كشف الغمة 236- كتاب الصلاة (126) أحكام تتعلق بالجلوس في الجمعة وغيرها من المجالس

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 236- كتاب الصلاة (126) أحكام تتعلق بالجلوس في الجمعة وغيرها من المجالس

صباح الإثنين 1 جمادى الآخرة 1446 هـ 

يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:

  •  حكم إقامة أحد من مجلسه ليجلس فيه
  •  خصوصية أهل بدر ليوسع لهم في المجلس
  •  أدب اختيار المكان المناسب في المجالس
  •  حكم إن آثر مكانه في الجمعة لمكان لا يسمع فيه
  •  صدر المجالس حيث حل لبيبها
  •  صاحب الباطن الصافي يرضى بأي مكان في المجلس
  •  هل الذي وضع ثوبه هو الأحق بالمكان؟ 
  •  من اعتاد أن يجلس في مكان هل هو أحق به؟
  •  أخلاق السلف مع الجالسين خارج المسجد
  •  حكم بعث شخص ليحل محله إذا جاء
  •  ما هو تخطي الرقاب؟
  •  تخطي الرقاب لحاجة
  •  الفرق بين تخطي الرقاب وخرق الصفوف
  •  تخطي الرقاب قبل الخطبة وأثنائها
  •  تنبيه عن خطر تخطي رقاب الناس
  •  قصة لسيدنا بلال مع أموال النبي ﷺ
  •  حكم تخطي الرقاب لأجل السؤال في الدين
  •  تخطي الذين يجلسون على باب المسجد
  •  الأحكام الخمسة في تخطّي الرقاب
  •  حكم الحبوة أثناء الخطبة

نص الدرس مكتوب:

"فرع: وكان ﷺ ينهى أن يقيم الرجل أخاه ثم يجلس موضعه ويقول: "لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده ولكن ليقل تفسحوا وتوسعوا، وإذا قام أحدكم من مجلسه لحاجته ثم رجع إليه فهو أحق به"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه زجرًا له.

فرع: وكان ﷺ ينهى عن تخطي الرقاب إلا لحاجة ويقول لمن يتخطى: "اجلس فقد آذیت"، وتارة يقول: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم"، وكان ﷺ كثيرًا ما ينهى وهو يخطب من يراه يتخطى رقاب الناس ويقول: "من يتخطى رقاب الناس ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار"، والقصب هي الإمعاء والمصارين قاله أئمة اللغة.

وكان ﷺ يرخص في التخطي للحاجة، وقد سلم يومًا من صلاة العصر ثم جلس ثم قام مسرعًا فتخطى رقاب الناس إلى أن دخل بعض حِجر نسائه، ففزع الناس من سرعته فخرج إليهم فرآهم قد عجبوا من سرعته فقال: "ذكرت شيئًا من تبر كان عندنا فأمرت بقسمه خوفًا من أن يدركني الليل".

وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- إذا رأوا أمامهم فرجة قريبة يتخطون الرقاب إليها ليسدوها، وكان ﷺ يقول: "إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحوّل منه إلى غيره"، وكان ﷺ ينهى الناس عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وكان جابر -رضي الله عنه- يقول: "إنما نهى عن التحلق يوم الجمعة في مسجد صغير يضيق تحلقهم على المصلين"، وكان ﷺ ينهي أصحابه عن الحبوة إذا كان بهم نعاس ويرخص لهم في الاحتباء إذا كانوا يقظين لا نعاس عندهم، وسيأتي في الباب الجامع آخر الكتاب إن شاء الله تعالى أنه ﷺ كان أكثر جلوسه محتبيًا، والله أعلم." 

آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ،  كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن 

 

الحمد لله مكرمنا بدينه وبيانه على لسان عبده وصفوته وأمينه سيدنا محمد، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه الواعين لحسن تبيّينه، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان في ظهور الأمر وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المخصوصين من الحق -تبارك وتعالى- بتفضيله إياهم على من سواهم، وتخصيصه وتعيينه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

وبعدُ،

فيذكر الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- الإمام الشعراني في هذه الفروع بعض ما يتعلّق بالجمعة والجلوس في الأماكن فيها، وأحكام تتعلّق بذلك تعم شأن الجمعة وغيرها من المجالس.

 

فمنها: ما ذكر لنا من نهيه ﷺ أن يُقيم الرجل أخاه، ثم يجلس موضعه، ويقول: "لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده ولكن ليقل تفسحوا وتوسعوا، وإذا قام أحدكم من مجلسه لحاجته ثم رجع إليه فهو أحق به"، إذا رجع عن قرب وكان ذهابه لحاجة كتجديد وضوء ونحوه فهو أحق بذلك المكان، وفي هذا بيان الشريعة لنا لأدب المجالس والأماكن والجلوس فيها، وأن نمضي على قدم الأدب مع الله والاتباع لرسوله ﷺ والاقتداء به.

وقد كان وهو أفضل الخلق إذا أتى إلى مجلس جلس حيث ينتهي به المجلس، حيث يجد الفراغ في المكان اللائق به أن يجلس فيه، هنا أو هنا، ولا يقيم أحد من مكانه ليجلس فيه، ولا يحب أن يقوموا له ﷺ، ونعم القدوة هو عليه الصلاة والسلام.

 

فتبيّن من هذا ما مال إليه أئمة الفقه في الشريعة من تحريم إقامة أحد من مجلسه ليجلس هو فيه، سواء كان في جمعة أو في غيرها من المجالس والأماكن، إذا جلس الناس فلا يجوز الواحد أن يقيم أحد من المجلس الذي سبق إليه، وإنما يكون بالتفسح يعني: التوسع مهما وجدوا لذلك سبيلًا، وكلّما اتسعت قلوبهم بورك لهم في شأنهم وأحوالهم، وقربهم من بعضهم، وبورك لهم في أماكنهم.

وإذا ضاقت القلوب فـ: رحب الفلاة مع الأعداء ضيقة.

 ويكون بالنسبة لأهل القلوب الواسعة: سمّ الخياط مع الأحباب ميدان.

رحبُ الفَلاةِ مع الأعداءِ ضيّقةٌ *** سَمُّ الخِياطِ مع الأحبابِ ميدانُ

 أنه ميدان كامل وهكذا…

إذا اتسعت القلوب وتصافت تحصل البركة، وتتبارك الأماكن حتى للناس وللجالسين، وقد جاء في الحديث بروايات منها: رواية الإمام مسلم " لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مَقْعَدِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فيه ولَكِنْ تَفَسَّحُوا وتَوَسَّعُوا"، وهكذا.

وجاء أيضًا عن رسول الله ﷺ: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" -في رواية أبي داوود-، وهكذا كان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه، فإذا قعد أحد من الناس في موضع من المسجد أو غيره، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد هو مكانه، وهذا اللفظ الذي جاء أيضًا عند مسلم: "لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده ولكن ليقل تفسحوا". قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ -وفي قراءة- فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ) وأما قوله: (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فانشُزُوا) أي: قوموا، فهذا مخصوصٌ بأهل بدر، وما خصّهم به ﷺ من أن يُوسع لهم في المجلس، فإن ضاق يُقامُ من أجلهم ليُقعدوهم، تعظيمًا لقدرهم وشأنهم بالنص.

قال سيدنا جبريل لرسول الله ﷺ: "ما تعدّون من شَهِد بدرًا فيكم؟ قال: هم خيرنا وأفضلنا، قال: كذلك من شَهِد بدرًا من أهل السماء، هم خير من في السماء"، فكانوا إذا جاء أحد من أهل بدر في المجلس، يقول لهم ﷺ: تفسّحوا، فإذا لم يجد أحد، يقول ليقوم فلان وليقوم فلان، من يشاء أن يجلس هذا محله، فلما تقول على بعضهم أنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11] فجعل أهل بدر أهل علم، وجعلهم أهل العلم، وإنما استفادوا علم الخشية بما تنزّل بواسطة رسول الله ﷺ عليهم في ذاك اليوم، وأَذِن الله لمن أَذِن من الملائكة فحضروا، فكانوا خير من في السماء، فتبيّن أن صاحب المنزلة الأسمى عند الله هو عبده محمد ﷺ، من حضر معهم من أهل الأرض هم خير أهل الأرض، ومن حضر معهم من أهل السماء هم خير أهل السماء، فالخيرية والأفضلية منوطة بهذه الذات من قِبل رب الأرض والسماوات، أَحَبّه ولم يحب أحدا كما أَحَبّه، وقدّمه على كل من سواه، وفضّله على كل من عَدَاه، فهو محل تخصيص الله وتكريمه واصطفائه، واجتبائه وتفضيله، وتميّيزه وتعيّينه صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله.

 إذًا فللمجالس آداب كثيرة، ومنها: 

  • اختيار المكان -الموضع الذي يجلس فيه الإنسان- مما يليق به، ففي وقت قيام الناس بوظائف من قراءة أو تدريس أو نحوها، ينبغي أن يترك المكان اللائق للمُدرّس، للقرّاء لهم، ولا يسابق إليه. 
  • ثم إذا جاء أيضًا من هو أولى منه وأحق منه، إما لأجل السن، وإما لأجل العلم، وإما لأجل الصلاح والمكانة، فينبغي أن يقدّمه وينزل له عن مكانه، فإنه إذا قام الشخص برغبته من مكانه من دون إكراه، ولا بدافع الحياء، ولكن عن رضًا من نفسه وإرادة، فيجوز للداخل أن يجلس مكانه، ويقبل تكريمة هذا الذي أكرمه بالتنحي عن مكانه، إنما قال الفقهاء: إذا كان في مثل الجمعة، فإن كان قام إلى مكان يستمع إليه إلى الخطبة، كما يستمع من هذا المكان فلا كراهة في ذلك، وإما إن ترك المكان وذهب إلى مكان ما عاد يقدر يستمع فيه خطبة الخطيب، فيكره له ذلك؛ لأنه آثر غيره بقربة.

فكذلك يعلم أنه مجرد المكان ما يشرّف أحد، إنما الشريف من شَرُفت صفاته وأخلاقه، وذاته وباطنه مع الله -تبارك وتعالى- في أي مكان جلس.

يقول:

 صدر المجالس حيث حلَّ لبيبها ** فكن اللبيب وأنت صدر المجلس

 

في أي مكان جلست فأنت صدر المجلس، وليست الأمور بظواهرها.

مع ما يجب علينا من مراعاة كبار السن؛ وذوي العلم؛ وذوي الفضل والصلاح بيننا؛ وإنزال كل واحد منزلته، كما أشار ﷺ على بعض الداخلين من ذوي المنزلة، وقرّبه إليه وأجلسه بجانبه إلى غير ذلك، فكذلك نعلم أنه لا يكون حرص الواحد منّا على مكان متقدم، إلا وفيه دخل في باطنه، فإن صاحب الباطن الصّافي يرضا بأي مكان غير خارج عن المروءة أو الأدب يجلس فيه، ويجلس حيث انتهى به المجلس؛ بل ويؤثر غيره من ذوي الفضل؛ ومن هو أسنّ منه وأكبر منه وما إلى ذلك، فالأمور إذًا ليس اعتبارها بالصورة ولا بالظاهر ولا بالمكان.

وأما من كان جالسًا في مكان ثم قام لحاجةٍ قريبة، كان يريد أن يشرب أو يكلّم أحد كلمات يسيرة؛ أو يتوضأ -يجدّد وضوءه- فمكانه الذي كان فيه هو أحقّ به من غيره، وخصوصا إذا وضع شيء فيه، أما الذين يضعون لهم أردية أو نحوها في الأماكن للصلاة، ولم يكونوا جالسين، ولا ذهبوا ورجعوا عن قرب، فليسوا هم أحقّ بهذه الأماكن، ليسوا هم بل من سبق وجاء فهو الأحق، نعم لا يتصرف في ثوب غيره أو يحمله فيصير ضامن له، ولكن يجلس في المكان، فإما أن يصلّي عليه أو ينحيه، بنحو ثوب أو برجله من دون أن يحمله ويصلّي فيه، والذي جاء مبكرا هو الأحق؛ ليس الذي حضر ثوب الذي حضر بنفسه، حضر بدنه، الذي حضره هو بنفسه أحق بالمكان وأولى بأن يتقدّم، وأولى بأن يجلس في المكان، هذا أمر.

ثم إذا اعتاد أن يجلس في مكان في كل مرة، فاختلف أيضًا الأئمة أن يكون أحقّ به من غيره؟

فقال الشافعية: إذا كان لأجل تدريس ونحوه اعتاد مكان، فلا يجوز لغيره يأتي ويقعد في وقت درسه، ويقعد في نفس المكان حقه الذي قعد فيه. 

وقال الحنفية: المساجد بيوت الله وما أحد أحق فيها، من سبق إلى المكان فله الحق في ذلك المكان، وهكذا..

 

وفي أخلاق الأكابر الرجال، ذكروا أنه كان يعتاد الإمام عبد الباري بن شيخ العيدروس -عليه رحمة الله تعالى- في جامع تريم، وكان يصلّي فيه الجمعة يأتي إليه، فتذاكر بعض أهل النفوس وقال: ليش هذا السيد يقعد في هذا المكان!! أنا سآتي قبله وأقعد فيه، كان في نفسه شيء، فقالوا له: عيب عليك وما ينبغي، فجاء مبكّر متعمّد ليست عادته تبكير الجمعة، ولكنه جاء مبكّر من أجل يجلس؛ فلما وصل الحبيب عبد الباري أحرم بجانبه في المكان، ثم التفت إليه يسلّم عليه، ويقول: أنت اليوم أفضل مني حضرت إلى الجمعة قبلي، والذي حضر قبل أفضل الله أكبر، وأنت من؟ قال: فلان، قال: كان أبوك صاحب كذا، وكان بيننا وبين جدك كذا، قال: وأنا خزيت على نفسي، واستحييت وأردت الأرض تأخذنا، وإذا قد وددت أن أغوص في الأرض، وما دريت كيف أصلح من جراءتي؟ بسبب أخلاقه لمّا رأى هذه الأخلاق، ما قال له ليش جلست مكاني! قال: أنت اليوم أفضل مني، ما شاء الله بكرت إلى الجامع، وأتيت قبلي بارك الله فيك، أحسنت وهكذا فضل التبكير إلى الجمعة كذا، وأنت ابن من؟ قال: أنا فلان، قال: الله وكان والدك كذا وبيننا وبين جدك كذا، قال: الآن بغيت الأرض تغوص بي، وأحسن لي ولا أتجرأ على هذا السيد، وخلاص انتهى منها ثاني مرة، عرف القدر، وهكذا كانوا في معاملاتهم وأخلاقهم.

 

 وكان في يوم من الأيام مدٍرَس يقام في الجامع، فجلس بعض الناس من أهل السوق على باب المسجد يتكلمون، فجاء واحد، قال: ايش هذا قلال الحياء أنتم!؟ الناس في الدرس، ادخلوا الدرس، قالوا له: أنت ادخل بشرفك أحسن لك اسكت ساكت، فدخل، فجاء الحبيب عمر بن عيدروس يريد يدخل، فلما قرب منهم أخرج النعال احترام، وسلّم، وقال: السلام عليكم، قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: العفو منكم يا إخواني، ودخل، شطّوا بعضهم البعض، قالوا: ما هذا؟ يصلح أحد يدخل بعد أحد! ايش رأيكم؟ قالوا: نعم، قاموا ودخلوا بعده، لكن لمّا رأوا هذه المعاملة، قالوا: هذا السيد يصلح أحد يدخل بعده، هذا ليس كما ذاك؛ هذا تمام، قاموا ودخلوا وحضروا المجلس، بسبب أخلاقه. لا إله إلا الله.

قال الله لسيد الخلق: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران:159] صلّى الله على زين الوجود.

وجاء أيضًا في من يقوم لحاجة ويرجع أيضًا في صحيح مسلم، عن سيدنا أبي أيوب الأنصاري عنه ﷺ قال: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"، قالوا: إلا إذا كان صبيًا كان في صف فاضل، أو في وسط الصف، وقام العارض، قال: فهذا يمكن أن يؤخذ مكانه؛ لأن غيره أحقّ به، ولما قيل: من أن الصبيان يقطعون الصفوف في قول بعض أهل الفقه.

وأما أن يبعث أحد يجلس في المكان ليقوم له إذا جاء، فهذا جائز، وأما مجرد فرش من السجادات أو الأردية، فلا يستحق به البقعة، ولا يكون أحقّ بها من غيره، فإذا لم يكن للداخل موضع، وبين يديه فرجة في الصفوف متقدّمة، فله أن يتقدّم إلى ذلك؛ ويأتي هنا شأن ما ذكر في الفرع الثاني من التخطي للرقاب. 

 

يقول: "وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه -ما يرضا- زجرًا له"، ولا يرضا يقعد في مكان قام له فيه أحد، حتى لا يؤدي ذلك إلى القيام عن حياء وعن مداهنة وما إلى ذلك، فصار ما يقبل، ولا يجلس في المكان الذي قام عنه هذا الذي أراد أن يجلس هو فيه، 

 

قال: "فرع: وكان ﷺ ينهى عن تخطي الرقاب إلا لحاجة" معنى تخطي الرقاب: يمشي في مكان مزدحم مملوء بالناس؛ فيحتاج إلى أن يرفع رجله حين يخطو إلى رقاب الناس، فيرفع رجله إلى أكتاف الناس إلى عند رقاب الناس وهذا حرام؛ لأن فيه إساءة، وفيه إهانة واحتقار لهم أن يرفع رجله إلى عند رقابهم، هذا معنى تخطي الرقاب: أن يخطو برجله على رقاب الناس.

قال: "ينهى عن تخطي الرقاب إلا لحاجة"؛ مثل: أن يكون هناك فرجة؛ أو يكون هو الخطيب الذي يخطب لهم ويكلمهم، فلا يوجد طريق يعدي إلا من بينهم؛ ولكن ينبغي إذا كانوا مستجيبين أن يأمرهم بالتباعد بينهم حتى يمر، فيتباعدوا بينهم حتى يمر من دون أن يتخطى الرقاب. 

وقال لمن جاء متأخر ومع ذلك تخطى الرقاب، ودخل في مكان متقدم، والنبي يخطب، قال: "اجلس فقد آنيت وآذیت" آنيت يعني: تأخرت وآذيت الخلق، جئت متأخر وبعدك تآذي خلق الله الذين جاءوا قبلك في المسجد، "اجلس فقد آنيت وآذيت وذكر: "اجلس فقد آذيت"، -في رواية عند النسائي وأبي داود وابن ماجة-.

إذن: لا يجوز لغير حاجة أن يتخطى الرقاب، ويمر فوق رقاب الناس، فإذا تجاوزتهم فقد تخطيت رقابهم، وكذلك يكون التفريق بين الاثنين بأن تقعد بينهما، أو تخرج أحدهما وتقعد مكانه؛ كل ذلك مما جاء عنه النهي.

 

وإذًا فرقٌ بين تخطّي الرقاب وبين خرق الصفوف، خرق الصفوف: إذا كان ما يرفع رجله إلى حد رقاب الناس؛ ولكن يعدّي بين أرجلهم، ولا يرفع رجله فوقهم، وهذا أيضًا ما يخلو من بعض الأذى؛ ولكنّ حكمه غير حكم تخطي الرقاب، فإذا لم يكن للإمام والخطيب طريق إلا أن يتخطّي الرقاب جاز له ذلك، وانتفت عنه الكراهة، فإذا كان غير الإمام:

  • قالوا الحنفية: 
  • إن كان دخوله المسجد قبل أن يشرع الإمام في الخطبة، فلا بأس بالتخطي، إن كان يجد فرجة أمامه؛ لأنهم قصّروا في سداد الفرجة، فيتخطّي.
  • أما إذا قد بدأ الخطيب يخطب، فأول مكان يجده يستقرّ فيه يجلس فيه، ولا يتخطى؛ لأنه مشيه في أثناء الخطبة وتقدّمه من المنهي عنه؛ لأنه تشاغُل عن الاستماع إلى الخطبة.

 وذكر النبي في فضل من يحضر الجمعة وشرطه قال: "فلم يفرق بين اثنين"، وفي لفظ آخر: "ولم يتخطى رقبة مسلم"، -"وفي رواية الإمام أحمد أيضا وأبي داوود لهذا الذي يتخطى الرقاب وجاء متأخر، قال له: "اجلس فقد آذيت وآنيت".

إذًا: لا يجوز أن يمرّ بحيث يرفع رجله يحاذي في تخطيه أعلى مناكب الناس الجالسين فذلك حرام؛ إلا ما أشار إليه بقوله: إلا لحاجة، فيقول: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم" -والعياذ بالله-، أي: سلّم نفسه لأن يصل إلى النار -والعياذ بالله-.

 وكان ﷺ كثيرًا ما ينهى وهو يخطب من يراه يتخطى رقاب الناس ويقول: "من يتخطى رقاب الناس ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار -أي: الذي يجرّ- قُصُبه في النار"، والقصب هي الإمعاء والمصارين قاله أئمة اللغة. 

"وكان ﷺ يرخص في التخطي للحاجة، وقد سلم يومًا من صلاة العصر ثم جلس ثم قام مسرعًا فتخطى رقاب الناس إلى أن دخل بعض حِجر نسائه، ففزع الناس من سرعته فخرج إليهم فرآهم قد عجبوا من سرعته فقال: "ذكرت شيئًا من تبر -أي: ذهب- كان عندنا فأمرت بقسمه خوفًا من أن يدركني الليل" ويبيت في بيتي، بل كان من عادته إذا كان هناك شيء رسل من الأموال، ولم يفرقه بعد ما يبيت في البيت يَعمِد إلى ناحية جنب المسجد، فيبيت فيها، ما يدخل شيء من بيوته حتى يوزع الذي جاء، وهكذا.

 

حتى قال سيدنا بلال -عليه رحمة الله- وكان أمين رسول الله ﷺ لشؤون الإنفاق وما يأتي وما ينفق عليه الصلاة والسلام، قال: وكنت أستدين له، قال: حتى كثر عليّ دين لبعضهم كان يقرضني، ثم لقيني في الطريق مع جماعة، فقال: يا فلان تردّ لي حقي الذي أخذته -ديني-، وإلا أردّك كما كنت مملوك -عبد- كما كنت في مكة المكرمة، قبل أن تحرر -قبل أن تعتق- فعلى قدرتك، فتأثّر سيدنا بلال من كلامه، وجاء إلى النبي ﷺ، قال: يا رسول الله ما عندك شيء لئن نقضي دينه هذا، وكان يستدين منه ونردّ له، ولكن الآن تجاوز حده، وقال: كذا، وأنا يا رسول الله بشر، فأنا أسافر وأترك له المدينة؛ حتى ييسّر الله عليّ وعليك، وأجي أردّ له، ما أريد أقابله بعد اليوم، سكت منه ﷺ، وراح سيدنا بلال يهيئ نفسه للسفر، في الليل وصل إلى النبي ﷺ بعض المال على جمل، فأرسل إلى بلال وهم متهيئ للخروج، أرسل إليه وقال له رسول الله يدعوك فجاء، قال: وجدت الراحلة على بابه وعليها حمل، فدخلت، قال: إن هذا جاء الله به، فخذ وأعطي الرجل حقه، واقضي الدين الذي علينا، قال: فأخذت وقضيت الدين، قال: وجئت إليه ﷺ في العشاء، فقال لي: ما فعلت؟ قال: قضيت دينك وعملت كذا وأنفقته، قال: بقي شيء؟ قال: نعم، قال: فأرحني منه، فإني لا أدخل الليلة بيتي، وعمد إلى مكان بجنب المسجد بات فيه، قال: حتى جئته في الليلة الثانية، ووجدت المصارف التي يحب أن يُصرف فيها، فصرفته فيها، فجئت إليه، قال: ما فعلت؟ قال: أراحك الله منه، قال: فدخل بيته ﷺ.

 

فإذا لم يكن للداخل موضع، ولا بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطّي، لا يجوز له ذلك، فإلا كُره ذلك، وإن كان يصل إلى حد الرقاب برجله فهو حرام، 

وإن كان من أجل أن يسأل -صاحب السؤال في الدين- أيضًا، قالوا: يُكره أن يتخطّى الرقاب؛ لكن يرفع صوته، أو يأتي مبكر، أو يجلس للعالِم حتى يخرج فيكلمه، ويسأله عن حاله.

أما الذين يجلسون على أبواب المساجد من غير حاجة لذلك، ولكن لأجل الحديث بينهم والفضول، فهؤلاء لا حرمة لهم في تخطيهم إلى الدخول إلى المسجد، فإذا كان مع التأذّي يحرم، وإذا لم يكن فرجة أمامه يكره، فإذا كان فرجة أمامه قريبة فيسدّها فيستحب أن يتخطى ويدخل إليها، ويكون خلاف الأولى في الفرج القريبة لمن وجد موضعًا، وفي البعيدة كذلك إذا رجا أن يسدّها غيره، وهو وجد موضعًا مناسبًا، وإذا لم يجد موضعًا فحينئذ تكون مباحًا يتخطّى لسداد تلك الفرجة.

إذًا فتأتي فيها الأحكام كما ذكر فقهاء الشافعية:

  • وأنه لو ترتّب عليها صحة الصلاة، بحيث أنه إذا لم يتخطّى الرقاب، يصلّي في مكان ما تصح فيه الجماعة، فحينئذ يجب عليه أن يتخطّى.
  • قال الشافعية: فإن كان لا؛ ولكن هناك فرجة قريبة لم تسدّ، فحينئذ يستحب إن كان لم يجد. 
  • فإن كان فرجة بعيدة ويرجو أن يسدّه غيره؛ ولكن لم يجد موضعًا هو، فيكون حينئذ مباحا أن يتخطّى ليصل إليها.
  • فإذا كان وجد موضع ويرجو أن يسدّها غيره فيُكره له أن يتخطى من أجل سدّها، فتأتي فيها الأحكام

 

يقول: "وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- إذا رأوا أمامهم فرجة قريبة يتخطون الرقاب إليها ليسدوها، وكان ﷺ يقول: "إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحوّل منه إلى غيره"، وكان ﷺ ينهى الناس عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، -تعظيما لاجل الخطبة المشروعة- وكان جابر -رضي الله عنه- يقول: "إنما نهى عن التحلق يوم الجمعة في مسجد صغير يضيق تحلقهم على المصلين"، وكان ﷺ ينهي أصحابه عن الحبوة إذا كان بهم نعاس ويرخص لهم في الاحتباء إذا كانوا يقظين لا نعاس عندهم"، فمن كان الحبوة تجلب له النعاس -ينعس والخطيب يخطب- فتُكره له الحبوة، وأما أنه "كان أكثر جلوسه ﷺ محتبيًا" إما بيده وإما برداء ونحوه، فهذا أيضًا ثابت عنه، ولكن ليس في وقت خطبة، وليس عنده نعاس ﷺ ينعس.

 

رزقنا الله الإتباع له، والاقتداء به، والاهتداء بهديه، وأحيا فينا سنّته، ورزقنا معرفة حقوق عباده -سبحانه وتعالى-، ووفقنا للقيام بها.

اللهم عرّفنا حقّك ووفقنا للقيام به، وعرّفنا حقّ نبيّك ووفقنا للقيام به، وعرّفنا حقّ كل من له حقّ علينا، وعرّفنا حقّ المسلمين والمؤمنين ووفّقنا للقيام به، وتقبّله منا بفضلك.

 

بسر الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

03 جمادى الآخر 1446

تاريخ النشر الميلادي

04 ديسمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام