شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 119- من قوله: (رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أَنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إِلَى مَوْلاَهُ لاكْتِفَائِهِ بِمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ لاَ يَسْتَحِيَ أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَىَ خَلِيْقَتِهِ ؟)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله با راس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الأربعاء: 11 محرم 1446هـ، من قوله:
(رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أَنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إِلَى مَوْلاَهُ لاكْتِفَائِهِ بِمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ لاَ يَسْتَحِيَ أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَىَ خَلِيْقَتِهِ ؟)
نص الدرس المكتوب:
"فإذا أحكمتَ مقام التجريد، ورفعتَ الهمّة عن النظر إلى العبيد إلى الحميد المجيد فخذ ما آتاك من يد مولاك، فإن كان فاضلًا عن غناك زايدًا على كفايتك، فأخرجه من يدك حالًا؛ لئلا يكون حائلًا بينك وبين مولاك، واحذر آفة الردِّ بعدما تستكمل الأدب في الأخذِ، فإذا ساق الله إليك غنًى فاقبل عطيته، وأكرم هديته، ثم ضعها في موضعها.
ثم الفقراء والزهاد في الإدِّخار على حسب ما عندهم من اليقين؛ فمنهم:
من لا يحبس شيئًا لغدٍ، ومنهم من يدَّخر لأربعين يومًا، وآخرهم مقاما: من يدّخر لسنة، وفوق السَنة يخرج به إلى حيّز الراغبين في الدنيا، المكاثرين والمتهوّرين في الأسباب، الذين لم يُبالوا بموقف الحساب وطول العتاب، هذا في أحكام المريدين السالكين.
وأمّا المتحقِّقون والنجباء الموحِّدون والسادات العارفون، فهم ثلاثة أقسام: قسمٌ لا يسألون، وإن أعطوا لم يقبلوا، وقسمٌ لا يسألون، وإن أعطوا قبلوا وقسمٌ يسألون عند تحقق الفاقة.
فالأول: هم الرّوحانيون، والثاني: هم الصّادقون، والثالث: هم المتقّون، ولي في ذلك:
فلا تمـــدَّ إلى غير الإله يـــــدًا *** فذاك شِرْكٌ خفي عند ذي النظرِ
إذا صفا صِرفُ توحيد فما تجدُ *** فاستعمل العلم تلقى غاية الظفرِ
فإذا كان النّظر إلى الخلق شركًا فيما يأتيك من أمر الرزق، ففي طريق العارفين النظرُ إلى النفس وحظّها نقصَ؛ لذلك قال المؤلف -رضي الله عنه-: "رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إلَىٰ مَوْلَاهُ اكّتِفَاءٌ بِمَشِيئَتِهِ؛ فَكَيْفَ لَا يَسْتَحْيِ أنْ يَرْفَعَهَا إِلَىٰ خَلِيقَتِهِ؟"
لا إله إلا الله.. نعم في شرح قوله -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "لا تمدّن يدك إلى الأخذ من الخلق إلا أن ترى المعطي فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك فخذ ما وافق العلم".
يقول: "إذا أحكمت مقام التجريد ورفعت الهمّة عن النّظر إلى العبيد إلى الحميد المجيد"، إذا انصرفت عن نظر العبيد وصرفت النظر إلى الحميد المجيد -جل جلاله-، حينئذ ما أتاك من يدي مولاك خذه، إن كان فاضلًا عن غناك زائدًا على كفايتك أخرجه، وإن كنت محتاج إليه فتموّله، وهو الذي قال ﷺ لسيدنا عمر لما أعطاه شيئا، قال: "يا رسول الله أعطه لمن هو أحوج مني، قال: يا عمر، ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه، فإن كنت محتاج إليه فتموّله، وإلا فتصدّق به، وما لا فلا تتبعه نفسك"، لا تسأل ولا تستشرف لما في أيدِ الخلق.
قال: "لئلا يكون حائلًا بينك وبين مولاك" تمسكه على غير حاجة؛ إلا ما توقفه لوصولِ أحوج، أو لترقّب حالٍ أصلح، لا لتدّخره، ولا لتطمئن به، أو تثق به، أو تعتمد عليه.
"واحذر آفة الردّ بعدما تستكمل الأدب في الأخذ"، فإن من أُعطي -أي: على الوجه الصحيح الطيب- من محله، فلم يقبل وكأنه ردّها على الله تعالى، فيوصل إلى حالة يسأل فلا يعطى !! يرجع يسأل فلا يعطى، "من أُعطي فلم يقبل سأل فلم يُعطى".
ما كان من وجه العلم لك ردّه، ما كان شبهة، أو كان فيه شيء من العيوب التي ينبغي ردّها فترده، وما عدا ذلك لا تردّه، وقالوا في مسلكهم: لا نسأل ولا نردّ ولا ندّخر.
قال: "فإذا ساق الله إليك غنىً فاقبل عطيته، وأكرم هديته، ثم ضعها في موضعها"، قال: "ثم الفقراء والزّهاد في الادخار على حسب ما عندهم من اليقين فمنهم: من لا يحبس الشيء لغد"، في نفس اليوم ينفق ما عنده، ويقول:
في كل يوم لك نصيب معلوم
فلا تكن به يا بليد مهموم
الرزق في أم الكتاب مقسوم
قال: "ومنهم من يدّخر لأربعين يوم، وآخرهم مقاما من يدخر لسنة"، ولأجل الرّحمة بهم أجمعين في مقاماتهم كلها، ادخر ﷺ نفقة بعض أزواجه -أهله- لسنة، ولكن في أثناء السنة تفرّقت؛ لكن لبيان الجواز، وليحصل كل واحد من أهل المقامات مكانه في القدوة به ﷺ.
قال: "وفوق السّنة يخرج به إلى حيّز الراغبين في الدنيا، المكاثرين والمتهورين في الأسباب الذين لم يبالوا بموقف الحساب وطول العتاب"، قال: "هذا في حكم المريدين والسالكين؛ أما المتحقّقون والنجباء الموحدون والسادات العارفون لهم ثلاث أقسام:
-
قسم لا يسألون وإن أعطوا لم يقبلوا"، فهؤلاء الرّوحانين شأنهم شأن، وما توجّه عليهم مسئولية، ومعهم الكفاية بأي سبب من الأسباب، أو بشيء ساقه الله إليهم.
-
والقسم الثاني: " قسم لا يسألون وإن أعطوا قبلوا"؛ قال"وهم الصادقون".
-
القسم الثالث: "إذا اشتدت الحاجة سألوا"؛ قال فهؤلاء "المتّقون".
إذًا "إذا كان النّظر إلى الخلق شركًا -خفي- فيما يأتيك من أمر الرزق، -فكذلك- في طريق العارفين النظرُ إلى النفس وحظّها نقصَ"؛ فأنت من جملة عبيده، والأمر أمره حقا، ومفتاح الغيوب بيده -جلّ جلاله-.
إذًا فلا تشهد لنفسك وجودًا، ولا تُستأسر بحظ من حظوظها، بل زكِّها وهذّبها وأدّبها ورقِّها، وأحظرها حتى تكون مطمئنة وراضية مرضية، وتأخذ نصيبها من الكمال الإنساني.
إلى أن قال قال -رضي الله عنه وعنكم- :
"قال المؤلف -رضي الله عنه-:
191: رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إلَىٰ مَوْلَاهُ اكّتِفَاءًا بِمَشِيئَتِهِ؛ فَكَيْفَ لَا يَسْتَحْيِ أنْ يَرْفَعَهَا إِلَىٰ خَلِيقَتِهِ؟!.
(ربما استحيا العارف) أي: في حال تجلِّي كمال شهود الحقيقة على قلبه، و استغراقها لسِرِّه، وامتلاء روحه في لمحات الجمال ولائحات الجلال، واستشعار دنوّ الوصال إلى حضرة الكمال، وهذا لا يكون كليًا في هذه الدّار الدنيا، وهو الذي سبىٰ روح الخليل حين رُمي إلى النار، فلم يفتقر إلى الأغيار، ولم تظهر عنده الآثار؛ التي من جملتها لهيب النار، فكان شاكرًا بشرب عُقار، فهناك بانت له الأنوار، وخاطبته الأرواح، وواصلته الأفراح، فكان مطلبه وغاية ملمحه الكمال الذّاتي، الذي يُعطي البقاءُ به الغيبةَ عن النّفس، واضمحلال الحس، فكان بعلمه مستغنيًا عن الرجوع إلى ما منه من الدّعاء.
والعارف: هو العارف بالله -ولو من بعض وجوه المعرفة- وبصفاته وأفعاله، معرفةً تعطيه ذوق العلم الذي لا يتطرَّق إليه جهلٌ فيما عَلِمه، ولا ريبٌ فيما فهمه، العارف بدين الله وأحكامه ذوقًا وتحققًا أيضًا، يعمل على البصيرة المنيرة، والمحجّة المستنيرة، ففي حال اصطلامه في شهود الكمال يستحيي -لا محالة- عن رفع الحوائج؛ لتحقُّقه بأنه لا ينال من مولاه غير ما قُدّر له، وإن دعى مع ذلك فهو بحكم العبودية، لا أنّه ينال بدعائه غير ما قَدّره له.
فهو في حال تحقّقه بهذه الحالة، وإشارة الحال له بالسكون في هذه يستحيي من مولاه أن يستدرك عليه في علمه، أو يشاركه في حكمه، أو يذكّره ما قدّره في سابق علمه، وكيف يُذَكُّرُ مَن لا يجوز عليه الإغفال؟!" -جل جلاله-.
وقد علمتَ أن الغفلة نقص، وهو مستحيلٌ على النقائص، تعالى الله علوًا كبيرًا، فإذا كان مستحيًا من الله أن يرفع إليه حاجته، فكيف لا يستحيي أن يرفعَها إلى غيره؟! فذلك أحرىٰ.
وفي أغلب أوقات السؤال بحكم الامتثال، فيسأل قليل حاجته وكثيرها منه؛ فإنها لا توجد عند غيره وإن قلَّت، ولا تنال إلا منه وإن جلَّت؛ فسؤال الأغيار قبيحٌ عند ذوي البصائر الأحرار، فكيف وقد أمرهم إليه بالفرار؟!
فأرواحهم إلى ظل أحديته ساكنة، متستّرة عن رؤية الغيريّة وظلمة البشرية، مفتقرة إلى خيره، مستجيرة من ضيره، فعند أُولي الهمم العلية والمشاهد السنية سؤال الخليقة أشدُّ من لهيب النار؛ لِمَا يعتريهم به من الخجل والعار، بين يدي الواحد القهار؛ أن يكونوا لغيره مثبّتين، وفي أحديّته مشركين؛ فهم الذين يلقوْنه وحوائجهم تختلج في صدورهم، لا يبثّون بثّهم إلى سواه، ولا يُنزلون حوائجهم بغيره.
يروىٰ أن بعض الصادقين الذّائقين شراب المقربين كان يرقبه إنسان، كلما خرج طاف بالبيت، ثم نظر إلى رقعةٍ كانت معه، فلما كان يوم من الأيام تنحَّى ثم خرَّ لوجهه ميتًا، قال: فنظرت في تلك الرقعة، فإذا فيها: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور:48]، قال: فعرفت أنه كانت به فاقة، فاستحيا من خالقه أن ينزلها بغيره حتى قُبض.
ولا منافاة بين هذا الكلام وما تقدّم من معنى الحديث: (من مات جوعًا وهو قادرٌ على أن يسأل ما يسدُّ به رمقه مات قاتل نفسه)".
يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: فيما ينازل قلوب أهل المعرفة بالله -جلّ جلاله- فقد ينتابهم وينازلهم شهودٌ يستغرق عليهم كلياتهم، حتى لا يرون لهم وجودًا مع الحق -جلّ جلاله-، بل في الحقّ -سبحانه وتعالى- وربما استحيى أحدهم من السؤال.
يقول : "رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إلَىٰ مَوْلَاهُ اكّتِفَاءًا بِمَشِيئَتِهِ" وإرادته وعلمه وإحاطته سبحانه وتعالى
-
إما في حال هذا الشهود القويّ للأحدية؛ وهو في ذلك لا يقدر على سوى ذلك.
-
وإما أن يكون الطلب متعلق بشيء من ذاته ونفسه، وما له فيه مصلحة وحظ، فيستحي أن يسأل اكتفاء بعمله، ويسأل في الدرجات العلى في شؤون المسلمين، وحوائج الغير وما يتعلق به فيستحي.
ولذا يسخر الله لهم من مريديهم ومحبّيهم من يدعوا لهم؛ ليثيب هؤلاء ويعطي هؤلاء -سبحانه وتعالى-، ولكن ما سئل حتى من حاجاته الخاصة والأمور الراجعة له، على لسان غيره، ما يؤاخذ وما ينقص مقامه، يسأل على لسان غيره، وإذا سأله هو فيعدّ التفات إلى حظه؛ ولذا يجعل الله لهم في مريديهم ومحبّيهم من يسأل لهم -شؤونهم الخاصة-، ليثيبهم الله تعالى بذلك، وهو يريد أن يعطيهُ وهؤلاء ما هو ما يريد أن يعطيهم.
أو تغلبه شهود الأحديّة فيستحي أن يسأل، ويقول كما غلب على سيدنا إبراهيم، قال لسيدنا جبريل يقول له: ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، قال: فإلى من؟ قال: حاجتي إلى الله، قال: فسله! قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي؛ بسرعة في نفس اللحظة قال الله للنار: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69]؛ هذا الوفي الصادق المفوض لنا، الفاني فينا، وبقوله: -حسبي الله- عندما أدخلوه في المنجنيق، قال: حسبي الله نعم الوكيل، ولمّا رموه تلقّاه سيدنا جبريل، قال: ألك حاجة؟ قال: لا، أنا قلت حسبي هو، ما ارجع لواحد ثاني خلاص، قال: فاسأله! قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69]، دخل كأنه في نهر بارد، قام يصلي، والنار تلهب من كل جانب، وهو فى الوسط، وأول يوم، ثاني يوم، ثالث يوم، وجبريل يجيب الأكل من الجنة، يخدم الخليل إبراهيم، ويأكل هو، ما هو من المزرعة حقّ الدنيا، يأكل من هناك. وسبعة أيام -وفي رواية- أربعين يوم، حتى انطفت النار، لما بدت النار تخمد يشوفون من بعيد، يقولون: كأنه يتحرك، هذا حيّ في وسط النار، يمشي في وسط النار، يدخل ويخرج ما هذا؟!
ولما انطفت النار خرج وقميصه أبيض ما به شيء، وحتى ثيابه ما أكلتها النار! لأنها تعلّقت به؛ شوف التعلق كيف يفيد؛ التعلّق بالمقربين أفاد الجمادات، ما يفيدك أنت؟؟ الثياب تعلّقت بإبراهيم صارت محرمة على النار، قميصه خرج وهو أبيض، ولا قدرت النّار تأثر فيه شيء؛ قميص! قميصه وعمامته ونعله ما لمستها النار، وأكلت باقي الأنواع والمواد الطويلة العريضة الي جابوها، والحطب أكلتها كلها، لكن هذا ولا قميصه ولا ثيابه ولا نعاله ما تمسها خرج كما هو.
لما سُئل آخر أيامه عن أحسن أيام مرّت به في الدنيا، قال: أيام كنت في نار النمرود التي وضعني وسط النار، يعني منقطع عن العوالم كلها والكائنات، وبينه وبين الله فقط وجبريل يخدمه، وهو في حاله ومع الله -جل جلاله- قال: أحسن الأيام، لا إله إلا الله، (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات:98]، (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الانبياء:70] سمعت!!.
ولكن قال هذا ما يدوم، سيدنا الخليل كم دعوات له، دائما يدعو الله في أحواله وشؤونه، لكن في هذا الحال، وهو يقول: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) [الشعراء:83-85]، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]، دعوات كثيرة لكن في هذا الحال قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي.
فإذا كان هذا في حال الأنبياء فما بال الأولياء! ما يصل إلى الأولياء من هذا الشهود القوي؛ إلا ذرّات مما ينال الأنبياء في لحظات خفيفة ويروح عنهم، ما يدوم لهم، -لا إله إلا الله- الاستغراق الكلي، فهذا شأن سيدنا الخليل إبراهيم -عليه صلوات الله وتسليماته- وأرانا الله وجهه، وجمعنا به في دار الكرامة.
قال: "والعارف: هو العارف بالله - ولو من بعض وجوه المعرفة"؛ لأن الإحاطة مستحيلة ما أحد يعرف بالإحاطة إلا هو -جل جلاله-، قال سيدنا أبو بكر: لا يعرف الله إلا الله، "وبصفاته وأفعاله معرفةً تعطيه ذوق العلم الذي لا يتطرق إليه جهلٌ فيما علمه، ولا ريبٌ فيما فهمه".
يقول: "العارف بدين الله وأحكامه ذوقًا وتحققًا أيضًا، يعمل على البصيرة المنيرة، والمحجّة المستنيرة، ففي حال اصطلامه في شهود الكمال يستحيي -لا محالة- عن رفع الحوائج.
قال: إذا كان هذا لهم أحوال استحوا فيها من رفع الحوائج إلى الخالق، فكيف يرفعونها إلى مخلوق؟
لهذا سيدنا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان في الكعبة، الأمير جاء دخل، قال: يا سالم ألك حاجة فنقضيها؟ قال: أستحي أن أسأل غيره وأنا في بيته، أنا في بيت ربي نسأل غيره، واستحى الأمير!! وتعرّض له لما خرج من المسجد، قال: ألك حاجة؟ أنت صرت خارج المسجد ألك حاجة فنقضيها؟ قال له: تعني من حاجات الدنيا أم من حاجات الآخرة؟ قال: الآخرة ما لي سبيل إليها، من حاجات الدنيا، قال: الدنيا! أما الدنيا فأنا لم أسألها من مالكها! فكيف أسألها من غير مالكها؟! قال: مالكها ما سألته أسأل واحد ثاني -لا إله إلا الله-؛ هذا شأن الذين عرفوا الله، وحضرت قلوبهم مع الله، لا إله إلا الله.
قال: "وفي أغلب أوقات السؤال بحكم الامتثال، فيسأل قليل حاجته وكثيرها منه؛ فإنها لا توجد عند غيره وإن قلّت".
هذا يذكر عن نفسه الخليل أنه خرج يوم صادف ما عنده شيء من شأن عشاء أهله، فخرج يستقرض من بعض الناس فاعتذروا إليه، فرجع، رجع إلى البيت، فأوحى الله إليه، ما أخرجك من البيت؟ قال: خرجت استقرض لبعض أولادي ما أعشيهم به، قال له: أما إنك لو قصدت خليلك لم يردّك، رحت عند ثانيين وردّوك! قال: استحييت منك يا رب، استحيت منك أسألك الدنيا (عشاء). قال: سلني ولو ملح عشاك وعلف دابتك، إنت تريد الملح ناقص عليك ملح قل: يا رب، علف حقّ الدابة ماشي قل: يا رب، أجيبه لك -لا إله إلا هو- (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].
قال: "فأرواحهم إلى ظلّ أحديته ساكنة، متسترة عن رؤية الغيرية وظلمة البشرية، -الله الله- فعندهم سؤال الخليقة أشد من لهيب النار".
أقسم بالله لرضخ النوى ** وشرب ماء القلب المالحة
أحسن للمؤمن من حرصه ** ومن سؤال الأوْجه الكالحة
فاستغن بالله تكن ذا غنى ** مغتبطًا بالصفقة الرابحة
اليأس عزّ والتقى سؤدد ** وشهوة النفس لها ذابحة
-في لفظ لها- فاضحة، تفضحها وتذبحها، شهواتها إذا تبعتها تفضحها وتذبحها النفس، وشهوة النفس لها ذابحة.
فاستغنِ بالله تكن ذا غنى*** مغتبطًا بالصفقة الرابحة
"يروىٰ أن بعض الصادقين الذّائقين شراب المقربين كان يرقبه إنسان، كلما خرج طاف بالبيت، ثم نظر إلى رقعةٍ كانت معه، فلما كان يوم من الأيام تنحَّى ثم خرَّ لوجهه ميتًا، قال: فنظرت في تلك الرقعة، فإذا فيها: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور:48]، قال: فعرفت أنه كانت به فاقة، فاستحيا من خالقه أن ينزلها بغيره حتى قُبض" ولم يسأل غيره.
قال: هذا ما يناقض الحديث الذي تقدّم معنا، "من مات جوعًا وهو قادرٌ على أن يسأل ما يسدُّ به رمقه مات قاتل نفسه"، لأن الرجل مع عدم تحقق أنه مات بسبب هذا الجوع، هو كان في حالة معذور فيها عن أن يسأل أحدًا غير الله.
إلى أن قال رضي الله عنه وعنكم:
"فإذا قال قائل: كيف يسوغ له مع قدرته على السؤال (أن) يموت، فنقول: موته بذلك غير محقَّق، وبتقدير ذلك.. فأعلم: أن هذا رجل غلبت عليه شهود أحدية الواحد الحق، فلم يظهر للأغيار آثار عند غلبة تجلِّي مشرقات الأنوار، حتى أتى أجلُهُ المعلوم وهو فيها مصطلم، وبها عن نفسه منعدم، لا إحساس عنده بالألم، بل انطمس كما يتوهم من كل مؤلم وملائم في يَمِّ العدم.
فلا حرج ولا إثم هناك له *** ولا عليه يقول الّلوم من عتبا
بل عينه رمقت صرف الشهود فما *** في ذاك إلا وجود الكون قد ذهبــا
فإن أردت ثبوتًا لا محاولــــة *** عنه تقول: هو فيه شبه هبا
فالحوائج لا تنزل إلا عليه، والمطالب لا تُرفع إلا إليه، قال سهل بن عبد الله: "إن الله مُطَّلعٌ على النفوس والقلوب؛ فأيُّما نفسٍ او قلبٍ وحد فيهما حاجة لغيره سلط عليه إبليس".
وذلك أن القلب موضع نظر الحق، فإذا جعل فيه غيره فقد جعله مصروفًا إليه، ومقبلًا عليه؛ لأنه -أي: إبليس- مفتاح طريق البعد، وقائد ركب الضلال، يستهوي الحمقىٰ والجهَّال بالشكوك وأماني الغرور، ويلقي قولْ الزور، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) [البقرة:268]، وكل من افتقر إلى شيء دون الله فهو من وعده الباطل، وتزويره المائل، (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة:268]، فأيُّ الوعدين أنت به أوثق، فأنت به أحقّ، وبقائله أصدق، وبتسلسله أحقّ، ولشهوده أرمق؟".
يقول: هذا الرجل غلبت عليه شهود الحق، ففي هذا الحالة لا يقدر أن يسأل غير الله أصلًا، ولاحظ أن الحق محيط به يقول: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور:48]، نحن أعلم بك وبحاجتك وما ينازلك، فإن أردنا نجعك أجعناك، وإن أردنا نطعمك أطعمناك، وهكذا.
قال:
فلا حرج ولا إثم هناك له *** ولا عليه يقول الّلوم من عتبا
فالحَوائج لا تُنزل إلا عليه، والمطالب لا تُرفع إلا إليه، قال سهل بن عبد الله: "إن الله مطّلع على النفوس والقلوب؛ فأيّما نفس أو قلب وجد فيهما حاجة لغيره سلّط عليه إبليس"، وذلك أن القلب موضع نظر الحق، فإذا جعل فيه غيره فقد جعله مصروفا إليه، ومقبلًا عليه؛ لأنه -أي: إبليس- مفتاح طريق البعد، وقائد ركب الضلال، يستهوي الحمقى والجهال بالشكوك وأمان الغرور، ويلقي قول الزور (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ). [البقرة:268]
فيبيّن لك حوائجك إلى غير الله تعالى وكأنها كل شيء، وأنه في الله غنى عن كل شيء وليس في شيء غنى عن الله، يا من يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة:268]، فوعد الشيطان: (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) [البقرة:268]، فأنت بأيّ الوعدين أوثق؟ تصدّق من؟ الشيطان: (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) [البقرة:268]، (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة:268]، الشيطان يأمر بالفحشاء ويعدكم الفقر، فلا تصدقه يكذب، والحق تعالى يعدك مغفرة منه وفضلا.
كان واحد منا من المتأخرين عندنا الحبيب علوي بن عمر العيدروس، أيّ وقت تشتدّ به الحاجة وما عنده شيء يروح يتديّن يتصدّق، إذا جاءت أزمة ما عنده شيء يروح يتديّن ويتصدق، نفس يوم أو ثاني يوم تجئ تفتك عليه -تنفرج-، جرّبها مع الله -سبحانه وتعالى-، يخرج من أجله، يعطيه -سبحانه وتعالى- وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وهكذا لمَّا قال واحد -وهو من العارفين- في الحجة: يا رب حجّيت ثلاث وثلاثين حجة، حجة لي، وحجة لأبي، وحجة لأمي، وثلاثين لمن لم تقبل حجهم، يسمع صوت ملك يناديه يقول: أتتكرم على من خلق الكرم؟ أنت بتتكرم، إن الله قد غفر لمن وقف بعرفات قبل أن يخلق عرفات، قد غفر لهم، ما عاد محتاجين لحجاتك، خل حجاتك لك، أتتكرم على من خلق الكرم؟
والثاني من بني إسرائيل كان تاجر ويقول للوكلاء حقه والعمال عنده: انظِروا المُوسر، الموسر خلوه متى جاب، وتجاوزوا عن المعسر، ما عنده شيء خلاص اسكتوا منه، ما عاد تطلبوا منه وسامحوه، لعلّ الله يتجاوز عنه، وكان قليل العمل الصالح ما عنده شيء، قال: فلمّا مات، قال الله: ما عملت؟ يقول: يا رب ما عندي شيء، ما عملت شيء إلا أنك تعلم أني كنت أقول لوكلائي وعمالي انظِروا الموسر وتجاوزوا عن المُعسر، قال الله: تجاوزوا عنه، قال: نعم نحن أحقّ بالكرم منك قد تجاوزنا عنك، قد تجاوزنا عنك، سامحه -سبحانه وتعالى- لا إله إلا هو، ولا أحد أكرم من ربنا، وتعلّق قلوب المقربين به جملة لا يرْجون مرادًا دونه، فالله يشبّهنا بهم ويدخل بنا في دائرتهم.
فالله يبارك لنا في طيب المصافاة، ويجعلنا في أصفيائه وأهل رضاه، وأن يزداد عنهم رضا في كل لمحة وفي كل نفس أبدا سرمدا، ويشمل بذلك أهالينا وأولادنا وذرياتنا وطلابنا و أحبابنا وأصحابنا ومن والانا، وينظر إلينا والحاضرين في هذه المحاضر، وهو أكرم ناظر بعين العناية والرعاية بالحبيب الطاهر ﷺ، ويبلغنا به الآمال وفوق الآمال في الدنيا ودار المآل، ويعجّل في تفريج كروب أمته، ويدفع البلاء عن جميع أمته، ويجعلنا في خيار أمته، وأنفع أمته لأمته، وأبرك أمته على أمته، وينفعنا بأمته عامّة وبخاصّتهم خاصة، وأن يقينا الآفات والأَسواء وكل بلوى، ويصلح السرّ والنجوى، ويجعله من أبرك الأعوام على أمة خير الأنام، في كل خاص وعام، ويبلغنا -سبحانه وتعالى- فوق المرام في الدنيا والبرزخ ويوم القيام ودار السلام.
وأن الله يثبُتنا في ديوان الحبيب، وأهل التقريب، ويوفر لنا منه وبه وفيه الحظ والنصيب، ويجعلنا منه على بال في جميع الأحوال، ويجعلنا منه على بال في كل حين وفي كل حال، ويجعلنا منه على بال في أطراف النهار وأناء الليال.
وأن الله يحنن روحه علينا، وأن الله يُعطّف قلبه علينا، وأن الله يوفر حظّنا من حنانه، ويسمعنا طيّب ألحانه، ويسقينا من حانه، ويشرفنا ويعيننا بالنظر إلى طلعته الغراء وجبينه الأزهر، ويجعلنا -سبحانه وتعالى- من أسعد أمته بنظره، ومن أسعد أمته بعنايته، ومن أسعد أمته بمسامرته، ومن أسعد أمته بمرافقته، وأن يصلح شؤوننا والأمة أجمعين، ويحوّل الأحوال لأحسنها، ويختم لنا بأكمل الحسنى وهو راض عنّا.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة.
08 صفَر 1446