(536)
(204)
(568)
الدرس الرابع والعشرين من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ثم أول سورة محمد، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}
الحمد لله مُكرمنا بالوحي والتنزيل، وبيان الهُدى والسبيل على لسانِ رسوله خير دليل، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم واتّبعهُم بِإحسان إلى يوم البعث في الهول المهيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين محلّ التكريم والتفضيل والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والمُلائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهما فيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وقد ختمنا في تأمُّلِنا لمعاني كلمات الله وآياته وتنزيله سورة الفتح التي ختمها بذكرِ محمدٍ والذين معه، جعلنا الله من الذين معه، إن كان يتوجّه {..وَالَّذِينَ مَعَهُ..} أولًا إلى من حضر وقته الكريم من آلهِ وصحابتهِ المؤمنين به -صلى الله عليه وسلم-، فكذلك تشملُ المعيَّةُ كل من كان على دربهم ومسلكهم ومشربهم وصِفَتهم، وإلى ذلك أشارت الآية الأخرى بقوله تعالى: {..يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ..} [الفتح:28]، هذا الرسول {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ..} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم {..وَالَّذِينَ مَعَهُ..} بالإيمان والتصديق والمحبة مِمَّن عاصرهُ وشاهدهُ في حياته ومن أتى ويأتي بعدهم على نفس القدم، {..أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ..} وفسّرنا معنى هذه الشِّدّة وواجبها وكيف تكون، وفيها البراءُ مِن موادّة الذين يُحادّون الله ورسوله، كما قال في الآية: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..} [المجادلة:22].
وعلمنا أيضًا مجال البِرّ والقِسط الذي يُستعمل مع كل من لم يُكابر ولم يُقاتل ولم يؤذي، في هذا المنهج العجيب البديع الذي لا يَصلُح ولا يُصلِحْ تعايش البشر على الوجه الأجمل إلا هذا المنهج، يقول: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90] ليس لكم طريق أن تؤذوا أحد في ماله ولا عِرضه ولا دمه ولا تؤذوه ولا تكدّروا عليه، إذا لم يعترضكم ولم يقاتلكم ولم يضرُّكم فدعوه. وهكذا {..فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ...} [النساء:90-91] إلى آخر ما ذكر الحق -جلّ جلاله-، وأنه لا يمكن تفسير هذه الشدة بعدم البِر وعدم القسط، ولا بعدم دعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى- ولا بسبِّهم وشتمهم ولعنهم، بل نهى الله تعالى رعيلنا الأول -والنهيُ عامٌّ لمن يأتي بعدهم- أن يسبّوا أصنامهم؛ لأن سبَّهم لأصنامهم يطلقهم في أن يسبّوا الرحمن -جلّ جلاله-، قال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108].
إذًا لا يُمكن ولاء ولا مودّة مع كافر كائن ما كان، يُمكن بِر، ويمكن قِسط، ويمكن مصالحة، ويمكن معاهدة، ويمكن متاجرة، ويمكن استئجار، ويمكن تبادل منافع ومصالح مباحة في الشريعة المطهرة كلها بحدودها وقيودها، فتحتاج الأمة أن تفقه دين ربها وتُحسن العمل به، وهو الذي يُعيِّن ويُحدِّد ويبَيِّن ويُفصِّل علائقها فيما بينها البين وعلائقها بأصناف الكفار وأصناف من يوجد على ظهر الأرض من الخارجين عن الدين؛ سواءً كانوا من الحَربيين أو كانوا من المسالمين والمصالحين، أو كانوا من أهل العهود والصلح، أو كانوا من أهل الذِّمة والجِزية؛ مُبَيَّن كيفية العلاقة معهم والتعايش معهم في كتاب الله بما هو أجمل وأفضل وأحسن على كل حال، فالحمد لله على نعمة الإسلام.
يقول {..رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..} وهذه التي تكون ميزاناً للإيمان ومعِيَّة سيد الأكوان، صدق وقوة رحمة قلبك للمؤمنين، كلّما قوي إيمانك وثبتت معِيَّتك لزين الوجود اتّسعت رحمتك للمؤمنين، وحرصت على منافعهم ومصالحهم الدينية والدنيوية الظاهرة والباطنة بكل ما تستطيع، ورأفت بهم، وأحزنك ما أحزنهم، وسرَّكَ ما سرَّهُم، وتصير عضوًا في جسدٍ واحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى، {..رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..}. والرُقي في هذه المراقي في التحقق بها درجاتٌ يرفع الله إليها من يشاء.
ثم أنّ المنظر الذي تنظرُهُ في أهل المعيَّةِ لمحمد تلألؤ معاني وأنوار وأذواق الركوع والسجود، {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..} كيف {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..}؟ إذا التفتّ إليهم ما تحصِّل إلا آثار الركوع والسجود؛ في تفكيرهم، وفي منطقهم، وفي نظرهم، وفي حركاتهم، وفي ميلهم ورغباتهم؛ أثر الركوع والسجود لله -تبارك وتعالى-، حتى يبدو ذلك النور على وجوههم كما يذكر {..سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ..}.
يقول: {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..} فمسألة الركوع والسجود بمظهرها وحِسِّها تراها فيهم كثيرًا، الفرائض الخمس في أوقاتها الموزعة عليها المبيَّنَة الموقوتة بها، وهناك نوافل متعلقة بالصلوات المفروضة، ونوافل ضحى، ونوافل وتر، ونوافل قيام رمضان، ونوافل مُطلقة أخرى، وسنن وضوء، وسنن سفر، وسنن قدوم من سفر، وسنن لقضاء حاجة، وسنة صلاة استخارة إلى غير ذلك مِما شرع الحق، فلابُد إذا نظرت لهم ترى الركوع والسجود حاصل بينهم، {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..} وأثر هذا السجود أو حقيقة هذا السجود والركوع بادٍ عليهم في وجوههم المنيرة، وبادٍ عليهم في أفكارهم، وفي طريقة كلامهم، وفي طريقة تعاملهم {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}. وكيف وصلوا إلى هذه المراتب وصاروا يُرَوْنَ رُكَّعًا سجداً في مختلف الأحوال؟ قال: بإخلاص قصدهم لِوجهِ الله {..يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا..} ما استوقفتهم مظاهر ولا جاهات ولا سُمعة ولا ظهور ولا مال ولا وظائف ولا وزارات ولا رِئاسات ولا مُرتّبات، ولا أي شيء من الذي يستوقف عامة الناس ويقطعهم، قال هؤلاء إن لهم ابتغاء، إن لهم غرض، إن لهم مُراد؛ {..فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا..}، {..وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ..} [التوبة: 72]، من فضِل أنواع ما يعطيهم ويجود به عليهم في دنياهم وبرزخهم وآخرتهم إلى الجنة، ورضوان أكبر من هذا كله {..وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ..}.
{يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} لأن المؤمنين أكبر ما يطلبون مرضاته؟ الله ورسوله قبل كل شيء، يفكر كيف يرضى الله عنه ورسوله، كما قال عن المنافقين: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، فمطلب المؤمن أن يرضىٰ الله ورسوله، لذلك كانوا يُردّدون قول رابعة العدوية -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- وهي تُناجي ربها وتخاطبه:
فَلَيتَكَ تَحلـــــو وَالحَياةُ مَريرَةٌ ** وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ ** وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَـــرابُ
إِذا صحَّ مِنكَ الوُدَّ يا غاية المُنى ** فكُلّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
فكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ، لا أبالي، قال سيد المحبين والمحبوبين لله تعالى قال:"إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي"؛ ولهذا قالوا يُستدل على عمارة القلب واستنارته بِثلاثة أمور:
يقول: {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم..} يعني يصلّحون عمليات تجميل؟ أو يحضرون دهن وزيوت يصلحون وجوههم؟! قال: {..مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ..} الأثر الذي ظهر على وجوههم أثر سجودهم لي، تذللهم لعظمتي، الذي يُعبَّر عنه في عالم الحس والجسد بوضع الجبهة أعزّ الأعضاء على ممرّ الأقدام على الأرض، وكم سجد نبينا على التراب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وإذا جاء المطر فتخلّلَ سقف مسجدهِ نالَ التراب الماء فيسجد على الماء والطين -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
قال: {..سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ..} وبذلك قالوا في هؤلاء الخاصّة من أتباع الأنبياء الثابتين الأقدام على الصدق، المُترقّين في مراقي الصدق مع الحق والعمل بطاعته؛ إذا رؤوا يُشهَرُ ذكر الله، كما جاء في الحديث سُئل مرة عن أولياء الله، قال: "الذين إذا رؤوا ذُكِرَ الله"، لما تراه قلبك يذكر الرب.
إذا رؤوا يُشهـر ذكـر اللهِ ** فهو لهم سيما على الجبـاهِ
يعرف معناهم بــــلا اشتبـــاهِ ** من حيث ما يعرف ذو الجلالِ
لهم في التقوى أجلّ زينة ** عند لقاهُم تنزل السكينـــة
وتحصل الجمعية المُبينة ** فتجذب الألباب بانفعـــال
حال ذوى الدعوى لهم تفارق ** بنور فرقـــان يــراهُ الذائــــق
لا بارتفاع الجاه والخوارق ** ولا بحسن الوعظ والأقوال
فإنهم كل منيبٌ خاشــــع ** وكل ذي قلب منير لامع
لامن يشير الناس بالأصابـــع ** وهو من السر المَصون خالي
الله، لا إله إلا الله! وكُنا خارجين مرة إلى المطار في بعض دول أفريقيا، وتبعنا واحد يكلمونه بلغتهم، يقول إنه جاء يريد أن يسلم.. مرحبا، وسبب إسلامه قالوا: رأى بعض الذين معنا يمشون لما وقع نظره عليهم، سأل واحد منهم قال: ما دين هؤلاء؟ قال: الإسلام، قال: أنا بغيت معهم، ولحقنا إلى المطار، وأسلم، ودخلوه معنا إلى الصالة هناك، وعلمناه الفاتحة، وقام أول مرة في عمره يصلي، وأخذ سند الفاتحة مِنّا أول إسلامه، وتوضأ وصلّى معنا في المطار وجلسنا معه يُعلّمونه مبادئ الإسلام إلى أن جاء موعد الطائرة، قلنا للجماعة خذوا صاحبكم، من أين هو؟ من زائير، وكان في كينيا أسلم، لقينا في مطار كينيا وهو من زائير، لكن لما سألناه عن سبب إسلامه؛ قال إلا مجرد النظر، لمّا رأى الوجوه قال أنا أريد مع هؤلاء.
{..سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ..} ضربتُ لهم المثل في التوراة، اعتنى بِصُلحاء هذه الأمة فنشر الأخبار عنهم وأوصافهم في الكتب المُنزلة على الأنبياء من قبل، يقول الذين سيأتون يتبعون محمد أوصافهم كذا، وحالتهم كذا، وخُلقهم كذا، فوصفهم الله في التوراة ووصفهم في الإنجيل قبل أن يُخلقوا وقبل أن يبعث نبيهم -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا لنبيهم ولهؤلاء الأتباع، واعتناءًا بشأنهم، قال: {..ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ..} ضرب لهم المثل في الإنجيل: {..كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ..} يعني فروعه {..فَآزَرَهُ..} لما خرج هذا الشطأ والأفراخ حقه آزرَهُ، {..فَاسْتَغْلَظَ..} قوي وارتفع، {..فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ..} جمع ساق، ساق الشجرة {..فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ..} تنظر إليه يعجبك، زرع مُقبل بثمر ممتاز، زرع طيب قوي {..يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ..}.
قال الله أوجدهم وخلقهم وجعل لهم هذه الأوصاف؛ {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..}، يقول: {هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [إل عمران:119]. يقول: {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} فقلنا ما يغتاظ قلب أحد من صُلحاء الأمة إلا وفيه كُفر، فيه ظلمة كفر والعياذ بالله، كيف يغتاظ مُمّن مدحهم الله تعالى وأثنى؟ خلقهم ليغيظ بهم الكفار ما يغيظ بهم المؤمنين، ما يغيظ بهم المسلمين، المسلمين يحبونهم ويفرحون بهم وبلقياهم وبرؤيتهم ما يغتاظ منهم إلا واحد فيه في قلبه شيء كُفُر {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..}، وهؤلاء الكفار الذين جعلهم الله في قبضة عدوِّ إبليس، يُعجبهم نشر الفساد، يعجبهم نشر الكفر، يُعجبهم الصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، كما نقرأ في أول سورة محمد معنا، يُعجبهم يحبون هذا، فإذا رأوا شيء يمنعهم من الصَدِّ عن سبيل الله، وقطعهم الخلق عن سبيل الله، ويُنْشَر الحق والدين يزعلون يغتاظون، {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
{..وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً..} تشملُ ذنوبهم وسيئاتهم كُلها على أنواع المغفرة، فمن وقع منهم في ذنبٍ غفره وكفَّرَهُ، ومن غفر له الذنب بأن جعل بينه وبينه سَترًا قبل الوقوع حفظه وسلّمه من الذنوب فغفره، جعل له مغفرة يعني ستر من الذنب حائل بينه وبين الذنب ما يقع في الذنب أصلاً، {مَّغْفِرَةً} فإن الغفرَ هو: الستر، أما بعد الفعل فبمَحوِ السيئة والتجاوز عنها، وعدم العقاب عليها، أما قبل الفعل بالحيلولة بينه وبينها؛ هذا أعلى أنواع المغفرة، هذه المغفرة التي تتوجّه إلى الأنبياء والملائكة، المغفرة بهذا المعنى هم يغفرُ الله لهم -صلوات الله وسلامه عليهم- لأنه حال بينهم وبين الذنوب وعصمهم منها سبحانه وتعالى. {..وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} وأعظِم بأجرٍ عظيم سماه العظيم عظيماً، فماذا يكون؟ ما يكون إلا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال في حديثه القدسي -جلّ جلاله-: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
فيروقُ لنا ويطيب أن نتأمّل معاني ما أنزل الرحمن السميع القريب المجيب، في سورةٍ سمّاها باسم سيدنا الحبيب، سورةُ محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وهي أحد المواضِع الأربعة التي ذكر فيها اسم النبي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وسط القرآن الكريم، فَفي السورة التي بعدها التي أنهينا التأمل فيها سورة الفتح قال {..مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ..}، وفي هذه السورة قال: {..وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ..} [محمد:2]، وفي سورة آل عمران قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ..} [آل عمران:144]، وفي سورة الأحزاب قال: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ..} [الأحزاب:40]، أربع مواضع ذكر فيها اسم الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. تعجّب بعض النصارى وكان سبب إسلامه، قال له بعض المسلمين أن هذا القرآن الذي أنزل الله على نبينا، ذكر الله تعالى فيه عيسى بن مريم عشرات.. اسم عيسى، وعدّوا له سبعة عشرموضع فيه اسم عيسى، واسم النبي محمد أربع مرات، محمد اسمه نفسه ما ذُكر اسمه إلا أربع مرات، أضعافها ذُكِر اسم عيسى، قال: كيف؟! قال له: تعال انظر القرآن، قال: لو كان هذا من عنده يجيب كلام من عنده بيذكر نفسه، إيش الكلام هذا؟! فكان سبب إسلامه، سبحان الله العظيم.
هذه السورة سمّاها باسم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وسمّى سورة باسم يوسف، وسمّى سورة باسم يونس، وسمّى سورة باسم إبراهيم، وسمّى سورة باسم هود، وسمّى سورة باسم نوح، فهؤلاء الأنبياء الذين جعل في القرآن بأسمائهم سُوَرْ، سُوَرْ بأسمائهم.
قال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ..} مِن أمثال قريش الذين كذبوا بك، وبِما أوحينا إليك، وأخذوا يُعذِّبون من آمن، ويصدّون عن السبيل، ويقولون عنك ساحر ومجنون وكاهن، ويحبّون أن لا يتبعك الناس، وكل من مشىٰ في هذا الطريق من بعدهم من أصناف الكفار الصّادِّين عن سبيل الله، مِن وإلى أعمالهم مُحبطةً لا تفيدهم بشيء! كيف؟ حكم الملك صاحب المملكة يقول لا غاية ولا نهاية لجميع ما يعملون، بل الخلّاق الجبار {..أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}، كل من بلغتهُ دعوة الله يدعوه الرحمن إلى نفسه إلى الإيمان به إلى تقديسه إلى توحيده والإيمان برسله، فيصرّ على الكفر ويبعد فجميع أعماله مُحبطة، {..أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} تفسد عليهم، تهلك، تنتهي، ما ينتهون إلى غاية، لا يستطيعون إطفاء نور الله، ولا إنهاء مُهمّات الأنبياء على ظهر الأرض، ولا يستطيعون ردَّ أن تكون الغلبة والنصرة للأنبياء في النهاية، ما يقدرون على شيءٍ من ذلك، وتذهب أعمالهم كلها بِكل ما خطّطوا له بعد ذلك هباء منثور{وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23] وفي بعضها يقولون مساعدات إنسانية وبعضها يقولون أخلاق، ولا ثواب لهم على شيء من ذلك عند الله لأنهم كفروا بالله، وكفروا برسوله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينفعهم شيء من أعمالهم، فهذا الحُكم من الملك الخلّاق الذي لا مُعقِّب لحكمه على كل من كفر وصدَّ عن سبيل الله.
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ..} قطعوا الناس عن الدخول في دين الله تعالى، وشوَّهوا لهم صورة الدين، ومنعوهم بأيّ صورة من صور المنع من أن يفهموا حقيقة الدين، وأن يعرفوه وأن يدخلوا فيه، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} بِحضاراتهم؟ بِأسلحتهم؟ بِجيوشهم وجنودهم؟ بِطياراتهم؟ بعمائرهم؟ كُلها ضالّة؛ لا نتيجة لها، ولن يذوقوا طيلة الحياة لذة المعيشة بِطمأنينة القلب وسكينة البال وهدوءه قط، إنهم يبحثونَ عن أن يطلبوا هذه الراحة وهذه السعادة، هؤلاء يروحون وراء المخدرات وهولاء يروحون وراء الأغاني وهؤلاء يروحون وراء الرقص ولا أحد منهم ارتاح باله؛ إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هو العُرضة لأن يناله نصيبه على قدر صدق إيمانه من هدوء البال وطمأنينته، وطمأنينة قلبه وسكينته، هذا في الدنيا قبل الآخرة، وأما في الآخرة فماذا يُحصّلون؟
إذًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} مثل مُلْك النمرود أو حضارته، أرسلَ الله حشرة، وأتعبته حتى مات وقُتل، وراح مِن حشرة صغيرة كما هذه! أين العمل حقُّه؟ أنا أحيي وأُميت! الآن نريدك تُميت الحشرة هذه التي تتعبك وسط أنفك ما عاد خرجت من داخلك وتأكل فيك، مَوِّتْها! ما قدر! رأيت جزاء {أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] هذه! ما هذه العظمة لهذا الإله! ولا يهدأ إلا يضربون رأسه إلى أن مات، أين الملك هذا؟ أين العظمة هذه؟ أين؟! {..أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}. وإلا قوم عاد عندهم حضارة، عندهم قوة، عبَّر عنها النبي هود الذي أُرسل إليهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} عندكم قوة عسكرية، {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128-130] فماذا قال؟ {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون} [الشعراء:150] كذّبوا؛ هل بقي شيء من حضارتهم؟ أين هم؟ أين أثرهم؟ إيش اللي حصل؟ {..أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}. النبي هود فيه سورة باسمه نقرأها في صلواتنا وغيرها، ونتبع آثاره وقبره ونزوره، وهم أين راحوا؟ {..أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} الكفار هؤلاء أضلّ أعمالهم.
وإلا مُلُك فرعون الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي..} [الزخرف:51]، وبعدين يقول: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات:24] ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وبعدين يكرّر: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، انظر إليهم كبارهم وصغارهم وشبابهم وأبنائهم؛ جاوزوا البحر وتعال ورائهم، بنشوفك ايش تصلّح؟ وبعدين؟ لا إله إلا الله! يرجعون إلى سيدنا موسى عندما تصيبهم شدة، كل ساعة أرسل الله عليهم شدة يرجعون لموسى يقولوا: ادعُ ربك يرفع عنا هذا، ساعة جراد، ساعة قمّل، ساعة ضفادع، ساعة دم، يبتليهم الله بها ولا عاد يقدرون يأكلون ولا يتحركون، في كل محل ضفدع، في كل محل.. بعدين جراد، بعدين قمّل، بعدين دم، يفتح بيأكل يجد دم، يحمل الكأس بيشرب يجد دم، ويرجعون لموسى {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134] وحتى يتكلّمون: { يَٰٓأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49] كيف؟! {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ..} كيف تلجؤون إليه وترجعون إليه؟ ومرجعكم وسبب كشف الشدة.. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} يعني: إذا كشفت الضرّ عنا بنتبعك، {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف: 49-50]؛ يقول الله تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} وأين راحت الأعمال حقهم؟ من أولها إلى آخرها كيف نتيجتها؟ ضلَت، {..بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:136]، قال: هذا السبب، ليس السبب أنهم قصروا في احتياط، أو قصروا في استعداد بقوة، ليس هذا السبب! ما من سبب مِن هذا الذي بسببه غرقوا وهلكوا {..بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:136] هذا هو السبب.
قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ..} [الأعراف:137] ويُضطهدون ويؤذَون {..مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا..} محلُّ حكمُه كله هذا ومُلكه ورَّثناه هؤلاء المستضعفين؛ هيا خذوه، {..وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إسرائيل} ما السبب؟ أنهم أعدوا جيش قوي، أو عندهم كان نظام وتخطيط عبقري وعسكري؟ ليس سبب من هذا! ما السبب؟ {..بِمَا صَبَرُوا..} {..وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا..} طيب والحضارة هذه حق فرعون كلها؟ والقوة والتراتيب، والجيش، ما النتيجة؟ {..وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أحضِر عقلك وقلبك، والذين آذوا نبينا وكفروا به في وقته وما بعده وما بينه وما بين وقتنا وزماننا؛ قل لي ما الذي حصل من هؤلاء الكفار كلهم؟ وما النتيجة التي انتهوا إليها؟ {..أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} فكل للمقيمين معنا اليوم على ظهر الأرض؛ تريدون سُنَّة غير هذه السنة، أو حُكم غير هذا الحكم؟ لا شيء إلا هذا هو، هذا هو الحُكم ما شيء غيره.. الله. {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} فيا عقليات آمنت بالله، وشهِدت أن محمدًا عبده ورسوله حرام عليكم أن تغترّوا بزخرف الحضارات الزائفة، وزخرف الحياة الدنيا، وما أسرع ما تنهار وما تتبدّل وما تتغيّر، وكل من قبل كفار زمانكم عبرة لكم، وسيصبح كفار زمانكم عِبرة لكم أو لمن بعدكم، فحرامٌ عليكم أن تبيعوا عقولكم وإيمانكم للاغترار بشيء مِمّا يتفاخرون به، ويستكبرون به، {..وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6-7]، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا..} اللهم اجعلنا منهم، {..وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..} ترجموا العمل عن إيمان صحيح ثابت قوي تظهر نتائجه بالعمل الصالح {..وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..} صالحات النظرات، أحجموا عن نظر الحرام، عن النظر إلى مسلم بعين احتقار، عن النظر إلى زخرُف الدنيا بعين تعظيم، عن النظر إلى كافر بعين تعظيم، عن النظر إلى العورات، عن النظر إلى الأجنبيات، صالحات.. يعملون صالحات ما يروحوا وراء السوء، مسامعهم كذلك، ألسنتهم، بطونهم، فروجهم، أيديهم وأرجلهم، ألسنتهم مضبوطة، صالحات: صالحات الكلمات، صالحات النظرات، صالحات المسموعات، صالحات الحركات والسكنات {..وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..}.
وبعد ذلك لأنّ السورة فيها التنويه بالوجيه صاحب القدر الرفيع عند باريه {..وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ..}، قد قال {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} شمِل هذا كله، عاد ينصّ عليه نص ويخصُّه {..وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ..} القرآن الكريم والسُّنة الغراء كلها مُنزّلة عليه، القرآن الكريم والسنة الغراء {..وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ..} والقرآن مُهيمن على جميع الكتب المنزلة، آخر كتاب أنزله الله تعالى حاوٍ لأسرار الكتب السابقة كلها {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..} [المائدة:48].
{..وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ..} وهو دين محمد، وهو القرآن المُنزَل على محمد، وهو الرحمة المهداة، {..كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ..} فقد كفّرها عنهم، إن وقعوا في شيءٍ من السيئات كفّرها عنهم بالتوبة الصادقة الخالصة لِوجههِ الكريم، وإن حال بينهم وبينها من الأصل فقد كان. {..وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)} حالهم وشأنهم وفكرهم، البال: محل الفكر ومحل العلم والمعرفة من العقل والذِّهن والقلب، بالْ {..وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} هذا البال إذا صَلَح صَلُح كل شيء في الإنسان، محل فكره، ونظره ومداركه ومعارفه وعلومه، ومن عقله وقلبه، ولهذا يُعبِّرون عن البال بالحال والشأن، {..وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}
يا رب يا عالم الحال ** إليك وجهت الآمال
فامنن علينا بالإقبال ** وكُن لنا وأصلح البال
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}، فمعنى: وكُن لنا وأصلح لنا البال، اجعلنا من هؤلاء، من {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} ما السر في هذا؟ قال أعطيكم أصل فيه؛ {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ..} الشيطان وما يوحيه إليهم، وكل ما أوحاه إليهم إلى أن وصل في وقتكم إلى أن يوحي إليهم إلى أن اللواط والسحاق أساس وأصل، دافعوا عنه وقوموا به، الشتيمة، الرذيلة، القبيحة، الساقطة، الهابطة، المُنزّه عنها عامّة الحيوانات والبهائم قوموا بها يا بني آدم، وافتخروا بهذه الرّذالة، وهذه السقاطة، وقنِّنوا لها في قوانينكم، {..اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ..}، {..ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ..} إبليس ووحيه وجُنده ووسوسته ووُكلائه من نفوسهم الأمارة وشهواتهم الساقطة الهابطة؛ هم يتبعون هذا، هل لهم مرجع غير هذا؟ ما هي مرجعيتهم؟ ما مرجعيتهم في اتِّخاذ القرار؟ وفي الانطلاق في الحياة في العمل؟ هذا مرجعيتهم: الباطل، لا شي ثاني غيره! {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ..} القرآن الذي نزل، والرسول الذي أوصل ودل -صلى الله عليه وسلم- {..اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)} يقول هؤلاء أتباعُ الباطل، وهؤلاء أتباعُ الحق، هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار، {..كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}.
اللهمَّ بِمحمّد وما أنزلتَ عليه، اجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّل على محمد وهو الحق من ربهم فتكفّر عنهم سيئاتهم وتُصلح بالهم، واجعل لنا نصيبًا وافِيًا وافرًا كبيرًا من ذلك في خاتمة رمضاننا هذا، واجعلنا نكسب فيه ونتزوَّد من هذا الزاد الغالي، الذي به نرقى إلى المقام العالي، وتُصلِح به شؤوننا كلها ظاهرًا وباطنًا في الدنيا والآخرة يا رب الدنيا والآخرة.
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
26 رَمضان 1444