تفسير سورة محمد -8- من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ .}، الآية: 26 إلى 31

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة محمد، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}

الأربعاء 3 رمضان 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله منور القلوب بحقائق الإيمان واليقين، ومرقِّي أربابها إلى مراتب القرب والتمكين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المُبين، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله المُجتبى الصادق الأمين، اللهم أدم صلواتك على أكرم خلقك وأعظمهم استقامة، وأحظاهم منك بالتقريب والكرامة، وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربهم واتبع سبيلهم إلى يوم القيامة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الزعامة والشهامة والإمامة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد،،،

 فإننا في نعمة تدبرنا لكلام ربنا، وتأملنا لآياته وبيناته، وما أوحاه على خير برياته، قد انتهينا في سورة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى قوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِيَ لَهُمْ (25)) وفي القراءة الأخرى: (وَأَمْلَىٰ لَهُمْ).

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ..(25))، (ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم)؛ رجعوا إلى وراءهم بعد أن نازعتهم نفوسهم في قبولِ الحق والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك غالبوا أنفسهم بأهوائهم وشهواتهم واستجابتهم لدعوة عدوهم إبليس، فارتدوا على أدبارهم ورجعوا وراء، وتركوا الإيمان برب الورى -جلَّ جلاله- وبخير الورى عبده محمد ﷺ. 

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ..(25))، توضح وبان وظهر، فإن الآيات واضحات، والدلالات بينات، ووجه محمد كافي، وقوله شافي، ومعه بينات كثيرات إلى حد شق القمر الذي لم يحصل لنبي قبله، ومع ذلك بعد ما تبين لهم الهدى ارتدوا على أدبارهم، (..الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ..): 

  • منهم أهل الكتاب الذين قرأوا أخباره وصفته وعرفوا أنه هو الرسول، وقال الله تعالى: (ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ) [الأنعام:20] -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وإلا يعرفونه ويعرفون صدقه ويعرفون صفته عندهم في التوراة والإنجيل، قال سبحانه وتعالى: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف:157] -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
  • (ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)، وكذلك كل من بلغته هذه الدعوة ووصَلَت إليه، فإنه بأصل الفطرة مؤمن، وبأصل الفطرة موحد، وبأصل الفطرة معاهد عاهد الله في عالم الأرواح، (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف:172]، فالهدى تبيَّن، وكذلك كل من وصلته دعوة النبي ﷺ على وجهها، فأبى فقد ارتد على دبره وورائه.

فـ (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِيَ لَهُمْ)؛ زَيَّن لهم سوء أعمالهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (وَأُمْلِيَ لَهُمْ): إلى حين وإلى أجل هم بالغوه.

 (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ..(26))؛ هذا مظهر من مظاهر المرتدين على أدبارهم والكافرين من المنافقين، (قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ) على النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم اليهود الذين أيقنوا أنه رسول الله؛ ولكن عادوه استجابة لرغبات أنفسهم وشهواتهم وظنونهم وأوهامهم أنهم إذا اتبعوه فاتتهم السلطة، وفاتتهم الكرامة والعزة، وفاتتهم لعبهم على الناس وأخذهم الأموال، ولو آمنوا به لأُعِزُّوا في الدنيا والآخرة، ولكن كذبوا فأُهِينُوا وأُذِلُّوا في الدنيا والآخرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

يقول: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ..(26))؛ فالمنافقون يقولون لليهود: لن نخرج معه في الجهاد ولن نقاتلكم أبدًا، (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ) [الحشر:11-12]، واليهود يقولون لهم: ونحن لا نُبَيِّن صفته أبدًا للناس، وسننكر ذلك ونقول ليس هذا بالنبي، وليس هذا بالرسول، ويتبادلون بعض المصالح بينهم؛ وهكذا أحوال أهل الضلال والباطل يقدمون مصالحهم، ولا يزال إلى اليوم من يدَّعي التقدم والثقافة والتطور، يصرحون بأنهم يجعلوا مصالحهم قبل كل شيء وفوق كل شيء أمامها، لا مبدأ عندهم، لا دين لهم، لا ميثاق لهم، لا عهد لهم، لا إنسانية عندهم، ما خالف المصلحة الحقيرة الفانية الزائلة في مطامع الدنيا، خلاص ما عاد يعرف عهد ولا ميثاق ولا دين ولا إنسانية أصلًا، يتَنَكَّر لكل شيء وراء مصلحتة -والعياذ بالله-. 

وهذه مسالك المبعودين الغافلين عن الله، والجاهلين الذين سقطوا في أحضان الاستعباد للشهوات وللآفات ولعدوهم إبليس، وحالهم كما قال سبحانه وتعالى: (وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ * وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ) [الزخرف:36-37]، والكل ينتهي أمر غشهم وخداعهم وكذبهم، (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ إِذ ظَّلَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ) [الزخرف:38-39] -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فهم يطيعون هؤلاء في بعض الأمر، ويطيعون هؤلاء في بعض الأمر، يقولون ذا مقابل ذا، وذا مقابل كذا، حسب مصالحهم في الدنيا. 

(قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ..(26))؛ والحق يَشرَعُ لنا أن من كره ما نزَّل لا طاعة له عندنا من قريب ولا من بعيد، ولا نوافقه على شيء قط يخالف ما أنزل الله تبارك وتعالى،  وهؤلاء يأتون للذين كَرِهوا ما نزَّل الله يقولون: بنطيعكم في بعض الشيء، بعض الأمور نتبعكم -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فكيف بمن قال لهم تحت أمركم في كل شيء؟! -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

(قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ (26)) بواطنهم وما أخفوه، وفي القراءة الأخرى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) أي: إخفائهم لهذا الأمر عن عيون الناس، فأين يذهبون من رب الناس؟! وأين يذهبون من العالِم بسرِّهم ونجواهم ومن هو أعلم بهم من أنفسهم وأعلم بما في سرائرهم من أنفسهم؟! يقول: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ)، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) إذًا فما أسرُّوا أو ما أظهروا لا خوف علينا منهم، فإننا قد اعتمدنا على الذي أحاط علمًا بسرِّهم ونجواهم، (فَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ ) [يس:76]، والله أعلم بأعدائكم!  من تخافون في هذه الحياة إذا أنتم آمنتم بي؟! (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]. 

يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ) [النساء: 44-45]، يقول ربي: أنا أعلم بهم، فممن تخافون؟! (وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا) [النساء:45]، وهكذا على الصادقين المؤمنين في مشرق الأرض ومغربها؛ في غزة أو في فلسطين أو في السودان أو في بقية بلدان الأرض: يا معشر من آمن بالله أصدقوا مع الله وتوكلوا عليه ولا تخافوا من سواه والله أعلم بأعدائكم، (وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا) [النساء:45]، ولا يتوهم أحدكم أن يقول: من لي والعالم مُقَسَّم بين مصالح هؤلاء ومتحكمون فيه؟ هم وتقسيمهم وتَحَكُّمهم وتحكيمهم فوقهم جبارٌ حاكم، قادرٌ قاهر، عالمٌ بكل شيء، ثقوا به واعتمدوا عليه(إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]. 

وقد أخذوا المُدّة التي جعل الله -سبحانه وتعالى- لهم بسبب ضعف المؤمنين في إيمانهم، وكثرة المُخالفين، وكثرة المُضيّعين لفرائض الله والواقعين فيما حرّمَ الله، وكثرة المُنحرفة قلوبهم مِن المُسلمين عن تعظيم الله وتعظيم رسوله إلى تعظيم الفانيات أو إلى تعظيم الكُفّار أنفُسهم؛ فسُلِّطوا زمنًا وَلَا يَزَلُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يُوقِظ اللَّهُ قُلُوبَ الْكَثْرَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فإذا عادوا إلى دينهم؛ خرجت هيبتُهم الكاذبة الوهمية من قلوب النَّاس وقلوب المُسلمين (.. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ..)  [الحشر:2]، وَأَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَدْ أَذَلُّوا أَنفُسَهم بِمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتَهِ؛ يُعِزِّهُمْ بِطَاعَتِهِ وَالرِّجُوعِ إِلَيْهِ. قال ﷺ: ".. سلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ". إذا رجعتم إلى الدِّين؛ ذهب الذُّل وجاءكم العِزّ من الله -تبارك وتعالى-، وتستيقظ قلوب من المؤمنين في الشرق والغرب أنَّ الأمر بيد الله، وأنه يجب الإيمان بالله، ويجب نُصرة الله وما أنزل، وأنه لا يجوز أن يُخاف من سواه سبحانه وتعالى.

  • (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا)  [الأحزاب:39]. 
  • (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِۚ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ۗ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:175-177]. 
  • يقول: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178]. 

فلا بُدَّ لهم الهُون في الدُّنيا والآخرة، فيا فوز القلوب التي صدقت مع الله في الإيمان به وتوحيده، وعظّمته وتوكلت إليه واستندت إليه؛ هُم الأعزّاء؛ هُم الأكابر؛ هُم الأفاضل؛ هُم الشُّرفاء في الدُّنيا والبرزخ والآخرة.

اجعلنا اللَّهم منهم، وعزّنا بطاعتك وحُسن التذلُل بين يديك، وأخرج من قلوبنا كُلّ قدر للدُّنيا، وكُلّ محل للخلق يميل بنا إلى معصيتك أو يشغلونا عن طاعتك أو يحول بيننا وبين التّحقق بمعرفتك الخاصة ومحبتك الخالصة، اقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو أحدًا غيرك، واملأ قلوبنا بخوفِك وخشْيتك، وأخرج منها خوف كُل ما سواك وكُل مَن سواك يا حي يا قيوم. 

يقول تعالى: (.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27))؛ يتحيّلون ويخونون ويكذِبون ويغشون النَّاس، وعند موت أحدهم مَنْ له؟ يموت أحدهم، وتبدو له الملائكة الذين كان يُكذب بهم أو يستهزئ بهم أو لا يؤمن بهم. وإذا بهم وهو في سكرة الموت يضربون وجهه، ويضربون قفاه-ظهره-، (.. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (.. وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيْدِيهِمْ ..) يعني: بالضرب، (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93]؛ وكُل ميت منهم يُلاقي هذا. كم اليوم ماتوا منهم؟ وكم أمس ماتوا؟ وكم سيموت في الغد؟ كُلّهم يلاقون هذا!

(.. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ..(27))؛ عزرائيل ومَنْ معه مِن الموكّلين بقبض الأرواح (.. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ..(27))،(.. حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام:61]، (.. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27))؛ إهانة واحتقارًا لهم، وتعجيلًا للعذاب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وهكذا حالتهم عند الموت. 

كما أن حالة المؤمنين والصَّادقين (.. تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].

فهؤلاء يُذلونهم ويضربونهم ويُبشرونهم بالعذاب والخزي. وهؤلاء يكرمونهم ويُمجدونهم ويُطمئنونهم ويُبشرونهم بالفوز والرِّضوان، ويقول المَلَك الموكَّل: أخرجي أيَّتُها الرُوح إلى رَوح وريحان، وربٍّ غير غضبان. (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27-30].

  • نعمة من نعم الله حالة الوفاة عند المؤمن وعند الاحتضار، يُبشَّرْ بما له في الجنان، فتكاد روحه تطير ويستعجل.  
  • والآخر وهو يتشبث يود أنْ لا يموت، وليس له ذلك ولا بُدَّ أنْ يموت قهرًا عليه. فـ(يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27))، وتظهر بعض العلامات عند كثير من هؤلاء الموتى عند موتهم في انخساف وجوههم أو انكسافها؛ أو تغيُّر ألوانهم إلى غير ذلك مما يحصل لبعضهم في عالم الحسّ يُظْهِره الله عبرة لأولي الأبصار. 

قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ …(28))، يحبون الخُمور، يحبون الزِّنا، يحبون اللِّواط، يحبون أكل الحرام، يحبون الظُّلم، يحبون السَّرقة، يحبون قطيعة الأرحام. كرهوا ما أنزل الله -والعياذ بالله تعالى-. 

(.. اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ …(28))؛ مما حرّم عليه، وكرهوا رضوانه.. وكرهوا الإيمان، وكرهوا الصَّلاة، كرهوا صوم رمضان، كرهوا الزكاة، -والعياذ بالله-، كرهوا الحجّ إلى بيت الله الحرام، كرهوا صلة الأرحام، كرهوا رضوان الله تعالى؛ أيّ ما يُرضيه من الأقوال والأفعال والصفات الحسنة. (.. اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ …(28)) من الذُّنوب والسّيئات والمُخالفات والظُّلم والأذى لعباده.

(.. وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ .. (28)). وكرهوا الإيمان به، وكرهوا الصَّلاة، وكرهوا الزكاة، وكرهوا الصِّدق في الحديث، وكرهوا الوفاء بالعهد، وكرهوا التّواضع، وكرهوا ما يحبه سبحانه وما يرضى به.

 (.. وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28))؛ فلا قيمة لِمَا يعملون؛ لا لما يجمعون من مال؛ ولا لما يبنون من مباني؛ ولا لما يمهدون من طُرق؛ ولا لما يصنعون من أسلحة؛ ولا من وسائل الراحة، وسائل الترفيه وما إلى ذلك. لا قيمة لشيء من ذلك؛ 

  • (..فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)) أحبط أعمالهم، فهي في الدُّنيا لا تأتي لهم بالطمانينة ولا بالسكينة ولا بالهدوء ولا بالرضا ولا بالأمن، ولا يزالون على أنواع من الخوف والتّربُص والمكر والكيد والحذر وما إلى ذلك. قال سبحانه وتعالى: (.. إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ..) [النساء:104]. (.. تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ..). معكم ربّ وإله ترجون منه على كُلّ ما يُصيَبكم من تعب، أو من بذل وتضحية وجهاد في سبيله، يُعطيكم جزاء حسن وثواب عظيم، ويعجّل لكم في الدُّنيا من الطمانينة والسكينة ما لا يجده هؤلاء، ولا يقدر عليه هؤلاء.  
  • (..فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)) في الدُّنيا؛ لا جلبوا لأنفسهم أمن، ولا طمانينة، ولا سكينة، ولا هدوء، ولا استقرار على وجه الحقيقة إلا ما يدَّعونه من الكذب، (.. وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ..) [الحديد:20]، (.. وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ..) [الرعد:34].
  • (..فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28))، (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)  [الفرقان:23]. مَثَلُ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور:39]. (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) [ابراهيم:18]. نعوذ بالله من غضب الله، والحمد لله على نعمة الإيمان، اللَّهم زدنا إيمانًا، ووفقنا للأعمال الصالحة.

(ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)، (..اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ..)، وصاروا يُقنِّنون للفواحش، ويُقنِّنون للتجرؤ على حقوق الخلق، ويُقنِّنون للتنكُّر للخِلقة ولأصل التكوين. (.. اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28))، وإبليس من أول ما طرده الله -تبارك وتعالى- يقول على بني آدم: (.. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ..) [النساء:119]. (... وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ..) [النساء:119]. والعجيب مرَّت القرون! وكيف يغيرون ما خلق الله سبحانه وتعالى؟ وكان الظاهر في ذلك عند الناس يغيرون حواجبهم؛ ويكسروا بعض أسنانهم ويساووها؛ أو أي شيء يغيروا خلق الله "والْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّراتِ خلْقَ اللهِ". 

ولكن وصل في هذا الزمان المُتقدم والمُتطور، دعاهم إلى تغيير خلق الله، قال: حوّل الذكر أُنثى، والأُنثى ذكر ولعب، ولا في ذكر ولا أُنثى! والله في الوجود كله للماديات جعل فيها الذكر والأُنثى (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ…) [الذاريات:49]، ولا يمكن الخروج عن هذه الحقيقة قطعًا، وما هو إلا عبث ولعب وهُزو، واحتقار للفِطرة وللخلق والإيجاد، وجلب أتعاب وبلايا ومصائب، يفتخرون بذلك، ويكابرون في ذلك، ما أسفه عقولهم! وينالون من ذلك تعب في الدُّنيا وعذاب في الآخرة -والعياذ بالله تبارك-؛ فبلغ إبليس منهم ما لم يبلغه في القرون السابقة، على مدى القرون كلها ما وصل إلى أن يغيرون خلق الله بهذه الصورة وبهذا الحال، وهو من أيام طُرِد؛ وأيام أبانا آدم ويقول للحق سبحانه وتعالى: (.. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ..) [النساء:119]، (وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا..)  [النساء:117-118]، قسم من عِبَادَكَ كثير؛ هؤلاء وسط حسابي يدخلون معي إلى النار ويحشرون. 

(وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًاوَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًايَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًاأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) [النساء:117-121] كَلَامٌ وَاضِحًا حَقٌّ، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]؛ هذه مآلات الذين يدعون التقدمات والتطورات من المُعادين للفطرة وللرب الذي خلق وللوحي الذي نزل؛ ماذا عندهم وهذه مآلاتهم؟ وهذا مستقبلهم وهذا مصيرهم لا قدرة لهم أن يفروا عنه ولا أن يغيروه إلى شيء آخر.

 (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28))، يقول الله حتى في الدنيا نُظهر عجائب في عنايتنا بالمؤمنين بنا والصادقين معنا؛ وما نُنزل عليهم من سكينة وطمانينة ولطف في الأحوال، وفي إظهارنا لكثير مما يُخفي هؤلاء وفضيحتنا لهم؛ هؤلاء الذين يسرون السوء ويضمِرون الشر ما تمر السنوات إلا أن وتظهر قبائحهم تظهر مثالبهم الذي كانوا يخفونه والذي كانوا يغطونه ينكشف. 

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29))؛ حقدهم على الدين، حقدهم على الشريعة، حقدهم على النبي، حقدهم على ورثته، حقدهم على أهل الحق والطاعة، يظنون أنه لن يظهرهُ الله تعالى؛ سيفضحهم في الدنيا وسيعذبهم عليه في الآخرة -والعياذ بالله تبارك و تعالى-.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29))، فإن كان في من مضى من قبل يُقتلون بعض الناس وما السبب؟ قال: (مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) [البروج:8-9]، ففي وقتنا أيضا من يضمر الكراهية والبغض ويريد الإبادة، لمن؟ لا يوجد عنده ذنب إلا أنه أدرك الحق والحقيقة وآمن بالله تعالى واتبع حسن الطريقة واستمسك بالعروة الوثيقة؛ فهذا ذنبه، هل هذا ذنب؟! (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]، و الفساد أين هو؟ هل هو عندك أم عند موسى؟ وهكذا عقلياتهم و طريقة تفكيرهم، وهكذا نهايتهم. 

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ..)، من هؤلاء المنافقين والحاقدين على الحق والهدى، وعلى الأخيار والأولياء (.. أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29))، وما يظهرها أو يبينها للناس؟ (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ ..(30))، يقول سبحانه وتعالى فنظرت إلى ما في بواطنهم وعلمته؛ (فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..(30))، ويظهر عليهم كلمة من كلمة من أي وقت يعترف بها للرجال غير واثق، غير مطمئن، غير مؤمن، غير صادق. 

  • روو ابن مردوي وبن عساكر عن سيدنا أبي سعد الخدري فمثَّل الآية قال: (..وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..(30))، قال: "كُنَّا نَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ بِبُغْضِ عَلي"؛ نعرف المنافقين ببغض علي، يبغضون هذا القريب من النبي ﷺ وابن عمه والمتربي في كنفه والملازم له من صغره، والذي هو أقرب إليه من أهل بيته -عليه الرضوان-. 
  • وقد قال له ﷺ: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"، 
  • ورواه ابن مردوي أيضا عن سيدنا ابن مسعود قال: "مَا كُنَّا نَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله ﷺ إِلَّا بِبُغْضِ عَلِيٍ"، كنا نعرف المنافقين. 
  • ولذا كان يقول: لو سقيت المنافق سمنا وعسلا لم يزدد لي إلا بغضا ولو علوت المؤمن بسيفه لم يزدد لي إلا حبا، بعد قول رسول الله ":لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".

 كمثل السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار، من يحبهم يحبه الله ومن يبغضهم يبغضه الله على العموم، وجاءت أحاديث وروايات في سيدنا علي على الخصوص؛ وجميع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار حبهم إيمان وبغضهم كفر، فكيف بالخاصة من عترته وآل بيتي ﷺ؟

حتى قال الفرزدق يصف علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يقول: 

من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ ***  كُفْـــرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجـــىً وَمُعتَصَــــمُ

إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهـــــــمْ، *** أوْ قيل: "من خيرُ أهل الأرْض؟" قيل: هم

يقول:

مَنْ يَعْرِفِ اللَهَ يَعْرِفْ أوَّلِيَّةَ ذَا *** فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الاُمَمُ

وهكذا قال: (..وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..(30))، حتى قال ابن عباس: أنه بعد نزول الآية، كشفهم الله لرسوله ﷺ واحدا واحدا، قال: حتى جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رضوان الله أنه قام ﷺ يخطب قال: "يا أيها الناس إن فيكم منافقين ولا أسمينهم قم يا فلان، قم يافلان، قم يافلان"، قال:  حتى عدَّ ستة وثلاثين، ويُخرجهم من مجلسه صلى الله وسلم عليه وعلى آله. 

(وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30))، وكان فعله ذلك ليتدارك من سبق له خير من الله نفسه ويرجع إلى الإيمان، وإلا فالأمر مكتوم ولم يشتهر عنه ﷺ أنه أعطى سر علم المنافقين إلا حذيفة بن اليمن عليه الرضوان، فكان يميزهم يفرق بينهم دون بقية الصحابة، ولما جاء بعض المنافقين الذي كان منافقًا فهداه الله وقذف الإيمان في قلبه فجاء إلى عند نبي ﷺ، يقول: يا رسول الله الإسلام والإيمان هاهنا اشار الى فمه، و قال: والكفر والنفاق ههنا -اشار إلى قلبه-، وإني كنت وكنت، قال: فاستغفر له رسول الله ﷺ ووضع يده على صدرهم زاد إيمان وأمتلاء يقين، قال: يا رسول الله كنت مع قوم أتآمرنا انا وإياهم عليك ونخطط ضدك، هل أخبرك بهم؟ قال: "لا، بل من جاء منهم تائبا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن لا فحسبهم الله، يكفيهم" ﷺ، فكان هذا ما سلكوه ﷺ. 

يقول: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31))،  قال الله تعالى: من سنتي في الحياة أن أجعل أحداث وأحوال وظروف تمر على الناس، يتميز بها المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب؛ فيظهر علم الله فيه، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) نختبركم، بفرض القتال والجهاد في سبيل الله وبغير ذلك من الظروف والأحوال التي تمر بكم؛ فيتميز الصادق والكاذب منكم والمؤمن والمنافق؛ (حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ) من هم؟ فنفرض الجهاد مع نبينا ونأمركم بالخروج معه، فنعلم (الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)) نختبرها، وكان إذا قرأ هذا بعض الصحابة والصالحين يقولوا: اللهم إنك إن بلوتنا فضحتنا فاسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة. 

يا أرحم الراحمين أرزقنا حقيقة الإيمان واليقين، وزدنا إيمانا ولا تختبرنا ولا تبتلينا ببلية يقل عندها صبرنا أو يظهر سوءٌ فينا، لا إله إلا أنت، عاملنا بفضلك وزدنا إيمانا وطهرنا عن الدنايا والأوصاف السيئة وعن القبائح وعن المثالب وعن المعاطب وعن المعايب، طهرنا تطهيرا، ونقنا تنقية، وزدنا إيمانا ويقينا أبدا سرمدا برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين بمحمد الذي أنزلت عليه القرآن وسورته وجميع سور القرآن زدنا منك إيمانا ويقينا يا رحمن مباركا للأمة في رمضان وليالي رمضان وأيام رمضان يا رب لا تمر علينا إلا بزيادة في الإيمان واليقين، لا تمر علينا إلا بصدق معك ،في كل حال وفي كل حين، لا تمر علينا إلا في قرب منك ودنو من حضرتك، وإنابة إليك وظفر برضوانك الأكبر يا رحمن يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين بوجاهة المصطفى الأمين. 

وبسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد 

اللهم صل وسلم مبارك عليه وعلى أصحابه 

الفاتحة 

اللهم صل وسلم عليه

تاريخ النشر الهجري

03 رَمضان 1445

تاريخ النشر الميلادي

12 مارس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام