تفسير عبس -1- من أول السورة
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ (1) أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ (2) وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ (3) أَوۡ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰٓ (4) أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ (8) وَهُوَ يَخۡشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ (10) كَلَّآ إِنَّهَا تَذۡكِرَةٞ (11) فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ (12) فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ (13) مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۭ (14))
الحمدلله مُكرِمنا بالقرآن ومَن أنزله عليه، ونشهد أن لا إله إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريك له مِنه المبتدأ والرجعى إليه، ونشهد أنَّ سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد عبد الله ورسوله، وأعظم خلقِهِ مكانةً عنده، ومنزلةً لديه، اللهم أَدِم الصَّلوات على مَن أنزلت عليه الآيات، وختمت به الرِّسالات عبدك المُجتبى المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه القادات، ومَن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين ذوي الدرجات، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك -يا أرحم الراحمين- يامجيب الدعوات.
وبعد،،،
فإنَّنا في تأمُّلنا لكلام ربنا -جلَّ جلاله- -وتعالى في علاه- وصلنا إلى سورة (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ (1) أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ (2)) يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ (1) أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ (2) وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ (3) أَوۡ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰٓ (4) أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ (8) وَهُوَ يَخۡشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ (10) كَلَّآ إِنَّهَا تَذۡكِرَةٞ (11) فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ (12) فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ (13) مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۭ (14) بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ (15) كِرَامِۭ بَرَرَةٖ (16)).
يذكر الحق -تبارك وتعالى- مِن أحوال نبيه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلِّم في اجتهاده في تبليغ الرسالة، وحرصِه على عُموم الهداية، وجمْع القلوب على الله تبارك وتعالى، ومُبالغته في القيام بالأمر كما وصفه في آياتٍ متعددة كقوله: (فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:6]، ويقول سبحانه وتعالى: (فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍ) [فاطر:8] في بيان حرصِهِ على:
- إيصال الهداية لكُلّ قلب
- وإرشاد العباد لنجاتهم مِن النَّار
- وانتقالهم مِن الكفر إلى الإيمان بالواحد القهار -جلَّ جلاله-
- ليسلموا مِن غضبه وعذاب النار.
تعدَّدت الآيات في هذا الوصف البليغ، حتى يقول له الحق -جلَّ جلاله- (إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ) [الشعراء:4]، ويقول: (فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٖ) [الذاريات:54]، وكان في موقف مِن مواقف حرصِه على الإنقاذ مِن النَّار وتبليغ الرسالة: جالسًا مخاطبًا لزعماء مِن عظماء قريش وذوي التأثير فيهم، وكان يُناديهم ويُخاطبهم، هل ترى مِن بأسٍ في ما أعرضُ عليك فيما قلت لك؟
فيقول: ما أرى به مِن بأس، فرجا إسلامهم إذ مِن حيث ترتيب الأسباب، فإنَّ بأسلامهم يترتّب إسلام كثيرٍ مِن أتباعهم ومَن يمشي وراءهم..
وبينما هو في هذا الخطاب الجادّ مع هؤلاء؛ أقبَلَ سيدنا عبدالله ابن أم مكتوم عليه -رضوان الله تعالى- وكان قد عَمِي -كان أعمى- وأسلم قديمًا في أول الإسلام في مكة المكرمة، فأخذ يقول: يارسول الله علّمني مما علَّمك الله، أرشِدني، أقرِئني مِن القرآن، والنبي ﷺ مشغول بخطاب هؤلاء ويَعجَب مِنه، ويلتفت إليه فلمّا كثرت مراجعته للنبي ﷺ واقتحامه -الدخول في الكلام وهو يخاطب غيره- عَجِبَ منه، فانقبض عنه بما عبَّر عنه الحقُ بـ(عَبَسَ)، وأعرَضَ عنه يُكمِلُ مُهمَّته ومشواره، ثم عاد إليه.
فلمَّا كان ذلك كذلك، وهو في هذا مع اهتمامه بتبليغ الرسالة مُتكلِّفٌ غير طبعه وأخلاقه وغير ما تميل إليه النفس البشرية في أصلها، فالنفس البشرية لا تحب الإقبال على المُعرض، والمتولّي، والمُتكبر، والمُعاند؛ وإنَّما تستأنس وتفرح بالمُقبل، والمُسلِّم، والمؤمن، والمُصدِّق؛ ولمَّا كان حامل الأمانة لم تكن الطِّباع البشرية تغلبه في أمانته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فأعرض عن هذا الذي يُحبُّه ويُكرمه والرسول ﷺ يُحبُّه أيضًا بغير مقتضى الطَّبع، غير مقتضى البشريَّة.. وأقبل على هؤلاء الذين يؤذونه، ويسبونه، ويتكلمون عليه، وعادة النفس البشرية تنفُر، تنفُر مِن الذي يؤذيك ويَسُبّ، ويشتم، ولا تحبّ أن تتكلم معه؛ لكن قوته في أداء الأمانة غلبت هذه الطبيعة.. فأقبل على هؤلاء رجاء إنقاذهم مِن النار وكان بإعراضه وتعبيسه في وجه ابن أم مكتوم معلِّما مرشدًا له وللأمة مِن بعده:
- أن يحسنوا السؤال،
- ويحسنوا توقيته،
- ويقدّروا المواقف في الخطاب.
ولمَّا كان كل ذلك بقي ﷺ في نفسه يقول: أهكذا كان ينبغي منِّي مع هذا؟ أم أنْ أسترسِلَ مع مقتضى الطبع البشري وأُقبل على هذا السّائل وأترك القوم، وما عليَّ منهم؟ فأنزل الله يقرِّر أنَّ ما فعله تذكرة، وهداية، وصواب لائقة بمقامه في النبوة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيقول: عبدنا وحبيبنا خالف طبع البشر في الإقبال على المُحِبّ، والموافِق، والملائِم، والمناصِر يقول: (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ (1) أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ (2))، المؤمن به والذي بينهُ، وبينهُ محبة، ومودة فيقول: عملك هذا تذكرة (وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّهُۥ)، بهذا التأديب منك وأنت المأمون على تزكية الأمة (لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ (3))، يتنبّه ويعرف كيف يسأل، ومتى يسأل، ويحترم مخاطبة الغير للغير؛ فلا يَقتحِم الخطاب ويدخل في الكلام بين المُتحدّثين، والمُتكلّمين قبله.
(لَعَلَّهُۥ يَزَّكَّىٰٓ (3) أَوۡ يَذَّكَّرُ) -بهذا التأديب منك وهذا التنبيه- (فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰٓ (4))، فيحرصُ مشابهًا لحرصِك على هداية القوم، وإنقاذ الخلق مِن عذاب -الله تعالى- بشتّى الوسائل غير عابئٍ بحق نفسه، أو شخصه، أو ما يخصه، يذَّكر بفعلك هذا (فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰٓ)، فقد مَضَيتَ على هذا المثال وهذا الحال على خلاف الطبع البشري..
(أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ (5)) والنفس تَنْفِر مِن المُستغنّي المُتولّي (فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ (6))، حرصًا وأداءً لحقِ الأمانة وشفقةً ورحمةً بالأمة.
(وَمَا عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7))، لا يَضُرَّك عدم إيمانهم، ولا عدم إسلامهم، كما يقول له في الآيات الأخرى: (وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗا) [آل عمران:176]، (قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ) [الأنعام:33]، قلوبهم تَعرف أنَّك صادق ويَجحدون، مُكابرة وعِناد!
(أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7))، بما أنه لا يضرك، فما أقبلت؛ لأجل غرضٍ، ولا مصلحةٍ لك؛ ولكن لتقريب عبادنا إلينا، ولإيصال رسالتنا لخلقنا فعلت ذلك، وتكلّفت هذا الذي ليس مِن عادتك، ولا مِن طبيعتك، ولا مِن خلقك، ولا مِن طبيعة البشرية.
(وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ (8) وَهُوَ يَخۡشَىٰ (9))، فنفسك بحكم البشرية مَيّالة إلى أن تبعد (فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ (10))، إيثارًا للتسبّب في إيمانِ مَن لم يؤمن حرصًا منك وخَشية.
يقول له الحق حقًا: (وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ (8) وَهُوَ يَخۡشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ (10) كَلَّآ إِنَّهَا تَذۡكِرَةٞ (11))، سُنتك، وهَديُك، ورسالتك، وما أوحينا إليك؛ إنَّها حقًا تذكرة تُؤخذ عنك، وتُعرف منك، ويُستنُّ بها مِن بعدك (فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ(12))، وهديك هذا، وما أوحي إليك موجود (فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ (13) مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۭ (14))، فيذكر الحق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- إشفاقًا على نبيه ﷺ فيما سمعنا في آياتٍ متعددة (مَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ) [الأنعام:52]، (قُل لَّا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّآ أَجۡرَمۡنَا وَلَا نُسۡـَٔلُ عَمَّا تَعۡمَلُونَ) [سبأ:25].
وفي هذه القصة، وكان يمثل الشيخ الشعراوي عليه -رحمة الله تعالى- ويقول: "إنَّ أبًا رحيمًا أو أمًّا شفيقة ترى الولد أقبل على مُطالعة دروسه بقوة ونَهَم؛ حتى أُضُرَّ بغذائه، ومنامه، تَرَك الطَّعام، وتَرَك المنام فخافت على صِحَّتِه، أو خاف الأب على صِحَّتِه، وهما يَعلمان أنهُ يقوم بمهمة، وواجب؛ ولكنْ قُوَّة اجتهاده خَشَيا أنْ ينالُه منه ضعفٌ، أو ضرر، فيرفع الأب صوته أو الأم: قُم يا ولد واترك هذا الكتاب وليس وقت المطالعة الآن، فما معنى هذا؟
معناه: زجر، أو انتهار؟ أو معناه شفقة، ورأفة، وحنان، ورحمة، وشهادة بأنك أديت الواجب فزدت زيادة (فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍ) [فاطر:8]، فجاء مثل هذا الخطاب ليبيّن أن النبي ﷺ قد أحسَنَ أداء الأمانة وبلاغ الرسالة؛ حتى تَكَلّف ما لم يكلَّف به وجعل الحق يخفّف عنه -جلَّ جلاله- -وتعالى في علاه-.
وفي هذه الآيات يُقرُّ أسلوب نبيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في تنبيه مَن يحتاج التَّنبيه، فمن يربِّيهم إن لم يربِّيهم رسولهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؟ ومَن ينبههم إن لم ينبههم نبيهم وإمامهم وهاديهم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله؟ وهو المؤدَب بتأديب الله "أدَّبني ربّي فأحسن تأديبي".
إذا فهمنا هذا المعنى عَلِمنا إكرام الله لنبيه وتأييده له؛ فأما ما يُروى أنه كان يقول لابن أم مكتوم: أهلًا بمن عاتبني فيه ربي، فمع أنَّ السند لا يصح.. فلا غرابة أيضًا في مسلكه، وخلُقه عليه الصلاة والسلام أن يُسَمِيَ كلام الإشفاق، والرحمة، والتَّقرير على ما وقع أن يُسَمِيه: عتابًا على سبيل المجازي، كما هو متوافق متناسق مع طبيعته في تواضُعِه وذلته وعبوديته للإله الحق -جلَّ جلاله- -وتعالى في علاه- إلاَّ أنَّ السند للحديث لم يَصِح.
وأمَّا عموم إقبالِه عليه بعد ذلك، فمُقتضى خلقه الكريم، وهو وإنْ نبّههُ في موقف وعَلَّمَه، فمن عادتِه: فرط الرحمة والشفقة بالصغير والكبير وبالأعمى والبصير صلوات الله وسلامه عليه وحسبنا ما أثنى عليه خلَّاقه (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ) [القلم:4]
نبي عظيم خلقهُ الخلقِ الذي *** له عظّم الرحمن في سيد الكتب
ثم جاءنا بآداب تتعلَّق بمواضيع المناجاة والمحادثة، وأخبر وأرشد أنَّهُ:
- لا يُقطع على أحد حديثه؛ ما لم يكن إثمًا صريحًا، لا حقَّ له في الحديث فيه.
- وأنه لا يتناجى اثنان بحضور ثالث، لا يدري ما يقولان إمَّا لإسرارهما، أو لحديثهما بلغة لا يعرفها الثَّالث مِن بينهم؛ فإن ذلك يورث وحشة.
وتتابعت منهُ الإرشادات فيما يتعلّق بالمناجاة، والخطاب، وإيراد الكلام:
- وأوحى الله إليه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ) [الإسراء:53]، يقصُد الكلمة الأحسن، إذا مجموع كلمات حسنة؛ لكن واحدة أحسن، قُل الأحسن، لا يتكلم بدونها (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا) [البقرة:83]، ثم أخذ يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
- ونهى أن يُتسمَّع إلى حديث قوم وهم يكرهون استماع حديثهم. وقال: "مَن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون -كارهون لاستماعه إياه- صُبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة": أي الرّصاص المُذاب بالنّار -والعياذ بالله تعالى- إلى غير ذلك مِن الآداب..
بل ونزلت في المناجاة، والمخاطبة، والمحادثة آيات منها:
- (لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ) [النساء:114].
- ومنها (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ * يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ) [المجادلة: 8-9].
- (إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ) في غير الله، وفي غير الطيب، وبما لاينبغي (إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ) [المجادلة:10].
- وفيه تعظيم مناجاته ﷺ دون بقية الخلق يقول: (لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗا) [النور:63].
- (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ) [الحجرات:2]، أنتم بينكم البين شيء، وحبيبي شيء ثاني (وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ)! [الحجرات:2].
- ثم يقول: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ)، تُريد أن تُكَلّم نبي؟ قبل ما تكلمه اذهب وخرِّج صدقة أولًا (إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ) [المجادلة:12]، ثم نُسخ وجوب هذا، فصار مستحبًا بقوله: (ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ) [المجادلة:13]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فكان هذا مِن جُملة ما علَّمنا مِن أداب النّجوى، وأقَرّهُ الله على ذلك، وأثنى عليه بموقفه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ورزقنا حُسن اتِّباعه والتأدب بآدابه.
اللهم أكرمتَ صحبه الكرام بمناجاته في الحياة الدنيا، وكتبتَ لنا أن نناجيه بالقلوب والأرواح، وأن نسلِّم عليه في كل صلاة نُصَلّيها لك، ونقول له: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فأكرمنا في البرازخ بمناجاته الكريمة، وفي يوم القيامة، وفي دار الكرامة، واجعلنا ممن تَعذُب نجواه، لمصطفاك حبيبك محمد المُنيب الأوّاه، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد صلى الله عليه وسلم
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
لمَّا لم يَفهم عُمق المعنى كثير مِن الناظرين في الآيات والتفاسير، وأخذ بعضهم يَشْمَئِز مِن ذِكر التَّعبيس والتَّوَلي هذا، ثُمَّ حاول بعضهم أن يقول: أنه ليس المقصود رسول الله ﷺ فبقيت الآية بلا تفسير صحيح! وهروبٍ مِن أمرٍ ليس فيه إلاَّ الأمر اللائِق بين العبد والخالق؛ بل فيه تعظيم الخالق لعبده، وتأييده له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورزقنا حُسن مُتابعته.
09 رَمضان 1438