(236)
(536)
(575)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك ، في عمان، الأردن، ليلة الجمعة 10 جمادى الأولى 1445هـ بعنوان:
مقاصد وغايات مجامع الذكر والخير في جمع القلوب على موجبات الفوز بالمرافقة الكريمة
الحمدلله على عظيم إفضاله، وعلى جزيل نواله، وعلى لذيذ وصاله، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أرسل إلينا المصطفى، عبده المجتبى، وحبيبه المنتقى، وشفيعه المُبتغى، سيِّد أهل الأرض وسيِّد أهل السماء، فختمَ النبيين والمرسلين، وكان ﷺ الجَامِع لِمَا فيهم..
وقد أتانَا خَاتِمُ الرسالة ** بكُلِّ ما جاءوا به مِن حالَة
فعَمَّ كُلَّ الخَلْقِ بالدَّلالة ** وأَشْرَقَت مَنَاهِجُ الكَمَالِ
فكلّه فضلًا أتى ورحمة ** وكلُّه حُكم هُدىً وحكمة
وهو إمام كل ذي مهِمَّة ** وقدوة في سائر الخِصَالِ
صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سَارَ في دَربِهِ.
وبسرِّ دعوته، وبسرِّ عنايته، وبسرِّ هِمّته؛ دامت في أمته وبقيت هذه الخيرات، واجتمعتم في هذه الجموعات المحضورة المنظورة، التي هي في العالم الأعلى مذكورة، بشَوَاهِدِ ما أخبر ﷺ وهو الطُّهْرُ الأَطْهَر: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3].
شرَّفكم الحقّ -تبارك وتعالى- بأن جعلكم في أمته، وجعل بينكم وبينه عليه الصلاة والسلام حِبالَ اتصال، من أرباب الكمال، وأرباب الوصال والاتصال والإيصال، فضلًا من ذي الجلال -جَلَّ جلاله- تقضون به حياتكم القصيرة على ظهر هذه الأرض في استعدادٍ ليوم العَرْضِ، وفي تهيؤٍ للقاء الحبيب ﷺ، ولقاء رَكْب الأنبياء والمرسلين، والصدّيقين والشهداء والصالحين؛ للخلود في دار الكرامة ومستقر الرحمة.
وهذه الغايات التي يمتلئ بها قلب المؤمن بالحقِّ تعالى؛ على قدر إيمانه، وعلى قوة إيمانه، وعلى صدق إيمانه، وعلى حسب رسوخ إيمانه، وعلى حسب عُمقِ إيمانه في قلبه وفي فؤاده؛ تبقى عنده الرغبة، ويبقى عنده طلب هذه المرافقة للحبيب الأطيب ﷺ، والمرافقة للنبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين؛ غاية الغايات. وما نكتسبه في هذه الحياة الدنيا؛ إنما المراد أن يؤدي إلى هذه الغاية.
أمَّا ما قطَع عن هذه الغاية.. فهو البلاء، وهو الشِدَّة، وهو الظُّلْمَة، وهو الحجاب، وهو العذاب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. فالله يُبَارِك لنا ولكم في الأعمار؛ حتى نصرفها فيما يرفَع لنا به درجات في أسرار هذه المُرافَقَات، المُرافقات لزَيْنِ الوجود محمد ﷺ، ومَن في ذلك الرَّكْبِ من النبيين والصدّيقين والشُّهداء والصالحين، قال ربّ العالمين: (..وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].
فما أحسن مَن يُرافقهم، وما أطيب مَن يُرافقهم، وما أشرف مَن يُرافقهم، وما أكرم مَن يُرافقهم! قال رب العالمين: (..وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا). وإنما يُرافقهم مَن شابههم أيام الحياة الدنيا في: وجهتهم إلى الله، في أدبهم مع الله، في صدقهم مع الله، في اتباعهم للنبي محمد بن عبدالله ﷺ.
فيَا مُجتمعين في هذه المجامع الكريمة المباركة: اطلبوا جمعيَّة القلوب على الرَّبِّ -جَلَّ جلاله-؛ ليجمعكم عليه في هذه الحياة الدنيا.. وجهةً، وإيمانًا، ويقينًا، ومحبّةً، وشهودًا، وذَوْقًا، وقُربًا، ومعرفةً (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) [الجمعة:4].
تلكم المواهب التي يَتَحَصَّل عليها الأصفياء على ظهر هذه الأرض، فلا والله ما يساويها مُلك مُلوك، ولا يُساويها رئاسة رؤساء، ولا يُساويها مُلْكُ الأرض بما فيها من أيام آدم إلى أن تقوم الساعة.. ما يساوي لحظة من لحظات المرافقة لزين الوجود، حتى ولو كان بالإكرام بتلك المرافقة على ظهر هذه الأرض!
فما أسعد الصحب الأكرمين، ثم ما أسعد الأرواح الطاهرة في الأُمَّة التي تلتقي بالروح المصون، وتلتقي بالروح المُشَرَّف، تلتقي بالروح الأكرم الأشرف؛ تلتقي بذا الروح فتلتقي أرواحهم بروحه ﷺ؛ فهي حقيقة من حقائق المرافقة مُعَجَّلة لأرباب الشوق الصادق الذين ما تَحتَمِل أسرارهم تأخير اللقاء؛ فيُكرَمون بهذه اللقاءات في هذا العالم وفي هذه الدنيا، ثم يَعذُب ويَطِيب ويَكمُل ويَتِمّ من حين الغرغرة فما بعدها إلى ما هو أطيب وأذوق، وقال سيدنا بلال: "واطرباه! غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فانظروا كيف تحيَون، وانظروا كيف تعيشون.. والناس يخوضون في ذا وفي ذاك، ويتكلمون في ذا وفي ذاك، ويهتمون بذا وذاك! وأكثر ما يخوضون فيه وأكثر ما يهتمّون به وأكثر ما يتكلمون فيه: قواطع تقطعهم! وموانع تمنعهم! وظلمات تتكاثف على قلوبهم! والعياذ بالله تبارك وتعالى. "الدنيا ملعونةٌ وملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه".
ومن كان في صلة بالقرآن، وكان في صِلَةٍ بحبيب الرحمن المُنزَل عليه القرآن، وكان في صلةٍ بما خلَّف ﷺ؛ فيصير حتى طعامه وشرابه متصل بهذه الصِّلَة، ومنامه ويقظته كذلك. وإن سَمِع شيئا من أخبار المسلمين أو التفت إلى شيء منها: أحضَر النِّيَّة الصالحة، وشَهِدَ الفعّال الذي يُسَيِّر الكون بما فيه -جَلَّ جلاله- وأدّى ما خُوطِبَ به من قِبَل الحقِّ ورسوله؛ من واجب الرحمة، ومن واجب المودّة للمؤمنين، ومن واجب الفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم، ومن واجب الدعاء لهم، ومن واجب التضرّع لهم، ومن واجب مواساتهم بما قدر عليه، من مال أو من وِجهة أو من كلمة.. أو شيءٍ من ذلك.
وهذا الذي يجب أن يكون حالنا.. سواءً مع أهل غزّة، أكرمهم الله بالعِزَّة وكشف الله الضرّ عنهم، وأجرى لهم من ألطافه الخفيّة ما هو أهله، وأجرى لهم من ألطافه الخفيّة ما هي أهله. يكفي أن يَحمِل أحدهم "لا إله إلا الله" التي نورها يُطَبِّق ما بين السماء والأرض، وكيف ولابد أن يَمُدّ الله هذا بنيّة صالحة، ويمدّ الله هذا بمشهد عليّ كريم كبير، ويمدّ الله هذا بإرادة: "إعلاء كلمة الله" -جَلَّ جلاله-! فمثل هؤلاء هم جهادهم هذا الصافي، الذي لا شُبهة عليه بوجهٍ من الوجوه من هنا ومن هناك، إلا ما كان من وسوسة أرباب الأغراض وأرباب السياسات في هذه الدنيا، الذين غلب على نفوسهم إرادات سُفليّة، وإرادات أرضية.
وأمَّا مَن كان يريد وجه الله -تبارك وتعالى- فمَا أحسن ما يُسمَع من التكبير في أرجاء تلك النواحي، وما أحسن ما يُسمَع من التهليل في أرجاء تلك النواحي، وما أحسن ما يُسمَع من ذكر الجنَّة وذكر المرافقة للنبيين في أنحاء تلك النواحي، من شابٍّ ومن شَيْبَة ومن عجوز ومن طفل.. يُسمَع مثل هذا؛ هذه نعمة من نِعَمِ الله -تبارك وتعالى- على الأمة! سِرّها إذا اتّصلت من أسرار الوحي هذا بما يَجمَع القلوب على الله -تبارك وتعالى- فيُحَرِّك العواطف والمشاعر في قلوب المؤمنين.. التي سمعتم منها، وسمعتم فيها، وسمعتم عنها؛ ما تحرَّك لها أصحاب الإنسانيّة المُجَرَّدَة من غير دين الحق، ومن غير الموافقة في دين الإسلام. وهنا وهناك ضجّوا من هذا الظلم، وضجّوا من هذا الاعتداء، وضجّوا من هذا السّفك، والاستهانة، والاستخفاف بالدماء، وبالأجسام، وبالأموال، وبالديار، وبالمستشفيات، وبالمساجد.. إلى غير ذلك؛ مما يُبَيِّنُ وجه هذه الطوائف التي لا عَهْدَ عندها، ولا ميثاق لها، ولا إنسانية فيها، ولا رحمة فيها، ولا يحكمها قانون، ولا يحكمها دين، ولا يحكمها شرع، ولا يحكمها عقل، ولا تحكمها إنسانية؛ إلا مجرد أهواء، وإلا مجرد أغراض في شرار خلق الله -سبحانه وتعالى- (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)! [الجاثية:23].
فالله يُحيي حقائق الإسلام والإيمان فينا وفي المؤمنين، ويَرُدّ كيد هؤلاء الذين حقيقتهم تظهر في مثل هذه الأعمال.. مع كذب كبير على خلق الله، ومع قلب للحقائق، وإظهار للأمر على غير وجهه، ومع دعاوى طويلة عريضة.. بحقوق الإنسان، وبالعدل، وبالحرية! وما يقولونه من أقاويل ليس لها في واقع التصرفات وواقع الفعل ذرّة موجودة منها من قريب ولا من بعيد!
فليعقل العقلاء، وليعرفوا إن كان هناك مرجع لأهل الإسلام والدين فمنهج ربّهم -سبحانه وتعالى- وكتابه، وسُنّة رسوله، ولينظروا صُلحَاء أزمنتهم، وصُلحَاء أماكنهم وأقطارهم.. فليكُن الرجوع إليهم؛ فهذا ترتيب صحيح، وترتيب مَلِيح حسَن، وما أَوْدَى بالناس إلى أنواع هذا الهلاك إلا مرجعيّتهم إلا الهُلَّاك! رجع إلى الهُلّاك كثير من الشعوب، رجع إلى الهُلّاك كثير من الدول، رجع إلى الهُلّاك كثير من المؤسسات والهيئات.. صارت مرجعيتهم هالكين؛ فلابد أن يصيبهم أثر الهلاك! ولابد أن يصيبهم أثر الشر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ولا تجوز بحال من الأحوال موالاة كافر، ولا موالاة فاجر، ولا موالاة مُصِر على الذنب والمعصية، يقول سبحانه وتعالى في رعيلنا الأول: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات:7-8] جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وإلى مَن امتلأت بواطنهم بالخوف من الأسلحة وأسلحة الدمار الشامل: إنَّ أهل الدين والإيمان لا يُقاتلون الناس بعدَدٍ ولا عُدَّة؛ ولكن بهذا الدين، وهم على منهجِ ما أمر الله -سبحانه وتعالى- النبيّ في بنيّ إسرائيل أن يُغَرْبِل مَن عنده؛ ليَبْقَى معه الصادقون، وليبقى معه أرباب التمكين واليقين، فرجعت الألوف وبقي ثلاث مائة وبضعة عشر!
يقول سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ..) أي: جاوز النَّهر (..هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ..) قال أرباب اليقين فيهم: (..قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ..) قال سبحانه وتعالى: (..وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا..) المرجعيَّة هذه: (..قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ..) [البقرة:249-251] جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
ولقد أمر الله سيدنا موسى عليه السلام أن يدخل إلى الأرض المُقَدَّسة، فتخاذلَ القوم من الذين معه من المسلمين: (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا..) هذا منطق تَقَاعُس، منطق تَخَاذُل (..فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ..) [المائدة:22-23] وعلامة خوف الله: يَخرُج خوف غيره منك، يخرج خوف غيره من عقلك ومن فكرك ومن قلبك!
وما أُمِرنا به من إقامة الأسباب لا يَتناقض مع القيام بالأمر كما يحب الله -تبارك وتعالى- كيف! والسنة تُنادينا: "مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد".. "مَن قُتِل دون عرضه فهو شهيد" فكيف مَن يُقتَل بسُلُطَات الفجور، والكفر، والاغتصاب، والاحتلال، والإيذاء والمَكْر لأهل الله سبحانه وتعالى!
فبذلك كله يجب أن: ندعو الله يُحيي حقائق الجهاد في الأمة على وجهه المرضي، على وجهه الذي يرتضيه -سبحانه وتعالى- ؛ جهاد الصدق، وجهاد الإخلاص، وجهاد الإنابة إلى الحق -سبحانه وتعالى- الذي لا يُحَابى فيه صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير، ويُقصَد به وجه الله -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- و: "..لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا". ويَا فَوْزَ مَن أدرك هذه النِّيَّة ولو لحظة من حياته! "من مات ولم يغزُ ولم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتةً جاهلية" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ففي مجامعكم هذه اجمعوا قلوبكم على الله، وتضرّعوا إليه، أن يُغيث المسلمين، ويرحم المسلمين، وينصر المسلمين، ويخذل أعداء الدين حيثما كانوا.
قال الله في رعيلنا الأول: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) مَن هؤلاء الراشدون؟ هؤلاء الذين بتحبيب الإيمان وتزيينه في قلوبهم، وكراهة الكفر والفسوق والعصيان؛ خضعوا لأمر رسول الله ﷺ، وما حكّموا عقولهم، ولا حكَّموا آراءهم، ولا حكَّموا ما وصلوا إليه بأفكارهم، قال سبحانه وتعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ..) لو يمشي على آرائكم وعلى تخيُّلاتكم وتصوّراتكم، ويعطيكم الذي تريدون.. سيحصل العَنَت لكم، وتَحصُل المَشَقَّة لكم، وتَحصُل الآفات.. (..وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) فرشدتم؛ فنجوتم من العَنَت والمَشَقَّات في الدنيا وفي الآخرات.. عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
ويقول في القيام بالأمر سيدنا الصديق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يقول: "والله لو لم أجد إلا الشجر والحجر لقاتلتهم به". إذا لم أحصّل إلا الشجر والحجر لقاتلتهم به، أما أن أتخلَّف عن القتال.. فلا! أمَّا أن يَنقُص الدين وأنا حيّ فلا! رضي الله عنه وأرضاه، هذا الخليفة الأول لرسول الله ﷺ.وهكذا الغَيْرَة على دين الله، وهكذا تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى، وهكذا الرأفة بالمؤمنين وبالعباد الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. والله يجمع قلوبهم، والله يؤلف ذات بينهم، والله يرزقنا وإياهم الصدق والإخلاص، ويُعَجِّل بدفع البلايا عنَّا وعن الأُمَّة.
وكما سمعتم في كلمات عديدة: أنَّ الأُمَّة مُقبِلَة على انقسامهم إلى الفسطاطين المذكورَيْن في كلام سيِّد الكونين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط كُفر ونفاق لا إيمان فيه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وهكذا هكذا، فعسى لا يكون أحد مِنَّا، ولا من أهلينا، ولا من أولادنا، ولا من أصحابنا، ولا من طلابنا؛ إلَّا في فسطاط الإيمان الخالص، حائز لشريف الخصائص، ولا يَخذُل الله أحدا مِنَّا، لا يخذل أحدا مِنَّا ربنا تعالى صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8]، (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:194].
وهذا الأمر وغيره من الأمور من قبل ومن بعد، محتاجة إلى صبر كبير، ومحتاجة إلى إخلاص كبير، ومحتاجة إلى دوام في البذل والتضحية؛ حتى يأتي الفرج من الله -تبارك وتعالى- وكم حصل للأنبياء من قبلنا! (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ..) أي: الرسول منهم (..وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214] مهما استبعده الناس.. والحق لا يعجل لعجلة أحد، وهو الحليم الكريم القويّ القادر الذي لا يفوته شيء، وإنما قد يستعجل على الأمر مَن يخاف الفوات، وربّ الأرض والسماوات ما يخاف الفوات، ولكُلِّ شيء أجل، ولِكُلِّ شيء مقدار، ولكن في كل ظرف من الظروف علينا مهمات وواجبات، نُحسِن القيام بها، ونَكِل الأمر إليه سبحانه وتعالى. "واعلم أنَّ النَّصرَ مع الصبر، وأنَّ الفرج مع الكَرْبِ، وأنَّ مع العسر يُسراً" مِنَّة مِن مِنَنِ الله في سُنَّةٍ من سُنَنَه لا تَتَخَلَّف (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43] جَلَّ جلاله.
فالله يرزقنا حُسنَ الأدب، ويرفعنا عليَّ الرُّتَب، ويقبلكم في جمعكم هذا، ويقبل جميع مَن يُشاهدكم، وجميع مَن يسمعكم، وجميع مَن يَتَّصِل بكم، وجميع مَن يُحبكم من آل الدنيا ومن آل البرزخ، ويُعيد العوائد بالإفضال علينا، وعلى أهل الأرضين والسماوات وأهل الدنيا والبرزخ من أهل "لا إله إلا الله" أجمعين. اللهم اجعلها ساعات توبة، وساعات أَوْبَة، وساعات ارتقاء في الرُّتبَة، وساعات رفع للحجاب، وساعات فتح للأبواب، وساعات عطاء بغير حساب، وساعات جود من حضرتك مُنسَاب، يملأ لنا من القلوب السَّاحات والرّحاب، ونرقى به أعلى مراقي الاقتراب.
يا ربَّ الأرباب، يا كريم يا توَّاب.. افتح لنا الأبواب، وتولَّنا في الدنيا وفي المآب، فرّج كروب الأمة أجمعين، وادفع البلاء عنَّا وعن جميع المؤمنين، وحوِّل أحوالنا إلى أحسن الأحوال، وارزقنا الصدق في الوجهة إليك.
وأسباب البلايا على المؤمنين من الذنوب التي في البيوت، والذنوب التي في الأسواق، والذنوب التي في السيارات، والذنوب التي عبر أجهزة الجوالات.. وغيرها من هذه الأجهزة، تُبْ على المؤمنين منها يا توَّاب، تُبْ على المؤمنين منها يا توَّاب، أوقعتهم في مصائب كبيرة.. فَيَا كاشف البلايا والرَّزَايَا تُبْ عليهم من هذه الذنوب الخطيرة، وارزقهم بدلها الطاعة والإقبال.
اللهم قُطَّاع الصلاة من الأُمَّة اهدهم إلى إقامة الصلاة، مانعي الزكاة اهدهم إلى إيتاء الزكاة، العَقَقَة للآباء والأمهات رُدَّهم إلى البر بالآباء والأمهات، المقاطعون للأرحام رُدَّهم إلى صلة الأرحام، الهاجرون للقرآن رُدَّهم إلى تدبُّر القرآن، الذين أَلِفُوا ارتكاب الذنوب والمعاصي خَلِّصهم منها ورُدَّهم إليك مَرَدَّا جميلا، واقذف في قلوبهم الإنابة والخشية؛ حتى تنفتح لنا أبواب الفرج، وينفتح في الخير كل باب مُرتَج، ويرتفع جميع الضيق والحرج.
اللهم اكتب لنا القبول التام، وبلّغنا المرام وفوق المرام، وثَبِّتنا على الاستقامة مع مَن استقام، واجمعنا بأحبابنا في عليّ الدرجات، واجمعنا في الدنيا، واجمعنا في البرزخ، واجمعنا في القيامة، واجمعنا في دار الكرامة، واجمعنا في ساحة النظر إلى وجهك الكريم. هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، فزدنا زيادة، وأسعدنا بأعلى السعادة في الغيب والشهادة.. والحمد لله رب العالمين.
13 جمادى الأول 1445