(536)
(236)
(575)
الدرس السابع للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي ، في أوزبكستان - فجر الجمعة 24 شوال 1445هـ .
نص الدرس مكتوب:
"11 ـ وأما السمع فهو: صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل موجود على ما هو به على وجه الإحاطة تعلقاً يغاير تعلق العلم والبصر فليس تعلقه بالموجودات هو عين تعلق العلم بها كما هو معلوم فيما نشاهده من الخلق ضرورة ،نعم يجب أن نعلم أن علمه يستحيل عليه الخفاء بجميع الوجوه فليس الأمر كما نعهده من كون الوضوح بالبصر أكثر من الوضوح بالعلم لأن جميع صفاته تعالى تامة كاملة، مستحيل عليها الخفاء والنقص والزيادة، وإلا أشبهت صفات الحوادث فيلزم أن تكون حادثة ويلزم حدوثه، وذلك باطل كما تقدم بيانه. وقولنا تتعلق بكل موجود أي سواء كان قديماً أو حادثاً وسواء كان ذاتاً أو صفة فلا يختص سمعه تعالى بالأصوات .
وأما اختصاص سمعنا بها فإنما هو أمر عادي يجوز أن يتخلف كما وقع لحضرة نبينا محمد ﷺ الله فإنه سمع كلامه تعالى القديم ولا شك أنه ليس بصوت، وضده الصمم.
والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالسمع واستحالة ضده عليه عقلاً أن كل حي لابد أن يكون قابلاً لاتصَافه بأحدهما السمع وضده، واتصافه بضده نقص في حقه تعالى فيلزم اتصافه بالسمع لأنه كمال في حقه تعالى.
ونقلاً قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[الشورى:11] وقوله تعالى: (إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:46] وقَوله تعالى: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) [مريم :42] ونحو ذلك، وقوله ﷺ في الصحيح : "أربعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غائباً وإنما تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً" رواه البخاري. وقد انعقد إجماع العقلاء على وجود اتصافه تعالى بالسمع والبصر .
12 - وأما البصر فهو : صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل موجود على ما هو به تعلقاً غير تعلق العلم والسمع فهو تعالى يبصر جميع الموجودات قديمة كانت أو حادثة ذوات أو صفات، وضد العمى. ودليلها عقلاً ونقلاً ما تقدم في السمع فلا حاجة إلى إعادته .
13 - وأما الكلام فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات تعلق دلالة وقد سبق أنه تعالى مخالف للحوادث في ذاته وصفاته وأفعاله فليس كلامه تعالى بحرف ولا صوت ولا يوصف بتقديم ولا تأخير ولا يطرأ عليه سكوت ولا آفة تمنع منه كما في حال الطفولة والخرس، ولا غير ذلك من صفات الحوادث وإلا كان حادثاً كصفاتنا. وقد سبق وجوب قدم ذاته وصفاته تعالى .
واعلم أن كلامه تعالى صفة واحدة كسائر صفاته تعالى كما تقدم بيانه في الوحدانية إلا أنها تتنوع باعتبار تعلقاتها إلى أنواع لأنها إن تعلقت بطلب فعل الصلاة وإيتاء الزكاة مثلاً كانت أمراً كما في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43].
وإن تعلقت بطلت ترك الزنا، وقتل النفس بغير حق، والغيبة مثلاً كانت نهياً كما في قوله تعالى: (وَلاً تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء:32]، وقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحَقِّ) [الإسراء:33]، وقوله تعالى : (ولا يغتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [الحجرات:12].
وإن تعلقت بنحو أن موسى عليه السلام فعل كذا كانت خبراً كما في قوله تعالى : (فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) [الشعراء: 32] وإن تعلقت بأن الطائع له الجنة مثلاً كما في قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأرضُ أعِدَّتْ لِلْمُتقينَ) [آل عمران: 133] كانت وعداً، وإن تعلقت بأن العاصي له النار مثلاً كانت وعيداً كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ للكافِرِينَ) [آل عمران:131] إلى غير ذلك من الأنواع، وضده البكم؛ ودليله عقلاً أن البكم نقص يستحيل عليه تعالى إِتصافه به فلزم اتصافه بالكلام الذي هو صفة كمال له تعالى ونقلا قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تكليما) [النساء:146] وقد تواتر النقل عن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد انعقد إجماعهم وإجماع المسلمين جميعهم على أنه تعالى متكلم.
تنبیهان :
الأول: هذه الصفات السبع التي هي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام تسمى صفات معانٍ لأنها موجودة في نفسها بحيث لو أزيل عنا الحجاب لرأَيناها وقد تقدم أن صفة المعنى هي كل صفة موجودة في نفسها .
الثاني : قد علمت مما سبق أن الصفات المذكورة ليست في التعلق سواء، فالقُدرة والإرادة إنما تتعلقان بالممكن، الأولى على جهة التأثير والثانية على جهة التخصيص، والعلم والكلام يتعلقان بالوَاجبات والمستحيلات والجائزات الأول على وجه الإحاطة والانكشاف والثاني على وجه الدلالة والسمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات من الواجبات والجائزات على وجه الانكشاف، والحياة لا تتعلق بشيء فإنها لا تطلب أمراً زائداً على القيام بالذات .
وأما كونه تعالى قادراً ومريداً وعالماً وحياً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً، فهي صفات معنوية أي منسوبة إلى المعاني من حيث كون الاتصاف بها فرع الاتصاف بالمعاني في العقل في نفس الأمر فإن اتصاف الذات بكونه عالماً لا يصح إلا إذا قام به العلم وهكذا، وقد تقدم أن الصفة المعنوية هي كل صفة ثبوتية اعتبارية لازمة للمعنى، ثم إن أضداد هذه الصفات وأدلتها تؤخذ من صفات المعاني فلا نطيل بالإعادة .
وأما الجائز في حقه تعالى : ففعل كل ممكن أو تركه كخلق الذوات والصفات والأفعال الاضطرارية والاختيارية والرزق والإحياء والإماتة والهداية والإضلال والعقاب والإثابة وغير ذلك، فالعقاب بمحض عدله والثواب بمحض فضله تعالى، وترتيب الإثابة على الإيمان و الطاعة والعقاب على الكفر والعصيان بمحض اختياره تعالى، ولو عکس ذلك لكان صواباً وحسناً منه تعالى فلا يجب عليه سبحانه وتعالى فعل شيء من الممكنات، ولا يستحيل عليه تعالى شيء منها .
والدليل على ذلك عقلاً أنه لو وجب عليه تعالى فعل شيء من الممكنات لصار الممكن واجباً، ولو استحال عليه شيء منها لصار الممكن مستحيلاً، وهذا باطل كما لا يخفى .
ونقلاً قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلَقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68] ونحو ذلك وإلى هنا قد انتهى ما أردنا إيراده في هذا الباب من الأحكام وقد اتضح لك منه أن الله سبحانه وتعالى واجب له الوجود أزلاً وأبداً، وأنه غني عن كل ما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه ولا شريك له ولا تأثير لغيره من الإنس والجن والملائكة وغيرهم في شيء ما، منزه عن كل ما أشعر بنقص من مرض أو سقم أو عِيٍّ أو ذهول أو نعاس أو فتور أو احتياج لمعين أو مدبر أو صاحبة أو ولد أو عرش أو كرسي أو قلم أو دفتر أو جند أو كاتب أو حاسب، بل كل المخلوقات قهر عظمته ممسكة بقدرته يدبر كل شيء، ويعلم كل شيء ولا يشغله شيء عن شيء، كان الله ولا شيء معه ولا يزال على ما هو عليه، لا يتحول ولا يتبدل ولا يتغير بحال (إنما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبحان الذي بيده مَلكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْه ترْجَعُونَ) [يس:82-83] .
فعليك يا أخي أن تعرف كل ما ذكرناه وقَررناه لتَكون من المفلحين الفائزين بالسعادة الأبدية، وإياك والمخالفة في شيء من ذلك وإلا كنت من الهالكين الضالين المضلين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبيل الرشاد، وأن يوفقنا لما فيه رضاه لنكون من الفائزين يوم التناد، وأن يدخلنا الجنة في زمرة عباده المقربين الذين (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَتَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمدُ الله رَبِّ الْعَالمين) [يونس :10] وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم"
الحمدلله جامعنا على الخيرات ومواطن الخيرات ومع أهل الإسلام والإيمان للتذاكر فيما أوجب علينا الذكُّر فيه، والقيام بحقهِ ممّا بلّغهُ على لسان عبده المصطفى محمد ـصلى الله عليه وآله- في معرفتنا بصفاته سبحانه وتعالى، واعتقادنا ما يجب له سبحانه وتعالى- وما يستحيل في حقه -جلّ جلاله وتعالى في علاه، فنسأله أن يزيدنا بذلك إيمانا ويقينا، ونسأله أن يحفظنا من كل سوء في الدارين وأن يسلمنا ويقينا، ونسأله أن يصلح أحوالنا وأحوال الأمة ويعاملنا بمحض الجود والرحمة.
وقد حدثنا الشيخ عليه رحمة الله من صفات الرحمن -جل جلاله-ّ المذكورة في كتابه العزيز على الصفات الذاتية -صفة الوجود- والصفات التي تسلب وتنفي عنه ما لا يليق بجلاله وهي: صفة القدم والبقاء ومخالفته للخلق والحوادث كلها سبحانه وتعالى وغناه عن كل شيء وقيامه بنفسه، وحدّثنا بعد ذلك عن الحياة وعن القدرة وعن العلم.
ويحدثنا الآن عن السمع وعن البصر، فسبحان مولانا السميع البصير. ونعلم أن كل صفة من هذه الأوصاف، إذا سمعناها واعتقدناها، علمْنا أنها الصفة اللائقة بالله تبارك وتعالى وأن ما يقابل ذلك من صفات المخلوقين فهي صفات ناقصة حادثة قابلة للزوال محدودة محصورة، أما بالنسبة للحق تبارك وتعالى: فإن المعنى فيها لا يكون إلا ما هو لائقٌ بجلاله وما هو لائقٌ بكماله سبحانه وتعالى.
فحقيقة السمع التي يقول عنها الشيخ:
"11 ـ وأما السمع فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل موجود على ما هو به على وجه الإحاطة تعلقاً يغاير تعلق السمع والبصر فليس تعلقه بالموجودات هو عين تعلق العلم بها كما هو معلوم فيما نشاهده من الخلق ضرورة، نعم يجب أن نعلم أن علمه يستحيل عليه الخفاء بجميع الوجوه فليس الأمر كما نعهده من كون الوضوح بالبصر أكثر من الوضوح بالعلم لأن جميع صفاته تعالى تامة كاملة، مستحيل عليها الخفاء والنقص والزيادة، وإلا أشبهت صفات الحوادث فيلزم أن تكون حادثة ويلزم حدوثه، وذلك باطل كما تقدم بيانه.
وقولنا تتعلق بكل موجود أي سواء كان قديماً أو حادثاً وسواء كان ذاتاً أو صفة فلا يختص سمعه تعالى بالأصوات، أمَّا اختصاص سمعنا بها فإنما هو أمر عادي يجوز أن يَتخلّفه كما وقع لحضرة نبينا محمد ﷺ فإنه سمع كلامه تعالى القديم ولا شك أنه ليس بصوت، وضده الصمم" وذلك مستحيل على الحق جل جلاله وتعالى في علاه .
وهنا نعلم أن مظاهر الكمال أيضا السمع والبصر، ولكن السمع إذا أُضيف إلى الخلق فهو الذي يتعلق بالحاسة التي تتبين لهم بها الأصوات وسماعهم فيها مختلف، وهو حادث لهم، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ…) [الملك:23] - جل جلاله وتعالى في علاه- (قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [الملك:23].
ثم مع كونه حادث هو أيضا محصور ولا يسمع كل شيء وهو بالأصوات وفي الأصوات محصور. فما خفي من الأصوات لا يسمعه ولو كان بقربه وما بعد، ولو كان كبيرا لا يسمعه فهذه صفة السمع للمخلوقين لاعلاقة لها بصفة السمع بالخالق ولا مشابهة ولا مقاربة ولا مماثلة فجلَّ الله تبارك الله.
ولكن السمع؛ الصفة القائمة بذات ربنا -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- اطِّلاعٌ منه سبحانه وتعالى بهذه الصفة على الموجودات.
على الموجودات: لا يتعلق بمجرد الأصوات، فهو يسمع الصفات ويسمع الخواطر ووقوعها في القلوب، ويسمع طيران الطير في الهواء، ويسمع رفع النملة لرجلها ووضعها على الأرض؛ وهذه لا أصوات لها، ولو قرَّبت سمعك البشري المخلوق إلى جنب النملة، لن تسمع شيء، أنت أصلا ولم تحس بشيء، ولكن أنت سمعك صغير وسمعك متعلق بالأصوات ويختلف من هذا إلى هذا، وهذا سمعه أقوى من هذا، وهذا لا يسمع إلا بواسطة السمَّاعة التي يقرّرها له الطبيب برقم معين، وأحيانا تختلف عليه وأحيانا يحتاج إلى تغيير هذا الرقم؛ هذه كلها صفات سمْع المخلوقات وإن كانت بالنسبة لهم كمال لكنه كمال خلقي.
لكن نحن نتكلم عن الكمال المطلق هذا في سمع الله وهذا سبحانه وتعالى ليس في سمع شيء سواه، وإنما صفة الكمال هذه عند الخلق تختلف بدرجات في هذا السماع، ومن أجلِّ السماع؛ ما كان سماعا للحق ومتصلا بالإذعان والخضوع له والعمل بمقتضاه،
وبذلك أيضا يتحدَّث الناس بينهم البين عن سمع معنوي لا يريدون به هذا السماع الحسي فيقول: كلمتُ فلان وأمرته لكن لم يسمع كلامي، وليس مقصوده أنه لم يسمع صوت، وليس مقصوده أنه لم يصل الصوت إليه بواسطة الحاسة إلى أذنه، إلى ذهنه، وأنه علم ما يقول ولكنه؛ لم يكن مقبلا ولا محبا ولا راغبا ولا ممتثلا فقال: ما يسمع الكلام، هذا فلان لا يسمع الكلام، فنذهب به عند طبيب لا لا لا ما يحتاج طبيب! هو يسمع ربما سمعه أقوى من صوت المتكلم الحسي هذا الذي يقول ؛ لكن ما يسمع الكلام، أي لايطبِّق الذي يؤمر به، ما ينفِّذ الذي يلقى إليه فلا يسمع؛ هذا سماع معنوي أيضا مع الخلق هو عنده منسوب للخلق وهو معنوي لا يتعلق بالصوت.
فكيف بسماع الحق -جل جلاله وتعالى في علاه- فهو: صفة معنوية قائمة بذاته -تبارك الله- تنكشف له بها جميع الموجودات، وهذه الانكشافات التي وردت بها النصوص؛ من علِم وسمع وبصر، كل واحدة منها يتعلق بشؤون في الاطلاع ليست كتعلق شؤون الخلق:
الزيادة والنقص صفة الحوادث، صفة الكائنات، علْمه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، سمعه محيط بكل شيء؛ لا هذا يزيد هذا ولا هذا يزيد هذا، ولا هذا ينقص هذا ولا هذا ينقص هذا. بل أوصاف كمال لائقة بذات الجلال والكبير المتعال سبحانه وتعالى، وردتْ لنا بها النصوص نوقن بها أنها ثابتة له سبحانه وتعالى وأنه ينكشف له بها جميع الأشياء من غير سبق خفاء.
وهذا السماع الذي يمثِّله العلماء؛ أن لو وضعنا نملة سوداء وسط صخرة صماء ثم غصنا بها إلى أعماق البحر وجاءت ظلمة الليل؛ فإن الرحمن الخالق يراها ويرى عروقها ويسمع دبيبها سبحانه وتعالى. فهذا السمع والبصر فيما يتعلَّّق بذات الحق الأكبر -جل جلاله- فنعم السميع البصير، والسمع له والبصر له، وأينما أبرز لنا في عالم الخلق مظاهر كمال في السمع والبصر، ومنهم الأعمى الذي لا يبصر ومنهم الأصم الذي لا يسمع، ومنهم ضعيف السمع ومنهم قوي السمع، ومنهم صاحب هذا الشرف الذي يسمع الحق.
وكذلك نفى الحق هذا السماع المعنوي عن القوم المُعْرضين قال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا) [الأعراف:179] في أمثال هؤلاء المشركين الذين كذَّبوا رسول الله، هل كان في أسماعهم الحسية شيء؟ ما كان في أسماعهم الحسية شيء، وربما كان مُرهف السمع -حاد السمع-، وهل كان في أبصارهم شيء؟ كانوا ينظرون اليه ويرونه، ربما نظرهم الحسي قوي جدا، ولكن (لَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا) [الأعراف:179].
يعني،، يشير الحق الى أن المهمة الكبيرة لما أُعطي المكلفين من الاسماع والابصار ان تدلُّهم على المعاني والحقائق وان يتوصَّلوا بها من الظاهر والجسمانيات الى الارواح والمعنويات، فاذا لم يستعملوها ولم يصلوا بها الى هذا الكمال فكأنهم لم يسمعوا، وكأنهم لم يبصروا فحينئذ (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف:179] والعياذ بالله- (أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). وهكذا:
ولم يزل الأمر كذلك في الرُّقي الى أن ناتي الى سماع الأنبياء، وناتي الى سماع سيدهم فهو أعلى الكمالات فيما يتعلق بالسمع الموهوب للكائنات والمخلوقات، سمع المصطفى محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وبذلك اسمعه الله ما لم يسمع غيره -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وكان من مجْلى ذلك وأظهره في ليلة الاسراء والمعراج، فاسمعه ما لم يُسمع سيدنا الامين جبريل وما لم يُسمع بقية الكائنات الاخرى كلها؛
فسمعتَ ما لا يستطاع سماعه *** وعقلتَ ما عنه الورى قد ناموا
من حضرة عُلوية قدسية *** قد واجهتك تحية وســـلام
ودنوتَ منه دنوّ حق أمره *** فينا على أفكارنا الإبهـــــــام
ما للعقول تصوُّر لحقيقتــة *** يأتيك منها الوحي والإلهام
وبلغتَ -أو أدنى- وتلك مزيـــة *** عظمى واسرار الحبيب عظام
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ) [النجم: 8-9] أو أي (بل أدنى) (أَوْ أَدْنَىٰ) (أو) تأتي في القرآن في مواضع متعددة بمعنى (بل)، (بل ادنى) مثل: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات:147]. (أو) التنويع ولا شك؛ يعني (بل يزيدون) هم أكثر بقليل من المئة الألف، وهكذا (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح:16] بمعنى "حتى يُسْلِمُونَ" في المعاني التي تأتي لـ (أو) المتعددة كما يذكر ذلك علماء اللغة.
وبلغتَ (أَوْ أَدْنَىٰ) فهو -ﷺ- صاحب السمع الذي حُدِّث عنه بأنه يسمع صرير القلم، وفي حديث معراجه: "وبلغتُ إلى مستوى أسمع فيه صريف الأقلام تخطُّ في اللوح المحفوظ"، وهذه أيضا أمور كلها عظيمة ومعنوية وكبيرة وجليلة، خُصَّ بسمعها زين الوجود محمد ﷺ، وبذلك أيضا اتسع المجال في كماله عليه الصلاة والسلام، فأنواع الكمالات التي وهبها الله للكائنات جمعها لخير البريات ﷺ.
وكذلك سيدنا موسى عليه السلام سمع كلام الحق، وكلام الحق من غير شك؛ يعني صفة الحق، ليست بصوت ولا بحرف، وما الى ذلك، صفة كلام الخلق.
ومع ذلك فللخلق أيضا في عالمهم الخلقي تعبير عن الكلام، أحيانا بمجرد إشارة أو بكتابة من دون لفظ صوت وما إلى ذلك، يصل به المقصود من الكلام.
كذلك بالنسبة للحق -جلَّ جلاله- فرقٌ بين قراءتنا لكلامه وبين صفته الكلامية، حتى لا يختلط الأمر؛ فأما قراءتنا لكلامه؛ قراءتنا حادثة ونحن حادثون ونقرأه بأحرف وبأصوات وبلغة، لكن صفته تعالى جلَّت عن اللغات وعن الأصوات وعن الحدوث فيؤدى المعنى لكلام الحق -سبحانه وتعالى- للخلق بما يستطيعون، وما يستطيعون إلا أن يؤدى لهم بواسطة الملَك، بواسطة النبي؛ بصوت، بحرف، بلغات يعلمونها (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم:4]. وكيف يستطيعون أن يسمعوا كلام الله جلّ جلاله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) [الشورى:51].
ففرق: إذا قلنا القرآن كلام الله، إذا عنينا به الصفة القائمة بذاته؛ فهذا معناه أمر لا صوت ولا حرف ولا عربية ولا عجمية ولا أي شيء من اللغات، وهو صفة قديمة قائمة بذات الله، أوحى إلى الأنبياء بألسنتهم ولغاتهم ولغات قومهم، معاني كلامه القديم -جلَّ جلاله- فاكتسبت هذه المعاني التي تُؤدى بالحروف ويُعبر عنها بالألفاظ واللغات، اكتسبت شرفاً لكونها ترجمة لهذا المعنى ونُسبت إليه من هذه الحيثية كما ننسب لبيت الله ونقول كعبة الله، ومسجد بيت الله، ننسب من حيث تشرُّفهُ بالمكانة عند الله تعالى وأنه محل عبادته ومحل نظره نسبناه إليه، ما هو معنى بيت الله أنه سكن فيه، حاشا الله جلَّ الله تبارك وتعالى عن ذلك، فكذلك قلنا كلام الله لهذا القرآن، فهو كلامه.
وكلامه من حيث الوصف له هو القديم الأزلي الذي ليس بحرف وليس بصوت وليس بلُغةٍ، ومن حيث أداؤه بتبليغ جبريل له، إلى نبينا فهو بلسان عربي مبين، واختار الله هذا اللسان العربي لسيدنا المصطفى محمد ليبلِّغ به رسالة الله للعالمين، ولم يُرسل للعرب وحدهم ولم يُرسَل لخصوص العرب والعجم بل لهم جميعا وللجن معهم. َ
فهو مرسل للعالمين وللناس كافة ﷺ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]، ولذلك:
خُصَّ القرآن بعد ذلك أن نفس هذه الألفاظ، تُحُدي بها عالم الخلق فلا يستطيعون أن يأتوا بمثلها ولو بمثل سورة واحدة، فاكتسبتْ من النور والجلال والبهاء، وتولِّي الله لحفظها ما تميَّز به القرآن عن جميع الكتب المنزلة، وكلها معظَّمة وجليلة حتى جعله الله تعالى مهيمنًا على الكتب: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة:48].
فالحَمد لله الذي أكرمنا بالقرآن وأبقاه فينا، والله يرزقنا حسن استماعه والعمل بما فيه.
قال:"والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالسمع واستحالة ضده عليه عقلاً أن كل حي لابد أن يكون قابلاً لاتصَافه بأحدهما السمع وضده، واتصافه بضده نقص في حقه تعالى فيلزم اتصافه بالسمع لأنه كمال في حقه تعالى. وهو ربُّ الكلام جلَّ جلاله، ونقلاً قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[الشورى:11]". وقال تعالى لموسى وهارون: "(إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه:46]".
وقال تعالى على لسان إبراهيم لأبيه: "(لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ)[مريم :42]" يعني فأدعُ الذي سمْعه أحاط بكل شيء وبصره أحاط بكل شيء، وهو أولى أن تعبده، هذا لا يسمع ولا يبصر -صنم أمامك- ما الذي يذهبك إليه؟ وكيف تنتقيه وتنتخبه وتقدمه على عبادة السميع البصير؟! لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟
"وقال ﷺ "أربعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ.." يعني ارفقوا بها "فَإِنكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غائباً وإنما تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً" وفي رواية (سميعًا قريبًا)، "وقد انعقد إجماع العقلاء على وجود اتصافه تعالى بالسمع، كذلك البصر".
"12 - وأما البصر فهو : صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل موجود على ما هو به تعلقاً غير تعلق العلم والسمع فهو تعالى يبصر جميع الموجودات قديمة كانت أو حادثة ذوات أو صفات، وضده العمى، وهو مستحيل ودليلها عقلاً ونقلاً ما تقدم في السمع فلا حاجة إلى إعادته"
فسبحان السميع البصير؛ وبصره لا يتعلَّق بنور ولا بظلمة، يستوي النور والظلمة، يستوي القريب والبعيد، يستوي الصغير والكبير، يستوي فيه جميع الكائنات؛ فيُبصر سبحانه الصور ويبصر المعاني، ويبصر الأشياء كلها، يبصر ما في قلبك، ويبصر ما في ضميرك ويبصر تواضعك، ويبصر كِبرك من دون أن يظهر عليك شيء من أثر الكِبر، يرى الكِبر الذي في قلبك ، يرى التواضع الذي في قلبك، يبصر الإخلاص ويبصر الرياء ﷻ .
فبصره عام لكل الموجودات من غير سابقة خفاء، وهو يبصرها قبل أن تكون، وحين أن تكون وبعد أن تزول، بصرا واحدا لا يختلف، فهذا شأن الألوهية؛ بصرُ الرحمن -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
وجعل الله لنا أيضا في عالم الخلق بصائر من وراء البصر ندرك بها بعض المعنويات، هذا الحال للبصائر يتحوَّل في القيامة إلى نفس البصر، كما أنه -في عالم الدنيا- بالنسبة للمقربين والنبيين تخرق أنوار بصائرهم أبصارهم، فقد يشاهدون معنويات وأمور غيبيات بالبصر، وهو شأن البصيرة، شأن القلب،
كما يقول سيدنا عثمان للذي دخل عليه فقال: "أيدخل أحدكم علينا وعلى عينيه أثر الزنا"، لاشيء يُرى في عينه، هو الرجل كان يمرُّ في الشارع فوجد امرأة فتأمل محاسنها، وجاء يدخل المسجد، سيدنا عثمان يلتفت إليه: " أيدخل أحدكم علينا وعلى عينيه أثر الزنا؟ تب وإلا عزّرتك" وخاف الرجل قال: ما هذا؟ أوحيٌ بعد الرسول؟ قال: "لا، ولكن فراسة صادقة، سمعتُ النبي يقول: اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله"، فهذا سيدنا عثمان بن عفان.
ولهذا أيضا ما يُذكر عن سيدنا الخليل إبراهيم في قوله: (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ) [البقرة:260]، قال هو بالبصيرة يشاهد عظمة إحياء الموتى فأراد في مرتبة حق اليقين أن يخرق نور البصيرة بصره؛ ليشاهد هذا الأمر المعنوي في إحياء الموتى بالبصر، مقام كبير، قال فيه: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة:260]، فقال له الله: خذ هذا الإذن منا بأن نجعلك أنت تحيي بإذننا الموتى: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ … ثُمَّ ادْعُهُنَّ) -أنت بنفسك- (يَأْتِينَكَ) [البقرة:260]، سيدنا الخليل هو الذي دعاهنّ، وهنّ الذَين جئن إليه بإذن الله سبحانه وتعالى كما قال سيدنا عيسى: (وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ) [آل عمران:49] -جلَّ جلاله- وقال له ربه: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي) [المائدة:110] جلَّ جلاله وتعالى فعله.
فهذا غاية ما ينكشف في الدنيا أن كثيرا مما يتعلق بالبصيرة، ينخرق له البصر فيصير في بصرهِ يشاهد ماتشاهد البصيرة، وهذا الرجل يستوي نومه ويقظته، كما أن النائم عندنا يرى بالبصيرة أشياء كثيرة، حتى يمكن أن يسافر إلى أماكن كثيرة وهو في لحظات، مدة ما يرى، ويشاهد أشياء ويسمع أصوات ببصيرته وهو نائم، في خلال دقائق ويعَدِّي الشهر والشهرين في الرؤيا -في النوم- وسنة وسنتين، لا سنة وسنتين، كله في لحظات، ولكن يشاهده بالبصيرة؛ واحدة بعد الثانية وكلام طويل عريض سمِعه، ما يسعه مدة نومه كله من حين ما نام، ولكنه انطوى له في بصيرته، فإذا تنوَّرت البصيرة وقوي نورها وخرقت البصر، فهؤلاء يرون في يقظتهم مايراه النائم في نومه ويشاهدون ذلك والكل بإراءة الله لهم وإبصاره لهم، وقد وصف ربنا نبيُّه ﷺ (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) التفسير (إنّه) يعود الضمير على الحق تعالى ويعود الضمير على الحبيب ﷺ: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1] قال الله في عموم الإنسان: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الإنسان2] وفي هذا المقام الأسنى قال: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]، فسمِع ما لا يسمع غيره، وأبصر ما لا يبصر غيره -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"13- قال: وأما الكلام فهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات تعلق دلالة وقد سبق أنه تعالى مخالف للحوادث في ذاته وصفاته وأفعاله فليس كلامه تعالى بحرف ولا صوت ولا يوصف بتقديم ولا تأخير ولا يطرأ عليه سكوت ولا آفة"
لكن وصوله إلينا يكون مُحدَث، (ما يأتي من ذكر من ربهم) مُحْدث في الوصول إلينا، إطِّلاعنا عليه، كشف الحجاب بيننا وبينه حتى نرى هذا المعنى وندركه، هذا حادث، وأما نفس الصفة القائمة فلا لها في الحدوث شيء، حاشاه أن يتعلّق به الحوادث ﷻ
"قال: ولا آفة تمنع منه كما في حال الطفولة والخرس عند الإنسان، ولا غير ذلك من صفات الحوادث وإلا كان حادثاً كصفاتنا. وقد سبق وجوب قِدم ذاته وصفاته تعالى .
واعلم أن كلامه تعالى صفة واحدة كسائر صفاته تعالى كما تقدم بيانه في الوحدانية إلا أنها تتنوع باعتبار تعلقاتها إلى أنواع لأنها:
- إن تعلقت بطلب فعل الصلاة وإيتاء الزكاة مثلاً كانت أمراً كما في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43].
- وإن تعلقت بطلب ترك الزنا، وقتل النفس بغير حق، والغيبة مثلاً كانت نهياً كما في قوله تعالى: (وَلاً تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء : 32]، وقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحَقِّ) [الإسراء: 33]، وقوله تعالى : (ولا يغتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [الحجرات : 12] .
- وإن تعلقت بنحو أن موسى عليه السلام فعل كذا كانت خبراً كما في قوله تعالى: (فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) [الشعراء: 32] وإن تعلقت بأن الطائع له الجنة مثلاً كما في قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأرضُ أعِدَّتْ لِلْمُتقينَ) [آل عمران: 133] كانت وعداً،
- وإن تعلقت بأن العاصي له النار مثلاً كانت وعيداً كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ للكافِرِينَ) [آل عمران:131] إلى غير ذلك من الأنواع".
فكله في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ الأمر والنهي والخبر والوعد والوعيد إلى غير ذلك من الخطاب الرباني في القرآن الكريم.
"وضده البَكم؛ ودليله عقلاً أن البكم نقص يستحيل عليه تعالى إِتصافه به فلزم اتصافه بالكلام الذي هو صفة كمال له تعالى ونقلا قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تكليما)[النساء:146] وقد تواتر النقل عن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد انعقد إجماعهم وإجماع المسلمين جميعهم على أنه تعالى متكلم".
ثم نبَّه تنبيهان نذكر أحدهما، يقول:
"الأول: هذه الصفات السبع التي هي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام تسمى صفات معانٍ لأنها موجودة في نفسها بحيث لو أزيل عنا الحجاب لرأَيناها وقد تقدم أن صفة المعنى هي كل صفة موجودة في نفسها".
يتعلق بهذه الصفات المعنوية كونه تعالى حيا، كونه سميعا، كونه بصيرا، كونه متكلما، كونه قادرا هكذا.
"الثاني: قد علمت مما سبق أن الصفات المذكورة ليست في التعلق سواء،
- فالقُدرة والإرادة إنما تتعلقان بالممكن، الأولى على جهة التأثير والثانية على جهة التخصيص، فالقدرة يحصل بها التأثير والإرادة يحصل بها التخصيص
- والعلم والكلام يتعلقان بالوَاجبات والمستحيلات والجائزات الأول على وجه الإحاطة والانكشاف والثاني على وجه الدلالة
- والسمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات من الواجبات والجائزات على وجه الانكشاف،
- والحياة لا تتعلق بشيء فإنها لا تطلب أمراً زائداً على القيام بالذات،
وأما كونه تعالى قادراً ومريداً وعالماً وحياً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً، فهي صفات معنوية أي منسوبة إلى المعاني من حيث كون الاتصاف بها فرع الاتصاف بالمعاني في العقل في نفس الأمر فإن اتصاف الذات بكونه عالماً لا يصح إلا إذا قام به العلم وهكذا، وقد تقدم أن الصفة المعنوية هي كل صفة ثبوتية اعتبارية لازمة للمعنى، ثم إن أضداد هذه الصفات وأدلتها تؤخذ من صفات المعاني فلا نطيل بالإعادة".
هذا ما يتعلق بالحق تبارك وتعالى من الصفات الواجبة والمستحيلة، فما بقي إلا صفة واحدة وهي صفة الجائز: ما الذي يجوز في حقه تبارك وتعالى وبه يختم باب صفات الحق لينتقل إلى النبوات.
فالجائز يقول: "وأما الجائز في حقه تعالى : ففعل كل ممكن أو تركه؛ كخلق الذوات والصفات والأفعال الاضطرارية" يعني تدبيره للكائنات والحادثات، يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء ويفني ما يشاء ويبقي ما يشاء ويقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويعزّ ما يشاء ويذل ما يشاء ويرفع ما يشاء ويخفض ما يشاء ويقرب ما يشاء ويبعد ما يشاء ويسعد ما يشاء ويشقي سبحانه ما يشاء وما إلى ذلك؛ هذه كلها أمور جائزة في حقه لا يجب عليه حق لأحد ولا يجب عليه فعل شيء بل هو الفعال لما يريد -جل جلاله وتعالى في علاه- فعل كل ممكن أو تركه له الحق، له الأمر، له الخلق وله الأمر -جل جلاله وتعالى في علاه-.
قال: "كخلق الذوات والصفات" هو المريد فيها وهي جائزة أن يخلقك أو لا يخلقك، ثم أنه بإرادته عيَّن خلقك وبقدرته خلقك، فله الحمد وله المنة وأصلنا عدم ولا شيء أذل من العدم، فأخرجنا إلى الوجود -جلّ جلاله- ليختبرنا، فكن من خير مُختَبر.
قال:
"والأفعال الاضطرارية والاختيارية والرزق والإحياء والإماتة والهداية والإضلال والعقاب والإثابة وغير ذلك، فالعقاب بمحض عدله والثواب بمحض فضله تعالى. وترتيب الإثابة على الإيمان و الطاعة، والعقاب على الكفر والعصيان بمحض اختياره سبحانه وتعالى، ولو عکس ذلك لكان بالنسبة لفعله صواباً وحسناً منه تعالى؛ فلا يجب عليه سبحانه وتعالى فعل شيء من الممكنات، ولا يستحيل عليه تعالى شيء منها".
وقال:
"ولا يستحيل عليه تعالى شيء منها، والدليل على ذلك عقلاً أنه لو وجب عليه تعالى فعل شيء من الممكنات لصار الممكن واجباً، ولو استحال عليه شيء منها لصار الممكن مستحيلاً، وهذا باطل كما لا يخفى".
قال:
"قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلَقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68] ونحو ذلك وإلى هنا قد انتهى ما أردنا إيراده في هذا الباب من الأحكام وقد اتضح لك منه أن الله سبحانه وتعالى واجب له الوجود أزلاً وأبداً، وأنه غني عن كل ما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه ولا شريك له ولا تأثير لغيره من الإنس والجن والملائكة وغيرهم في شيء ما" منزه من حيث السببية فقط "منزه عن كل ما أشعر بنقص من مرض أو سقم أو عِيٍّ أو ذهول أو نعاس أو فتور أو احتياج لمعين أو مدبر أو صاحبة أو ولد أو عرش أو كرسي أو قلم أو دفتر أو جند أو كاتب أو حاسب، بل كل المخلوقات قهر عظمته ممسكة بقدرته يدبر كل شيء، ويعلم كل شيء ولا يشغله شيء عن شيء، كان الله ولا شيء معه ولا يزال على ما هو عليه، لا يتحول ولا يتبدل ولا يتغير بحال (إنما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبحان الذي بيده مَلكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْه ترْجَعُونَ) [يس:82-83]، فعليك يا أخي أن تعرف كل ما ذكرناه وقَررناه لتَكون من المفلحين الفائزين بالسعادة الأبدية، وإياك والمخالفة في شيء من ذلك وإلا كنت من الهالكين الضالين المضلين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبيل الرشاد، وأن يوفقنا لما فيه رضاه لنكون من الفائزين يوم التناد، وأن يدخلنا الجنة في زمرة عباده المقربين الذين (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَتَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمدُ الله رَبِّ الْعَالمين) [يونس :10] وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
وجزى الله المؤلف خير ورزقنا كمال الإيمان والتعظيم والإجلال لهذا الإله وزادنا بذلك معرفة وزادنا بذلك يقينا ورزقنا التمكين في علم اليقين وفي عين اليقين ورحم من رحم منا وأكرمه بالوصول إلى مراتب أهل حق اليقين.
اللهم هب لنا هذه المواهب في هذه الحياة الدنيا حتى ننال أعلى حقائق السعادة في الممات وفي المحيا، وندرك سر المرافقة لأحياء خلقك وأبصر خلقك وأسمع خلقك وأحب خلقك إليك وأكرمهم عليك سيدنا المصطفى محمد، بما بينك وبينه لا تفرق بيننا وبينه، اللهم بسر ما بينك وبينه لا تفرق بيننا وبينه واجعلنا منه على بال في كل حين وحال، ويكتب اللهم سرور قلبه وقرة عينه بما يجريه لنا وعلى أيدينا، وهذه المجامع اجعلها اللهم قرة له وقرة لعينه ﷺ وسرورا لروحه الطاهرة.
اللهم ارفعنا بمراتب قربك الفاخرة، وزدنا بك إيمانا ويقينا، وتولنا بما أنت أهله ظاهرا وباطنا في الدنيا والبرزخ والآخرة، واجعلنا من أهل الوجوه الناضرة التي إليك ناظرة، وأعلِ درجات المتقدمين في هذا المسجد؛ الأربعة ممن سُمي بأبي بكر ومن بينهم ومن قبلهم ومن بعدهم من أرباب المعرفة واليقين والتمكين وجميع المتقدمين في هذا المسجد من أهل لا إله إلا الله.
وأصلح اللهم أحوال البلد وأهلها، ووفق اللهم رئيس الدولة للإستقامة والخير الكثير وألهمهُ الرشد في القول والفعل والحركة والسكون، وادفع عنه وعنا وعن المسلمين أعدائك، أعداء الدين وجميع المفسدين والضالين والمجرمين، واجعلنا فيمن ترعاهم عين عنايتك في كل شان وحال وحين، فلا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، واغفر اللهم لوالدينا ومشايخنا والمتقدمين في هذه البلدة من أرباب اليقين والتمكين، وخص اللهم عبدك القثم بن العباس، عبدالله بن العباس والفضل بن العباس وأبيهم العباس وعمهم حمزة بن عبد المطلب وذرياتهم وسيدنا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري بواسع الإفضال وجزيل النوال واجمعنا بهم في الدرجات العوال مع سيد أهل الكمال وأنت راضٍ عنها.
بسر الفاتحة إلى أرواحهم
وإلى حضرة النبي محمد
الفاتحة
26 شوّال 1445