تفسير سورة الأحقاف -03- من قوله تعالى: {قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.. الآية: 10 إلى 16

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الأحقاف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:

قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

الإثنين 8 رمضان 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله على نعمة الاتصال بوحي الله وتأمل معناه وإرادة الاقتفاء له واتباعه والاستضاءة بنور شعاعه والعمل بما فيه؛ طلبا لمرضاة مُنزله ومُوحيه على قلب عبده المصطفى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّمَ عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.. 

أما بعد.. 

فإننا في نعمة التأمل لكلام الله -جل جلاله- مررنا على آيات من سورة الأحقاف حتى وصلنا إلى قوله سبحانه وتعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) -أي: ألا يكون هذا ظلما منكم؟- (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)). 

ولقد بيّن الحق تبارك وتعالى صدق رسوله فيما أخبر، وأمره أن يقول لهم: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ ..(10))؛ وهم علماء اليهود والنّصارى، وكان منهم كما ذكرنا سيدنا عبد الله بن سلام، وروى الترمذي أنه كان يقول: "فيّ نزلت"، (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ ..(10))، وكذلك ويقول: وفيّ نزلت (قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) [الرعد:43].

ولذا قال كثير من آل التفسير: إن السورة مكية، ولكن هذه الآية نزلت في المدينة المنورة، فأمرهم ﷺ بوضعها في هذا المكان، فإنه إذا نزلت عليه آيات قال: ضعوها بين آية كذا وآية كذا من سورة كذا.. وقال بعض أهل التفسير (شَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ ..(10))؛ أي: شهد الأنبياء السابقين من بن إسرائيل كسيدنا موسى على مثل هذا الوحي، فانزل عليه التوراة كما أنزل علي القرآن، وكان يدعو إلى التوحيد وإلى الطاعة وإلى ما أدعو إليه، (شَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ..(10)) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وما أكثر ما يوقع الكِبر في الكفر -والعياذ بالله تعالى-، وانحراف الفكر (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف: 146]. 

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)) لأنفسهم، الذين يعاندون ويصدون وقد تبين لهم الحق، (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 86]. 

  • وقد جاء عن أمين بن يامين من علم اليهود بل من رؤوسهم أيقن بنبوة سيدنا محمد ﷺ والعلامات واضحات، فآمن وجاء الى رسول الله وقال: أشهد أن ما جئت به الحق وأنك نبي الهدى والذي وُصفت في التوراة، ولكن يا رسول الله ادعُ قومنا من اليهود؛ واجعل بينك وبينهم حكمًا من أنفسهم فإنهم سيختارونَني وسأقيم الحجة عليهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فأبقاه ﷺ في مكان في بيته، ودعا بعض أعيان وكُبراء اليهود، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، قال: اجعلوا بيني وبينكم حكمًا من أنفسكم، قالوا: آمين بني يامين، قالوا: أترتَضونه؟ قالوا: هذا أعلمنا بالتوراة وعلَمُنا، قال: فاخرج إليهم.. فخرج عليهم.. قال: أشهد أنك رسول الله وأنك الذي وصفك موسى وإنهم يعلمون منك ما أعلم،.. سكتوا وخرجوا وما رضوا يؤمنون.
  • وقد عمل مثل ذلك سيدنا عبد الله بن سلام وقال لرسول الله لما آمن: سل اليهود عني قبل أن يعلموا بإسلامي؛ فإنهم قوم بهت -يبهتون: يكذبون-، فدعاهم وسألهم عنه وعن أبيه كان أبوه من علمائهم وقد توفي أبوه، ما تقولون في عبدالله بن سلام وفي أبيه؟ قالوا: عالمنا وابن عالمنا، وحبرنا وابن حبرنا، وخيرنا وابن خيرنا، هل أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: لا يسلم أبداً، لا يمكن أن يسلم، قال: اخرج عليهم، ويخرج عليهم ويخرجهم ويقولون: وَيحَكُمْ مَعَشَرِ اليهُود إِنَّهُ الْمَوْصُوفُ عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاة وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ هَذِهِ صِفته، هذا محمد الذي بشر به موسى وآمن به عليه الصلاة والسلام، وهذا محمد الذي بشر به موسى.. قالوا: هذا شرنا وابن شرنا وجاهلنا وابن جاهلنا، قال: ألم أقل لكم أنهم قوم بهت!! يا رسول الله ألم أقل لك أنهم قوم بهت.. قبل قليل يقولوا كذا بعد قليل يقولون كذا… ما رأوه... آمنوا، أظهر الحقيقة، سبوه وشتموه؟.. وسبوا أبوه، وفيهم من على هذا المنوال إلى الآن.. دفع الله شرهم عنا وعن المؤمنين. 

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ..(11)) وهذه أيضا من جملة مصائب البشر أن يضعوا اعتبارات أن ذا أقل مني.. وذا أقل مني.. وذا دوني .. وذا تحتي.. وأنه ما يمكن أحد يسبقني للخير، وأنه لابد يكون لي التقدمة والصدارة؛ وبسبب ذلك: 

  • لا يقرب الحق لأهله ولا يعطي الحق لأهله. 
  • ويعتدي على الغير ويحرم التصديق بالحق؛ لما في هواه من هذا الترفع.. 

فرأوا جماعة من المؤمنين -ومن المعلوم في سُنة الحياة أن أكثر الأوائل من الذين يتبعون سادتنا الأنبياء ضعفاء الناس- حتى هرقل لما سأل أبا سفيان قال: من يتبعه ضعفاء الناس أم أقوياؤهم وكبارهم؟ قال: بل ضعفاؤهم.. ثم قال له: سألتك من يتبعه؟ فقلت: ضعفاء الناس، وهم أتباع الرسل حتى يظهرهم الله.. هم أتباع الرسل يبدأون هم، ثم يظهره الله جل جلاله وينصره. قالوا فلانا وفلانا هم الأوائل بيسبقونا! نحن لو كان هذا حق دين نحن قبلهم، ونحن أولى منهم، ما التفكير هذا؟! ها تفكير أنانية.. تفكير التعالي والتجبر والتكبر بعيد عن إرادة إدراك الحقيقة ومعرفة الحق، ما هو هكذا!.

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ..) حرموا الاستنارة بهذا النور والظفر بهذه الخيور، (فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)) كذب قديم ولا له أصل ولا هذا رسالة ولا هذا نبوة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

قال تعالى: (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ..(12)) التوراه أنزلها الله على سيدنا موسى، جعلها إماما لأتباع النبي موسى ومن آمن به وصدقه وآمن بالله ورسوله، (إِمَامًا وَرَحْمَةً) أي: وهكذا أنزلنا الكتب على أنبيائنا ورسولنا نبيا بعد نبي. 

(وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ..)؛ لجميع الكتب التي نزلت من قبل (وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ..)؛ مصدق لجميع كتب الله المنزلة؛ لا يتناقض مع شيء منها، ولا ينكر شيئا منها، بل يفرض علينا أن نؤمن بجميع الكتب التي أنزلها على ساداتنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. فالأنبياء كلهم على الدين الواحد مسلمون، وأتباعهم بالصدق هم المسلمون، ولو وجد في المُنتمين إلى سيدنا موسى عليه السلام متبعًا بالصدق لكان مسلمًا مؤمنًا بمحمد وبما جاء به كمثل: عبد الله بن سلام وآمين بن يامين وأمثال هؤلاء الذين أسلموا من علماء اليهود، ولكن خالفوا بعدما حرفوا ولعبوا بالكتب وبقي ما بقي عندهم وخالفوا وتكبروا وحسدوا، (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) -بغيا: حسدا- (بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [البقرة: 89,90] لا اله الا هو. 

قال: (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ ..(12))، حتى لما سمع الفريق من الجان تلاوة نبينا للقرآن علموا أن هذا الكتاب مصدق لكل الكتب التي نزلت من السماء، (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ) [الأحقاف: 29_31]، أي: محمدا ﷺ، ونعم الداعي محمد، الحمد لله الذي رزقنا إجابته، اللهم مكنا فيها وثبت أقدامنا عليها واجعل هوانا تبعا لما جاء به هذا النبي المصطفى.. 

 (وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا ..(12))، هذا لكونه اختار الله تعالى لآخر الكتُب المهيمنة على جميع الكتب اللسان العربي، فقد تُرجم معاني كلام الله تبارك وتعالى لكل قوم بلسانهم، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم:4]؛ ولكن سيدنا محمد ﷺ مرسل إلى جميع أهل اللغات، وجميع العرب والعجم بمختلف لغاتهم ولهجاتهم مرسل إليهم أجمعين، واختار الله أن يكون لسانه ﷺ ولسان الكتاب الذي أنزل عليه العربية، وما كان ذلك الاختيار إلا وهو أعلم بأن ذلك الأصلح أو الأنجح أالأرشد، وجعل من ميزات في اللغة ما لم يكن في غيرها، واجتهد أرباب الكفر على الحط من قدر اللغة العربية ومحاولة استبعادها من كثير من مظاهر الحياة، مع أنهاها أوفق حتى لما يصطنع من كمبيوترات وغيرها.. حروفها وكلماتها أوثق وأوفق للتناغم مع هذه الأجزاء، ولكنهم يخفون ذلك ولا يُحبون أن يَظهر مثل ذلك، والحق أعلم.. 

واختار للرسالة الخاتمة الشاملة للبشر النبي العربي، وأنزل القرآن باللسان العربي، (وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ ..(12)) لجميع الكتب النازلة قبله من السماء، (لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا.. (12)) ، ممن وصلته الدعوة وقامت أمامه الحجة فأبى واستكبر (وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ.. (12)) ، الذين أحسنوا استخدام ما أوتوا من قوى العقل والوعي فآمنوا وصدقوا واتبعوا فبشرى لهم، (لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ..(12)) فكل مؤمن صادق مخلص فهو مُبَشَّرْ، ولهم البشرى.. والبشرى مصدرها عظيم الخالق الكريم ومبلغها عظيم نبيه الرؤوف الرحيم ﷺ، فأسعد الناس من اتصف بالإحسان، من اتصف بالتحقق بالإيمان:

  • (وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡ) [يونس:2].
  • (وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٍ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ) [البقرة:25].
  • (لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِینَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمًا لُّدًّا) [مريم:97].

وجميع الذين كذبوا بعد وصول الدعوة إليهم وقيام الحجة؛ كلهم منذرون والنذارة مصدرها قوي الجبار الأعلى وخالق كل شيء، فيا ويحهم ويا ما أسوأ حالهم، كل من بلغته دعوة الله وقامت الحجة فأبى واستكبر وأعرض فهو المنذر من الجبار على لسان المختار بسوء العاقبة ودخول النار، اللهم أجرنا من النار..

(لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ (12))، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِیرًا * وَدَاعِیًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجًا مُّنِیرًا) [الأحزاب 45-46].

(وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ (12)) اللهم اجعلنا منهم، ومن هم؟ من أشار إليهم بالآيات بعدها: 

  • (إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللّه ..(13))؛ أدركوا الحقيقة فقالوا: ربنا الله ربنا الله، أدركوا الحقيقة فقالوا: ربنا الله ربنا الله -الحمد لله- (ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ ..(13))، 
  • وقد سأل الصحابي نبينا: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك؟ قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". 

(إنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (13) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُون (14)) وقال في الآية الأخرى:

  • (إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَبۡشِرُوا۟ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُون * نَحۡنُ أَوۡلِیَاۤؤُكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِیهَا مَا تَشۡتَهِیۤ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِیهَا مَا تَدَّعُون * نُزُلًا مِّنۡ غَفُورࣲ رَّحِيم ) [فصلت 30-32] ضيافة من الله.
  • قال: (إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللّه ..(13))، أيقنوا فآمنوا وعبروا: اشهدوا بأنا مسلمون، (رَبُّنَا ٱللّه). 
  • قال الذين وقر الإيمان في قلوبهم ممن كانوا سحرة فنقلهم الله إلى أهل قلوب منورة مطهرة: (قَالُوا۟ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلَّذِی فَطَرَنَا) [طه:72]؛ (رَبُّنَا ٱللّه)، (فَٱقۡضِ مَاۤ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَاۤ * إِنَّاۤ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِیَغۡفِرَ لَنَا خَطَـٰیَـٰنَا وَمَاۤ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَیۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤ) [طه: 72 -73].
  • (إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللّه ..(13))؛ أيقنوا اليقين التام وأعلنوا للأنام أن ربنا الله؛ فلسنا للبيع لأي أنظمة؛ ولا لأي مناهج تخالف منهج الرحمن الذي خلقنا (رَبُّنَا ٱللّه)، مالنا رب غيره يحرفنا عن منهجه سبحانه وتعالى ولا ننصرف إليه (رَبُّنَا ٱللّه).

(إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللّه ..(13)) اللهم اجعلنا منهم، (ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟..(13))؛ ترجموا الشهادة والإيمان والتصديق بالعمل والتطبيق، فمشوا في المنهج القويم السديد يبتغون وجه المبدئ المعيد الفعال لما يريد مقتدين بأشرف العبيد. 

(ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟) ثبتوا على الإيمان وطبقوا مقتضاه بالعمل الصالح والبعد عن السيئات والصفات المكروهة لخالق الأرض والسماوات.

(ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (13)):

  • والمراد به نفي الخوف من سوء العاقبة وسوء المصير؛ ومن العذاب الشديد؛ ومن الامتناع من دخول الجنة إلى غير ذلك هذا الخوف من هذه الأشياء هو المنهي عنه، (فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ..) يعني عاقبتهم ومآلهم الجنة:
  • (فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (13))؛ لا يستقر في قلوبهم الحُزن على فقد شيء كانوا يرتجونه؛ بل يوهبون من عطاء الذي آمنوا به وأطاعوه فوق ما رجوا وأعظم مما أملوا، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ فأين يبقى الحزن عندهم! 
  • (فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (13))؛ هذا المصير والمآل لهم، لذلك أيضًا لهم من الخير المعجل في هذه الدنيا لهم؛ لا يخافون غير الله -جل جلاله- الخوف المقترن بالتعظيم واعتقاد الاستقلالية في شيء؛ فلذا هم أقوى الناس طمانينة قلب، خوفهم من الله أمنّهم مما سواه -جل جلاله-. 

وكل الأمن والأمان في صحة الخوف من الجبار الأعلى، وكلما صحَّ الخوف وقوي كان صاحبه آمن وأطمن، وأضمن، وأيقن، وأحسن، وأتقن، فالخوف من الله هو الأمان؛ وكلما نقص الخوف من الله تسلط عليك الخوف مما سواه. 

قال تعالى: (أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَیُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِینَ مِن دُونِهِ) [الزمر:36]، فالخوف من غير الله هو الواقع في قلوب الكفار والفجار والأشرار اليوم على ظهر الأرض، ويخافون الأمراض؛ ويخافون الأسقام؛ ويخافون انقلاب الأمرعليهم؛ ويخافون خروج الأمر من يدهم؛ ويخافون تحول الأفكار عنهم؛ ويخافون .. مليانين

 

 خوف من غير الله مايخافون: (یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ) [النساء:108].

 يقول: (إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟)  [فصلت 30]، ولذا تجد المؤمن الصادق: 

  • أبعد عن الحزن من حوادث الحياة وطوارئها وأمورها الحقيرة والقصيرة. 
  • ولا يكون عنده الحزن إلا على ما فرط في جنب الله فيزداد به قربًا ويتهيأ به لنعيم أوفر.

 فيختلف تمام الخوف والحزن عند المؤمنين من الخوف والحزن عند الكفار والمنافقين، ثم في المآل والمصير ينتهي كل خوف من أي شيء سوى الله عند المؤمنين، فمنهم من يبلغوا درجةً من هذا في الدنيا ولكن في العقبى والمصير كل المؤمنين وأهل الجنة في الأمن الدائم المستمر ولا حزن، ولا همّ، ولا غمَّ إلى أبد الآبدين.

(إنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (13) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا ..(14))، اللهم اجعلنا منهم وادخلنا جناتك ونسألك الدرجات العلى من الجنة في عافية.

  • (خَـٰلِدِینَ فِیهَا) وأول ما يذهب عنهم من الأخواف؛ خوف الفناء والموت فيؤمَّنون من ذلك.
  •  (خَـٰلِدِینَ فِیهَا) وأول ما يدخلون الجنة ينادون: "إنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا"، "وأنَّ تنعَموا فلا تبْأسوا أبدًا"، و "إنَّ تَصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا و إنَّ تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا". 
  • (خَـٰلِدِینَ فِیهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)) أي: اختيارهم العمل الصالح وبذلهم الوسع في مرضاة الرب أكسبهم فتح باب رحمات من الله أدخلهم بها جنة وآتاهم من مثوباته وجزائه فوق كل خيال وما يفوق كل خيال. 

ثم يذكر الحق من مظاهر الإيمان والعمل الصالح بر الوالدين(وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ إِحۡسَـٰنًا ..(15)).

الإنسان: جنس الإنسان مُوصّى على ألسن الأنبياء والمرسلين أن يحسن إلى والديه كلُّ أحد؛ حتى ذكر الحق لنا في أبوين كافرين يجاهدان أو يجتهدان في أن يكفر ابنهم المسلم قال: (وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفًا) [لقمان:15]؛ قم بالبر فيما يتعلق بالصلة والإحسان والنفع والاحترام والخدمة قم بها، ولا تطيعهم في الكفر ولا في المعصية، فكان هكذا الامر.

قال: (وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ حُسنا ..(15))، وفي قراءة: (إِحۡسَـٰنًا) أي: أن يكون على الحسن فيما يقول لهم وفيما يفعله معهم وفيما يعاملهم به.

  • (حُسنا) أو(إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ كُرۡهًا) بمشقة، وفي قراءة (كُرهًا) و(كَرهًا) أي: بمشاق وأتعاب.
  • (حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهًا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهًاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًا) أي: الحمل والرضاع ثلاثون شهر.

(حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةً ..(15))، قالوا من أوائل من دخل في الآية سيدنا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله. 

  • (حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ)، بلوغ الأشد: بعد الثلاثين قيل ثلاث وثلاثين قيل خمس وثلاثين قيل سبع وثلاثين، ولكن كمال بلوغ الأشد الأربعين. 
  • (وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةً ..(15))؛ هذا هو الأشد فيما يتعلق بأعمارنا القصيرة على ظهر هذه الحياة، ومن بعدها يبدأ كما يقولون العد التنازلي، ينزل كل شيء ينزل .. ينزل.. ينزل .. ينزل الى لحظة الموت خلاص؛ هذا طبيعة ما برأ الله الحياة عليه. 

يقول: (وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًا ..(15))، وفي هذا أيضا استنتج سيدنا علي مدة أقل الحمل وأنه ستة أشهر، وعلى هذا يقوم الحكم في الشريعة أنّ من تزوج امرأة فولدت بعد ستة أشهر فهو ولده؛ قبل ستة أشهر ما يمكن. وقد جاءوا في خلافة سيدنا عمر بامرأة ولدت لستة أشهر من زواجها، وتشاور مع بعض الصحابة وأراد أن يقيم العقاب، فأقبل سيدنا علي، قال: ما تصنع؟ قال إن هذه المرأة ولدت.. قال: إنه ولده وهي بريئة، قال كيف تقول هذا؟ قال ما قرأت قوله: (وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًا ..(15))، قال: ويقول في الآية الأخرى (وَفِصَـٰلُهُۥ فِی عَامَیۡنِ) [لقمان:13]، وفصاله في عامين والعامان كم أشهر؟ أربع وعشرين شهر كم باقي من الثلاثين الشهر؟ قال: ست أشهر، قال هذه مدة الحمل، (حَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًا)، تنَبَّسّ-سكت- سيدنا عمر وقال: بئسَ المُقام بأرض ليس فيها أبو الحسن، وأمَر بإرجاعها إلى أهلها وإطلاقها، (وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًا)، (وَفِصَـٰلُهُۥ فِی عَامَیۡنِ)[لقمان:13]؛ عامين: أربع وعشرين شهر؛ باقي مدة الحمل ستة أشهر ثلاثون شهرا، (وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًا).

ثم أثنى سبحانه على من يستثمر البقاء في الدنيا ودخوله في السن في حسن الاستبيان وتأمل الحقائق والمآل والمصير: (حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةً..(15))، رأى مهمة الحياة كيف هي؟ ومرور الحياة كيف هو؟ والغاية الكبيرة بعد هذه الحياة، فتعلق بهذه الطلبات الرفيعة وتغلغلت في ذهنه وباله؛ فصارت هذه مقاصده: 

  • (قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ) -ألهمني- (أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ) خلقتني من عدم، ومتعت بي هذا العمر كله، وصرنا فوق الثلاثين، ووصلت إلى الأربعين، وأرسلت لي الرسول، وأنزلت لي الكتاب، وهيأتني من خلال هذا العمر القصير إلى سعادة الأبد، إذا أنا أطعتك. 
  • (قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ) -ألهمني- (أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ..(15))، لأكون من الشاكرين وتزيدني وأعود إلى رحمتك الواسعة في الدرجات الرافعة؛ هذا الهم والفكر الآن؛ صفا نظره إلى الحياة ورغباته فيها وتأملاته، فصارت هذه الرغبات.
  • ( أَوۡزِعۡنِیۤ) -ألهمني- (أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ) بخلقهم وتكوينهم وإن كان هداهم للإسلام أتم النعمة عليهم، وما قذف في قلوبهم من الرحمة؛ حتى تلقوا الأتعاب في حمله؛ ثم في رضاعه وتربيته كلها بفرح بسرور، يدللونه ويدلعونه ويسكتونه وينظفونه ويأكلونه ويشربونه. 
  • (أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ) ويؤكد أن أستقيم على المنهج ما تغلبني نفسي ولا شهواتي ولا أحد يضحك علي من الإنس والجن يصرفني عن أمرك. 
  • (وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ..(15))، فإني أدركت أن أكبر شيء يمكن أن أحصل عليه رضاك، وأنك تكفيني من كل شيء، وليس شيء يكفيني منك، وتغنيني عن كل شيء، وليس شيء يغنيني عنك، فاسلك بي سبيل طلب رضاك والتحقق بوصولي إلى رضاك. 
  • (وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا..(15))، لا تعرضني لموجب السخط والغضب في نظرة ولا قول ولا فعل ولا تعامل ولا حركة ولا سكون /خلاص- على الطهر والنقا؛ دعني على الاستقامة على منهجك القويم وعمل الصالحات. 
  • (وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ..(15))؛ لأنال رضاك، ماعاد عندي مهمة في الحياة، أهلي وأولادي ومن يحيط بي لا تزغ أحد منهم ولا تخذلهم للسوء ولا للشر، فهذه مسؤولية كبيرة أول ما أخاطب عنها وأسأل عنها لولايتي عليهم.

(وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤ)؛ هذه همومه الآن وهذه طلباته لما صفا وتنقى، وعرف حقيقة الحياة كلها وعرف عظمة ما وراءها، (قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤ..(15))، قال: وأنا من جهتي بما أنعمت علي بتوفيقك سأبذل ما في وسعي:

  •  (إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ) أنا ندمت على كل ما خالفتك، كل ما عصيتك، بعين وأذن أولسان أو يد أوفرج أو رجل؛ (تُبۡتُ)
  • (إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ (15))، المستسلمين لأمرك المنفذين لحكمك؛ لا أقدم على أمرك هوى ولا فكر ولا إنسي ولا جني ولا صغير ولا كبير؛ مسلم متحقق بالإسلام. 
  • (إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ (15))، وصوله إلى هذه الغايات وإدراك أنه لا سبيل لطاعة دعوى فكر؛ ولا دعوى نظام؛ ولا دعوى قانون؛ ولا دعوى تخالف منهج الله تبارك وتعالى تصرفه عن الله وأنها كلها مردودة. 

(أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ ..(16))، في القراءة الأخرى: (يُتَقَبَلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟)، قال: أعمالهم الحسنة نقبلها، ونكافئهم بقدر الأحسن من أعمالهم، (نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟) ويتجاوز عن سيئاتهم، نأتي لسيائتهم نسامحهم فيها، نتجاوز عنها؛ هذا جزاء أهل الاستقامة والذين اهتموا بالأمر ووعوا وصارت هكذا طلباتهم؛ وهكذا رغباتهم؛ وهكذا اهتماماتهم (نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یُوعَدُونَ (16)).

اجعلنا منهم يا ربنا، ثبتنا على هذا الدرب الذي أثنيت عليه وعلى أهله، وبارك لنا في أعمارنا، شبابنا وكهولنا وشيوخنا، انظر إلى الجميع وثبتهم على قدم الشفيع، وهب لهم من فيض فضلك الوسيع، وأعذنا وإياهم من مجبات الحسرات والندامة في الدنيا وفي يوم القيامة، يا أكرم الأكرمين. 

  • (قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ (15))، كلنا ندعو ربنا بهذا الدعاء، وادعُ بقلبك حاضر وأنت متوجه إليه. 
  • (قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ (15)) اللهم تقبل منا، ويكون هذا من دعواتنا التي ندعو بها ربنا في مظان الإجابة وأي وقت تيسر لنا.

فإن الحق يقول: 

  • (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَنَّةِ ..(16)) فازوا وسعدوا وأدركوا المراد الأعظم. 
  • (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَنَّةِ ..(16))  سيئاتهم كلها خلاص يتجاوز عنها. 

(نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ ..(16)) كيف يتقبل أحسن ما عملوا؟ يقول الله: حسناته مقبولة؛ ما هي أكبر حسنة وأعظمها، قالوا الحسنة الفلانية الأكثر مضاعفة، يقول: اجعلوا حسناته كلها مثلها (نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟) ويجعل باقي الأعمال مثل هذاك -الله أكبر-: 

  • (وَیَجۡزِیَهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ) [الزمر:35] -الله أكبر-. 
  • (مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰةً طَیِّبَةً وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ) [النحل:97]، 

أحسن شيء هذا الذي عليه الجزاء، يقول الله للملائكة: ما أعظم حسنة من حسناته ضُوعِفَت أكثر، يقولوا: ياربي حسنة فلانية، أكبر حسنة ضاعفتها كثير. يقول: اجعلوا جميع حسناتهم مثلها. نِعْمَ الكريم. ما أحد أحسن معاملة منه. تؤمن به وتصدق معه، يعاملك معاملة ربانية رحمانية تفوق الوصف، لا يمكن أن تعاملك بها شركة ولا هيئة ولا جماعة ولا وزارة ولا دولة ولا مؤسسة ولا…؛ معاملة القدير على كل شيء، معاملة المحيط علمًا بكل شيء، معاملة المحسن بلا حدود -جل جلاله-  فالله يرزقنا حسن المعاملة معه.  

(رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ (15))، المعنى أنا أقوم بتربيتهم بما أستطيع وإرشادهم واختيار المدرس لهم والتدريس والمكان؛ ولكن الأمر بيدك أنت صلِّح، لأنك إذا ما في شيء من عندك جهدي ما يصل مكان، ولكن إذا صلحت أنت! (وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ). 

قال الشيخ الشعراني في واحد من أولاده: أخاطبه كل يوم كسلان في طلب العلم، أقول له يا ولدي واذكر له الفضل؛ ما يطالع،. بعد ذلك قال: جئت ليلة وأقبلت على الله قلت يا رب، هذا ولدي، فوضت الأمر إليك. قال: من نفسه قام حمل الكتاب واجتهد من تلك الليلة وصلحه له -سبحانه وتعالى- أبذل وسعك ولكن لا تعتمد إلا عليه هو يصلح الأمور إذا شاء، (یَهۡدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُ) [النور:35] اللهم وفقنا. وقال تعبت مدة طويلة أنا وإياه وأحاول أرغبه ما حصّلت على شيء، لما قرنت هذا بالتفويض إلى الله؛ وألححت عليه ظهرت النتيجة وجاء الخبر، لا إله إلا هو جل جلاله.

 رزقنا كمال الإيمان، أصلح لنا نفوسنا، أصلح لنا أهلينا، أصلح لنا ذرياتنا، أصلح لنا أصحابنا، أصلح لنا طلابنا، أصلح لنا جلسائنا، أصلح لنا مستمعينا، أصلح لنا مستمعينا، أصلح لنا أهل زماننا يا مصلح الصالحين يا الله، يا مصلح الصالحين يا الله أصلحنا بما أصلحت به الصالحين، كن لنا بما أنت أهله في كل شأن وحال وحين. 

 

 

وبسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي 

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة 

اللهم صلِّ وسلم

تاريخ النشر الهجري

08 رَمضان 1445

تاريخ النشر الميلادي

16 مارس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام