تفسير سورة الأعلى -4- متابعة التفسير من قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى)

تفسير جزء عمَّ - 68 - مواصلة تفسير سورة الأعلى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (قَدۡ أَفۡلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15) بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (16) وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (17) إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ (19))

الحمد لله المَلِكِ العَلِيِّ الأعلى، مبيده الأمر كلّه وإليه يَرجِعُ الأمر كلّه جَلَّ وعلا، هو وليّ الذين آمنوا (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف:196]؛ فَنِعمَ النّصير هو ونِعمَ المولى، أرسلَ إلينا عبده المُجتبى المُصطفى المُختار، محمّد بن عبد الله، صاحبَ القَدرِ العليِّ والمَقَامِ الأَرفَع الأجْلى، أنزلَ عليه آياته الكريمة التي تُستَنَارُ بها القلوب إذا تُتلَى.

أَدِم اللّهم صَلواتك على هذا العبد المُقَرَّبِ إليك، أحبِّ محبوبٍ لك، سيدِنا المصطفى محمّد وعلى آله الأطهار المَخصوصين بأوفى الحظوظِ الاطِّلَاعِ على سِرِّ القُرآن والفَهمِ فيه، وعلى أصحابه الأخيار المُقتَبِسين الأنوار، المُقبلين بالكُلِّيَّةِ عليك بما هَداهم إليه ودَلَّهم عليه، وعلى مسار في دَرْبهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه الأنبياء والمُرسَلين سَادَةِ أهل العِرفان، وعلى آلهم وصحبهم، وعلى مَلائكتك المُقَرّبين وجميع عبادكَ الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.

أمّا بعد،،،

فإنّنا في تَعَرُّضِنا لرَحماتِ بارِئنا استعداداً للقائه، بتأمُّلِ معاني أنبائه وأخباره التي أوحاها إلى خاتم أنبيائه؛ أتيْنا على معاني في سورة الأعلى؛ حتّى انتهينا إلى أواخِرِها، حيث يَقُصُّ علينا المولى-جَلَّ جلاله-

  • شؤون التّزكيةِ ونتائِجها،
  • وإدراك الفوز والفلاح لِانتَهج فيها وقام بِحَقِّها؛ 

بعد أن ذَكَّرنا بسوء المصيرِ للذين يتولَّون عن الذِّكرى ويتجنّبونها، مالذين أَغْوتهم وأَغْرتهُم الحياة الدّنيا والمناظر التّي ينظرونها؛ فاستخفَّتهم وانحَجزَوا فيها؛ فلم يَعبُروا إلى ما وراءها ولم يُدركوا ما في باطنها، وكلّ الدّنيا بما فيها، ظاهرُها فِتنة وباطنها عِبرة، والأبصار تَنظرُ ظاهر زينَتِها، والقلوبُ تَرْقُبُ وتَنظُرُ باطنَ عِبرَتِها؛ فتميَّز أهل القُلوب والعُقول مسواهم في هذه النّظرة، وبَنوْا عليها المسار والوِجهَة في كُلِّ سِرٍّ وجهرة.

يقول تبارك وتعالى في شأن الفريق الذي تَذَكَّرَ وتَنَبَّهَ وتَبَصَّرَ وتَطَهَّرَ وتَنَوَّرَ: (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14))، (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ) متنقَّى وتطهَّر وتقدَّس عن دَنس الكفر والشّرك، ثمّ عن أدران الذّنوب والمعاصي والبدعةِ والزَّيغ والضّلال، وعن كُلِّ وَصفٍ وعَمَلٍ لا يُحبّه إلٰهه. 

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ) وقد أشرنا إلى قول بعضهم؛ أنَّ الزكاة تحمِل معنى التّكاثر والنَّماء، و(متَزَكَّىٰ): تَكَثَّر التقوى ومعارفها وأعمالها، واستشهدنا بالآيتين في ذكر المُفلحين أوّل البقرة وأوّل سورة المؤمنون، فيها ذِكرُ الفلاح لِماسْتكثر: 

  • (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مقَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّرَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:3-5].
  • وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ مش فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون:1-9].

فهؤلاء أهلُ الفلاح. 

  • (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14)): بَاشَرَ الخيرات هذه كلها والصّفات وتَكَثَّر منها.
  • (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ): تَنَقَّى وتَطَهَّرَ.

الَّلهُمَّ آتِي نفوسنا تقواها، وزَكِّهَا أنتَ خيرُ مزَكَّاهَا، أنتَ وَلِيُّها ومولاها.

والمَوسِمُ مأعلى الفُرَص لِنَيْل هذه التّزكية التي تترتّب عليها التَّرقِيَّة، فلا تَرَقَّى في درجاتِ القُربِ الله إلا متَزَكَّى "إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طَيِّبَا"؛ وموسمُ رمضان وما فيه قُربَةٍ إلى الرّحممهما عُمِلَت بصدقِ وِجهةٍ وصفاءِ باطنٍ وإخلاصِ وإفرادِ قَصدٍ وحُضورِ قلبٍ مع الرَّبِّ، أثمرت التّزكية وأوجبَت التّرقية.

شهرٌ قال فيه نبينا: "‏فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ فَمصَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" تَمَّت تَزْكِيَتُه.

يقول سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14)) وأشرنا إلى ما رَأى بعضهم في المعنى أنَّ تزَكَّى، زَكَّى أخرج الزكاة :عموم الزّكاة أو خصوص زكاة عيد الفطر، زكاة الفِطرةَ.

(وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِ ..)، بِتَكبيره في طَريقه إلى العيد، (فَصَلَّىٰ (15)) صلاة العيد، وهذا جزءٌ أجزاء التّزكية العامَّة وأجزاء الذِّكرِ وأجزاء الصّلاة، وفي الصّحابة والتّابعين مبَعدِهم المُفَسرين جَعَل الصّلاة عامةً، والتّزكية أيضاً عامّة، وجَعَلَ الذّكرَ لله عامَّاً، (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14)) وهل يَتَزَكَّى ملا يُخرِجُ الزكاة؟

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15))  ولهم أيضاً مَلْحَظ أنَّ الدّخول إلى الصّلاة بِذِكرِاسم الرَّب، وخَصَّصهُ الجمهور مالعلماء بالتّكبير؛ لِمَا جاء في الصّلاة أنَّ مِفتاحها التّكبير وخِتامها التَّسلِيم -بالسّلام-، مِفتاحُها التكبير وقال أبو حنيفة: "أيُّ اسمٍ أسماء الله يُذكَرُ فيُدخَلُ به في الصلاة" (وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ)، كُلُّ هذه مَلاحِظ. 

والأصلُ في الكلام عُمومه لشؤون التّزكية، وهي التي أُوكِلَت إلى النّبيّين -خيار الخلق- ثمّ خُوطِبَ بها خَاتمهم وسيّدهم المصطفى الأمين، ورأينا الحقَّ يَنسِبُها إليه، ورأيناه يَطلُبها الرَّبِّ ويَنسِبها إليه:

  • ويقول: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مزَكَّاهَا"، فكان السببُ الأقوى في كَسب الناس لزكاة النّفوس رابطتهم بالمُزَكِّي محمّد ﷺ، 
  • وقد قال تبارك وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة:53]. 
  • (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة :151]؛ فَتَمَسَّكوا بأذيال ما أَرشدكم طرق التزكية؛ ومأعلاها: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] الذّكرُ والشكر؛ أعلى وأقوى أسباب تَزكية الإنسان وتطهيره.
  • وقال تعالى: (لَقَدْ ماللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مّأَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مقَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164]. 
  • وقال جَلَّ جلاله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مقَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2]. 

وهل هو قائم بالتّلاوة والتّزكية وتعليم الكتاب والحِكمة لجيلِ الصّحابة وحدهم؟! 

قال تعالى: (وَإِن كَانُوا مقَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الجمعة:2-3]، لم يأتوا بعد (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)؛ فَسِرُّ تِلاوته وتَزكيته باقٍ في الأجيال، جيلٌ بعد جيل، وماستجابَ ولَبَّى وقام بحُسنِ الاستقبال وامتثل، لَحِقَ بهم، (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ): أي مُنتَظرٌ لُحقوهم بهم، فيلتحقُ بجيل الصّحابة، مثَبَتَ وصَدَقَ في حُسنِ استقبال الآيات المَتلُوَّة على لسان محمّد ﷺ واستَسلَم له استسلاماً كامِلَاً؛ فَحَكَّمه.

أَيَتحكَّم في حالك ونَفسك، نفسك أو هَواك أو بَرامج تَسمعُها في النّت ولا تُحَكِّم محمدا ﷺ، 

يا أبله، يا بَليد، مخَلَقك؟! مأَوجَدَك؟! الذي أَوجدك وكَوَّنك أرسل إليك هذا لتِتَحَكَّم له؛ فَحَكِّمهُ، حكِّمه في مقاصدك ونيّاتك، حَكِّمُه في أَعمالك وعِباداتك، حَكِّمُه في اختياراتك، حَكِّمُه: 

  • (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء:65]؛ فمتَحَكَّمَ له تَزَكَّى واتّبع النّور الذي أُنزِل معه وقام بِسِرِّ أخذِ تَعليمِهِ الذي عَلَّمَه، لَحِقَ بذلك الجيل. 
  • (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ميَشَاءُ) [الجمعة:3-4] ففي كُلِّ جيلٍ في الأمّة -ما دام هذا القرآن موجودا- لاحقين بالصّحابة، لاحقون بهم ومَزْجُوجٌ بهم إلى دَوائِرهم (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ميَشَاءُ) [الجمعة:4]، والله يَجعلنا في هذا الزّوهذا الجيل ممارتضاهم وأدخلهم وآتاهم هذا الفضل، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ميَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].

وحَذَّرَ أن يَعِيشَ بين هذه الأمّة واستمراريّة التّزكية فيها ميُعرِض ويتولَّى ويُخَربِط على نفسه ويَتَّبع هواه ويتَّبع شَهواته ويذهب يَمْنَة ويذهب يَسْرَة (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [الجمعة:5]، حِمار فوق ظَهره كُتُب طيِّبَة فيها علوم نافعة ولكن هو حِمار، ما يَفهمها ولا يَفقهها ولا يَقوم بحقِّها، وحَذَّرنا تعالى أن نكون في هذه الأمّة مثل الأمم السّابقة ومَثَّلهم بهذا الحِمار الذي يَحمل الكُتب، يكون عندنا هذا القُرآن وإمكانية التّرقِية والتّزكية والتّصفية والعلوّ والسُّموّ ثمّ نَخلد إلى الفساد والتُّرَّهاتِ والبَطالات والغَفلات، (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [الجمعة:5] نُضَيِّعُ الفرصة؛ فتتحوَّل إلى غُصَّة، والعياذ بالله.

قال تبارك وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِ)، (وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِ ..(15))، مالذّكرِ الواجب ما يتعلَّق بالصّلاة وأذكارها مثلا؛ ثمّ أنَّ الذِّكرَ الذي هو كالسّلطان في القُرَبِ والطّاعات؛ مَنشور الوِلاية، هو السَّبَبُ الأقوى للجَمْعِ على الله: 

  • "ما عَمِلَ آدميٌّ عَمَلاً أَنْجَى له معذاب اللهِ مذِكر الله". 
  • "ألا أدلُّكُم على أفضل أعمالِكُم وأزكاها عند مَليككم وأرفعِها في درجاتكم وخيرٍ لكم إنفاق الذهب والوِرْق، وخير لكم أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟"، خير هذا كله، بلى يا رسول الله؟، قال: ذِكرُ الله.

فَيَا أَيُّهَا الذي يُسِّرَ لك الذِّكر وأخذتَ منه صُوَراً متعددةً في رمضان وغيره: غُصْ على معناه، وأَسِّس مَبناه، وادخل مع ميُحسِنُ القِيَامَ به لِمولاه؛ فَيحضُرَ قلبك، تُدرِكُ ثَمَرَ الذّكر، تُدرك نتائج الذّكر؛ فليكن قلبك مع المَذكور، وهو رَبُّك، يَكُن رَبُّك مَعَك، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] ومذكورٌ بالرَّحمَةِ مقِبَل ربِّ العرش، ماذا تَظَنُّ أن يكون حاله وشأنه، فَمَا أعجب الذِّكر!، لكن أحضر قلبك فيه؛ حتّى تُدرك معانيه وتَرقَى في مَراقيه وتُسقََى مسَواقيه، ومسُقِيَ كأسَ الذِّكرِ اِلتَذَّ بالذِّكر، وطَابَ له في مَعَانِيهِ الفِكْر؛ فقامَ في مِحرَابِ الشُّكرِ،؛ فلا تَسَلْ عمَّا يُنازِلُهُ الواحد الفَرد الوَتر في السِّرِّ والجهرنتيجةَ ذِكر رَبِّ العرش لعبدٍ كان ذاكِرَاً فصَارَ مَذكورا: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152] ولكن بكثرة الذّكر والحضور فيه، بكثرة الذّكر يظهر سرّ مافي الغيوب. 

  • (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41-42].
  • (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45]. 
  • (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35]. 
  • ووَصَف المنافقين (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 142].

ولذا جاء في معنى الآية أيضا:

  • (وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15)) أي صَلَّى فطابَ له ذِكرُ الله في الصّلاة بكثرة، حَضَرَ معه؛ فَانْفَرَق وتميَّز عَن المُنافقين الذين (إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142]. 
  • (وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ) له الفلاح والفوز الأكبر والسّعادةُ الدّائمة.

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15)) تَنْتَظر، تَسمع خَبر نَفسك أو شيء الأحزاب أو الاتجاهات في العالم أنه خَيرُك وفَلاحك في كذا وفي كذا وفي كذا، اسمع من ربك! اسمع من إلٰهك! اسمع من خالقك، (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15)) فلن تجد الخير في غير هذا قَطّ؛ شرفُك وعِزُّك كُلُّه هنا، (قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ) الفلاحُ في التّزكية.

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15)) قامت مظاهر التّزكية في المُزَكَّين الصحابة خُصوصًا في هذه الأمّة، هم سادة الأُمّة وجيلُها الأوّل؛ فكانت لهم بَكياتٌ في الخلوات، وكانت لهم احترازاتٌ عَن الشُّبهات، وَصَل بِهِم الحال إلى أنَّهم يَتَنَقَّون؛ فَيسألونَ عن بضاعة تَصِل إلى يد أحدهم: كانت في يَدِ مقَبله؟ فإن اطمأنّ، قال: وفي يَدِ مقبله؟ فإن اطمأَنّ؛ ففي يَدِ مقبله؟ حتى وصل بحثُهم وسؤالهم إلى سابع يد، ورأى السّبعة كلّهم وَرِعُون وأخيار، وصلتْ إليه فيطمئِنّ بها ويأخذها، وإلّا تركها، هذه مظاهرُ التّزكية.

وَتظنّ أنّك فقط لو قليل حَرَّكتَ رأسك، وَوَجدت في بعض الطّاعات والعبادات شيء مالارتياح النفسيّ، أنّك قد تزكَّيت، لو كانت المسألة هكذا هان الصّعب، هان الصّعب وتَيَسَّرالعسير، لكن المسألة أعظم مذلك؛ المسألة صِدقٌ مع الرَّب، مَظاهرهُ ما رأيتَ في الصّحابة وَرَع، ما رأيت مالصّحابة مبُكاء في الخَلوة، ما رأيت في الصّحابة وتابعيهم بإحسان؛ موقوفٍ عند الحُدود، من مُعاتبةٍ للنّفس، من محاسبةٍ قويّةٍ لها، من تَتَبُّعٍ لشؤونِها، إلى دقائقها ودقائق دقائقها في نِهاياتُهم حتّى، ما انقطع هذا التَّنَبُّه؛ حتّى في نهاياتهم فِي أواخر أعمارهم، وقد جلسوا على مائدة محمّد ﷺ وتناولت اليد الزكيّة الطّاهرة تزكِيتهم؛ فبَقِيَ أثر هذه التّزكية.

حتّى يقول أمثال سيّدنا عمر بن الخطّاب وهو في النّهايات مُبشّر بالجنّة، حلف النبيّ أنّ الشّيطان يَفرق ظِلِّه، يا حُذَيْفَة هل أنا مِنهم؟ هل أنا المنافقين يعني؟ يسأل سيّدنا حُذَيْفَة لأنّه أمين سِرِّ رسول الله على المُنافقين، خصَّه بهذا، هل أنا مِنهم؟ يَسكُت سيّدنا حُذَيْفَة، ثاني، ثالث، قال: يا أمير المؤمنين، لستَ مِنهم ولا أُزَكِّي بَعدك على الله أحد، ما أحد يِسألنا هذا الشّيء، هذا أمانة سرّ، ما أُفشِيه ولا أُخبر النّاس به، لستَ مِنهم، اسكت، لا أزكّي على الله بعدك أحد، يعني الذين أنبَأَني بهم ﷺ وأعطاني علاماتهم، أنت ما أنت منهم، يخاف أن يكون منهم، هذا سِرُّ التّزكية، وهو مُبَشّر بالجنّة.

لو واحد عِنده رُؤيا، رآها، أو رآها أحد ثاني له، في عقله ليلا ونهارا، طول اللّيل يُريد أن يتقَدَّم على خَلق الله، ما تزكيت!! هذه ليست رُؤيا؛ هذه بِشارة في اليقظة، صاحب الرّسالة الذي لا يَنطق عن الهوى بالجنّة، وما غرَّتهم! واتَّهمُوا أنفسهم. 

وهذا معه رؤيتين، ثلاث؛ يَظَلّ يَتَذكّرها طول عمره، إن صلَّى ذَكَرهَا، وإن قعد ذَكرها، وإن دخل مَجلس ذَكرها، يُريد أن يتقدّم على النّاس بها، يا هذا! يا هذا! اِتَّهِم نفسك، تأدَّب مع ربَّك، اِسلُك مسالك الصّادقين المُخلصين، اترك الاغترار، اترك رفع الرأس، اصدق مع ربّ النّاس، دَعِ الوَسوَاس الخنَّاس وَ وَسوَسته، اخْضع، تَواضع!.

سيِّدُ الأصفياء يَبكي في الخَلوة، وما بكيت، ما لك؟! ما لك! ماذا عندك؟ ما بك؟ دَاوِ نفسك! أتجعلُ البُكاء للأنبيَاء والصّحابة والصّالحين، وأنت؟ أنت أَحوج وأحقّ أن تبكي؛

  • أَتَبْكِي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدَّم ذنبك وماتأخر؛ "أفلا أكون عبداً شكوراً"، وهو سيد الشاكرين صلوات ربي وسلامه عليه.
  • "وَفَدَ بعض الوُفُود عليه في المدينة، استقبلهم تكلَّم معهم، وهو قائم يتكلّم، يسألونه عن بعض الإسلام، ثم قالوا تتلو لنا ما نَزَل عليك؟ فَتلا عليهم بعض الآيات وفاضت عينه وقام يمسح الدمع عن عينيه، يقول له بعض الذين وَفَدُوا: أتبكي خشية الذي أَنزل عليك هذا؟! قال: أجل، قال هذا بكاؤك خشية الذي نَزَّل الكلام هذا عليك؟ قال: أجل"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14))، وهذا المَكسب الغالي الذي يترتَّب عليه الفلاح، عزيز عند ربِّه، تَسمع في الآية (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ) [الجمعة:3]، ليس كلّ أحد يُحصِّل جيل التّابعين ولا جيل تابعي التّابعين ولا مبعدهم إلى قَرنِنا هذا، عزيز،حكيم، يختصّ يشاء ويُدخِلهم في دائرة الرّحمة، وتَسرِي إليهم سِراية هذا النّور والتّزكية، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ ميَشَاءُ) [الجمعة: 3-4].

اللهم آتِنا هذا الفضل، يا متفضّل،  معلينا بالوَصل، ياهو لِكُلِّ خيرٍ أهل، أقِرَّ بنا عَين خاتم الرسل، يا أرحم الراحمين، ياأرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.

وَرُبَّ مُتَذَكِّرٍ عظمةَ الأمر ومُتَوَجِّه إلى الله في المجلس أو مميسمع فيدخل في الدّائرة ويُربَط بالوجوه الناّظرة؛ فتجد قلبهُ مع أهل القلوب الحاضرة، وهِمَّتُه تعلو بعد أن كانت فَاترة، ثم يَجنِي الثّمرة الكبيرة (إِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات:14] أَحَبَّ الرَّبّ وأجلهِ عَظُمَت محبّته لحبيبه محمّد ﷺ؛ فتَتَمَتَّع عيونه بالنّظر إلى طَلعته الغرَّاء ورؤيةِ مُحَيَّاهُ الأزهر في الدّار الأُخرى و"الوَيْلُ لِملَا يَرَانِي يَوْمَ القِيَامَة".

فيَا رَبِّ يا ملم تَقطع سِرَّ هذه التّزكية العظيمة، في هذه الأمّة إلى آخر الزّمان، ما دام القرآن موجود، لك الحمد أن لم ترفع القرآن بعد، فحَقِّقنا بحقائق الإيمان به والعمل بما فيه ووَفِّر حظَّنا مسِرِّ هذه التّزكية، زكِّنا بها ونقِّنا، يا ميُؤتِي فَضلهُ ميشاء وهو ذو الفضل العظيم، يا عزيزُ يا حكيمُ، يا رحيا رحيم، آتِ نُفوسنا تَقواها وزَكِّها أنت خير مزكَّاها أَنت وَلِيُّها ومَولَاهَا.

ولهذه العِزَّة قال الإمام الحبيب علي الحبشي: 

ملَا صَحِبْ فِي زَمَانِهْ شَيْخ عَارِفْ مَكِينْ-يعني مُزَكِّي- *** مَرَّتْ حَيَاتُهْ وَهوَ مَعْدُودْ فِي المُفْلِسِينْ.

دعه يتعلَّم ما يتعلَّم ويَعمل ما يعمل، دون ارتباط بشيخ عارف مَكِين، مفلس، لأنّه ما يهتدي إلى الحقيقة، لأنّه ما يَتَزَكَّى، لأنّه يعيش مع الصّور والأسماء والظّواهر، لأنّه يَبعُد بقلبه ويَدَّعي القُرب بجسده والحقّ ما نظر إلى الأجساد، إنّما ينظر إلى القلوب.

قال سيدنا الإمام أبو حنيفة النُّعمان عليه رضوان الله، وقد جالسَ مُرَبِيَّاً، مُزَكِّيَاً، تَسَلْسَلَتْ فيه التّزكية حضرة النُّبُوَّةِ عن طريق البيت الطّاهر؛ جعفر الصّادق، سنتين جالسهُ؛ فكان يقول في آخر عُمره الإمام أبو حنيفة: "لولا السَّنَتَان مع الصَّادِق لَهَلَك النُّعمَان"؛ 

  • قال: لولا السّنتين جلستها مع ذاك الإمام، مع ذاك الطّاهر المُزَكِّي، مُزَكَّى بن مُزَكَّى بن مُزَكَّى بن مُزَكَّى إلى سَيِّدِ أهلِ التَّزكِيَةِ؛ جعفر بن محمد البَاقر بن عليّ زين العابدين بن الحُسين بن عليّ؛ الحسين بن عليّ وأبوه عليّ، تَوَلَّت تزكيتهم يَدُ النُّبُوَّة؛ فَتَسَلْسَلَتْ التّزكية.
  • "لولا السَّنَتَان مع الصَّادِق لَهَلَك النُّعمَان"؛ أنت بِعقلك هذا، وعِلمك هذا، واتّساعك هذا، أتَهْلَكُ لولا هذا؟! قال: لولا جلوسي مع هذا. 
  • أنت لقيت مئات العلماء، "لولا السَّنَتَان مع الصَّادِق لَهَلَك النُّعمَان"، الله أكبر! سِرُّ التَّزكِيَّة، سِرُّ التربية، سِرُّ التَّصفِيَّة.

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ (15)) ويَطِيبُ له ذكر الرَّبّ وذكرُ أسماء الرَّبّ (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180].

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ): مُعَظَّمٌ عِنده المَذكور فَتَنصَرِف إلى عَظَمَتِهِ كُلُّ التّفكير؛ فيَتَجَوْهَر بِنُورانيَّة الذِّكر؛ فَيَصِير مرَأسه إلى قَدمه: لا إله إلا الله، مرَأسه إلى قَدمِه: سبحان الله، مرَأسِه إلى قَدمه: الحمد لله، مرَأسه إلى قَدمه: الله أكبر؛ يصير كله هكذا.

  • قالوا؛ وقد كان في حياة الصِّديق كُلَّمَا مَشى قليلا أو تكلّم قليلا قال: لا إله إلا الله؛ حتّى إذا تكلَّم مع أحد كَلِمتين، ثلاث كلمات، يقول:لا إله إلا الله؛ ثم رجع يكَمِّل كلامه، ويَسمَع آخر يُكَلّمه وهو يَلهَج بـ لا إله إلا الله. 
  • قال وكان الفاروق كُلَّمَا خطى خُطوتين، كُلَّمَا جلس، قال: الله أكبر، كُلّما مشى قليلا، تكلّم قليلا؛ الله أكبر، الله أكبر؛ قلوب حاضرة مع ربِّها.
  • وكان سيدنا عثمان عليه الرِّضوان، شهيد الدار، كلّما يَمشي، كلّما يجلس، كلّما يتكلم قليلا، يقول: سبحان الله، سبحان الله؛ كلّما يخطو خطوات، كلما يتكلّم  كلمه: سبحان الله؛ قلوب حاضرة مع الله، 
  • وكان سيدنا عليّ بن أبي طالب في طول حياته لمَّا يتكلم قليلا، يمشي قليلا: الحمد لله؛ يخطو، يجلس، يتكلّم؛ الحمد لله، الحمد لله.

كان سيدنا الصَّادق يتكلّم عن أذواق القوم ويقول: 

  • "جَالَت روح الصِّدِّيق في الوَحْدَانِيَّة؛ فكان ذِكره: لا إله إلا الله،
  • وشَهِدَ الرِّفعَةَ والعِزَّة عمر فكان ذكره: الله أكبر، 
  • وعَجِبَ في التَّنزيهِ وغَرِقَ في التَّقدِيسِ عثمان فكان ذكره: سبحان الله، 
  • واَسْتَجْلَى المِنَنَ والمواهب عليّ فكان ذكره:الحمد لله"، 

أي غَلَبَ عليه هذا وهذا وهذا، فتوزَّعت الباقيات الصّالحات بين سادة الرَّكب عليهم رضوان الله.

وكُلّهم تَزَكُّوا على يَدِ خير مُزَكِّي، رَبَّتهم يد واحدة، يد النّبوّة، يد الرّسالة، اليد المحمديّة المَأمونة على التّزكية، فلا يَكون النَّيْلُ منهم إلا نَيْلٌ اليد التي زَكَّتهُم، ولا التّعظيم لهم إلا تعظيم اليد التي زَكَّتهم. 

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ (15))، قُلْ لِمأراد أن يتكلّم على مثل هؤلاء: قل لي مزكَّاك أنت؟ أنا أقول لك مزَكَّاهم، لكن قل لي: أنت مزَكَّاك؟ فليكن ميكن، أمامَ مزَكَّاهم ليس شيء، أسكت يا عدوَّ نفسه، أتريد أن تتطاول على جناب النبوّة، مزَكَّاك أنت؟ قل لي أنت مزَكَّاك؟ هات لي خبر؟ أنا أعرف مزَكَّى هؤلاء؛ زَكَّاهم محمد ﷺ وتحدَّث عنهم وذَكر فضائلهم وأثنى عليهم كتاب الله، قل لي أنت مزَكَّاك؟ وأيُّ ثناء عَليك في السّنّة؟ وأيُّ ثناء عليك في الكتاب؟ لا في الكتاب ولا في السّنّة أثنى عليك الله ولا رسوله، تجيء تتكلم على هؤلاء؟! أسكت يا عدوّ نفسه، يا متطاول على الرَّبِّ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

(قَدْ أَفْلَحَ متَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15)) فلمَّا صَلُّوا هذه الصلاة -أوّلها الصلوات الخمس- ثم عَشِقُوا الصلاة بعد أداء الفرائض فصلّوا، وكان الصّحابة سمُّوها صلاة التّراويح لأنّهم يُرَاوِحُونَ بين أرجلهم طول القيام فيها؛ سمّوها: تراويح.

(فَصَلَّىٰ)، يُحافظون على النّوافل، يُحافظون على الرّواتب، "فـَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ القُرْآن" ، ويُجْزِيه مذلك كلّه الصّدقات على كُلِّ مِفْصَلٍ في اليوم واللّيلة، ركعتان يَركعُهما الضّحى؛ يقول سيدنا أبوهريرة:" أَوْصَانِي خَلِيلِي رَسُولُ الله ﷺ أَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَام، وَأَنْ لَا أَدَعَ سُبْحَةَ الضُّحَى -صلاة الضحى-، وَصِيَامَ ثَلَاثَةَ أَيَامٍ مكُلِّ شَهْر"، مَظاهرُ التّزكية.

(وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15))، ولمَّا كان كذلك سَمِعتم، سيّدنا زين العابدين تشتعل النّار في بيته، يحترق ويصيحون عليه وهو ساجد: يا ابن بنت رسول الله، يا علي، يا ابن الحسين، يا ابن زين العابدين، ولا حركة، ويُحاولون إطفاء النّار والنّار تشتدّ ويَخافون تَقرُب مِنه وهو ساجد؛ حتى رفع وسلَّم، قال متى هذه النار؟ متى؟! نَصيح عليك وقت كذا كذا، قال: ألهتني عنها النّار الكُبرى، كان في الصّلاة، (فَصَلَّىٰ)؛ (وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ) لم يرُدْ، مَدُّوا له حَبل، خرج الجانب الثّاني جهة النّار؛ هكذا كانوا يُصلّون.

(وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15))؛ ثم قال الحق: 

  1. (بَلۡ يُؤۡثِرُونَ اَ۬لۡحَيَوٰةَ اَ۬لدُّنۡيۭا (16)) -في قراءة ابي عمرو-، يعني هؤلاء (الأشقى) الذين يصلى النار الكبرى، الذين يتجنّبون الذِّكرى، يُؤثرون الحياة الدّنيا، 
  2. والثانية خطاب للكل (بَلۡ تُؤۡثِرُونَ)، يا أيّها السّامعون، يا ميَعقِل، يا متؤثرون الحياة الدّنيا، كَونَهَا حاضرة، قريبة، سهلة عليكم؛ ظَنَنْتُمْ أنّها الغَرَضُ أو المَقْصُود، تُلْهِيكُمْ، تَغُرُّكُمْ!

(تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (17)) مَلَاذُ الأجسام والأرواح، فيها أَرْفع وأَجْملُ وأَفْضل، بعيدة عن المُنغِّصات؛ مُتع الدّنيا مقرونة بالمُنَغِّصَاتِ والمُكَدِّرَاتِ والمُشَوِّشَاتِ، قريبة، زائلة، مُنْتهية، يَصحَبُها الأمراض والهُموم؛ وَ إلَّا كذلك مُتَع الآخرة.

جميع القصور التي في الدّنيا، هل سمعتم قصر لَبِنَة فضة ولَبِنَة ذهب؟ ما سمعتم؟ حتّى في دول كبرى؟ كبرى أو صغرى، ما في، في الجنة "لَبِنَةٌ مفِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مذَهَبٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ" ما هو هذه الميزة وحدها، هذه الميزة وحدها في ذات البناء، اسمع: 

  1. لا يوجد فيها مرض، فهات لي قصر في الدّنيا ممتاز بناه صاحبه، ما في مرض فيه، ممكن؟
  2. الثّاني: ما يوجد هَمّ، هات لي قصر مقصورهم، ما يوجد فيه هَمّ؟ أكثر الهُموم فيها،عجيب!.
  3. وبعد ذلك، ما يوجد موت، الله! هات لي شيء قصورهم مافيه موت؛ فيه؟ ما في عندهم.

(وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (17)) لكن نتيجة الجهل، نتيجة الغفلة، نتيجة الغرور بالقريب الحاضر، قد كان ابن مسعود يَقرأ الآية يقول لأصحابه: "آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأنَّنَا شَهِدْنَاهَا وَرَأَيْنَاهَا وَحَاضِرَة عِنْدَهَا وَاغْتَرَرْنَا بِهَا، وَالآخِرَة غَيْبٌ عَنَّا مُؤَجَّلَة، آثَرْنَا عَلَيْهَا الدُّنْيَا"؛ أي بهذا المقياس الغير العادل، الغير الصّائب، فإنَّ مَاهُوَ مؤجَّل، إذا كان أَعْظم وأَبْجل وأَفْضل؛ فإيثار المُقَدَّم عليه غَباوة! وميؤثِرُ أن يأخذَ في الحاضر ريالاً يَفقِدُ به عشرة كيلو الذّهب بعد يوم أو يومين؛ ميحكم أنَّ هذا عاقل؟ قال هذا الرّيال أحسن لي، هذا الحين حاضر وذاك بُكْرَة ما أَدْرِى به، يا أبله! بُكْرَة عشرة كيلو ذهب واليوم ريال واحد! والله ولا نِسْبة الدّنيا بما فيها إلى الآخرة، لا إلى عشرة كيلو ذهب وَ لَا إلى مليون كيلو ذهب، (الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) خَيْر مكلِّ جانب، في مُتَعِها الظّاهرة والباطنة للأجسام والأرواح، (خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) مُستَمرّة، لا نَفَادَ لها وما يَنقُص شيءٌ فيها. 

فَنَتِيجَة هذا العِلم بِقوَّة اليَقِين، يَأتِي الإيثَار؛ تُؤثر الآخرة، والذين آثروا الدنيا والذين آثروا الآخرة، كلُّهم يعيشون في الدّنيا، فِي أحد مِنهم ما يَأكل؟ لا، كلُّهم يَأكلون، في أحد مِنهم ما يشرب؟ لا، كلُّهم يشربون، في أحد مِنهم ما يتزوج؟ لا، كلُّهم يتزوجون.، عجيب! في أحد مِنهم ما له سكن؟ لا، كلّهم عِندهم سكن، فقط هذا آثَر هذا وهذا آثر هذا؛ عِلْم، ذَوْق، اختِيار، إرادة فَرَّقت بين هذا وهذا؛ وَ هُم كلّهم يَأكلون، كلّهم يَشربون، كلهم يَلبسون، بل ربّما خير ما يكون عند الذي آثر الحياة الدّنيا، تَصِل مَنفعتُه لذاك وأحسن، سبحان الله! وربّما يَتعب ويُصَلِّح ويُصَنِّع، وبعد ذلك الجِهاز يأتي عند هذا و يَستعمله للآخرة؛ ووَقَع هذا -مُؤثِر للحياة الدّنيا- خاسر لنفسه وخَدَّام لهذا؛ 

فَهُمْ الملوك، فَهُمْ الملوك، إذا انكشفت السِّتارة عَرَف النّاس مالمُلُوك ومالصُّعلُوك، وكيف أكثر ميُوصَف في الدّنيا بِالغِنَى والمُلْك صَعَالِيك هُم فِي الآخرة، صَعَالِيك نَدْمَانِين، تَعْبَانِين، خَسْرَانِين، مَسَاكِينْ، أكثرهم هكذا؛ إلا مرَحِم ربُّك (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي متَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مّعِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ) [آل عمران:198].

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (17) إِنَّ هَٰذَا (18))، مَا تَلَوْنَا عَلَيْكُمْ مالحَقَائِق، فِي خَيْبة الذي يتولَّى عن التَذكرة ويتَّبِع هَوَاه، وسَعادة المُتَزَكِّي، الذَّاكِر، المُصَلِّي، هو الذي قَرَّرْناه في الكتب المُنزَلَة كُلَّها، (إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18))، ومِنها ومأَظهَرِها وأَبرَزِها: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)) عليهم الصّلاة والسّلام، قد أَنزل الله عليهم هذه الحقيقة؛ فهي حقيقةٌ مُجمَع عليها، مُطبَق عليها، كلّ عاقل مأوّل آدمَيّ إلى أن تَقوم السّاعة، هذه الحقيقة لَهُ لا غيرها.

(إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)) على نبيّنا وعليهم أفضل الصّلاة والسّلام، ما أّطْهَر وأَجَلّ هذه الحقيقة عند مِثل الذي جِيء الآن، وألحَدناه في القبر، جعل الله قبره روضة رياض الجنّة ورفع له المراتب العلا، يُدرك هذا الكلام تماماً مُعَايَنَةً؛ فَفَرَحُه بما كان يَحضُر مجلسات، بما كان يَحضر ممَجالس الذّكر والخير وبما كان يَفعل مالصّالحات، هو الذي يَرى قِيمَته ويَعرِفُ مَكانته ويعلَم أنَّ عامَّة ما في اعتِبارات النّاس لَا شيء، هو يُدرك الآن مُعايَنة؛ فما هو فَرِحٌ إلا بِمَا كان مصِلَةِ قلبِهِ بِرَبِّهِ وقِيامه بِتَقوَاه وحُضُوره إلى الخَير وارتباطه بأهل الخَير،هذا الذي يَجني ثَمره؛ هَنَّأَهُ الله بذاك الثّمر وجعل رُوحه في أعلى مستقرّ.

اللهم اجعل مُستقرّ رُوحِه في فِردَوْسِك الأعلى، واخْلُفه في أهله وذويه وأهل بلده والأمّة بِخَير خَلَف، واجمَعنا بِهم في أعلى الغُرَف وأنت عَنَّا راضٍ مغير سَابقة عَذَاب ولا عِتاب ولا فِتنة ولا حِساب برحمتك، يا أرحم الراحمين.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

07 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

12 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام