تفسير سورة النحل، من قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ..}، الآية: 84

تفسير سورة النحل
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى الله يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) }

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بخاتم أنبياه من أنزل عليه القرآن وإلى قلبه أوحاه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على محمد وعلى آله وصحبه الهداه وعلى من والاهم فيك واتبعهم إلى يوم الموافاة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين محلُّ الاختصاص منك والتقدمة على الخلائق أجمعين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين وعلى ملائكتك المُقرَّبين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين. 

أما بعد ،،

فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وتدبُّرنا لخطابه وتعليمه وإرشاده جل جلاله وتعالى في علاه، انتهينا في سورة النحل إلى قوله جل جلاله (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89)). اللهم حققنا بحقائق الإسلام واجعلنا من المسلمين، واجعل الكتاب تبيانًا لنا وهدى ورحمةً وبشرى يارب العالمين.

 بيّن لنا الحق حال الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها في أنواع ما أنعم به عليهم، ثم تمام النعمة بإرسال عبده إليهم؛ هاديًا ومبشرًا ونذيًرا، وعرفوا صدقه وعرفوا نشأته وسيرته وأخلاقه وأوصافه وطبيعته، ما رضي يكذب على مخلوق من صغره، فكيف يكذب في كبره على الخلاق جل جلاله؟ ولكن ينكرونها (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا). 

قال الأخنس بن شريق لأبي جهل في ليلة بدر ليلة مقتله، اصدقني بيني وبينك وحدنا الآن أترى أن محمد هذا صادق؟ قال له ما كذب محمد قط، قال له تعلم أنه صادق وكيف تقاتله؟ قال له كنا نحن وبنوهاشم فرسي رهان وجاء فيهم نبي من اين يأتي فينا نبي! فحسدًا؛ كذب بنبي الله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) ليخرج من الأكثرمن لم تبلغه الدعوة ومن يهدى إلى الإيمان قال تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ)؛ أذكر وذكِّر (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا)، فإن الحق العليم المطلِّع على كل شيء شآءت إرادته تنزلا منه لخلقه في محكمة القيامة أن يقيم الشهود على العباد من أنفسهم، وفي كل أمة من الأمم شهداء من خيارهم وكبرائهم وأعظمهم نبيهم، وشهداء من أنفسهم من نفس كل واحد؛ وهي الأعضاء (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65]، (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور:24-25]. 

يقول (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) فتشهد عليهم أنبياءهم، وتشهد عليهم أعضاؤهم، ويشهد عليهم خيارهم (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)؛ لا يُؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون ويقبل لهم العذر. (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)؛ أي يُرجعون إذا طلبوا الرجوع ما هم براجعين ولا يستعتبون؛ لا يُطلب منهم الآن أن يُؤمنوا، فالكل الآن مُوقن بالحق فما يمكن أن ينالوا الآن رضى الله بإيمانهم، فإن الإيمان طُلب منهم في أيام الدنيا واما عند الموت ما أحد ملحد، ولاحد كافر، ولاحد يهودي، ولا نصراني، ولا مجوسي، ولا هندوسي، ولا أي شيء من أصناف الأديان الأخرى، الكل يشاهد الحقيقة التي بُعث بها خير الخليقة فالكل يؤمن بالله وبرسوله وما جاء به، لكن ما عاد ينفعهم (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [غافر:85]، لما نزل العذاب عليهم ما عاد ينفع الإيمان، بل يسبق ذلك في الدنيا عند توالي آيات الساعة الكبرى، عندما يقلب الله سبحانه وتعالى دورة الأرض وتطلع الشمس من مغربها، هذه الآية التي إذا برزت لا يُقبل إيمان من مؤمن ولا توبة من تائب (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام:158]. إنما تفضل الله على عباده بقبول الإيمان منهم والتوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها، وما لم يغرغر الواحد منهم؛ أي تصل روحه عند نزعها إلى حلقومه، فحينئذ لا ينفع الإيمان ولا تنفع التوبة.

يقول جل جلاله (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)، ولا يقف الأمر عند إهانتهم بشهادة أنبيائهم عليهم والأخيار فيهم عليهم ويقولون لهم، من يشهد لكم؟ فيأتون بخيار أمة النبي محمد فيشهدون للأنبياء السابقين، فإذا قالت الأمم هؤلاء جاءوا من بعدنا كيف شهدوا أنهم بلغونا ما أرسلتهم به وأنهم علمونا؟ فيقال لأمة محمد: كيف تشهدون على من كان قبلكم؟ كيف علمتم؟ يقولون إنك أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت عليه كتاباً، أخبرتنا أنت فيه أن هؤلاء بلغوا قومهم وعلموهم، وهم الذين كذبوا وكفروا وناكروا فنحن نشهد بشهادتك، فيقول الله: وأنتم من يشهد لكم يا أمة محمد؟ يقولوا نبينا محمد، فيُوتَ بالنبي فيشهد على الكل ﷺ، ينالهم الخزي بشهادة الأنبياء عليهم وبشهادة الأخيار فيهم عليهم، ولكن وراء ذلك ما هو أشد أن يُختم على أفواههم وأن تشهد عليهم أعضاؤهم (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 22-24]، إذ هم يقولون (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ  * لعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) [المؤمنون:99-100]، (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون:107]، ربنا ردنا إلى الحياة الدنيا نؤمن بك وبرسلك. 

قال (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)؛ لأنه لا عذر لهم في الحقيقة مقبول أصلاً، وكذبوا، فقُبِض على ألسنتهم فلم يستطعوا، وتكلمت من دون اختيارهم ألسنتهم وأعضاؤهم بما كان منهم؛ ففضحتهم والعياذ بالله تبارك وتعالى، (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يُطلب منهم أن يؤمنوا الآن، فالإيمان ضرورة، ولا يُقبل منهم إيمان الآن فقد انتهى وقت الفرصة، ولا يُمكن أن يُجاب طلبهم بالرجوع إلى الدنيا والعود إليها، فقد حكم الله أنهم لا يعودون ولا يرجعون (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ) من الكفار والمكذبين للأنبياء (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ)؛ لا سبيل لتخفيفه بل كما سيأتي معنا في الآية بعد أن يُبادَر بهم للوقوع في النار وقال تعالى وَظَنُّوا أي أَيْقَنُوا (أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا) [الكهف:53]؛ (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) بل يزدادون عذابًا إلى عذابهم، كما أن أهل النعيم إذا رأوا النعيم والجنة فلا ينقص عليهم، بل يزداد نعيمهم أبداً، فكذلك عذاب الكفار يزداد، اللهم أجرنا من عذابك. 

(فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ)؛ ما يؤخرون ولا يُأجَّلون ولا يُطلَب منهم أن يعملوا الآن عمل فقد انتهى وقت العمل ووقت الفرصة ووقت التكليف في أيام كانوا في هذه الدنيا. فنحن في فرصة عظيمة إذا أدركنا من خلال هذه الحياة التي نحياها لم يُغرغر أحدنا بعد، الحمد لله، بعد ما وصل الروح الحُلقوم، ولم تطلع الشمس من مغربها، اليوم أصبحنا والشمس طلعت من المشرق الحمد لله فعندنا فرصة في هذه الحياة، ما يمكن أن تتعوَّض في إصلاح صلتنا بالإله، في حيازتنا المكان عنده، في نيلنا الدرجات لديه، فلا فرصة إلا هذه التي نحن فيها، بعد ذلك لا فرصة في البرزخ ولا في القيامة خلاص لا فرصة، فنحن في فرصة كبيرة ما دمنا في هذه الحياة ممتعين ونقدر على عبادته، وعلى الإخلاص لوجهه، وعلى تصحيح مسارنا معه، وعلى تزيين بواطننا له، تنقيتها عند المعايب. هذه الفرص معنا في الحياة الدنيا فرصة غالية جدا ما يمكن تعوَّض إذا فاتتك فاتتك وما معك إلا ما في هذه الحياة، فنحن في فرصة عظيمة في هذه الحياة يجب أن نغتنمها ويجب أن نشكر الله عليها، ويجب أن ننتهزها، ونأخذ نصيبنا من هذه الدنيا؛ لذا يقال لمن يعذَّب في النار في القيامة (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر:37]؛ أعطيناكم عمر، فسحنا لكم فيه يمكنكم تتذكَّرون وترجعون، من جاوز الأربعين يقال له (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ) قال بعضهم بل الثامنة عشر جاوز الثمانتة عشر سنة خلاص فهو (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَوَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ونحن في فرصة ما دُمنا في هذه الحياة، رزقنا الله اغتنامها وصرفها في خير ما يُرضِيه عنا.  

يقول (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ)، إِذَا رَأَى الْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ، وَبُعِثَتْ أَمَامُهُمْ أَصْنامهُمْ أَوْ أَيِّ شِيءٍ آخَر عُبد مِن دُونِ اللَّهِ تَبَارَكُ وَتَعَالَى، يصيحون المشركين يقولون (رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ) أن نتجاوز عبادته؛ نعبدهم وندعيهم معك كآلِهَه ولماذا يقولون هذا؟ رجاء أن يُخفَّف عنهم العذاب ويشتركوا معهم هؤلاء في العذاب، ولكن هؤلاء لا ذنب لهم، ولكن أيضاً ليروا حقيقة الأمر وكذبهم ويشاهدونه بعيونهم ضلالهم وغيَّهم في اتخاذ آلِهَه من دون الله، فيرونها مخلوقة ذليلة لا قوة لها ولا قدرة؛ فيعلمون أنهم كانوا يكذبون وكانوا في ضلال مُبين، يُوقنون بذلك معاينة وذوقاً وتخاطبهم آلِهَتُهم كذلك، قالوا (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ)؛ يعني كلَّموهم وخاطبوهم فتقول لهم أصنامهم وما كانوا يعبدون من دون الله (إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) لا نحن آلِهَه، ولا نحن خالقين، ولا نحن شُركاء للرب، واشتركتمونا كذباً منكم واعتداءًا وعنادًا، حتى الأحجار التي اتخذوها أصناماً وآلِهَه تقول كنا نسبح بحمد ربنا مشغولون به لا نحن آلِهَا ولا نقدر نقربكم ولا نبعدكم ولا نضركم ولا ننفعكم يا كذابين! ماذا عملتم بنا؟ (إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) لا نحن آلِهَه ولا نعرفكم ولا لكم مكان عندنا، ولا نقدر ننقذكم بشيء، لا نفعناكم في الدنيا ولن نُخلِّصكم، الآن أنتم كذابين، كذبتم على أنفسكم وكذبتم علينا أننا شركاء وما نحن شركاء، نحن خلق من خلقه تحت حكمه مقهورون له.

(إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا) كُلُّهُمْ هَؤلَاء وَهَؤلاء يومئذ إلى الله السَّلَم لا عاد بوذي، ولا هندسي، ولا مجوسي، ولا نصراني ولا يهودي، ولا ثالث ثلاثة، ولا من دون الله، ولا ملحد، كلهم ملقين السلام خاضعين لله (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه:108-111]. يا رؤساء الأرض، يا زعماء الخلائق في الدنيا، قد مضى أمثالكم نضراءكم أولوفا مؤلفة فهلكوا والمصير هو هذا، فخير لكم أن تنتبهوا لأنفسكم وأن تنقذوا أنفسكم من النار. 

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ)؛ استسلموا وخضعوا وذلوا واعترفوا (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِير) [تبارك:10-11]، فيهم من يضحك اليوم على هذه الدعوة ،وعلى ترديد وبيان وإبراز هذه الحقيقة، لكن غدا سيخضع ويذل ويتمنى أنه لو كان آمن، فوالله ما هم على شيء؛ ليسوا على شيء، احذروا، أنت مؤمن بالله، لا يغرك، يقول لك عندنا قوة كذا وعندنا مكانة كذا وعندنا ترتيب كذا ونحن نتصرف كذا، والله ليسوا على شيء ولا لهم من الأمر شيء ومرجعهم الهوان والذل -لا إله إلا الله- (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:27]، يقول (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) فيما يلاقونه في يوم الهول الشديد؛ يقول (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) [الأحقاف:20] كنتم معرضين لأن تنالوا الطيبات الشريفات غذاء الأرواح ومذاقها الحالي في الدنيا، حرمتموه واستعجلتم بطيبات الحياة الدنيا الصورية الحقيرة الزائلة، ورحتم وراء المسكرات، والغناء المحرم، والفواحش، والاعتداء، والظلم، إلى غير ذلك (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأحقاف:20]، قلتم أننا متطورين ومتقدمين وأننا متحققون، عندنا الدراسات وعندنا الصناعات، تستقون بغير الحق (وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف:20] والعياذ بالله تبارك وتعالى. هم أنفسهم (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ) [الأحقاف:34]؛ إلا قالوا الأنبياء هو الصدق أو لا؟ وأنواع الكفار من هذه الأمة يقولون إلا جاءكم محمد وهو الحق أو لا؟ كان في زمانكم اللي أنتم  فيه فلان وفلان من أتباع محمد يقتلون عليكم هذا الكلام ويقصونه، وكنتم ترونهم كأنهم عبيد لكم، وكأنكم فوقهم، وكأنكم أعلى منهم، أليس هذا بالحق؟ (قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا) هو ذا الحق ما هو حقنا الأفكار، ولا حقنا الأنظمة، ولا حقنا الترتيبات، الله الحق اللي جاء من عندك أنتوا اللي كانوا يقولوا هؤلاء هو الحق؛ (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) اللهم أجرنا من عذابك.

 (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) كلٌ استَسلم، كلٌ خضع، كلٌ أقر واعترف، (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ذهب، غير موجود، أين الحساب حقك؟ الرصيد في البنك، أين هو؟ أي بنك؟  هو و بنكه ذهب ! (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) الحزب حقك أين هو؟ حزب إين! ذهب ولا عاد حزب، ولا محزوب، ولا رئيس حزب، ولا نائب رئيس، كل واحد مُقمط محاسَب في مكانه. (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)الأصنام أين هي؟ والزمجرة ذي اللي في الأرض أين هي راحت؟ 

(وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) يدّعونه من آلهة مع الله، ومن حق غير ما أرسل الله به أنبياه صلوات الله وسلام عليهم، وبعد ذلك منهم كفار مجرد كفار في أنفسهم، وهؤلاء حتى في الدنيا ما يُقاتلون إذا لم يصدوا عن سبيل الله، ولم يمنعوا من إقامة، يُدعون كما يدع غيره. لكن الذين يصدون عن سبيل الله تبارك وتعالى، ويأمرون غيرهم بالكفر، وهم ينهون عنه وينئون عنه، عذابهم أشد في الآخرة، وهم الذين يُقاتلون في الدنيا ويُحاربون على أيدي أهل الحق من المؤمنين والمسلمين، الذين يصدون عن سبيل الله والذين يدعون إلى مخالفة شرع الله، والذين يضادون مناهج الله هم الذين يُحاربون في الدنيا وهم الذين اشتد عليهم العذاب في الآخرة.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) عذاب الكفر شيء، وعذاب الصد عن سبيل الله والتسبب في كفر الغير وحجز الغير عن الإيمان عذاب فوق العذاب. (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)؛ يضرون غيرهم، يقطعون عن سبيل الله، يصدون الخلق عن طريق الله تبارك وتعالى بمختلف الوسائل والبرامج والحركات التي يعملونها في الدنيا (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ)؛ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) [العنكبوت:13]، وهذا لكل من تسبب في إضلال أو إفساد أو صد؛ منع أحد عن المشي في طريق الإيمان وطريق العمل الصالح فهذا عذابه، وكلٌ له عذاب، والآخر الذي بلغته الدعوة ولم يرضى بالإسلام وبقي على كفره له عذاب كفره وعذاب معصية واحدة، ولكن إن صد فله عذاب زيادة (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) فالضرر المتعدي للآخر عقابه أشد وعذابه أغلظ. 

فأخطر ما يكون في حياة الخلق أن يعيش فرد أو جماعات يصدون عن سبيل الله، يتسببون في منع الناس من الإيمان من العمل الصالح، أو في دعوتهم إلى الكفر والعياذ بالله تبارك وتعالى، بل يعرضون على المسلمين أن يكفروا وأن يرتدوا والعياذ بالله تبارك؛ هؤلاء أشد الناس عذاباً يوم القيامة. كما أن أعظم الناس نعيماً في الآخرة من هدوا إلى الله ودلوا على الله، وأصلحوا عباد الله، وقربوا بين الخلائق وربهم؛ هؤلاء أعظم الخلائق مثوبة وأجر ونعيم والآخرين بالعكس،"مَنْ سَنَّ -في الإسلام- سُنَّة حسنة فعمل بها، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومَنْ سَنَّ في سُنَّة سَيِّئَة"، ويقول "مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه مِن الإثمِ مِثْلُ آثامِ مَن تبِعهُ لا ينقُصُ ذلك مِن آثامِهم شيئًا".

(زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ) ويكذبون شهداءهم، فيقال من يشهدكم؟ فيقولون أمة محمد فياتي أخيارنا ويشهدون. ثم قال الله (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ) أمتك والأمم من قبلهم أنت الشهيد فوقهم كلهم-صلى الله عليه وسلم- (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ). وقد كان يقول بعض التابعين أنه بلغنا أنه كان إذا قرأ ﷺ الآية فاضت عيناه؛ كلما قرأ هذه الآية فاضت عينه (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ) لا إله إلا الله. يقول في إثبات خصوصيته ومكانته (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) فالحمد لله على نعمة القرآن، اللهم اهدنا بهدي القرآن وبهداية القرآن وبدلالة القرآن أرشدنا يا رب. ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)؛ فعلى قدر تحققك بالإسلام تنال الهدى والرحمة والبشرى من القرآن، ويتبين لك ما يتبين على مراتب كما يأتي معنا بعض التفصيل في هذا المعنى لهذه الآية الكريمة.

جعلنا الله من أهل القرآن وأهل العمل به وأهل القيام بحقه وأهل الاستجابة لندائه وأهل العمل بما جعل الله فيه. اللهم اجعله شاهداً لنا لا شاهدًا علينا وحجةً لنا لا حجةً علينا، واجعلنا عندك من خواص أهله، بحق القرآن ومن أنزلت عليه القرآن، ومن شرفتهم بالوعي للقرآن، والعمل بما في القرآن، من عبادك الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين، وبارك لنا في ما بقي لنا من النصف الأخير من رجب، وبارك لنا في شعبان، وبلغنا جميعاً يا ربنا رمضان، وأعنا على الصيام والقيام محفوظين من الآثام، واجعلنا ممن يصومه إيمانًا واحتسابًا، وممن يقومه إيمانًا واحتسابًا،  وممن يقوم ليلة قدره إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا من أسعد الناس به ظاهرًا وباطنًا يا أرحم الراحمين.  

تاريخ النشر الهجري

17 رَجب 1444

تاريخ النشر الميلادي

06 فبراير 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام