تفسير سورة الزخرف -04- من قوله تعالى: { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) } إلى الآية 35

للاستماع إلى الدرس

الدرس الرابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }

الثلاثاء 4 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرِمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان عبده خير هادٍ ودليل؛ سيدنا مُحمّد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم واتّبعهم على أقوم السبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المخصوصين بالتكريم والتبجيل والتفضيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ:

فإننا في نعمة تأمّلنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله- وتَذَكُّرنا لما أوحى إلى نبيّنا؛ يُعلّمنا ويرشدنا ويلهمنا ويهدينا وينوّرنا ويطهّرنا ويُقرّبنا ويتفضّل علينا؛ انتهينا في سورة الزخرف إلى قوله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-: (بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29))، بعد أن قصَّ الله علينا موقف الخليل إبراهيم إذ قال لقومه وأبيه: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28))، من شذَّ منهم وخرج، يذكّره المُحافِظ على هذه الكلمة؛ وهي كلمةُ الحقِّ، كلمةُ التوحيد، كلمة: لا إله إلا الله.

قال تعالى: (بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ)؛ مَن أمامك من المعاندين المُضادّين الذين جحدوا واستكبروا؛ متعتُهم بأنواع الشهوات وأصنافٍ من الأرزاق، فراحوا وراءها وتناسوا خَلقهم ومقصود الحكمة، وكفروا وكذّبوا. 

(بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ)، ومرّت عليهم القرون حتى تكرَّمنا عليهم ببعثتك، فكان الواجب أن يشكروا هذه النعمة، وأن يؤوبوا إلى توحيد الذي خلقهم وأنعم عليهم، ولكنهم بدَّلوا نعمة الله كُفرًا! كما قال عنهم في الآية الأخرى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم:28-29]؛ يقول: بدلوا نعمة الله -مُحمّد ومجيئه بالهدى- كُفرًا. 

  • (بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ)؛ القرآن؛ خير الكتب المُنزلة من السماء، 

  • (وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29))؛ مُحمّد بن عبد الله ﷺ، يُبيّن الهدى والحقَّ والصواب ويوضّح الأمر. 

(وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29)) مُبيّن الرسالة بأخلاقه وصفاته وصدقه وأمانته، وما مضى عليه من سبيلٍ وخُلُقٍ؛ 

  • يعلم كل من ينظر إليه أنه الذي لا يفتري ولا يكذب أبدًا، 

  • مَن نظر في وجهه عَلِمَ أنه ليس بوجه كذَّاب، 

  • وكان ﷺ ليس بغمَّازٍ ولا عيَّاب.

قال: (حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ)؛ القرآن والإسلام، (وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29))؛ واضح الدلالة، واضح الرسالة والنبوة، مُبيّنٌ للحقائق، هادٍ إلى الخالق؛ فكان الواجب عليهم أن يشكروا هذه النعمة! مُتِّعُوا هذه المُدَدْ مع غفلتهم وإعراضهم، فأُكرموا بالعطاء الأسعد: 

  • من إنزال القرآن كلام الواحد الأحد. 

  • وإرسال خير الخَلق مُحمّد. 

كان يجب أن يقابلوا هذا بالابتهاج والفرح والنعمة وإدراك الفضل لله تعالى وأن يُطيعوا ويخدموا؛ لكن (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ)؛ وهو القرآن يتلوه مُحمّد ﷺ ويدعو إلى الإسلام، (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ) تمادوا في غيّهم وعاندوا وأصروا واستكبروا، وقالوا: (هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30))؛

  • (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ لن نصدِّق بك ولا بالذي قبلك -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، 

  • (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)؛ 

  • الخُطَط التي وضعتموها لنا، وتلك الاجتماعات وذلك الكلام الفارغ الذي زخرفتموه، (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَّمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سبأ:31-33]؛ فكانت هذه نهايتهم. 

فما من مُستقبل أسوأ من مُستقبل المعاندين الجاحدين الكافرين، مُستقبلهم أسوأ المُستقبَلات، أخبث مستقبل وأشدّ مُستقبل هو مُستقبلهم: 

  • عذابُ النار، 

  • والبُعد عن الجبَّار،

  • واللعنة الدائمة، 

  • والعقاب الشديد. 

والعياذ بالله تعالى، فأيّ مُستقبل أخبث من هذا المُستقبل؟! 

وفوق ذلك يريدون يعلّمونك، يقولون تعال نعلمك تضمن مستقبلك! أنت الذي مستقبلك ضائع، خسيس، أخبث مستقبل في الوجود تعلّمني؟! مُحمّد علمني، مُحمّد علمني كيف أضمن مُستقبلي، وكيف أُصلح حالي، وكيف أستعد لمَآلي، ولكن غرور.. غرور وزور! (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20] كما قال تعالى.

(وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ)؛ قرآن مُبين، ودين هدى، إسلام لا يقبل الله غيره، حامِله خاتم الأنبياء وسيّد الخلق، (قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)) -أعوذ بالله!- وفوق ذلك يتفلسفون ويتحكّمون، الدلائل واضحة أمامهم؛ صادق يتلو عليهم، وعرفوا أمانته، وعرفوا خُلُقه؛ قاموا يتفلسفون بعقولهم ويتحكَّمون، يقولون: إن كان قرآن من عند الله لِماذا لم ينزل على واحد من عظماء مكة؟ أو من عظماء الطائف؟ وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ) -أي من مكة ومن الطائف- (عَظِيمٍ (31))؛ واحد كبير السن، هذا ما زال في أربعين سنة! وبَعد؟ هذا الذي في أربعين سنة:

  • سمّيتموه الأمين. 

  • وامتلأت قلوبكم إعظامًا وإجلالًا لسلوكه وخُلقه القويم. 

  • ووضعتم أماناتكم وودائعكم عنده. 

ولكن قالوا: (رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31))؛ يقصدون إما: 

  • الوليد بن المغيرة، 

  • أو عروة بن مسعود الثقفي، 

  • أو ابن عبد ياليل أيضًا من الطائف؛ الذين قصدوهم هؤلاء ورموهم، 

  • أو ثالث كذلك أرادوه من مكة المكرمة. 

قال الله ما يبقى إلا فضلي ووحيّ تلعبون به وتضعونه حيث شئتم؟! ومَن وكّلكم عليه حتى تقسمونه؟! ألست أنا أعلم؟ (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]. 

قال: (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؛ هل أحد وكّلهم بأقفال خزائني وَجُودي يوزّعونه كما شاءوا؟ أنا احتجت إليهم حتى يرتبوا أمور الرسالة والنبوة؟! (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)! قال أنا ما ائتمنتكم حتى على أتفهِ الأشياء، حتى على أرزاقكم الحسّية، جعلت ذا غني وذا فقير من دون اختياركم، أنا الذي قسَّمت! وتأتون إلى النبوة والرسالة تريدون تقسمّونها أنتم؟! ما ملّكتكم حتى تقسيم العطايا الدنيّة والحقيرة واليسيرة! 

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، قال حتى هذا المعيشة الحقيرة أنا قسمتها بينكم وجعلت ذاك غني وذا فقير؛ (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [النحل:71]، وجعلتُ هذا مَلِك وهذا مملوك، وهذا ظاهر وهذا خامل، وهذا معروف وهذا مجهول بين الناس، أنا رتّبت هذه الأشياء، هل أحد منكم له اختيار في هذا؟! وتريدون ائتمنكم على أسرار النبوة والوحي؟ ما فيكم عقول؟! أنا ما ائتمنتُكم على الحقير هذه العيشة القصيرة؛ أنا وزّعتها وقسمتها.

(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا)؛ يخدم هذا هذا، وصاحب المال يسلّم لذاك الفقير الذي ما عنده، وذاك الفقير يخدم غرض هذا الغني، وذا ملك وذا مملوك، وذا مالك، وذا سيد، وذا عبد. قال الله: أنا رتبت هذا ووزّعته ما شاورت أحد منهم، (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [الكهف:51].

(وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا)؛ يُسخّر هذا لهذا، وهذا لهذا… ولذا لمَا تأمّل العاقل أحوال العباد على ظاهر الأرض تعجّب، وقال:

النّاسُ للنّاسِ من بدوٍ ومِن حَضَرِ *** بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ

ذا يخدم ذا، وذا يخدم ذا، وذا يخدم ذا؛ لتستقيم الأمور في المعيشة على ما قدَّر العزيز الغفور -جلَّ جلاله- وإلا لو جعلهم كلهم على مستوى واحد في الفهم، أو في العلم، أو في الرزق، كيف ستقوم الوظائف؟ قالوا: إذا كل واحد أمير من بيسوق الحمير! ستقع مشاكل في العالم، ولكن ذا يندرج تحت ذا، وذا تحت ذا.. وهكذا حتى تمشي الأمور، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة:251]، ولكن هكذا التدبير من حكيم خبير -جلَّ جلاله- ومتاع إلى حين.

قال تعالى: (لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ)، ما يختصُّ به المؤمنين من الإيمان به، وأن يدينوا بدينه الحق الذي لا يَقبل غيره، وما يترتب عليه من صرف العذاب يوم القيامة ودخول الجنة؛ خير من هذا كله؛ ما في الدنيا من ثراء، ومن غِنى، ومن أموال، ومن مُلك، ومن سلطان، ومن إمارة، ومن ولاية، من أولها إلى آخرها؛ (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32))، (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) [الأنعام:15-16].

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32))؛ الخير من كل ما يجمعونه ويتكالبون عليه ويتنافسون عليه، من جمع الأموال والسلطة والنفوذ والسمعة، كل هذا رحمتي للمؤمن خير من هذا كله؛

  • أوفّقه في الدنيا لدين الحقّ الذي لا أقبل غيره.

  • وأتوفّاه على الدين الذي ارتضيته.

  • وأصرِف عنه العذاب في القيامة.

  • وأدخله الجنة. 

فماذا يساوي هذا المُلك الذي في الدنيا أمام هذه الرحمة؟! (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32))، الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، اللهم زِدنا منه وثبِّتنا عليه، وأحيّنا وتوفّنا عليه.

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32))؛ 

  • فلو أوتيَ الإنسان مُلك الأرض كلها، من شرقها إلى غربها، من أيام آدم إلى أن تقوم الساعة وحُرِمَ نعمة الإسلام لكان خاسئًا حسيرًا ذليلًا ذميمًا حقيرًا، يبوء بالنّكال والعذاب والشِدّة والخيبة. 

  • ولو مُنع الإنسان أنواع النعم التي في الدنيا وأُعطيَ الإسلام لكان سعيدًا معظَّمًا مهنَّئًا فائزًا بالنعيم الدائم والفوز الأكبر.

فالحمد لله على نعمة الإسلام، اللهم كما أنعمتَ علينا بالإسلام فزِدنا منه، وكما أنعمتَ علينا بالإيمان فزِدنا منه، وكما أنعمتَ علينا بالعافية فزِدنا منها، وكما أنعمتَ علينا بالعمر فبارك لنا فيه؛ حتى نزداد في لحظات العمر إيمانًا بك، وقُربًا منك، ومعرفةً بك، وإخلاصًا لوجهك، وصدقًا معك، ورضوانًا منك يا أرحم الراحمين.

قال: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32))، ولذا قالوا من أوتيَ القرآن فرأى أن غيره أوتيَ خيرًا مما أوتيه؛ فقد أعظم الفِرية! هذا مفترِ على الله، هذا إنسان خائب! القرآن خير من الدنيا. ولذا لمَّا حفظ بعض الأبناء القرآن عند بعض المدرسين، فأرسل والده هدايا ثمينة، قال المدرّس: قل لوالدك هذا كثير! بعض هذا يكفي، فلمَّا رجع قال والده: المدرّس يقول لك هذا كثير على القرآن؟! هذا ما يصلح للقرآن!.. اخرج من عنده، سأنقلك عند شيخ يعرف قدر القرآن، لو جئت له بالدنيا كلها مقابل تعليمك آية لكان حقير، وهذا يقول كثير! إيش كثير؟! علَّمك آيات ربي ويقول لك على الذي أعطيناه هذا كثير! إيش من كثير هذا؟ هذا كله حقير، لو جئت له بجميع مُلكي وأعطيته إياه لكان حقيرًا بالنسبة لآية يعلِّمك إياها فكيف بالقرآن كله؟! هذا شيخ ما يعرف قَدْر القرآن، ما يصلح للدراسة عنده، سأدرّسك عند شيخ يعرف عظمة القرآن، ويعرف قَدْر القرآن. 

لا إله إلا الله! لا أعظم من نعمة الإسلام، أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبيّنا محمد ﷺ، وعلى مِلة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين. اللهم إنا أصبحنا نُشهِدك ونشهِد حَمَلة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن سيدنا محمدًا عبدك ورسولك، فثبِّتنا على ذلك وتوفّنا عليه. (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)). 

قال جل جلاله: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)؛ لولا عدم مُبالاتنا ورحمتنا بالخَلق، وتعريضهم لأن يكفروا كلهم ويكونوا أمة واحدة على الكفر؛ لجعلنا جميع أمتعة الدنيا الحقيرة للكفار، ولصببناها على الكفار صَب، وجعلنا لكل من يكفر مظاهر الحياة الدنيا وزخارفها؛ لكن قال الله لو أمضينا الأمر هكذا لكَفَر الناس كلهم، لن يبقى مع الرسل أحد، بيروحون وراء هذا المتاع؛ 

  • قال: إنما رحمة منّي أُغني ذا، وأُفقر ذا.. وإلا فالحق يقول لنا هذه المُتع الدنيوية حقيرةٌ في نظري، لا اعتبار لها عندي، فإياكم يا من آمن بي أن تجعلوا لها اعتبارًا هو ساقطٌ من عيني؛ لا اعتبار عندي بهذه المظاهر والزخارف والمُتع الفانية، 

  • قال: من حقارتها عندي لولا أني أريد أن يهتدي من يهتدي من عبادي لجعلتُ كل مظاهر الحياة الدنيا للكفار، ومن كفر صببتها عليه؛ حينئذٍ سيكفر عامة الناس، ولا يبقى إلا أقل القليل.

لهذا قال: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا) وفي قراءة: (سَقْفًا (مِّن فِضَّةٍ) -تكون سقوف بيوتهم فضة تتلألأ- (وَمَعَارِجَ) -مصاعد- (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33))؛ يطلعوا إلى الطابق الرابع والخامس والعاشر والمائة وإلى السطح، يطلع على السلم، مصعد، (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33))؛ أي: يعتلون إلى أعلى البيت وأعلى المنازل، (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا)؛ أي: أبوابًا أيضًا من الفضة، (وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا)؛ وذهب، مزخرفة ومنقرشة وملوّنة.. قال سأعطيها الكفار فقط لحقارتها عندي، لكن رحمتي بعبادي لو فعلت هذا، وهم بطبائعهم هذه التي خلقتهم عليها، إذًا يذهبون كلهم وراء الكفر -والعياذ بالله تعالى-، كما يتبع الناس الدّجال في أيام يختبرهم الحقّ -سبحانه وتعالى- ولا يبقى إلا قليل مع سيدنا المهدي، وبعضهم يفرّون للجبال، والأكثر وراء الدّجال -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لا إله إلا الله!..

يقول: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا) وفي قراءة: (لَمَا (مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الحقيرة، الفانية، المنقضية، المنتهية، الزائلة، فإذا بها لا شيء، لا شيء؛ سُقُف من فضة، مصاعد يطلعون عليها، بيوت أبوابها من الفضة ومن الذهب، وسررًا عليها يتكئون، وزخرف ذهب، ونقوش، وماذا بعد ذلك؟ ينتهي كله.. وماذا حصل؟ (وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35))، اللهمّ اجعلنا من المتقين، هؤلاء لهم الفوز الأكبر والسعادة الكبرى.

وهكذا يروي الإمام الترمذي في سُننه وغيره، يقول بسندٍ حَسَن صحيح: "لو كانت الدنيا تَعدِل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء"، لو كان لها وزن حتى مقدار جناح البعوضة، جناح البعوضة كم كيلو؟ جناح بعوضة هذا ما أصغره!.. قال: لو كان لها من الوزن مقدار هذا، لما سقى كافر منها شربة ماء، لكن لهوانها تركهم يلعبون بها، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56]، (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178]، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وهكذا دخل سيدنا عمر بن الخطاب إلى مشربة فيها رسول الله ﷺ، ورآه على حصير أثّر خطوطًا في جنبه الشريف، ونظر فما وجد في البيت غير قِربة ماء، فدمعت عيناه، قال: "ما يبكيك يا عمر؟"، قال: يا رسول الله، أنت رسول الله وتنام على حصير أثّر في جنبك خطوطًا، وكسرى وقيصر ينامون على الفرش الوطيئة والسرر! فاستوى ﷺ جالس، قال: "أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قومٌ عُجّلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟"؛ ربّاه وقوّى إيمانه ويقينه، قال له اترك الاعتبار لهذه الأشياء، لا اعتبار لها.

وكان يمرّ عليه المارّ - وكان الهرمزان-، فيجد سيدنا عمر بن الخطاب نائم تحت شجرة في الشارع، تعجّب! قال: هذا أميركم؟ وكان هو جاء من العجم، فعندهم هناك الأمراء بحَرَس، ولا ينامون إلا في أماكنهم، ما يحصّلهم أحد في الطريق، وذا نائم وحده تحت شجرة وهو أمير المؤمنين في المملكة الواسعة هذه! فقال: عَدلتم فأمِنتم فنمتم؛ آمنين مطمئنين جالسين، يأتيك النوم حتى في ذا المكان، عندنا الولاة ما يسرع إليهم النوم حتى في الفرش الوطيئة، وينامون بوسائل أحيانًا، لكن عَدلتم فأمِنتم فنِمتم.

هذه تربية محمد ﷺ، سبحان الله!.. كيف انتزع من قلبه تعظيم هذه الفانيات، حتى حُبّ الإمارة؛ يذكر أنها انتزعت من قلبه، يوم أن صافحه وبايعه يوم الإسلام، قال: ما تمّنيت الإمارة منذ أسلمت! إلا ليلة خيبر ليس من أجل الإمارة، بل من أجل الشهادة: "يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"، وليس هو وحده، بل بات الصحابة يدوكون ليلتهم، أيّهم يُعطاها؟ من صاحب الشرف والفخر هذا؟! "يحب الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله". وكان عدد منهم يتوقعون أنه لو كان سيدنا عليّ حاضر سيأخذها؛ لكن عندهم خبر أنه كان غير موجود، فكانوا فرحين يقولون: عسى أحد مننا يحصّل هذا الشرف. ولما صلّى ﷺ الصبح والتفت، قال: "أين عليّ؟"، وهو كان وصل في الليل تلك الليلة لأنه كان رَمِد، قالوا: هو في خيمة جنبك هنا، قال: "ائتوني به"، يقول بعض أصحابه: وما نرجوه لأنه إذا جاء سيفوز بها هو، وكنا نحب أحد منّا يحصّل حظ من مثل هذا الحظ الكبير، سبحان الله!.

قال: (وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35))، وهكذا نبّه بعض العارفين المَلِك الذي بنى داره، وأحسَن بنائها، وجعلوا يطوفون بها، فجاء عنده الرجل الصالح، وقال له: هل رأيت فيها عيب؟ قال: فيها عيب واحد، استنكر وتعجّب كيف ما تنبّه له المختصون! ما هو؟ قال: عيبها أن صاحبها يموت! هي جميلة لو كان صاحبها ما يموت، دار ممتازة منظمة تمام، لكن عيبها صاحبها يموت! هل معك دار صاحبها ما يموت سنثني عليها، لكن ما دام صاحبها يموت فما هي بشيء! لا إله إلا الله..

فنسألك اللهم خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما، أحيِّنا حياة السعداء؛ حياة من تُحب بقائه، وتوفّنا وفاة الشهداء؛ وفاة من تحب لقاءه، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين. 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ 

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

05 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

04 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام