عِزَّةٍ أو كرامة؟! فدع عنك هذه الخيالات في الاعتزازات بالمظاهر والصور والرئاسات والدنيا والملك فيها وما إلى ذلك.. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِی ٱلْأَرْضِ) [القصص:4]، فإلى أين ذهب إلى أي علوّ ذهب؟! هبط ثم هبط ثم هبط، وسقط ثم سقط ثم سقط..

 من لم يُدرك أن يلقَ هذا الربّ، والربّ عنه راض؛ فهو الهالك الذي لا عزة له ولا كرامة ولا رفعة، فلا يغرّك مظهر ولا يغرك وسوسة مبثوثة بصور مختلفة، شيء من شياطين الجنّ إلى الصدور مباشرة، شيء مُحاك ومصنّع، يتوافق مع شياطين الجن، تُخاطب به عبر الأجهزة وعبر المعروضات والأطروحات عليك في هذا العالم، تأتي سمعك وعقلك من هنا ومن هنا؛

  •  لتنصَرف عن ربك.
  • لتنسى الحقيقة.
  •  لتَخرج عن دائرة خِيار الخليقة.
  •  لتزِيغ في الطريقة.
  •  لئلا تستمسِك بالعروة الوثيقة. 

(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].

كلُّ من ليس غايته أن يلقى ربّ السماوات والأرض الذي خلقه وحده -سبحانه-! وأمره إليه وحده، كل من لم ينتهي أمره وحاله إلى أن يلقَ هذا الرب، وهذا الرب راض عنه؛ فهو الخاسر وهو الهالك وهو الفاسق.. يسمّى ملك، يسمّى رئيس، يسمّى وزير، يسمّى مفكر، يسمّى عبقري، يسمّى مخترع، يسمّى مكتشف، سمّيه الذي تُسميه.. وهل يغنيه شيء من هذه الأسماء؟! وهل ينفعه شيء من هذه الأسماء؟! وهل يُدركه شيء من هذه الأسماء؟!.  

لكن حالُه ماذا سمّاه الله؟ الله الذي خلقه ماذا سمّاه؟ اترك الصحف تسمّيه.. اترك القوانين تسميه.. اجعل الأحزاب تسميه.. الله ماذا سمّاه ، ماذا سمّاه؟! هذا إن سمّاه مجرم مجرم، إن سمّاه كافر كافر، إن سمّاه خاسر خاسر، إن سمّاه مُعذَّب مُعذَّب، والاسم اسم -الله-  ليس اسم الخلائق! لا إله إلا هو: (قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام:73]. 

الحمدلله على تدبُّر آيات الله، افتح اللهم أبواب قلوبنا وقلوبهم؛ لنفقه عنك، لنسمع منك، لنرى آياتك؛ مؤمنين موقنين نزداد إيمانا ويقينا..

يقول -جل جلاله- فيما تأملنا من معاني: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6))؛ تتحرك بشدة، 

  • الراجفة التي ترجف القلوب (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)؛ بالنفخة الأولى في الصور. 
  • (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)) ما تبعَ الشّيء ولحقه فهو رِدْفُه -النفخة الثانية-. 

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8))، مضطربة زائلة عن مكانها (وَأَفْـِٔدَتُهُمْ هَوَاۤءࣱ) [إبراهيم:43]، (إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ) [غافر:18] زائلة عن مكانها من شدة الهول (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)) -مضطربة قلقة خائفة فزعة- (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9))؛ عليها أثر الذُّلّ كما قال تعالى: (خَـٰشِعِینَ مِنَ ٱلذُّلِّ یَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِیࣲّۗ) [الشورى:45]، خاشعة.. 

قال الله: هؤلاء الذين يعيشون معك في الحياة وقد (أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45-46]، وعندك أوضح الحجج، وأفصح البيان، وأصدق لسان، ورؤية وجهك تكفي امتلاء الجنان بعظمة الرحمن الذي اصطفاك، "من نظر في وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب".

قال سيدنا عبدالله بن سَلام -من علماء اليهود كان فصار من خيار الصحابة-: خرجتُ لمّا قيل لي أنه ﷺ وصل إلى المدينة، فخرج إليه إلى نواحي قباء، قال: فلمّا وقع بصري عليه علمتُ أنه ليس بوجه كذاب. قال: بمجرد ما وقعت عيني على وجهه عرفت أن هذا رسول الله؛ هذا لا يكذب. قال: فسمعته أول ما سمعته يُكلّم من حواليه يقول: "يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ وأطعِموا الطَّعامَ وصِلوا الرحام وصَلُّوا باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلام"؛ فامتلأ قلبه بالإيمان وذهب يُشاور نفْسه، كيف يصنع وكيف يفعل.. انتظر حتى وصل النبي ﷺ وهو خارج من قباء في طريقه -طريق ديار سالم بن عوف، بني عمرو بن عوف- إلى أن وصلت به النّاقة إلى مكانه الذي هو تحت دار أبي أيُّوب الأنصاري -رضي الله عنه-. 

ومرّت الأيام فجاء عبدالله بن سلام قال: يا رسول الله إني علمت أنّك رسول الله وأنك موصوف في كتاب الله الذي أُنزل على موسى، أقرأ وصفك أعرفُك تمامًا أنت رسول الله، ولكن أحب أن تسأل اليهود عني قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم قوم بُهُت، فرتّب معه -تفق- خبّأه في مكان عنده، ودعا بعض كبار اليهود ليأتوا أمامه؛ فجاؤوا.. دعاهم للإسلام فأبَوا، قال: أتعلمون أني الذي وصفني الله تعالى في توراة موسى، قالوا: لا.. لا ما نجد هذا ولا نعرفه، قال: ما تقولون في عبدالله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا وخيرنا وابن خيرنا وعالِمنا وابن عالِمنا، قال: أرأيتم لو أسلم؟ قالوا: لا أبدًا ما يسلم، هذا عالم كبير عندنا مايتبعك ولا يترك! قال: أرأيتم إن أسلم وشهِد شهادة الحق؟ قالوا: ما كان من عبدالله، قال: أخرُج عليهم يا عبدالله، خرج عبدالله بن سَلام قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، ويْحكم معشر يهود هو الذي تقرأونه عندكم في التوراة. قالوا: هذا شرُّنا وابن شرّنا، وجاهلُنا وابن جاهلُنا.. وقَلَبوا الكلام مُباشرة.

 قال: ألم أقل لك يا رسول الله أنهم قوم بُهُت؟! لهذا أردتُ أن تسمع منهم قبل أن يعلموا بإسلامي كيف يقولون عني، قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وخيرُنا وابن خيرُنا، وعالِمنا وابن عالِمنا.

وكم تفعل نفوس الناس بالناس، كم تضر نفوس الناس الناس، بل كم تهلك نفوس الناس الناس، تفعل بهم كذا.. يوقنون أنَّه رسول الله، لما أنزل الله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [البقرة:146]، قال سيدنا عبدالله بن سلام: والله إنَّ معرفتي أنّه نبي أشد من معرفتي أن هذا ابني!! هذا ابني وما أدري ما فعلت فيه أمُّه، لكن هذا نبيّ بوصف ربّي في كتاب موسى، أمامي؛ هذا وجهه وهذا أنفه الموصوف، وهذه جبهته وهذا المذكور وهذا اسمه وهذا وصفه محمّد انتهت المسألة. قال: معرفتي به أشدّ من معرفتي بابني (ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ) [الأنعام:20] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

فحملتهم نفوسهم؛ إيثارًا لما استقرّ بين أيديهم مَن جلَبهم لبعض المكاسب، واستسلام بعض الناس لهم قالوا: إذا ذهبنا تَبِع هذا -بتسويل وتخييل نفوسهم والشيطان- سيفوت علينا الخير، وكما هو نفس الشيء الذي يأتي معنا؛ أن سيدنا موسى عرض على فرعون إنقاذه من النار وخلوده في المُلك الكبير، قال له وزيره -هامان أو قارون-: كيف؟ سترجع عبد بعدما كنت معبود؟! وهلك نفسه، كم تصنع نفوس الناس بالناس!! 

  • ويلٌ لكلّ إنسان من نفسه إن لم تتزكّى..
  • ويلٌ لكلّ إنسان من نفسه إن لم تتربّى..
  • ويلٌ لكلّ إنسان من نفسه إن لم تتصفّى.. 

(فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَءَاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا (38) فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ (39)) -كما يأتي معنا آخر السورة- (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ (41))، مِنْ دون نهي النفس عن الهوى لا توجد جنة! فإن الجنّة حُفّت بالمكاره، والنّار حفّت بالشهوات، تريد شهوات نفسك، امشِ إلى النار؛ لكن تقهر نفسك تكون نِعم الإنسان، نِعم العبد.. تغلبها ولا تغلبك، وتسيّرها ولا تسيّرك إلى الجنة -بسم الله- "حُفّت الجنّة بالمَكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات".

فحرَموا أنفسهم الإيمان بما ظنوا من السلطة الزمنية أنها خير لهم، وما هي بخير، وقد فاتت!! ما بقيت لهم سنوات قليلة، فخانوا عهد الأولين وأُخرجوا! ثم خانوا عهد الثانيين وأُخرجوا! وخان العهد الثالث فرقة منهم وقتّلوا! وتجمّعت الخيانات إلى خيبر وهُزموا..! وماذا بقي لهم؟ لا دنيا ولا آخرة: (خَسِرَ ٱلدُّنْیَا وَٱلْـَٔاخِرَةَۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡخُسْرَانُ ٱلْمُبِینُ) [الحج:11]، ولكن هكذا النفوس تفعل بأصحابها!

الذين في رمضان هذا ممن معنا على ظهر الأرض خَضعوا وخضعت قلوبهم وخشعت للربّ، واختاروا صفاء الأوقات مع رب الأرض والسموات، ولا التفتوا إلى كثير من الملهيات ولا المغريات ولا شؤون هذا العالم؛ هُم أعقلُنا، هم أربحُنا، هم أنجحُنا، هم خيرُنا، هم أسعد أهل الأرض في الأرض، وأسعدهم يوم العرض.

كثير منهم وسَط رمضان، ساعة يتفرّج على مناظر غير لائقة، وساعة يسمع كلام سيء، قلبه غافل في الصلوات، صومه مخدوش بكذب.. يا هذا! يا هذا! تغرّ نفسك لماذا؟ تضرّ نفسك لماذا؟ تهوي بنفسك لماذا؟ تضحك عليك نفسك إلى متى؟!

أُرسل إليك خير مزكّي، لا تقل بيني وبينه ألف وأربعمائة سنة:

  •  وحْيُه طريّ.
  • ومنهجه قويّ.
  • وشرعه سويّ.
  • وإرثه قائم، وقائمة به المعالم.
  • يزكّيك يربّيك يصفّيك.

سلّم له الزّمام، أحسن الائتمام، اقتدِ بخير الأنام.. تجعل من نفسك قدوة دونه؟! صديقك قدوة تقتدي به في شيء في شؤونك دون محمد؟! أفكار أحد في الشرق والغرب يأتون بها إليك، تنصبها أمامك قدوة دون محمد؟! ما أحسنت الاختيار.. تضر نفسك لماذا؟ 

مَن مِن هذه الأشياء: النفس أو الأصدقاء أو أهل الفكر في الشرق والغرب؟ خالق السماوات والأرض ارتَضاهم قدوة لك، من؟! خالقك وخالق السماء والأرض الذي مرجعك إليه؛ ارتضى لك محمد قدوة! وأمره أن يبلغك بهذه الحقيقة حتى لا يغرّك هؤلاء: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31]. 

كيف كان ﷺ في رمضان! أما تقتدي به؟ أو قد بدأت تسأم؟ عدّت عليك اثنا عشر يوم سئمت؟ ملّيت؟ لو أقبلت بصدق لتلذّذت بالوجهة إلى الرّحمن! ليبيضّ وجهك الباطن، ليبيض وجهك الباطن! ولتصلح لحمل الأمائن من هذا الكتاب.. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)).

هؤلاء الذين يعيشون معك (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10))، مردودون، راجعون في الحافرة. (فِي الْحَافِرَةِ): من لغة العرب أن أول الشيء يسمونه حافرة، ويقولون رجع فلان في الحافرة إذا رجع إلى أول أمره وترتيبه الأول.

 (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)): 

  1. أي مرة ثانية نرجع إلى أول حياتنا كما كنا أحياء؟.
  2. ومعنى آخر في الحافرة، الحافرة الأرض التي تُحفر فيها القبور، بمعنى محفورة -الأرض المحفورة-.

 (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)) يقولون ذلك؛ استبعادًا.. وكان أولى بعقولهم، إن كانت لهم عقول صافية؛ أن يعلموا أن الابتداء أعظم من الإعادة، فهل يَستبعدون الواقع الذي هم فيه من أين جاؤوا؟ وكيف تكوّنوا من النُّطف بهذه الصورة؟ فالذي كوّنهم هكذا؛ كيف يعجز عن أن يعيدهم؟. 

(أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11)) أبعد أن نصير عظاما نخرة بالية، عظاما نخرة محفورة يُنفخ الهواء فيها يُحدث الصوت (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً)، ويُقرأ: (ناخِرة)، الجمهور على قراءة: (نَّخِرَةً).

(قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12))؛ إما بمعنى باطلة، أو إذا رجعنا مرة أخرى؟ إذًا نحن خاسرون.. قالوا: ندخل النار كما يقول محمد؟! هذه مشكلة كبيرة، إذا صدق ورجعنا (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ)؟! لماذا هذا الاستغراب؟! لماذا هذا الاستبعاد؟! وآياتي أمامكم تدل على قدرتي الواسعة لماذا؟! 

(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)) قال: تستغربوا ماذا؟! 

  • (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَ ٰ⁠حِدَةٍۚ) [لقمان:28]. 
  • (وَمَاۤ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل:77]. 

أو هو أقرب، قال -سبحانه وتعالى-: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) إما بمعنى النفخة الثانية في الصور، (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) يخرجون فإذا هم قيام ينظرون، زجرة واحدة، أو هي كلمة واحدة منا، غضبة واحدة منا فقط وترجعون إلى النار؛ لأن هي كلمة واحدة ما لها مثنى! لا يوجد رجوع فيها هذه هي الكلمة، كلمة واحدة. 

(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)):

  • العرب يُسمُّون وجه الأرض: ساهرة؛ لأن الحيوانات عليها تنام وتسهر، فهو محل النوم والسهر.. فسمُّوه الساهرة -وجه الأرض-.. ناسب هذا المعنى أنّ هي الأرض وإن بُدّلت وامتدَّت، يُحشر الناس إليها أيضا.
  • ولكنها هناك ساهرة بمعنى: تسهر كل عين عليها، لا نوم بعد ذاك، لم يعد فيها نوم! يسهر كل من عليها؛ الله أكبر!
  • (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)) وقيل: أن بين جبل أريحا وحسان في فلسطين عند بيت المقدس، تلك الأرض عندما تتشقق السماوات، وعندما تضطرب الأرض وتزلزل، عندما تقلع الجبال وتضرب بالأرض وتنسف، من تلك البقعة يمد الله مدّ كبير ليكون محشر الناس، ساهرة (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) يصلون إلى أرض المحشر.

 (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)) الأرض التي يسهر كل من عليها، لا أحد ينام! (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14))، هذه الحقيقة بَعثناك بها، بلّغها وأدّها إلى الناس، فأحسنَ ﷺ أداءها، والحمد لله على نعمة الإيمان به.

يقول الله لحبيبه: وأمثال هذه العقليات والنفسيات؛ عالَجها الأنبياء من قبلك ونازعوها! والناس يقابلونهم بأمثال هذه الأفكار والأمور الغريبة والاحتجاجات التي لا أصل لها (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (15)) يقول له: قبلك موسى أرسلناه لواحد طاغية كبير (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ) جاءك خبر النبي موسى -عليه السلام-:

  • (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ) إكراما وإجلالا ورفعة لشأن الكليم -عليه السلام-.
  • (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ) بعد أن تَعِب وخرج من البلد خائف، وذهب إلى شعيب في أرض مدين وحمل قومه بعد عشر سنين مؤجر يسقي فيها غنم سيدنا شعيب، ورجع في طريقه وأُكرم بالنداء من ربه! 

وكان في وقت برد، أَنِس باطنه وقلبه بأثر يراه في العين كأنه نار! يقول لأهله: (إِنِّیۤ ءَانَسْتُ) -عند بالطور- (نَارࣰا لَّعَلِّیۤ ءَاتِیكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدࣰى) [طه:10]، ما يدلنا على الطريق، (لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [النمل:7]: تتدفُّون من البرد، فترك أهله وتوجّه نحو ما كان يرى. 

فلما جاء في الواد المُقدَّس ناداه ربُّه: (إِنِّیۤ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَیْكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُو) [طه:12]. إنني أنا ربك، الله أكبر! (وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا یُوحَىٰۤ * إِنَّنِیۤ أَنَا ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱعْبُدْنِی وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِیۤ) [طه:13,14] ونبّأه، أرسله عليه الرضوان، عليه صلوات الله وتسليماته، مع نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. 

ولهذا مثّل بعضهم أن الله -سبحانه وتعالى- يتكرم على بعض الناس؛ في مجلس يحضره، في صلاة يحضر فيها، في ملاقاة عارف من العارفين يجتمع به.. فتح كبير ومَنّ وتقريب وتنوير؛ من دون تعب منه كثير! يقول:

و بعضهم  بنفحة  حُبِّيــة *** على براق برقة جذبية 

سرى إلى  أعلى ذرى القربية *** فأصبحت  من تحته المعالي 

أضحى عروسا في رياض الأنس *** يروي  أحاديث  الجناب  القدس 

لم يدر ما طعم جهاد النفس *** ولا عناء السير والترحال

لم يُمتحن في الفتح بانتظار *** ولا  بأوراد  ولا  أذكـــار 

كقصد موسى جذوة من نار *** إذ عاد بالإنباء والإرســـال 

ذهب ليأتي بجذوة من النار لعلهم يصطلون؛ ففاز بالنُبوَّة والرسالة وامتدت منه إلى أخيه هارون! ((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا)، قال: وأخوك هارون أدخله في هذه الكرامة؛ فصار نبي! (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) [القصص:34]. قال: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ) [طه:42]. أنت نبي، وأخوك معك نبي؛ عطيَّة!.

 (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)) الوادي المقدس مشرّف مطهّر منور، (بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى):

  •  طوى: اسم للوادي طوى.
  • أو طوى: إذ مرَّ فيه فطواه فيهم.
  • أو طوى: تضاعف تقُّدسه وخيرُه كطي الكتاب. 

(بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، والأصح أنه اسم الوادي نفسه، اسمه طوى؛ حيث كلم الله موسى: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)) في خُلاصة الرِّسالة التي أرسله بها: (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17)) أي فرعون؟ الطّاغية الكبير الذي على ظهر الأرض! إذهب الى عنده، مَن أنت؟! كم جيش معه؟ كم عدة معه؟ يمشي هو وأهله، خرج من عند شعيب وحيد في الصحراء! أنظر، أقوى قوة على ظهر الأرض ماديّة؛ فيها الطغيان الكبير اذهب اليها ..! كم صرفية؟! كم جيش؟! كم كتائب كم سلاح؟! لا سلاح ولا جيش ولا كتائب ولا مال ولا خبير، اذهب إلى عند فرعون؛ (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ)؛ جاوز حده وتطاول على إلهه ورب. 

يُقال حتى أنه لما قال قولته الأخيرة: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)) إبليس هرب، إبليس نفسه هرب! قال: أنا ادَّعيت الخيريّة على آدم؛ وأهلكني الله!! وهذا يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)! لا إله إلا الله.

(إِنَّهُ طَغَىٰ (17))؛ صاحب طغيان تجاوز حدوده، ما دام طغى؛ احمل له قنبلة، أو ماذا يعمل ؟! ولا قنبلة ولا رصاصة ولا شي من هذا.. ولا سيف ولا عصا.. فقط هات كلام مضبوط؛ تقوم به الحُجَّة وتتَّضح به المَحَجَّة وتُبلغ به الرسالة: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18)) ماهذا التلطف؟ وماهذا..؟! وهو طغى!! ولكن اذهب أنت وقل هكذا، لماذا؟ هذا شغلك أنت عبد من عبادي، أمرتُك بدلالة عبادي بالأسلوب الطَّيب، اذهب.. طغى، ما طغى ما هو شغلك، أنت شغلك تمتثل أمري!.

ويقول في سورة طه، -له ولأخيه هارون-: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) [طه:43] ما دام طغى؛ ماذا تريد نحن نعمل فيه؟ نضربهُ أو نذبحه؟ قال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا)! طغى ونقول قول لين؟! قال: هذه رسالتكم وأنتم عبيدي.. هذه رسالتكم وهذه مهتمكم، أنتم وكلاء على عبادي في الأرض تطلعون تنزلون؟ لا أنتم عبيد..! اذهبوا وقولوا له: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) [طه:44]، والله يعلم أنه لن يتذكر ولا يخشى، 

حتى جاء في بعض الروايات أنه لمّا قال: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18))، في قراءة: (تَزَّكى)؛ يعني تَتْطهر وتتصفى عن أدناسك، وفيه قال: تزَكّى يعني تَطْهُر وتَصفو..

 (وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19)) فتعلم من عظمته ما يمتليء به قلبك خوف وخشية! فإن الخشية من الله؛ على قدر المعرفة به! فمن عرف الله لا بد أن يخشاه. 

(وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19))، جاء في بعض الروايات: "أنَّ الله قال له: ولن يفعل، قال: يارب وإذا لم يفعل، لِم تُرسلني إليه؟ قال: اذهب فإنَّ في السماء ألوفًا من الملائكة ينظرون سِرّ قدري لا يَطَّلعون علي"! أنا أسيّر الأمور بما شئت في مملكتي؛ لكن أنتم خلق تنظرون ما آمركم به فافعلوا.. الله أكبر! عبد، عبيد والله هو الربّ.

(اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19))، (وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ) من هنا نعلم أن الله يجري الهدايات بأصنافها المختلفة، يجريها على أيدي العباد، يجري الهداية حتى في الطريق الحِسيّة، بواسطة إشارات، وأعلام ولوحات وأسهم بواسطة نجوم (وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل:16]، أو بواسطة واحد قد مشى في الطريق قبلك، قال تعال كذا وكذا.. بأي واسطة؛ أنواع الهدايات بوسائط.. 

لكن أشرف الهداية أن تُهدى إلى ربك؛ هذه مهمة الأنبياء وهذه مهمة خلفاءهم من بعد، أي واحد يصل إلى الرب عبر هادي، قال تعالى: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) [الرعد:7]، وهذا يُعرَض على فرعون ذاك الطاغية الكبير، يقول له: تعال لنوصلك إلى الرحمن، لنقربك إلى الرب -جل جلاله-، سأدُلُّك؛ (وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ) أدلّك على عظمته وجلاله وكبريائه وأسمائه وصفاته؛ فتخضع لجلاله وتمتليء خشية من هذا الإله لتأمن من عذاب الدنيا والآخرة. 

(وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19))، قال الله لسيد هؤلاء الهداة: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى:52-53]، وقال الله في الأنبياء من قبله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]. 

(وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ) مع أنَّها كلها أسباب، والحقيقة الفعلية في الهداية والإضلال؛ لذي الجلال! يهدي من يشاء ويضل من يشاء، اللهم اهدنا فيمن هديت اللهم اهدنا فيمن هديت. 

(وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19)) يا سيدنا وياسيدنا موسى، إن موسى ليس معه جيش، والآن سيكلم رئيس دولة ومملكة، ومع هذا هو طاغي ومتجبر! وموسى ينتمي إلى أي دولة؟! ينتمي إلى أي دولة؟! انتماء الأنبياء والرسل وأتباعهم -إلى اليوم- إلى الحق، رجال الدولة الأنبياء الصّدّيقين المقربين العلماء العاملين، هؤلاء رجال الدولة، دولة الرب! دولة الحق والهدى!. 

سيدنا موسى ما كان له انتماء، لماذا لا تتصل بالجماعة أصحاب مدْين الذين كنت عندهم؟ وتأتي لك بعدد منهم؟ لتدخل على فرعون؟ الآن قبل أن تتواصل مع بلاد أخرى لا لا لا.. ولا شيء، 

مِن عندي اذهب الى عند فرعون! قل: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ * قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) [طه:45-46]، جاء ولكن معه المنهاج، ما جاء وقال: أنا معي ربي يسمع ويرى، -سأتصرف مع فرعون بالعنف-! لا لا، لا يكسر ولا يدقدق، فقط يستأذن ويدخل ويقول: (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19)) ماذا عندك؟ 

بمجرد ما وقف عند باب القصر وصدْر فرعون يرتجف من الخوف والخشية، قابله وكلَّمه، بلّغه بالكلام، خلْفية موسى ومرجعه كبيرة، ليس مثلهم. وهذا في ملكهِ الكبير يُبْهَت من كلام موسى! ما قد أحد كلَّمه هذا الكلام. الناس كُلُّهم يسجدون له ويدخلون.. كيف أنت؟ أنت موسى الذي ربيناك عندنا وليد هنا وفعلت فعلك؟! قال: أنا موسى؛ (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء:21-22]، تُقتِّل فينا وتذبح؟ والآن تمنّ عليّ بهذا؟ ما ربّ العالمين؟ 

الحاصل، كان مَبْهوت ويَتكلّم مع موسى، وموسى يَنثُر عليه الحُجَج! قال: لا .. لا، إذا لم تتَّخذ إله غيري سأسجنك (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَیْءࣲ مُّبِین)! [الشعراء:30] -فأتِ به- (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ (18)) يقول: يُشاور هامان، فرجع، قال له: كيف أنت إله معبود وترجع؟! عبد مع الناس تَعبد؟ هذا عار، قال: خلاص ما نقبل، قال: ما نقبل منك. قال: أرسل معي بني إسرائيل، قال: بل أزيدكم تنكيل وأفعل وأفعل.. قال تعالى: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ (18)):

  •  اليدّ بيضاء شُعاع، كأنها شمس مشرقة، يدخلها في جيبه تخرج بيضاء، يردها ترجع كما كانت.
  • عصا ألقاها؛ فرَّ فرعون! صارت العصا حيّة.. أمسك عصاك أمسك حيَّتك هذه يا فرعون، أمسكها سيدنا موسى رجعت عصا كما هي. 

قال: هذا سحر، هذا آية من الله، ما عرفت السحر ولا تعلمته ولا أنا من السَّحرة، قال: (فَلَنَأْتِیَنَّكَ بِسِحْر مِّثْلِهِۦ) [طه:58]، قال هات الذي معك. 

قال تعالى: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ (20) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ) يعني: أعرض وتولّى، ومعه وزير خائن؛ لا يشير بالحق ولا بالخير بل ساعده على الطغيان. قال: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22))؛ سعي الفساد والتنكيل والأذى والضر، (فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23))؛ حشر السحرة، جمّعهم للمحاجّة والمغالبة، ونادى الجيش والجند للمقاتلة. 

(فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24))! 

  • هو يدري بنفسه أن في أمعائه الوسخ، وأصله نطفة!! ويقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)
  • رأيت الذي يضحك على نفسه وعلى قومه! وعلى من عنده؟! (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ). 
  • كيف رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ؟ قال: الأصنام التي تعبدوها هي تحت سلطتي، أنا ربّ فوقها كلها، ربكم وربها كلها (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) لا حول ولا قوة إلا بالله.. 

قال تعالى: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) -أخذه الله- (نَكَالَ) -عذاب وعقاب- (الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25))؛ 

  • الأولى في الدّنيا بالغرق، وزوال الملك وتدمير ما صنع، انتهى كل شيء.
  • وفي الآخرة، من ذلك اليوم إلى اليوم؛ وهو يُعرض عليه النار غدو وعشي، ومُعذّب في قبره. 

والأكبر منه؛ حتى جسده أخرجه الله من البحر إلى الأرض، وإلى اليوم مُحنَّط عندهم هناك في مصر!، اذهب انظر إليه.انظر إليه، أين (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24))؟! .. أين؟ (أَلَیْسَ لِی مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلْأَنْهَـٰرُ تَجْرِی مِن تَحْتِیۤ) [الزخرف:51]، أين هي؟ ذهبت. 

أصبحت عبرة من العِبَر! فأخذ نكال الآخرة والأولى، (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ) قال بعضهم:

  • (الْأُولَىٰ) قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَیْرِی) [القصص:38].
  • و (الْآخِرَةِ): (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) لقى العذاب، نتيجة لهذه وهذه... 

قال بعضهم: (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25)) من أول عمره وآخره؛ ما عَمِل من سابق وما عَمِل الآن، والذي مرّ عليه فترات وسنين حتى المرض لايأتيه، ولا يضرب له عرق، ولا صداع ولا حمى ولا ذا..

بعد ذلك يقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، و(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24))!! مغترّ مسكين، وإلّا لو أتَتْهُ الأمراض ، لن يصل لهذا الحد، لكن الله تعالى أمهله، بقي -أربعين سنة- يأكل في اليوم قعود كامل؛ ،ولم يضرب له عرق، وتكبر واغترّ -والعياذ بالله تعالى-.

 قال الله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25))؛ عذاب من الأول إلى الأخير، كلُّه جمْعناه له مع بعض! -أعوذ بالله- (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ) عذاب الدنيا والآخرة (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ).

(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (26))؛ كل عاقل ينظُر الى الحقائق نظُر عبرة، ويرى، انظُر الأحوال أمامك، أبصِر.. ماذا ماذا ستعمل؟!! انظر انظر الى المصير كذا أين، أين ستذهب؟!! أحسن لك؛ أن تتبع الأنبياء وتأدّب واخضع، وإلّا انظرسترى (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ).

اللهم اجعلنا من أهل الخشية، بارك لنا في رمضاننا هذا، في أيامنا، هذه، باقي ليالينا اجعلها زاهرة بأنوار وعي وحيك، وإدراك سرّ إشارتك في كلامك، وحسن الإقتداء بحبيبك خير خلقك ﷺ. 

اللهم اجعل لنا باقي ليالي رمضان؛، معارج نعرج فيها إلى مدارج القرب منك، ومراتب الفهم عنك، ونيل رضاك الأكبر، وأصلح لنا ما بطن وما ظهر،، نقّ قلوبنا، زكِّ نفوسنا، آتِ نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها، أكرمتنا ببعثة محمد فاجعل هوانا تبعًا لما جاء به النبي محمد، وزكِّ قلوبنا بتزكية النبي محمد، وصفها بتصفية النبي محمد احشرنا جميعا في زمرة النبي محمد وأنت راض عنا يا واحد يا أحد يافرد يا صمد. 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى الله عليه وسلم

 اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه

تاريخ النشر الهجري

13 رَمضان 1438

تاريخ النشر الميلادي

08 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام