تفسير سورة الزخرف -03- من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) } إلى الآية 29

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)  بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) }

الإثنين 3 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بالقرآن وتنزيله، وبيانه على لسان عبده وحبيبه ورسوله، وصفيه ونجيه وخليله سيّدنا محمد ﷺ وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه وأتباعه في نيته وفعله وقيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، الهادين إلى منهج الرحمن وسبيله، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين. 

وبعدُ:

فإنَّنا في تأمُّلنا لكلام ربّنا ونعمة تدُبّرنا لآياته، مررنا من آيات الزُّخرُف على عدد من الآيات، حتى جئنا قوله سبحانه وتعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم ۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20))، ذلك قول من اتّخذ مع الله إلها آخر، فعبدَ غير الله من ملائكة؛ أو أصنام؛ أو أي شيءٍ آخر، وكانوا يقولون: 

  • (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم)، يريدون أن يحتجّوا بالقضاء والقدر ولا حُجَّة لهم. 

  • (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، وأرادوا بذلك كذبا منهم، وادّعاء باطلا، أنّه لو لم يشاء أنْ نعبد هذه معَه لأهلكنا؛ فإبقاؤنا في هذه المُدّة ونحن نعبدها دليلٌ على أنَّه رضي مِنّا بذلك. 

قال تعالى: (مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ)، إنّ ما يدلّ على رضائي؛ وحيي وتنزيلي وما أرسلت به رُسلي، أبين فيه لعبادي ما أرضى منهم وما لا أرضى؛ (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ) [الزمر:7].

فقالوا: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) وذلك أنّ القضاء والقدر، لا يُغيّر شيئا فيما كوّن الله عليه الإنسان، ممّا أعطاه، ووهبه: من قدرة، وإرادة، واختيار؛ فإنّ وجود ذلك عند الإنسان لا سبيل لإنكاره.

  • وأنّ الشّرائع كلّها إنّما جاءت فيما أوتي النّاس فيه: قدرةً وإرادةً واختيارا. 

  • وكلّ ما يحيط بالإنسان مما لا كسب له فيه، ولا قدرة، ولا قُوّة، ولا اختيار، فلا يتعلق به تكليفٌ ولا شرعٌ ولا أمر ولا نهي، فلا يُعاقب أحد. ولا يؤاخذ أنّه لما مرض بمرض ليس له فيه كسبٌ ولا سعي ولا تسبب، ولا يؤاخذ أحد أنّه لِما جُنّ أو أنه لما خلق في البلد الفلاني أو لما كان أبوه فلان. 

لا.. لا دخل لهم، في هذه الأشياء، خارجة عن اختيارهم، وعن إرادتهم، وما تأتي التشريعات إلا فيما يدخل تحت دائرة الاختيار؛ فلا حُجّة لأحد أن يحتجّ بالقضاء والقدر.

وأيّ عاقل في الدنيا لا يفرِّق بين حركة يدٍ ارتعاشاً لمرض، وبين حركة اختيارية يمُدّها، فيرفع بها هذا، ويضع بها هذا، ويتناول بها هذا، فرقٌ بين الحركتين مدركٌ بالحس، فهكذا شأن اختيار الإنسان، وما لا اختيار له فيه. وإذا كان الأمر كذلك فكُلُّ من فعل شيئاً باختياره فهو محاسبٌ على ذلك، وهو مكلّف فيه، ويترتَّب عليه، إمّا الجنة وإمّا النار. 

ولذا قالوا عن الذين يحتجُّون بالقضاء والقدر: إذا رأيت أحداً منهم فالْطُمْهُ وانتَف لحيته! وقل له: قضاء وقدر، ما يرضى بذلك! وكيف يرضى بمعصية الله؟! و يقول قضاء وقدر، كله بقضاء وقدر، الكل بقضاء وقدر معلوم! ولكن ما لك فيه اختيار، أنت محاسبٌ عليه! ولو ألقَتك الريح عليه، ربما سيقول لك: ما هو باختياري، وأمّا أنت تضربه وتسقط فوقه وتقول: قضاء وقدر!؟ فلا معنى لهذا! وهذا باطل! في معاملات الناس كلهم، وإنّما سفسطة من الشّيطان، يلعب بها على عقول بعض الناس، ليتجرَّؤوا على محارم الله، ومعاصي الله، ويدعون القضاء والقدر، ولا حجّة لأحد.

(مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20))، أرباب خرص وظن وتصور باطل؛ لا حقيقة له! إنّما الطّريق الصحيح لكلّ المكلّفين على ظهر الأرض: أنْ يأتيهم ممَّن خلقهم، وكلّفهم، وأنشأهم، وإليه مرجعهم، أمر أو نهي، وكتاب ومنهاج، فيستقيمون عليه ويخضعون له، هذا هو الطّريق الصحيح! فإن مُكوّن هؤلاء النّاس والجان، بما آتاهم من عقول، واختيار، وقدرة، لم يُهملهم، بلا تشريع ولا بيان منه.

ولهذا قال الحق: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ) لَمّا يتكلّمون بهذا الكلام، وينطقون هذا المنطق، ويحتجّون هذا الاحتجاج؟ هل أعطيناهم كتابا من قبله؟ جاءهم من الخالق الذي خلقهم، كتابا من قبل أن يفتروا؟ ومن قبل أن يُخاطبهم ﷺ؟ 

(أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21))؟ مستمسكون بعلم، وأثرٍ جاء من عند الله! ما عندهم شيء من ذلك! (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ) أو أثارة من علم، أثر! (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ) [القصص:49]، فمن أين المصدر إذًا؟ علومكم هذه، أو تصوراتكم هذه؟ 

(أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)) فيكونون على حُجَّه وعلى برهان؟ لا! ما كان عندهم شيء! 

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ)، على طريقة، أو على دين، أو على مِلّة، أو على إمام. 

(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22))، (وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)، 

  • إذا تدَّعوا الهدى، باتّباع آباءً ضلّوا، والآباء والأجداد إن ضلّوا وزاغوا عن سبيل الحق، من مشركين، وفساق، وعصاة، ومجرمين؛ اتباعهم عار، واتباعهم ظلم. 

  • والآباء والأجداد إن آمنوا وصدّقوا واستقاموا فاتّباعهم شرف، وترك اتّباعهم عار، 

فالأمر لا يتعلّق بمجرد آباء ولا أجداد، ولكن يتعلّق بالمنهاج الربّاني، هل هذا الذي مشى عليه الآباء والأجداد، منهجُ إله!؟ ودين جاء من عند الخالق!؟ أو هو مخالفةٌ للمَنهج الرباني؟ فهذا هو الميزان الصحيح!

  • ولذا قال سيّدنا يوسف -عليه السلام- في اتّباع الآباء الصّالحين: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) [يوسف:37-38]. فكان اتّباعُه لملّة آبائه حق، وهدى، وصواب، لأنّ آبائَه إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب كانوا على هدى، ونور من الله، وبيّنة، وصواب، وحق. 

فكذلك الآباء على الإطلاق، سواء كانوا أنبياء، أو كانوا أولياء، وصلحاء، وأتقياء، فحُقّ لذريّاتهم أن يقتدوا بهم، وأن يهتدوا بهديهم، لا لأنهم آباءهم؟ ولكن لأن منهجهم، منهج حق! لأنّ مسلكهم، مسلك هدى! فلا معنى للإنكار على من اتّبع آباء هدى وتقوى.  

  • قال: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ)، إنّ الكلام في من احتجّ بآباء أشركوا، وكفروا، وكذبوا الرسل، فهذا الردّ عليهم. ولمّا قال سيدنا يعقوب لأولاده: (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133]. بل ملّة الحق والهدى كلّها نسبها الله، إلى الأب، وقال: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) [الحج:78]. 

  • هل تمَسُّكنا بالملّة عار؛ لأننا نقول تبعنا أبانا؟ تبعنا أبانا إبراهيم؟ أبانا إبراهيم كان خليل الله! وكان صاحب حق وهدى! ويجب أن نتّبعه. وهكذا اتّباع الأخيار والصالحين من الآباء والأجداد. ومن ضلّ يكون أباً، أو جدّاً، أو قريباً، أو بعيداً، لا يجوز اتّباعه، ولا الاحتجاج به، ومن اتّبعه فقد ضل!. 

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)) وادّعَوا الهداية باتّباع الآباء الغاوين الضالين. قال الله: وهذا يتكرر؛ أبناء الكفار والفجار والأشرار يحتجّون بآبائهم ويقولون: نحن على منهج آبائنا!

(وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23))

فيُجيب المترفون من كلِّ جيل، ومن كل قرن، بعث فيهم نبي، أو رسول (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ) على دين، على منهج، على ملَّة، على إمام، (وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)

  • المترفون أكثر النّاس تمسّكا بالغواية، وتشبثا بالضلال والشهوات والأهواء، وأصْعبهم انقيادا للحق والهدى؛ يغترّون.

  • فالمُترفون من الأغنياء، وأهل النفوذ في الخلق بما عِندهم، ويخْنعون ويخضعون لشهواتهم وأهوائهم ولا يريدون إلا هي، وكلّ ما يقطعهم عنها، يحاربونه ويردونه؛ فهذا حال المترفين في الأغلب.

  • ونادر من الأغنياء وذوي الثّروة من له قلب ينيب، ويريد الحقّ ويستجيب على سواء السبيل؛ أو يستجيب لدعوة الحق إذا جاء. 

  • كما أن الأكثر في الفقراء وأهل المسكنة والضر من الناس سرعة استجابتهم للحق وانقيادهم للهدى إذا جاء غالبا. 

ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان: من يتبعون هذا النبي الذي ظهر فيكم؟ أقوياء النّاس أم ضعفاؤهم؟ قال: بل الضعفاء. قال له: وكذلك الأنبياء يتبعهم في أول الأمر ضعفاء الناس؛ هم أتباع الأنبياء، ثم تكون لهم الغلبة. 

فكان يسارع إلى تلبية دعوة الأنبياء ضعفاء الناس لكونهم مهيئين نفسيا لقبول الحق وفهمه وإدراكه؛ (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق:6-7].

 حتى أن اليهود في المدينة مع تيقّنهم بنبوة نبينا محمد، خصوصا علماؤهم الذين قرأوا التوراة، غلبتهم نفوسهم لأن لهم نفوذا وسلطة زمنية خافوا أن تذهب عليهم فكفروا به وكذبوه؛ بغيًا وحسدًا وخشيةً على أهوائهم وسلطانهم وأمور دنياهم التي بها اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [البقرة:146]؛ ولكن مع ذلك يكذبون. 

حكت المؤمنة صفية بنت حيي عليها رضوان الله قالت: أنا صغيرة، كنت طفلة فجاء أبي مع عمي من عند رسول الله لما وصل المدينة. قالت: فسمعتهما يتحاوران، يقول: أخرج مَن عندنا، قال: هذه بنتنا الصغيرة تركها. قال: ما تقول في الرجل؟ كيف رأيته؟ قال: إنه الذي بشّر به موسى، هذا الذي ذكره موسى في التوراة وذكر الله وصفه في التوراة، هذا هو. قال: فما قررت في حقه؟ قال: معاداته إلى الموت، وأنت تعلم أنه الذي بشّر به النبي موسى والله ذكره في التّوراة؛ لأنه يقول لنفسه كيف أتبعه؟! وهو يرى نفسه صاحب سلطان.

فهؤلاء المترفون تأتي أكثر المصائب بسببهم: 

  • ينكرون الحقّ ويجحدون بالهدى. 

  • ويخالفون الاستقامة تلبية لرغبات أنفسهم وشهواتهم.

ولذا قال: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء:16]، (وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23))، فيحبّ أن يحتجّ المفسدون بالمفسدين والجاحدون بالجاحدين والضّالّون بالضّالّين، ونحن مع هؤلاء.

(قل) وفي قراءة: (قَالَ)، أي: يقول الرسول الّذي أُرسل إليهم: (أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)؟ أنتم تقتدون بآبائكم؟! آباؤكم ما هديهم؟! كذا كذا وكذا؛ انظروا إليه، ماذا يترتب عليه! وأين هو من الفطرة؟ وأين هو من القيم؟ وأين هو من المنطق؟ أنا جئتكم بمنهاج قويم خير من هذا، فكيف تردون الخير؟ 

  • هذا يظهر ضلاله وهذا هدى. 

  • هذا تظهر ظلمته وهذا نور. 

  • هذا يظهر انحرافه واعوجاجه وهذا استقامة. 

  • هذا يظهر العدوان فيه والظلم وهذا عدل. 

فكيف تؤثرون هذا على هذا وإن كان أباءكم على هذا؟ (أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)؛ فكانوا يقولون: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24)):

  • هدى، نور، استقامة، عدل، صلاح، تقوى؛ كافرون. ما يريدون؟ قالوا: هذا ما عليه أباؤنا! 

  • ظلم، شرك، انحراف، ضلال..ما يريدون إلاّ هو.

(وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ(23))، قالوا لبعض أصحاب مسيلمة الكذاب: كيف ترى مسيلمة؟ قال: كذاب! وقال: كيف تتبعه؟ وتكفر بمحمد؟ قال: كذاب ربيعة أحبّ إليّ من صادق قريش، هذا صادق مُضر، هذاك من مُضر وخلّونا نحن مع صاحبنا هذا وإن كان كذاب، كذاب ويدعي أنه إله؛ وهو يعرف أنه كذّاب ويترك الحق؛ قال: كذاب ربيعة أحب لي من صادق مضر، لا حول ولا قوّة إلا بالله. وإذا جاء الهوى والعصبية أبطل كل شيء وأبعد عن الحق. (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23]. 

نعوذ بالله من شر الهوى ونسأل الله أن يجعل هوانا تبعا لما جاء به نبيه المؤتمن الصادق.

 (وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ) -يخبرهم بوعد الله ووعيده- (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) -مترفو تلك القرية- (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ(23)) وهكذا:

  • كل من تعلقت نفسه بسلطة؛ أو ثروة مال وانتهض وراءها بقوة يسكَرْ بها؛ فيكون من أبعد الناس عن الإصغاء للحقّ. 

  • أي شيء يمسّ مراده من الوصول إلى السّلطة أو إلى المال بلى ويقبله؛ يأتي من أي مكان ومن عند أي أحد ويبقى في غيه حتى يخرجه الله من هذه السكرة أو يميته على سوء الخاتمة، والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

فنعوذ بالله من تسلط الهوى فإن الهوى إله يعبد من دون الله -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، الأنعام مشت لما خُلِقت من أجله ولا خالفت ولا خُلقوا للخير والعبادة. قالوا نريد الشر والمعصية -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:43-44].

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)  قال هؤلاء المشركون مثل الذين من قبلهم للأنبياء السابقين: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24)). قال الله فما الذي حصل؟ كل طائفة من المترفين قالوا للأنبياء هذا الكلام وخالفوا الرسل وعاندوهم. أهلكناهم، من عاند الرسل وكذبهم ثم لم يُهلك؟ من؟ ولا أحد ! جميع الطوائف الذين عاندوا الرسل وخالفوهم أهلكهم الله وجعلهم عبادا. 

قال تعالى: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25))، تريدون أن تكذّبوا اليوم وعواقب المكذبين أمامكم: واحدة، اثنين، ثلاثة ...عشرة، عشرين، مائة، مائتين، قبلكم كذّبوا الرسل وهلكوا وأنتم وراءهم! تريدون هلكة كما هلكوا؟ (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [يونس:102]، (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43].

 ونحن أمّة خاتم الأنبياء في كل زمان وفي كل عصر: 

  • من كان مهتديا برسول الله مقتديا هواه تبعًا لما جاء به؛ فهو الفائز وهو الرابح وهو الناجي وهو السّعيد في الدارين. 

  • وكل من غلبته أهواؤه وشهواته وهوى لمخالفة سيدنا رسول الله والخروج عن أمره؛ فهو الخاسر وهو النادم وهو صاحب الحسرة وهو المُعرّض للعذاب والعياذ بالله -تبارك وتعالى-. 

فالله يملؤنا إيمانا ويقينا بالله ورسوله وما جاء به عن الله ويرزقنا حسن متابعته؛ (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54].

(۞ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) -صنف من المكذبين وطائفة منهم- (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ(26)). 

قال لهم سيدنا الخليل إبراهيم: أصنامكم هذه التي تعبدون أنا بريء منها، (إِنَّنِي بَرَاءٌ).

وبراء بمعنى: بريء؛ ولكن براء لا تثنى؛ ولا تجمع؛ وتبقى هذه براء؛ الواحد براء، والاثنين براء، والثلاثة براء، والمذكّر براء، والأنثى براء. 

(بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ) براء أي: بريء متبرّئ من أصنامكم، كما قال سيدنا النبي هود لقومه -دعاهم وأقام لهم الحجة والدليل والبرهان-: 

  • (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ) -هم الآلهة حقنا غضبوا عليك وخلوك بالطويقة هذه- (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا) -قوموا أنتم وآلهتكم كلها فكيدوني- (ثُمَّ لَا تُنظِرُون)، ولا تؤخّروني ساعة واحدة. 

  • ما هذه القوة يا نبي؟ قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). 

  • وبعد ذلك هلكوا: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود:53-60]. 

والذين كذبوا نوح كذلك؛ والذين كذبوا صالح كذلك؛ والذين كذبوا إبراهيم، كلّهم! وإلى متى تكذّبون؟ حتى خاتم النبيين يأتيكم وتكذبون! وقرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا والمكذبين قائمين.

  • يا جماعة! يا عقلاء! يا بني آدم! يا ناس! يا بشر! الكون وما فيه يناديكم بعظمة الله وصدق رسله وخاتمهم محمد ﷺ، وتتولون وتستكبرون وتعاندون وتضعون القرارات والأنظمة مضادة لله ولرسوله. 

  • يا جماعة! قد هلك مثلكم وأشياعكم وأكثر منكم قوة؛ وأكثر منكم عددا وقوّة وبادوا؛ ولا سنة إلا سنة الله في الوجود. 

تريدون أن تسلكوا نفس المسلك؟ (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) [المائدة: 41]، ولكن على الأنبياء ثم أتباعهم حسن البلاغ وحسن البيان ويهدي الله لنوره من يشاء ويضل من يشاء. 

فيارب ثبّتنا على الحق والهدى *** ويارب اقبضنا على خير ملة

قال: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فأنا متعلق بالله، ومؤمن بالله، ومعظم لله، ومسبح لله، ومقدس لله وممتثل لأمر الله ومطيع لله وخاضع لحكم الله. (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)) سيعلمني دينه وأحكامه ويزيدني هدى من عنده في كل أحوالي وشؤوني؛ لأنه من يستهدي الله يهده -جل جلاله.

 "يا عبادي كلُّكم ضالٌّ"، يقول في الحديث القدسي: "يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلا من هديت، فاستهدوني أهدِكُم"، فاستهدوني أهدكم بأنواع الهداية؛ أُطلب منه الهداية بالابتداء والامتثال والاتباع والسّؤال؛ فترى أنوار هدايته، تصل إليك وتسارع؛ لأنه يأخذ بيد المتوجهين عليه، هذه سنّته: 

  • "من تقرب إليّ شبرا"؛ يقول ربي: "تقرَّبت إليه ذِراعًا".

  • "فاستهدوني أهدكم"؛ لذا عُلّمنا في كل ركعة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6]، 

  • قال تعالى: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:213]. 

  • (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة:4].

  • (مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة: 213]. 

  • (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].

قال تعالى يقول سيدنا الخليل إبراهيم: (الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)) وجعلها البراء من عِبادة غير الله: كلمةً بـ لا إله إلا الله، (وَجَعَلَهَا) سيّدنا الخليل (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يتوارثوها، (وَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة:132] أي:

  • ويعقوب وصَّى بنيه.

  • إبراهيم وصَّى بنيه إسماعيل وإسحاق.

  • ويعقوب بن إسحاق وصَّى بنيه، والذُريّة وهكذا.

ولم يزل في ذرية إبراهيم من يقول: لا إله إلا الله على مدى القرون.

 (وَجَعَلَهَا) -أي: وجعلها الله هذه المِلّة لإبراهيم التي عنوانها لا إله إلا الله- (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ). 

وإذا كان كذلك فإن من أولى من تبقى فيهم هذه الكلمة آباء خاتم الرُسل، آباء زين الجود، فلم يخْرج من صُلْب إبراهيم أطهر من محمد ولا أنقى ولا أتقى، فإن كانت الكلِمة باقية في العقِب فهذا العقِب الذي تسلسل منه هذا المُصطفى أحقّ بأن تبقى الكلمة فيهم.

(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: يُذكِّر الواعون لها والقائمون بحقّها من خالفها عسى أن يرجع إلى الإيمان والتوحيد،  (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)).

يقول الله عن قصة قريش كما سيأتي معنا، وأوائل هذه الأمة ممن كذّبوا كما حدّثنا في آيات عن من آمنوا وهاجروا ونصروا -عليهم رضوان الله-، هؤلاء أوائلنا، وفي وقتهم من كذّبوا وفجروا.

(بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ) تركتهم سنين، ويعبدون غيري، وأنا أرزقهم.

(حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ) إلى قرن بعد قرن، حتى جاء الحق وهو القرآن.

(وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29)) وهو محمد، فكان من حقِّهم بعد هذا الضلال الطويل أن يحمدوا الله على مجيء النور ويتبعوه.

لكن (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)) -والعياذ بالله تعالى-، كذلك من سبقت عليه الشقاوة.

فيا فوز المُهتدين، والذين اهتدوا خصوصاً في أول الإسلام، وخصوصاً من قبل الهجرة، ثم من قبل غزوة بدر، ثم من قبل صلح الحديبية، ثم من قبل الفتح، هم درجات، أوائلهم أفضل ممن بعد (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد:10]. 

السابِقون الأولون:

  • هؤلاء الذين أسلموا قبل هجرة النبي محمد، هؤلاء من السابقين بلا ريب وبالإجماع.

  • ثم الذين أسلموا بعد الهجرة قبل غزوة بدر من السابقين

  • ثم الذين أسلموا بعد غزوة بدر، لأن ظهرت فيها آيات الله الواضحة، أيضاً من السابقين على أصح الأقوال.

  • ثم الذين أسلموا بعد صلح الحديبية هذا مُخْتلف فيهم أمن السابقين أو فات السبق؟ 

  • أما من أسلم بعد فتح مكة فليسوا من السابقين بالاتفاق (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ..) واشتهروا بما سمّاهم به النبي الطلقاء، "اذهبوا فأنتم الطلقاء" هؤلاء الذين لم يسلموا قبل فتح مكة، لا يبلغون درجة السابقين.

 (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فرضي الله عن السابقين الأولين وألحقنا الله بهم.

"في كُلِّ قَرْنٍ مِنْ أمتي سابقونَ"؛ فاحرص أن تدخل في غِمارهم، وتُغطّى بأنوارهم وتقتفي لآثارهم: بأن تؤثر الله على ما سِواه، وهذا وصفهم في كتاب ربك، السابقين

(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:8-9]؛ هذه أوصاف السابقين؛ اتّصف.. اتّصف بها، واطْلُب التحقق بها يُلحقك الله بالسابقين -لا تُخلِّفنا عن ذلك الركب يا رب، لا تُباعدنا عن أولئك الحزب والقوم يارب، احْشرنا في زمرتهم في المُنقلب، وارزقنا محبتهم ومُتابعتهم في الدنيا، ومُرافقتهم في القيامة ودار الكرامة يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

فمن العيون الموجودة في زمننا وفي كل زمن من زمن أمّة محمد ﷺ:

  • عيون ترى وجوه النبيين والصدِّقين وجميع السابقين في البرزخ، ثم في المواقف في القيامة ثم في دار الكرامة. 

  • ومنها عيون لا ترى وجه أحد من هؤلاء، ولا ترى في القيامة إلا وجوه المُجرمين والفاسقين والكافرين والجبارين -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

على حسب ما تعلّقت به قلوبهم وساروا به من أقوال وأفعال ونيات في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التحريم:7]. فالله يجمعنا..

فِي مَقْعَدِ الصَّدْقِ الَّذِي قَدْ أَشْرَقَتْ *** أَنْوَارُهُ بِالعِنْدِ يَا لَكَ مِنْ سَنَا 

وَالمُتَّقُونَ رِجَالُهُ وَحُضُورُهُ *** يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا

 

 يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا

يَا رَبِّ فَالْحِقْنَا بِهِمْ يَا رَبَّنَا

 

وكثير من الأمة لم يكونوا بارزين في صُحف الملائكة أنّهم من اللاحقين بالسابقين من المسلمين، فيأتي رمضان فيبْرُز من إرادة الله وجودُه عليهم ماينزل في صحف الملائكة: أن فلان أُلْحِقْ بالسابقين..أن فلان أُلْحِقْ بالسابقين. اللهم لا تحرمنا خير رمضان، وبركة رمضان، وسِرّ رمضان، ونفحات رمضان، وألحقنا بالسابقين وأنت راض عنا في لطف يقين وتمكين مكين.

 

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد ﷺ

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

04 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

03 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام