(209)
(536)
(568)
الدرس السادس للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي ، في مسجد الإمام النسفي، نسف - الخميس 23 شوال 1445هـ .
اللهم صلِّ وسلم على عبدك المختار سيدنا محمد، سيد أهل حقيقة التوحيد وعلى آله وصحبه، ومن والاه فيك واتبع منهجه الرشيد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
مع اجتماعنا بجوار الإمام النسَفي صاحب التفسير -عليه رحمة الله تعالى- نواصل الدرس في كتاب التوحيد من كتاب "تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب" للعلامة الشيخ محمد أمين الكردي الأربيلي -عليه رحمة الله ورضوانه- وقد حدّثنا عن صفات ربنا -جلّ جلاله وتعالى في علاه- الواجبة في حقه ويستحيل ضدها.
وذكر لنا الصفة النفسية: وهي صفة الوجود؛ ثم ذكر لنا الصفات السلبية الخمس وهي:
وحدثنا بعد ذلك عن أول الصفات؛ صفات المعاني؛ فحدثنا عن صفة القدرة، وعن صفة الارادة؛ وكان الوقف منا على صفة العلم؛ الصفة التاسعة.
يقول:
"وأما العلم فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بالشيء على وجه الإحاطة به على ما هو به دون سبق خفاء، والمراد بالشيء ما يشمل الواجبات والمستحيلات والجائزات كلياتها وجزئياتها إجمالاً وتفصيلاً، فيعلم تعالى بعلمه القديم ذاته وصفاته ويعلم عدم المستحيل كحُدوثه تعالى وعجزه ووجود شريك له تعالى" -تعالى الله عن ذلك- "ويعلم الأشياء أزلاً على ما عليه، وكونها وجدت في الماضي أو موجودة في الحال أو توجد في الاستقبال وضد العلم الجهل"؛ فهو مستحيل في حق الله تعالى، "وما في معناه بمعلوم ما كالظَن والشك والوهم والذهول والغفلة والنسيان والسهو"
فهذه صفات المخلوقين يتنزه عنها الخالق:
لكن لله الحق الأول -جلَّ جلاله- علمه وصفٌ قائمٌ بذاته أزلي قديم ومحيط بكل شيء؛ وهذه الصفة العظيمة التي ليست إلا له وحده -جلَّ جلاله- وهي من المقاصد الكبرى في حكمة خلق هذا الوجود وتكوينه.
كما تكلمنا عن القدرة فإن الحق جعل القدرة وإحاطته العلمية بجميع الشؤون المقصود الأكبر من تكوين هذه الكائنات وليصل منها المكلَّف إلى هذا العلم والمعرفة الخاصة كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)؛ ومن هنا يمثله العلماء بالمطلق الذي لا تخصيص فيه، الشمولية المطلقة في علم الله فيقول : (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد:3]، قالوا هذا وصفهُ على الإطلاق لا يأتي فيه تخصيص أبدا، عموما مطلق لا يقبل التخصيص، فعلمه محيط بكل شيء؛ فيعلم الواجبات والمستحيلات والجائزات، وما كان وما يكون، وما هو كائن وما لا يكون؛ علم أزلي وعلم لا يسبقه خفاء؛ علمه محيط من كل جانب بجميع المعلومات وهي جميع الكائنات وما لا يكون.
فالجميع في دائرة علم الرحمن -جلّ جلاله وتعالى في علاه- بالجزئيات والإجمال، ولما قصرت عقول الذين نُسبوا إلى الفلسفة -جماعة من الذين نُسبوا إلى الفلسفة- قصرت عقولهم عن استيعاب العلم التفصيلي والجزئي للأشياء فأرادوا أن يقيسوا علم الربِّ والإله على علومهم، لمَّا وجدوا أنفسهم عاجزين أن يحيطوا بالتفصيلات وجزئيات الأشياء، وهذا العجز وصفهم وضروري أن يكونوا عاجزين.
وأعلم الناس في هذه الأرض عاجز عن الإحاطة بأصابعه وعن الإحاطة بالخلايا التي في جسمه نفسه، وعن الإحاطة حتى بكيفية الدورة الدموية فيه على التفصيل، ومتى تتم؟ وإلى أين تصل؟ وكيف تنتهي؟ هو عاجز عن الإحاطة بهذا، وهذا في نفسه -عاجز- وكيف بالذي حواليه؛ فهذا الأمر لازم للمخلوقات أن يعجزوا عن الإحاطة بالعلوم بكل شيء (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة:255]، وجميع ما علموه هو كبير، وأكبره علوم النبيين والملائكة مَن علمْهم بصفات الله وأسمائه وعظمته، أمور أكبر من العلم بجزئيات الأرض والجيولوجيا وما فيها وعلوم البحار والفضاء وما فيه؛ أكبر من هذا كله ولكن هذا وهذا كله تحت دائرة قال عنها الخلاق: (وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلا) [الإسراء:85]؛ هذا كله قليل بالنسبة لعلم الله تبارك وتعالى.
ومن هنا قال أهل المعرفة: إن علوم المؤمنين والعارفين والأولياء بعظمة الحق -جلّ جلاله ومعاني أسماءه وصفاته وحقائق الأشياء في الكون، علمهم بالنسبة لعلوم الأنبياء كذرَّة، بالنسبة لما علّم الله الأنبياء، وأن علوم الأنبياء بالنسبة لعلم سيدهم خاتم الأنبياء ﷺ كذرَّة، وعلمه ﷺ بالنسبة لعلم الله كله لا شيء، (وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا) [الإسراء:85].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهو أعلم الخلق بالله وبصفاته، أعلم الخلق بحقائق الكون والتكوين والحكمة الإلهية في الأشياء، وأعلم الخلق بمعاني تقدير الحق تعالى وإجرائه الأمور في الأرواح والأجسام في الدنيا والبرزخ والآخرة ﷺ ومع ذلك فلا يحيط بالعلم كل شيء وهو بالنسبة لعلم الله كـ لا شيء، والجميع يدخل تحت دائرة: (وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا) [الإسراء:85]، فسبحان العليم الذي أحاط علمه بكل شيء؛ ومن هنا مع معرفة العلم والقدرة يقوم الإعتماد على الحق ويصح التوكل عليه، ومن صحة التوكل يأتي تصريف القدرة بما يكفي المتوكل حماية وحراسة وتوفيقًا وجلبًا للمصالح ودفعًا للمضار بشاهد قوله: (وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥ) [الطلاق:3]، كافيه يكفيه كل مهم، ولكن الشأن في صدق التوكل، فالله يرزقنا صدق التوكل عليه والاعتماد عليه -جلَّ جلاله.
فهذا الحياء، وكان ﷺ أشد الناس حياء، ولما مثَّلوا حياءه الكريم قالوا: "كان أشد حياءً من العذراء في خدرها"، أيام كانت الفطرة الآدمية الإنسانية هي الغالبة المهيمنة على الناس وكان أكثر الناس حياء النساء، وأكثر النساء حياء العذارى، فضربوا المثل للنبي بهذا؛ لأن الناس على فطرة، يُرون ذلك.
فجاء من يعادي الحياء ويسميه ضعف ويسميه جبن ويسميه قصور إلى غير ذلك، جُهّالا، ماعرفوا الحقيقة، ماعرفوا حقيقة خلقهم ولا لمَ خُلقوا، ولا من خالقهم ويدّعون لأنفسهم العلم بالحقائق، وما هم إلا من شرار الخلائق على ظهر هذه الأرض -والعياذ بالله تبارك وتعالى- كلهم يقولون عند انكشاف الحقيقة: (وَقَالُوا۟ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیر* فَٱعۡتَرَفُوا۟ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقًا لِّأَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیرِ) [الملك:11-12]. فالله يرزقنا كمال الإيمان بصفات الله تعالى.
وهذه الصفة العظيمة صفة العلم، المحيط بكل شي: عدد ذرات الوجود، عدد شعر كل إنسان، وعدد شعر كل جزء من أجزاء جسمه، وعدد شعر المجموعة للناس، وما إلى ذلك، فهؤلاء الفلاسفة لما ضعفت عقولهم عن الاستيعاب، قالوا: الله يعلم الكلّيات ولا يعلم الجزئيات، وردُّوا عليهم وقالوا: إن هذا كفر؛
(قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡ) [ق:4]، ما الذي يذهب منهم من عناصر أجسادهم ويعود إلى تراب؟! ونعيد كل جسم بالنسبة لكل عنصر كان في جسده كما كان: (كَمَا بَدَأۡنَاۤ أَوَّلَ خَلۡقٍ نُّعِیدُهۥۚو وَعۡدًا عَلَیۡنَاۤۚ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِینَ) [الأنبياء:104].
يقول:
"والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالعلم واستحالة الجهل عليه أن الجهل صفة نقص في حقه تعالى، والنقص في حقه تعالى محال يجب تنزيهه عنه فلزم اتصافه تعالى بصفات الكمال ومنها العلم، وأيضاً فإنا نشاهد العالم على نمط بديع ونظام محكم مع ما يشتمل عليه من الأفعال المتقنة والأشكال المستحسنة"
وقد يقرِّبون من كلام بعض المشتغلين بمبادئ العلم من المعاصرين، يقرِّبون التوضيح لمعاني علم الله يقول: الذي كوَّن هذه الأجساد البشرية، كان يغذي الطفل في بطن أمه عبر السرَّة، وما يحتاج إلى منفذ إلى المعدة، ولكنه ركّب له الفم، ولماذا ركّب له الفم؟ وهو في مدة تقلُّبه في التكوين في البطن لا يحتاج إلى الفم، وجعل له منافذ مرتبة إلى المعدة وخلق المعدة ورتبها؛ إذًا فهذا المكوِّن يعلم أنه بعد خروجه من بطن أمه يحتاج إلى هذا فرتَّبه؛ إذًا فالدليل على علمه؛ عدد الخلق، كل واحد دليل على علم الله تعالى، وهذا وهذا.. فكم أدلة؟ كل واحد دليل! كل واحد دليل على أن الله عالم بما يكون، والوجود كله دليل على عظمة المكون.
رزقنا الله الإيمان واليقين وأذهب الغشاوات عن عقولنا وعن مداركنا وبصائرنا، فإن أولي الألباب(وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ) [آل عمران:191] الأمر واضح لمن تنور وتبصر وصدق وأحسن استعمال ما أوتي من قوى العقل والإدراك.
قال:
"والنقص في حقه تعالى محال يجب تنزيهه عنه، فلزم اتصافه تعالى بصفات الكمال ومنها العلم، وأيضاً فإنا نشاهد العالم على نمط بديع ونظام محكم مع ما يشتمل عليه"؛
يقول عليه رضوان الله -تبارك وتعالى-:
"إنا نشاهد العالم على نمط بديع ونظام محكم مع ما يشتمل عليه من الأفعال المتقنة والأشكال المستحسنة، وما في ذلك من دقائق الصنع والحكم والمنافع والمحاسن التي تعجز العقول عن الإحاطة بأسرارها، وكل ما هو لا يكون إلا من صانع عالم حكيم بحكم الضرورة. كما إنا إذا رأينا خطوطاً مليحة أو سمعنا ألفاظاً فصيحة تنبىء عن معان دقيقة وأغراض صحيحة علمنا قطعاً أن فاعلها عالم، فكذلك إذا نظر الإنسان في الآفاق والأنفس، وتأمل ارتباط العلويات بالسُفليات؛ سيما إذا تفكر في الحيوانات وما هديت إليه في صنع مساكنها واصطياد أرزاقها من الجبال، وفي إعطائها الآلات المناسبة لها، فلا شك أنه يجزم بكون صانعها عالماً حكيماً" -جل جلاله- "واعلم أن العلم عام التعلق لجميع المعلومات وليس مختصاً ببعض دون بعض وإلا لزم الجهل والترجيح بلا مرجح، وكلاهما باطل .
وشواهد وجوب اتصافه تعالى به من الكتاب والسنة لا تحصى كقوله تعالى : (إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ) [التوبة:115]، وقوله تعالى: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ)[تبارك:14]، وقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ واللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [التغابن:4]، وكذلك إجماع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قال الله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أَجِبْتُمْ قالوا لا علمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الغُيوبِ) [المائدة:109]" -جل جلاله- "أي يوم القيامة يقول الله تعالى للرسل : ماذا أجَابتكم أُممكم، وما الذي رد عليكم قومكم به حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي؟ :قالوا : أي الرسل لا علم لنا كعلمك فيهم إنك أنت علام الغيوب؛ لأنك تعلم ما أضمروا وما أظهروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا وأبلغ"،
أي فيُطْلع من الغيوب من شاء على ما يشاء بحدود محدودة، وأعظم الخلق اطِّلاعا على الغيوب من نُقي عن العيوب، زين الوجود أحب محبوب، إلى الربِّ ﷺ، وبعد ذلك لا يحيط بعلم الغيب إلا هو -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
ثم بعد العلم، ذكر الحياة في قوله:
"10- وأما الحياة الواجبة له تعالى فهي: صفة وجودية قديمة قائمة بذاته جلَّ وعز، تصحح لمن قامت به أن يتصف بالقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام وهي لا تتعلق بشيء، وضدها الموت".
قال تعالى: (تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ * ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ ) [الملك:1-2]، فخالق الموت والحياة -جلّ جلاله- جعل مراتب ومعاني للموت والحياة بالنسبة للخلق، أما هو فهو الحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى؛ لأن حياته ذاتية، ووجوده من غير سبب، بخلاف حياة كل شيء غيره، فهي حياة مخلوقة مستحدثة تقبل الزوال وتقبل الإنتهاء وتقبل النقض؛ لكن الحق تعالى هو الحي؛ الحياة السرمدية، الحياة الأزلية، أي الحي بأعلى معاني الحياة.
ومعاني الحياة لا تكاد تنحصر في حياة الأرض؛ من حياة النبات وموته، وحياة الحيوان، ودرجات الحياة عند الحيوان، ومن حياة هذا الإنسان وكذلك حياة قلبه وحياة روحه ومعانيها الواسعة، ومع ذلك فإن لفظ الحياة بالنسبة للكائنات أيضا ينبئ عن معنى كمال، وهو كذلك بالنسبة للإله الحق -جلّ جلاله-.
ومراتب الحياة بعد ذلك؛ يُحيي بها ما يشاء ويميت بها ما يشاء، وشأن هذه الأجساد بالنسبة لدخول الروح فيها وخروج الروح منها كثيرًا ما يشبه هذا النبات الذي تخضرُّ به الأرض ويحيا ثم يهيج وتراه مصفرا ويموت ثم يعيدها بعد ذلك، وكم شبَّه القرآن: إعادة الخلق بما يجري على ظهر هذه الأرض من إماتتها وإحيائها، وكما يجري لنا، من نوم ويقظة، وهو شبيه بالموت وبالحياة.
من بعض وجوه الشبه، يظل معنى الحياة معنى كمال؛ فلهذا نهانا الله أن نصف الشهداء بالموت:
إذا علمنا ذلك، علمنا أن الحياة وصف كمال في معانيها المتنوعة والمتعددة ويقابلها الموت وصف نقص، وبذلك نُهينا أن نسمي الشهداء أمواتًا، احترامًا وإكرامًا لهم.
أما إن فسَّرنا الموت بمعنى خروج الروح من الجسد فجميع الشهداء خرجت أرواحهم من أجسادهم، والانتقال من الدنيا إلى البرزخ هو واقع، ولكن عموم إطلاق الموت يشعر بنقص فقد نهانا الله عن ذلك ولينبهنا أن الحياة الكريمة ليست مختصة بالحياة في عالم الأجساد والدنيا، وأن من وراء ذلك حياة أشرف وأكمل.
إذا علمنا ذلك، فإن الأحياء، وأعظم الأحياء من الكائنات؛ الإنس والجن والملائكة، هؤلاء الأحياء على مراتب في الحياة ومنها الحياة المعنوية التي قال الله عنها:
جميع معاني الحياة الروحية والقلبية؛ أوتي من أوتي منها من الملائكة والأنبياء والرسل، ولكن الأنبياء أعظم في شؤون الحياة ومعانيها السامية الراقية؛ لهذا قال ﷺ:
وأعظمهم حياة أولو العزم، وأعظم أولو العزم، سيد المرسلين محمد، إذًا فما من حياة شريفة وكريمة إلا وهو أصل فيها في العالم الخلقي كله وهو صاحب الرتبة العليا فيها، ودونه الأحياء ﷺ.
وإذًا نطلق ذلك، وأما معنى قوله: (إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّیِّتُونَ) [الزمر:30]؛ أي أن كتبتَ عليكم أن تخرج أرواحكم من أجسادكم وتنتقلون إلى عالم البرزخ هذا أمر واضح وبيِّن لا إشكال فيه، لكن إطلاق هذا يشمل الشهداء أيضًا.
لكن إطلاق الكلام ليس لائق بحق الشهداء، فمن باب أولى ليس لائق بحق الأنبياء، فمن باب أولى ليس لائق بحق سيد الأنبياء؛ ولذا يأتي دائمًا في دروس أهل السنة التي يدرِّسونها ناشئتهم وأنه ﷺ حي في قبره صلّى الله وبارك عليه وعلى آله، نعم إذا كان الأنبياء أحياء في قبورهم فحياته أكمل -صلوات ربي وسلامه عليه- وأحيا الله قلوبنا به وأرواحنا، حياة تزداد وتقوى وتعلو أبدًا سرمدا، اللهم آمين.
قال: والدليل عليها عقلاً أن الحياة صفة كمال والموت صفة نقص وهو سبحانه وتعالى منزه عن جميع النقائص وواجب له الكمال، فَلزم اتصافه تعالى بالحياة"، اي الذاتية السرمدية الابدية الأزلية، وهذه ليست لحياة أخري وليست لحي غيره، يوصف بهذه الحياة (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) [غافر:65]، "وأيضاً لو لم يتصف بالحياة لما صحّ اتصافه بالقدرة وغيرها من باقي الصفات وقد ثبت وجوب اتصافه تعالى بها"؛ فهو (..الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ..):
"ونحو ذلك. وكذا إجماع الأنبياء بل جميع العقلاء على وجوب اتصافه تعالى بالحياة".
ونسأله أن يحيى قلوبنا بالنور الذي أحيا به قلوب المحبوبين والمقربين من العباد الصالحين، اللهم خصَّنا بأسنى الحياة، وتولّنا بما أنت أهله وأحينا حياة طيبة واجعلنا من أحياء القلوب وارزقنا الأدب مع كل حياء منك، وشهود علمك بنا وإحاطتك بخلواتنا وجلواتنا وحسّنا ومعنانا وظواهرنا وخفياتنا، يا من أحاط علمه بكل شيء، ونسألك بقدرتك على كل شيء وبعلمك بكل شيء، أن تغفر لنا كل شيء، وأن تصلح لنا كل شيء، وأن لا تسألنا عن شيء، وأن لا تعذبنا على شيء وأن ترزقنا من الهداية والاستقامة وتتحفنا بأنواع الكرامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرالفاتحة
إلى حضرة حبيبك الأمين وآله وأصحابه وأزواجه وذريته والإمام النسفي ومن شرف الله بهم هذه البلدان سيدنا القثم بن العباس وقراباته وذرياتهم وسيدنا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن عيسى بن ثورة الترمذي والإمام الحكيم الترمذي والإمام الدارمي، ومن شرفت بهم هذه البقاع والبلاد من أهل العلم والعمل واليقين والمعرفة، ومن أهل لا إله إلا الله أجمعين، وإلى أرواح جميع والدين خاصة وذو الحقوق عامة،
وإلى حضرة النبي محمد ﷺ
الفاتحة
25 شوّال 1445