(536)
(236)
(575)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى ليلة الجمعة 22 ذو الحجة 1445هـ، بعنوان:
مطلب القرب من الإله ومرافقة أنبياه ضرورة الإيمان وميزة الصادقين
الحمد لله نور السماوات والأرض، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يحكم بين جميع هؤلاء المكلفين من الإنس والجن من أولهم إلى آخرهم في يوم العرض. ولقد تكرَّم على هؤلاء المكلفين بما آتاهم؛ من وجودٍ بعد العدم، وما أمدهم في إيجادهم بأعظم النعم من: العقل والإدراك، والسمع والبصر والأرواح، ثم أنزل الكتب وأرسل المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم- وختمهم بسيِّدهم عبده ورسوله محمد بن عبد الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وجعل أمته خير الأمم، وآله خير آل، وصحبه خير أصحاب.
فصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك وكرِّم على من شرَّفتهُ بأعلى خطاب وأول خطاب، وفرَّعت منه الخطاب لمن خاطبتهم من أولي الألباب. فلك الحمد شكراً، ولك المَنُّ فضلاً. أدم صلواتك على هذا المصطفى المختار، نور الأنوار وسِرِّ الأسرار، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الأخيار، وعلى أصحابه الهُدَاة أهل الصدق في السِّرِّ والإجهار، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان على مدى الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معدن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، عدد ما علمت وزنة ما علمت وملء ما علمت وعدد كل شيء.
كل صلاة من تلك تفتح لنا بها أبواب رحماتك الكبيرة، ومِنَنك الوفيرة، وتدفع بها عنَّا شرور الدنيا والآخرة، وتجمعنا بها في الحظيرة القُدْسِيَّة ومَقْعَدِ الصِّدق..
في مقعد الصدق الذي قد أشرقت ** أنواره بالعِنْدِ يا لَكَ مِن سَنَا
والمتقون رجاله وحُضُوُرُه ** يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربَّنا
يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربَّنا، يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربَّنا.. برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأمل اللحوق بأولئك غاية الآمال عند كل مَن عَقَلَ الحقيقة، ومن اِلْتَحَقَ بخِيَارِ الخليقة، وكل من استمسك بالعروة الوثيقة (فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ * ٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ یُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ)[البقرة:256-257].
اللهم أجرنا من النار، ومن عذاب النار، ومن أهوال النار، ومن شدائد النار، واجعلنا من الذين سَبَقَت لهم منك الحسنى فــ (لَا یَسۡمَعُونَ حَسِیسَهَا وَهُمۡ فِی مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَـٰلِدُونَ * لَا یَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ هَـٰذَا یَوۡمُكُمُ ٱلَّذِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:102-103].
وكُلُّ مَن لم يَصِل إلى أن يطلب هذا الطلب ويرغب في ذلك المأرب العزيز؛ مُرَافَقَة أهل حظيرة القدس، وأهل مقعد الصِّدق، وأصفياء الله من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار الكرامة؛ فلم يَعقِل الحقيقة، ولا يلحق بخِيَارِ الخَلِيقَة، ويعيشُ منفصلاً عن العروة الوثقى؛ فكل ما استمسك به سواها؛ فهو هاوٍ هالك
(مَثَلُ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِیَاۤءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَیۡتࣰا وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُیُوتِ لَبَیۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ)[العكنبوت:41] أَوْهَنُ البيوت بيت العنكبوت.. وقد تمسَّك به كلُّ مَن كفر، وقد تمسَّك بمثله كُلُّ مَن فجَر، وقد تمسَّك بمثله كُلُّ مَن على الذنب أصر، وقد استمسك بمثل بيت العنكبوت كُلُّ مَن آثر المعصية على الطاعة، وكلُّ مَن اِغتَرَّ بزخرف الحياة الدنيا وما فيها؛ فمَثَل جميعهم: (كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَیۡتࣰا وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُیُوتِ لَبَیۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ)[العكنبوت:41].
لكن (فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)[البقرة:256].
ولقد دعتنا الكتب المُنزلة ورُسُلُ رَبِّ الأرض والسماء؛ أن نرغب في هذا الطلب، وأن يكون مقصودنا الأكبر: أن نُرَافِقَ أولئك الرَّكْبِ في دار الكرامة وعظيم الرُّتَب.
ومن استجاب لدعوة الرسل ولبَّى النداء؛ تحقَّق بهذه الحقيقة.
يُحدِّثكم هذا الذي أكرمه الله بالإسلام وصار اسمه (طاهر) أنه خرج من قلبه المبالاة بالمال والمنزلة عند الناس لمَّا أسلم. ويُذَكِّر قول سيدنا عمر: "ما تمنيت الإمارة منذ أسلمت".
ما هذه المِنَن من المَنَّان! والواسطة هو الواسطة نفسه ﷺ.
سَرَت السِّرَايَة حتى هدى الله والده، وسَرَت السِّرَايَة حتى حرَّكته الدَّواعِي للوصول إلى هذه البلدة، وأخذ مِمَّا عَلِم من نور هذا الإسلام الذي بُعِث به خير الأنام؛ أنه يُوجِبُ عليه أن يَبِرَّ والديه -ولو كانا على غير الإسلام- وأن يُحسِنَ التَّخَلُّق مع الناس عامَّة وخاصتهم خاصة. فظهر من ذلك شُعَاع من جمال محمد في جمال الإسلام؛ فكان سبب هداية هذا الأب -رَقَّاه الله إلى عَلِيِّ الرُّتَب فضلاً منه سبحانه وتعالى-
واختار -سبحانه وتعالى- بقعتكم هذه أن تكون مأوى لهذه الأرواح، التي تتطلَّب مراتب القرب من هذا الإله، والاتصال بمصطفاه؛ بسَابِقَةٍ سَبَقَت؛ أعدَّ الله تعالى لها وصول الإسلام في حياة خير الأنام إلى هذه الربوع، وأعدَّ الله لها قلوباً وَعَت من سِرِّ الوحي والتنزيل والبلاغ للنبي الجليل أسراراً عظيمة. حتى جاءت العترة الطاهرة، واتصلت الشؤون الباطنة والظاهرة، والأولى والآخرة، وتوالَت الأعصار على ظهور كبار بعد كبار بعد كبار من معادن الأنوار.. عليهم الرضوان، فضلاً من الرحمن -جلَّ جلاله-
ولا يزال الحق يُرينا حقائق من سِرِّ الاستمساك بالعروة الوثقى، وينتخب من يشاء، و: (یَهۡدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن یَشَاۤءُ)[النور:35]، (وَمَن لَّمۡ یَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُورࣰا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)[النور:40].
وكل الموجودين من المسلمين أولاً، ثم من عموم الخلق من الذين لم تُحِس قلوبهم بهذا الطلب الغالي، ولم يَصِر مقصودهم الاجتماع بأهل الشرف في المقام العالي؛ فذلك لـ: ضعف إيمانهم، وقلة تربيتهم، وقلة اتصالهم بمعاني الكتاب والسنة، وباستجابتهم لدواعي الفساد، ودواعي العناد، ودواعي الرَّدَى، ودواعي الضلال؛ من قِبَل الأنفس والشهوات والأهواء والدنيا وشياطين الإنس والجن. هم الذين يَصُدُّون الناس أن يطلبوا هذا الطلب الأعلى، وأن يجعلوا مقصودهم الأسمى: مرافقة النبيين في دار الكرامة (وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا)[النساء:69].
ثم يسقط من هذا الطلب الأعلى لأن يكون الغالب على ذهنه وعقله: إمَّا ثياب يلبسها يتشبَّه بها بموضات.. يتشبَّه بمجرم أو بفاسق أو بشرير! وتأخذ عقله! وتأخذ عمره! وتأخذ حياته! والله أعلم يموت على أي حال! وإن غلب عليه عند الموت ذكر هذه السَّفَالات والرذالات؛ ربما نُزِع الإيمان كله من قلبه -والعياذ بالله- وحُشِر مع ذاك الفاجر الذي كان يتشبّه به في قصة شعره أو في لبس ثيابه أو في حركة يديه أو رجليه في هذه الدنيا! انحطاط! .. انحطاط!
مرّ عمره ما له قصد مرافقة النبيين! ولا يشعر بهذا الطلب! ولا يشعر بأن هذا الأمر المهم الأكبر الذي تنطوي عليه مقاصد المكلفين من الأولين والآخرين، بل ولا أشرف منه في قلب أحد من أهل السماوات ولا من أهل الأرضين ولا ملائكة السماوات.. لا أشرف لهم من مرافقة أهل هذا الرضا!
ألا ترى حملة العرش -وهم في المقام الأعلى- يرتبطون بأهل هذه الصفات! ويتقربون إلى الله بمحبتهم وبالدعاء لمن ينتمي إليهم! (ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۖ..) رأيت اتصالهم بهؤلاء! (..رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءࣲ رَّحۡمَةࣰ وَعِلۡمࣰا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِینَ تَابُوا۟ وَٱتَّبَعُوا۟ سَبِیلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ..) هذا مِن ذِكرهم في العرش، مِن ذِكرهم عند العرش! يتقرّبون به إلى رب العرش! يتقربون به إلى الرب -جَلَّ جلاله- يقولون: (..رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۚ..) والمتصلين بهم يدعون لهم! (..إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ *وَقِهِمُ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّیِّـَٔاتِ یَوۡمَىِٕذࣲ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ)[غافر:7-9].
يا من شَهِد أن لا إله إلا الله: إن خَامَرَ قلبك أن فوزاً عظيماً غير هذا: فصَحِّح اعتقادك، وصحِّح إيمانك، وداوِ العِلَّة التي في عقلك وقلبك! قبل أن تموت معلولاً، قبل أن تموت مريضاً؛ فلا تلقَ الله بقلب سليم!
هذا الفوز العظيم: أن تُزحزح عن النار، أن تنجو من عذاب الجبار القهَّار في يوم القيامة، أن تُرافق رَكْبَ المختار والصالحين (وَذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ)[غافر:9].
يُملون علينا أن: الفوز العظيم في كسب الشهادات، الفوز العظيم في الوظائف، الفوز العظيم في الرفاهية، الفوز العظيم في الوزارات، الفوز العظيم في الانتماء إلى الأحزاب.. كذبوا والله! ما في هذا فوز! كذبوا ثم كذبوا ثم كذبوا وصدق الله: (فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ..) فكلام هؤلاء وأفكارهم: (..وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ)[آل عمران:١٨٥].
وإنما بُنِيَت الحياة على هذه الاختبارات (لِیَمِیزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ)[الأنفال:37]، (لَتُبۡلَوُنَّ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ أَذࣰى كَثِیرࣰاۚ وَإِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ذَ ٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ)[آل عمران:١٨٦].
(فَإِنَّ ذَ ٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ) ويوصلكم إلى درجات كُلِّ بَرٍّ وشكورٍ؛ في مرافقة المصطفى محمد بدر البدور ﷺ.
يا ربِّ اجمعنا به في الدنيا والبرزخ والآخرة، واجعلنا من أسعد أمته بمرافقته في البرزخ وفي القيامة ومواقفها وفي دار الكرامة، وفي ساحة النظر إلى وجهك الكريم.. يا أكرم الأكرمين.
فإذا لم يوجد هذا الطلب بصدق والرَّغَب بحق عندك أو عند ابنك أو عند بنتك.. فداوِ الحال!
داوِ الحال! اخرج من هذا الاعتلال! استمسك بالعروة الوثقى، ادخل مع أهل التقى، تنقّى مع أهل النقا؛ من بَراثِن تغرير إبليس وجنده، وتلبيسهم على عقلك ولُبَّك؛ حتى لا يكون لك طلب أعظم من طلب قُربِ الرَّبِّ ورضوانه وزين الوجود ﷺ.
يقول -وهو الذي كابد شؤون الاختبار في هذه الحياة- وعَزَّ عليه النصير في مكة، وبعد وفاة عمِّه وزوجه خديجة بنت خويلد اشتدَّ عليه الأذى، وخرج إلى الطائف، وقوبل بأسوأ الرد، وأُخرِج منها، ورُمِي بالحجارة حتى سال الدم من عَقِبَيه، وإذا مشى وأثقلته الحجارة وتعب جلس، فجاءوا يحملونه يقولون: قم، ويرمونه! حتى لم يَستَفِق إلا بقرن الثعالب، وأخذ يناجي ربه -جَلَّ جلاله-: "أشكو إليك ضعفي، وقِلَّةَ حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يَتَجهّمني؟ أم إلى بعيد ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقَت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ بي سخطك، لك العتبى - أي: طلب الرضا- حتى ترضى".
هذا منهجه، وهذا شعوره ﷺ، وهذا صبره، وهذا القدوة لي ولك ولكل عاقل على ظهر الأرض.
وجاء سيدنا جبريل ويقول: هذا ملك الجبال يستأذن ليُسَلِّم عليك أرسله ربه إليك، وأَذِن له، وقال ملك الجبال: أنا الذي وكّلني ربي في هذا الكوكب الأرض بجبالها، أُسيّرها بأمره كما يريد وكما يشاء، وقد أمرني أن أكون طوع أمرك، وقد سَمِع رد قومك عليك وما أجابوك به، فإن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبين -هذا الجبل وهذا الجبل- حتى لا يبقى منهم أحد، فعلتُ. قال: "لا، لكني أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم مَن يتولى هذا الأمر، ومن يقول "لا إله إلا الله". قال له ملك الجبال: صدق الذي سَمَّاك الرؤوف الرحيم، صدق الذي سمَّاك الرؤوف الرحيم! ﷺ
ودخل نبيكم ﷺ إلى مكة في جوار! لم يستطع أن يدخلها، لم يكن هناك أمن ولا استقرار فيها. وأرسل إلى الأول ليدخل في جواره فاعتذر، وأرسل إلى الثاني فاعتذر، حتى جاء مطعم بن عدي وأدخله في جواره ﷺ. مرَّت عليه أيام، وهو حبيب الرحمن، وهو المرسل رحمة للأكوان! قاسى هذه الأشياء من هذه الحياة؛ لأنها محلّ الاختبار ومحل التمييز: (ذَ ٰلِكَ وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَا۟ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲ وَٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَلَن یُضِلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ *سَیَهۡدِیهِمۡ وَیُصۡلِحُ بَالَهُمۡ * وَیُدۡخِلُهُمُ ٱلۡجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمۡ) [محمد:4-6].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد:7-9].
وكل مَن كَرِه ما أنزل الله فعمله مُحبَط، مهما خطَّط ومهما خَبَّط عمله مُحبَط (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد:9]، بل قال الله -تبارك وتعالى- عن قوم (..قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ..)[محمد:26]، سنستسلم في بعض الأشياء، فما الذي أصابهم؟ أصابهم الغضب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
يقول: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ..) وفي القراءة الأخرى (وأُمْلِيَ لهم)، (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ..) وإيش الذي وقعهم فيه إبليس؟ وإيش الذي خوّفهم به؟ وإيش الذي لبَّس عليهم به وصادهم به؟ (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ..) طاعتهم لهؤلاء - الذين كرهوا ما نزّل الله- في بعض الأمر وليس في كل الأمر! حَبِطَت أعمالهم وخسروا -والعياذ بالله- (..ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ..) ما يجوز طاعة الذين كرهوا ما نَزَّل الله، ما يجوز طاعة الذين كَرِهوا ما نزّل الله! لا في كل الأمر ولا في بعض الأمر (..وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ)[محمد:25-26]، وستنقضي الحياة!
(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد:27-28].
(فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) شعوب، ودول، وأُمَم، وطوائف، وأحزاب.. حبطت أعمالهم!
قال الله عن أعمالهم في القيامة: (وَقَدِمۡنَاۤ إِلَىٰ مَا عَمِلُوا۟ مِنۡ عَمَلࣲ فَجَعَلۡنَـٰهُ هَبَاۤءࣰ مَّنثُورًا * أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ یَوۡمَىِٕذٍ خَیۡرࣱ مُّسۡتَقَرࣰّا وَأَحۡسَنُ مَقِیلࣰا * وَیَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاۤءُ بِٱلۡغَمَـٰمِ وَنُزِّلَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ تَنزِیلًا * ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَىِٕذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَـٰنِۚ..)[الفرقان:23-26]. ما عاد شي مُلْك لغيره؟ صور اغتَرُّوا بها وراحت! ما عاد شي!
(لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡیَوۡمَ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ)[غافر:16]، -جَلَّ جلاله- (ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَىِٕذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَـٰنِۚ وَكَانَ یَوۡمًا عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ عَسِیرࣰا)[الفرقان:26].
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)[الفرقان:27].
هذا السبيل مع الرسول: إقبالك على الله بهديه وطريقته، إحياءك لسُنَّتِهِ، أن تتمنى مرافقته، ولا يغلبك على هذا التمني شيء من الأوهام والخيالات والظلمات والضلالات. اجعل مهمتك الكبرى ومقصدك الأسمى: أن تُرَافِق حبيب الرحمن، واملأ بذلك جنانك، وربِّ على ذلك أهلك وأولادك.
إن كنت مستمسكاً بالعروة الوثقى، إن كنت من أهل التقى، إن كنت واعياً لمعنى "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فهكذا تعمل بأصحابها، حتى يُصبِحوا ويمسوا، ويبيتوا ويظلوا، ويحيوا ويموتوا؛ ولا شيء أحب إليهم من (الله ورسوله)، الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما.
معك هذا؟ أو أنت ضعيف في هذا؟ وعدَّى عليك رمضان، وبعد أيام رمضان، وعدَّت عليك أشهر الحج وموسم الحج، والآن في آخر عام هجري جديد.. وعادك ما حصَّلْت هذا؟! ضعيف في هذا الطلب! ضعيف في هذا الرَّغَب!
لك رغبات في فلوس وشيء وشيء، ما أدري ماذا تقول له الحرمة، وما يقول له الصديق الشؤم عليه.. صديق شؤم عليه، صديق يُمَنِّيه بالأماني الخسيسة والأماني الخبيثة! ولا عاد له أمنية في مرافقة نبي ولا في مرافقة مُقَرَّب ولا صِدِّيق! ولا يخطر على باله مقعد الصدق! ولا حظيرة القدس! ولا الفردوس الأعلى! -والعياذ بالله تعالى-
هذا خَارِب، خَارِب! ضعيف الإيمان، ضعيف الحضور مع الرحمن، ضعيف التَّحَقُّق بـ "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ﷺ !
وهذا الذي يسعى فيه إبليس وجنده: أن يصدونا في عقولنا وعواطفنا عن هذا الطَّلَب والرَّغَب الأشرف الأطيب الأعلى الأعز، وأن نُصبِح عبيداً!
"تَعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تَعِس عبدُ القطيفة، تَعِس عبدُ الخميصةِ" النبي في هذا الحديث يُبيّن لنا التعاسة في عبيد الدينار والدرهم! التنمية والاقتصاد… إلخ، الكلمات هذه الخارجة عن سواء السبيل!
لمن نطلب الدنيا إذا لم نُرِد بها ** سرور شفيع الخلق في يوم نُحشَرُ؟!
لمن نطلب الدنيا إذا لم نُرِد بها إقامة أمر الله وإقامة دين الله ونصرة الحق؟ لمن نطلب الدنيا؟ وما تساوي الدنيا؟ ولكن هكذا أغروهم، ورضوا بهذا الإغراء وضعف عنهم الطمع!
قال له سيدنا الصحابي -وكان يعدونه أعرابياً من صغار الصحابة، ما في الصحابة صغير- لمَّا جاءوا له بقسمه من الغنيمة في خيبر، قال: ما هذا؟ قالوا: قسمك من الغنيمة قسمه لك رسول الله. قال رسول الله احضر هذا لي؟ قالوا: نعم. حمله وجاء إلى عند النبي: رسول الله ما هذا؟ قال: قسمك من الغنيمة قسمته لك. قال: أنا ما على هذا اتبعتك. أنا آمنت بك وشهدت شهادة الحق لأجل تعطينا مثل هذا؟! - أذهب لعند الأثرياء والأغنياء وأبحث عند فارس أو الروم وآتي لي من عندهم! - ، أنا ما جئت لأجل هذا اتبعك!
رأى النبي مخايل الصدق فيه قال: فعلام اتبعتني؟
هذا عرف معنى "لا إله إلا الله"
قال: اتبعتك على أن أُرمَى بسهم ههنا فأموت فأدخل الجنة. قال له: "إن تصدق الله يصدقك الله" ولمَّا نهضوا في قتال عدوهم مرة أخرى، أصابه سهم في المحل الذي أشار إليه، ووُجِد قتيلاً بين الصفوف، عرفوه وحملوه إلى النبي، قال: هو هو؟ قال: هو ذاك الذي يكلمك بذاك الكلام وقلت له كذا، قال: "صدق الله فصدقه" قال وقام يدعو له. قال ومما ظهر من دعاء رسول الله، يقول: "اللهم هذا عبدك خرج مجاهداً في سبيلك فقُتِلَ شهيداً وأنا على ذلك شهيد".
يا فوز هذا الإنسان، يا فوز هذا المُدرك للحقيقة والمستمسك بالعروة الوثيقة.
ضحكوا علينا وعلى عقولنا! وجعلوا مقاصدنا هم، ولخبطتهم وخربطتهم ودنياهم، ومناهجهم المناقضة لمناهج الله، وأنظمتهم المخالفة لشرع الله -جَلَّ جلاله-!
هؤلاء هم مقصود هؤلاء؟! حد منهم سيدخلك الجنة؟ أحد منهم سيغفر لك ذنوبك؟ أحد منهم سيعطيك حسن الخاتمة؟ هؤلاء يُقصَدون هؤلاء؟! فيهم من يعادي الله ويعادي رسوله! فيهم من يريد نشر الفساد في الأرض! (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)[محمد:26-27] -والعياذ بالله تبارك وتعالى- يبدأ الضرب ولازالوا في آخر هذه الحياة، والضرب يصلهم من كفرهم ومن عنادهم ومن معصيتهم للجبار الأعلى -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-
والله ورسله كلهم وخلفاء رسله يدعوننا لأن: نُقَوِّم رغباتنا ومقاصدنا، ونُقيمها على أساس متين من الحقِّ الواضحِ الصِّرْفِ المبين. وألا يكون لنا غرض ولا مقصود قبل قربنا من الله ومن رسوله ورضا الله ورضا رسوله ﷺ. "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله.." والمقاصد الأخرى: "..ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولا الله ولا رسوله ولا ثواب ولا قرب ولا جنة ولا شيء من المراتب العلا؛ لأن مقاصده سقطت وسفلت فتبعها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
(..فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًۢا)[الكهف:110]، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..)[الكهف:28].
لأجل تقويم هذا الطلب؛ أقام الله لنا هذه الشريعة. وكل فرض وكل سنة تُنقِّي لنا القلوب من الطلبات الخسيسة وتُعلمنا الطلب الرفيع… كل صلاة وكل صوم؛ وبهذا يقوم قيام الأخلاق والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-
في هذه اليومين خرج عدد كبير من دار المصطفى ومن عموم البلد تريم إلى عدد من القرى من حوالينا -الله يبارك فيهم وفي خروجهم-، وكان الذي يعتني بهذا الخروج ويتابعه: الشيخ محمد بن عبد الله بن عثمان -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الذي فقدته البلدة، وفقدته الدعوة، وفقده الخير، وفقدته النيات الصالحة، وفقدته الوجهات الصادقة -عليه رحمة الله- والله يجازيه بخير الجزاء، ويجعل استثماره قوي.. عرف يستثمر -عليه رحمة الله-
جعل استثماره قوي؛ لِمَا سيَّره على يده من الخير، وما جعل في قلبه من هذا التعلق والمحبة، والإرادة لنصرة الحق ورسوله، ومحبته ومحبة رسوله ومحبة أهل البيت الطاهر ومحبة الصحابة ومحبة الصالحين ومحبة المؤمنين -عليه الرضوان-
الله يجعل من ثمار ذلك: كثرة مصافحته ليد المصطفى ﷺ، كثرة نظره إلى وجهه في البرزخ وفي القيامة ومواقفها كلها، الله يكرمه بكل ذلك، ويبارك في أهليه وأولاده وقرابته، ويسير بهم خير مسار، ويسير بنا خير مسار.. المسلك الحَسَن في السر والعلن في خلال هذه الأعمار القصيرة، التي هي خطيرة قصيرة. وخطيرة؛ لأن كل ما في حياة البقاء والدوام مُرَكَّب عليها ومُرَتَّب عليها!
الذي تقوله، والذي تفعله، والذي تنويه، والذي تفكر فيه، والذي تقصده، والذي ترغب فيه في الحياة؛ ينعكس عليك في عمر البرزخ، ثم في عمر القيامة، ثم في عمر الأبد إما في الجنة وإما في النار. يرجع عليك هذا الذي تعمله هذه الأيام.. والذي تقوله والذي تفعله!
فيا ويل من كان يرضى بقضاء وقته في معصية الله! بل يا ويل من يرضى بقضاء وقته في الغفلة عن الله، فكيف بمعصية الله -جل جلاله-!
أغروا صدورهم رجال ونساء وصغار وكبار، وصار ما عاد لهم زِمَام يزمّ منهم الوجهة (وَلِكُلࣲّ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّیهَا)[البقرة:148]، ولا يزم منهم المقاصد والمطالب!
وما درى إلا كلما جاءت أزياء خبيثة مشوا وراها، وكلما جاءت أسلوب حِنَّاء أو غيره للبنات الصغار مسكينات علموهن التكشيف.. يكشِّفون أجسادهن! ما كنا نعهد الناس في زينتهم الطيبة الشريفة يجاوزون الكفين في الحِنَّاء لا لعروس ولا لغيرها! طلعوا..طلعوا.. طلعوا بدل من الأكمام زينة! إلى أين؟ قالوا بدأوا يطلعون في بعض الأماكن من حواليكم حتى إلى عند الركبة وفوق الركبة! وإيش يعملون هؤلاء؟ إيش المقاصد لهؤلاء؟ إيش الأطماع لهؤلاء؟ إيش النيات لهؤلاء؟ مساكين! يُلعَب عليهم هكذا!
ما ذاقوا "لا إله إلا الله" لو ذاقوها ما رضوا لأنفسهم بهذه الحالات! ولا رضوا لأنفسهم بهذا السقوط!
ومصائب تُصيب الناس كثيرة من هذا التساهل! فإذا من لا له رغبة في مرافقة الملأ الأعلى سيبقى هو والحزب الأسفل يتسفَّل! يتسفَّل معهم! واحد شيء في الخُلُق، وشيء في الفكر، وشيء في النظر، وشيء في الزيّ، وشيء في القول، ويتسفَّل، يتسفل -والعياذ بالله- كيف تكون الخاتمة؟
يا الله بها يا الله بها يا الله بها يالله بحسن الخاتمة!
علينا أن نَعقِل.. وعام هجري سيرحل من أعمارنا تنطوي فيه كم من صحيفة! وايش اللي وسطها؟! وفيها بعضها من النور ما يوجب السرور والأنس في يوم البعث والنشور، فهنيئاً لأهلها. ولكن كثير صحائف تُطوَى وفيها موجب الخزي والندامة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
ويا ويل من لم يتب ولم يَقرُب إلى الرَّب، الذي يَبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل!
الله يرزقنا صدق الإقبال عليه، ويبارك في هذه المجامع، ويبارك في هذه المجالس؛ التي مَدَّها الله من سِرِّ رسالة حبيبه محمد، ونبوة حبيبه محمد، وبلاغ نبيه محمد، وهِمَّة نبيه محمد، ووجهة نبيه محمد، ورحمة نبيه محمد ﷺ؛ في هذه الأمة امتدت حتى جاءتنا وإياكم وحصَّلناها مُجهزة سهلة منوّرة. إيش تعبنا في تحصيل هذا؟ وقد تَعِب قبلنا في سلسلة السند نفسه، كم مَن جاع، وكم مَن كابد الاجتهادات وكم مَن خُطِف، وكم مَن قُتِل، وكم مَن حُبِس؟ كثير! ونحن ما نالنا شيء من هذا، وحصَّلناها جاهزة، فلا أقل من أن نحمد الله ونشكره ونستمسك بهذه العروة الوثقى ونكفر بالطاغوت.
ما الطاغوت؟ ما خالف شرع الله الذي خلقنا فهو طاغوت، ما خرج عن سنة نبينا وخالفها وضادَّها فهو طاغوت؛ فكراً، أو سلوكاً، أو خُلُقاً، أو لباساً، أو قولاً، أو معاملة، أو تجارة، أو صناعة.. ما خرج عن شريعة هذا المصطفى فهو طاغوت، يجب أن نكفر به ما هو نتبعه! (فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)[البقرة:٢٥٦].
اللهم انظر إلى قلوب الحاضرين والسامعين، واملأها بالإيمان واليقين، ولا تجعل فينا ولا في ديارنا من يتبع الطاغوت، ولا من يوالي الطاغوت. يا ربَّ العزة والجبروت: اجعلنا في دوائر الرَّحَمُوت، في أتباع أهل الإنابة والخضوع والقنوت، من كُلِّ بَرٍّ شكور مستقيم على ما تحب في البطون والظهور، يا حاكم يوم النشور.
يا جامع الأولين والآخرين فحاكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون: اجعلنا في ذاك اليوم من السُّعداء، واجعلنا في ذاك اليوم من مرافقي الأنبياء، اجعلنا في ذاك اليوم من الهُدَاةِ المهتدين الذين تجمعهم على حوض النبي الأمين. نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، والرُّكَّع السجود، الموفين لك بالعهود، إنك رحيم ودود، وأنت تفعل ما تريد. نسألك الصبر عند القضاء، والفوز عند اللقاء، ومنازل الشهداء، وعيش السعداء، ومرافقة الأنبياء.
اللهم أكرمنا بذلك، وهيئنا لذلك، وكل ما يقطعنا عن ذلك اقطعه عنَّا واصرفه عنَّا، وثبِّتنا على ما تُحبه مِنَّا وترضى به عَنَّا، ظاهراً وباطناً، في جميع ما نعتقد، وفي جميع ما نتصور، وفي جميع ما نقول، وفي جميع ما نفعل، وفي جميع ما نعامل.
يا حي يا قيوم، أيدي الفقراء امتدت إليك يا غني، أيدي الضعفاء امتدت إليك يا قوي، أيدي العاجزين امتدت إليك يا قادر، فانظر إلينا ونوِّر البصائر، وصَفِّ لنا السَّرائر، وأصلح لنا الباطن والظواهر.
واجعل اللهم من آثار قبول حجاج بيتك وزائري نبيك فرجاً عاجلاً، ولطفاً شاملاً، وإنقاذاً للعقول والقلوب من الظلمات والزيغ والضلال، وتعظيماً لأمرك، ورغباتٍ صادقاتٍ في قلوب المؤمنين في مرافقة النبيين، والدخول في دوائر سيد المرسلين.
يا حي يا قيوم، يا قوي يا متين، يا أول الأولين، يا آخر الآخرين، يا ذا القوة المتين يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين: لا تجعل أحداً من أهل مجمعنا ولا من يسمعنا ويشاهدنا ويوالينا ولا من في ديارهم؛ إلا مكتوباً له مرافقة النبيين، والورود على حوض النبي الأمين. لا خلّفتَ مِنَّا أحداً، ولا طردت مِنَّا أحداً مع البُعدَاء، أسعدنا يا مُسعِد مع خواصِّ السُّعَداء. يا عالم ما خفي، يا عالم ما بدا، يا من بيده الأمر هاهنا وغداً. يا مُقَلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك، واصرفنا من الجمع والقلوب عليك مجموعة، والدعوات عندك مسموعة، وما وفقتنا له من الأعمال الصالحة مقبولة مرفوعة.
يا من (إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرۡفَعُهُ)[فاطر:10]، اجعلنا من خواصِّ مَن تَقبَل، وأقبل بوجهك الكريم علينا، وأنلنا المؤمَّل وفوق المؤمل، وتُب على عاصينا، وتقبَّل التوبة من تائبنا، واغفر لنا ما مضى وما هو حاضر وما يأتي.
يا حي يا قيوم، يا خير الغافرين: عجِّل بتفريج كروب الأمة، واكشِف الغمة، واجلِ الظلمة، وبارك في الوافدين لهذه الدورة في ختام هذا العام واستقبال العام الهجري السادس والأربعين بعد الأربع مائة والألف من هجرة هذا الحبيب الأمين، اجعله من أبرك الأعوام على أمته ظاهراً وباطناً، يا ذا الجلال والإكرام، اجعله عام الفرج للأمة، اجعله اللهم عام النصر للأمة، اجعله عام كشف الغمة عن الأمة، وكشف هذه الظلمات عن القلوب والعقول، وحُسن العودة إليك، ونزول النُّصرة منك والتأييد، ورَد كيد الكافرين والفاجرين عنَّا وعن جميع أهل الأرض.
يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، أصلح لنا شأننا كله، ولا تجعل فينا أحداً إلا وهو في جندك وأهل ودك، موفياً بعهدك، على ذاك نلقاك، نحب لقاءك وأنت تحب لقاءنا، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا رحمن يا رحيم، وأصلح الشأن كله، وادفع السوء وأهله، برحمتك يا أرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
21 ذو الحِجّة 1445