صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين - 1 - مقدمة الكتاب إلى ما يحرم على من انتقض وضوءه
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين للإمام عبدالله بن حسين بن طاهر رحمه الله، ضمن ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار رضي الله عنهم لعام 1445هـ - الأردن
فجر الخميس: 9 جمادى الأولى 1445ه
لتحميل كتاب (صلة الأقربين) pdf:
نص الدرس مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
"الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والتابعين.
أما بعد:
فهذه صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين، يجب على الآباء والأمهات، والأولياء والولاة: تعليم أولادهم وأهلهم، وعبيدهم وكل من لهم عليه ولاية ما يجب عليهم؛ كالإيمان والصلاة، والزكاة والصيام، والحج، وأمرُهُم بذلك.
ويعلمونهم تحريم المحرّمات؛ كالزنا واللواط وكشف العورة، والسرقة والخيانة والكذب، والغيبة والنميمة، والكِبر والحسد والرياء، ونحو ذلك. وينهونهُم عن ذلك؛ فإن أهملوا ذلك .. فقد غشوهم و خانوهم وظلموهُم.
قال في (الإحياء): يُقال: إن أول ما يتعلق بالرجل يوم القيامة أهله وولده، فيوقفونَه بين يدي الله تعالى فيقولون: يا ربنا؛ خُذ لنا بحقّنا منه، فإنه ما علّمنا ما نجهل، وكان يُطعمنا الحرام، ونحن لا نعلم فيقتصّ الله لهم منه، وقال ﷺ : "لا يلقى الله أحد بذنب أعظم من جهالة أهله"
وعن علقمة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ : "ما بال أقوام لا يفقّهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهـم، ولا يأمرونهم ولا ينهَونهم، وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم، ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله؛ ليعلمُنَّ قومٌ جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم، ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمُنَّ قومٌ من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون .. أو لأعاجلنَّهم بالعقوبة في دار الدنيا" أخرجه البخاري في الوحدان وابن السكن وغيرهما.
وإذا كان هذا في الجار مع الجار .. فكيف بأهل الدار مع أهل الدار؟!"
الحمد لله مكرمنا بهذه الشريعة والدين والبيان على لسان نبيه الأمين خاتم النبي سيدنا محمد ﷺ؛ الذي جُعِلنا به خير أمة أخرجت للناس بين العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك الأمين سيدنا محمد وعلى آله وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه الغُر الميامين ومن والاهم فيك، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى جميع أبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
شرح مقدمة الكتاب
وبعد،،
في هذه الرسالة التي نقرأها في خلالها لهذه الأيام للإمام عبد الله بن حسين بن طاهر باعلوي عليه رحمة الله -تبارك وتعالى-، أحد أئمة دين الله -تبارك وتعالى- والعلماء العاملين الراسخين في العلم والتقوى والولاية؛ أعلى الله درجاته وجمعنا به في أعلى جناته، وقد توفي قبل مئتين وثلاثة وسبعين عامًا -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-، سماها: "صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين" مشيرًا إلى أن الصِّلات المفروضة في شريعة الله -تبارك وتعالى- لكل مؤمن بالله، فيما يتعلق بقرابته وما يتعلق بذوي رحمه؛ أن هذه الصلة الواجبة المفروضة كما تعلقت بالمواساة والهدية والصدقة للمحتاج والزيارة وإدخال السرور والأخذ بالخاطر؛ فهي أيضًا متعلقة بالتواصي بالحق والصبر، وبِتَبْيين أحكام الدين للأبناء والبنات وللأَهِل والأقارب ولذوي الرحم.
وبذلك جاءنا القرآن الكريم في عموم الرسالة لسيدنا محمد ﷺ وقد أُرسلَ للناس كافة وأرسِلَ للعالمين؛ ومع ذلك أَمَرَهُ أن يخص ذوي رحمه وقرابته، وقال له: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]، وأمره أن يخص أهل بَلَدِه ومَحَلَتِه فقال: (..لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ..) [الشورى:7]، أي: مكة المكرمة ومن حولها أي: من حلّ في مكة، ومع أنه أرسل لكل عربي وأعجمي، وإِنْسِيِّ وجِنْيِّ، صغير وكبير، ذكر وأنثى، من كل مكلف إلى يوم الدين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إذًا فهنا من المهمات على المؤمن أن لا ينسى صلته الأقربين بنصيب من هذا البيان وهذا التعليم، وهذا التواصي بالحق والصبر، والذي قُصِّرَ فيه كثيرا حتى من الوالد لولده؛ وتسبب لذلك بُعْدٌ وغفلة وإهمال، وتسلل عادات وأخلاق وأعمال سيئة وقبيحة إلى دوائر الأولاد والذرية والأقارب.
وربما كان من أسبابها هذا الإهمال عند الأَبِ وعند الأم لأبنائهم وبناتهم، إهمال حقهم في واجب التبين بما يتناسب مع عقولهم وأفكارهم ومداركهم، ولفت أنظارهم إلى إيجاب ما أوجب الله، وتحريم ما حرم الله فهو الخالق الحق الذي له الأمر المُطْلَقَ، والحكم المطلق في أن يحرم وأن يحلل، ولا يجوز لغيره أن يتعدى الحدود و ينصب نفسه إلهًا للخلق؛ يمنع ما يشاء ويبيح ما يشاء فالخلق كلهم عبيد لإله واحد حي قيوم -جل جلاله- فأَوَامِره ونواهيه أعظم ما اسْتَقَتْهُ العقول والقلوب والأرواح؛ لتفقَهَ مسارها في الحياة وتفقه المنهاج الذي خلقها الله تعالى من أجله.
ووجب أن يحمل كل أب وكل أم ثم بقية الأقارب لأقاربهم هذا التواصي بالحق والصبر، وحسن البيان لهذا الواجب.
سمَّاها: "صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين"، فإن ذلك من أعظم المهمات والواجبات، ابتدأ بالبسملة والحمد لله رب العالمين، وذكر الشهادتين: "وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والتابعين"، وهؤلاء خيار هذه الأمة آله وصَحْبُه رأس هذه الأمة وأَفَاضِلْهُم، والتابعين لهم دخلوا في دوائر العناية الربانية بقول الله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].
ما يجب تعليمه الأولاد والأهل
وذكر أن: "هذه صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين وذكر أنه يجب على الآباء والأمهات والأولياء والولاه، تعليم أولادهم وأهلهم وعبيدهم وكل من لهم عليه ولاية ما يجب عليهم كالإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج.." وما تعلق بذلك، وقد ذكر نبذةً كبيرةً واسعةً في خلال هذه الرسالة، تحمل أداء هذه الأمانة على من قِبَلِ كل من وجبت عليه من أبٍ وأمٍ ومن ذي ولايةٍ على صغير أو كبير.
وقال: "ويعلّمونهم تحريم المحرمات كالزنا واللواط وكشف العورة، والسرقة والخيانة والكذب والغيبة والنميمة، والكبر والحسد والرياء ونحو ذلك"، التي يجمعها المنكر وهو: كل ما نهى الله عنه ورسوله وحرَمه وتوعَّدَ بالعذاب على من فعله، فهذه هي المحرمات: التي يقوم صلاح العباد في دنياهم ثم في آخرتهم على اجتنابها، وعلى البعد عنها وعلى الحذر منها؛ فإن الأعلم بخلقه وبمصالحهم حَرَّمَ ذلك؛ ولقد بعث نبينا يُبْلِغْنَا ما حَرَّمَ ربنا، ووصف ما يُحَرِمْهُ بالخبائث، وقال عن نبينا: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف:157]، بما أولاه الله سبحانه وتعالى من التحليل والتحريم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4]، وذلك مكانة الأنبياء لدى ربهم ومكانة سيد الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي قال الحق عنه: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ ..) [النساء:80].
يقول: "يجب عليهم أن يعلمونهم تحريم .." أمثال هذه الخيانات والكذب، وما يتعلق بالشهوات المحرمة من الزنا واللواط ونحو ذلك، بل وكشف العورات للرجال أو للنساء كما حددتها الشريعة، وجاءت فيها اجتهادات الأئمة -رضي الله عنهم- من الفقهاء في دين الله -سبحانه وتعالى- فواجب مراعاة ما أُجْمِعَ عليه.
ثم الناس على مراتب في الاحتياط لدينهم والانتباه من شريعة ربهم، وارتقائهم في الدرجات: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران:163]. والمهم أن بساط شرع الله محل اهتمام يجب أن يحل في القلوب من قبل الصغير والكبير والذكر والأنثى؛ ويحمل مسؤوليته في ذلك من له ولاية على أهلٍ؛ أو على أولادٍ؛ أو على من تحت يده، وعلى كل معلم في تعليمه؛ وعلى كل مؤثر ونافذ أمر في من ينفذ فيهم أمره وتأثيره؛ فإنها المهمة التي يقوم عليها أمر الدين بالإعراض عنها والإهمال لها؛ تستفحل الشرور وتغيب الخيور، ويضعف النور ويحصل للشيطان مجال في أن يُضل وأن يزين القبيح والمنكرَ والسوءَ ويدعو إليه، ولكن بحسن التنبه وحسن التواصي بالحق والصبر تنغلق أبواب هذا الإذلال وهذا الإفساد لعدو الله ولجنده من شياطين الإنس والجن.
قال: "وينهونهُم عن ذلك؛ فإن أهملوا ذلك" -أي الآباء والأمهات وأولياء الأمور- "..فقد غشوهم وخانوهم وظلموهُم"، فلا تتعلق الخيانة والظلم بمجرد الأموال والكسوات والعطيات المادية، ولكن أيضا إهمال واجب التذكير والتنبيه الذي قال عنها صاحب الرسالة: "مُرُوا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عشرِ، وفَرِّقُوا بينهم في المضاجعِ"، في تعليم لتأصيل وتثبيت شؤون الإرتفاع والعفاف من الصغر فيما أرشد إليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الوعيد لمن أهملَ تعليم ولده وأهله
ونقل بعد ذلك ما أورد الإمام الغزالي في الإحياء وأورده الإمام أبو طالب المكي في قوت القلوب أن أول ما يحصل يوم القيامة: "إن أول ما يتعلق بالرجل يوم القيامة أهله وولده فيوقفونه بين يدي الله -تبارك وتعالى- يقولون يا ربنا خذ لنا بحقنا منه فإنه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا الحرام، ونحن لا نعلم؛ فيقتصُّ الله لهم منه"، وقد جاء هذا بعدة طرق وبعدة روايات؛ أنه يتعلق برقبة الإنسان يوم القيامة بعض أهله أو أولاده، حتى أن منهم من يقولُ: يا ربِّ أطعمتهم وسقيتهم وكسوتهم وأسكنتهم، يقولون: صدق في هذا؛ لكنه لم يعلمنا أمر ديننا، إلى غير ذلك مما جاء في الروايات.
وتأتي أيضا بعد ذلك الرواية في أنه: "لا يلقى الله أحدٌ بذنبٍ أعظم من جهالة أهله بأمر دينهم"، كما جاء في لفظ آخر: "لا يلقى الله أحد بذنب بعد الشرك بالله؛ أعظم من جهالة أهلِ بيته بأمر دينهم" ... "من جهالة أهل بيته بأمر دينهم".
ولذا وجدنا في أُسَرِ المؤمنين وبيوتهم وديارهم عقدَ الجلسات وتبادلِ الحديث فيما يتعلق بالمهمات والواجبات بين أفراد الأسرة، ولهم شيء من الأوقات يجتمعون عليه على ذلك، وكان بعض بلاد الإسلام يجتمعون في قرون سابقة فيما يسمى بقهوة الضحى، أو فيما بين ما بعد العشاء وقبل المنام، ويحصل من أولياء الأمور والكبار تفقد الأحوال، ويحصل التذاكر في المهمات والواجبات، هذا الذي أُهمِل في كثير من أسر المسلمين، وربما حلَّ محله أن يشتغل كل واحد بهذه الشاشات وبهذه الجولات، وما يطرح فيها من خير أو من شر والشر أكثر، من نفع أو من ضر والضر أكثر، من فساد من صلاح أو فساد والفساد أكثر -والعياذُ بالله تبارك وتعالى-؛ وتعطلت عند بعض المسلمين مهمة القوامة في البيت والإرشاد والهداية لأهل بيتهم ولأسرهم ومن حواليهم، "كلّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ".
وذكر لنا هذا الحديث الذي في كتاب الوحدان أورده الإمام البخاري، والذي ذكره الطبراني في الكبير وغيره: "ما بال أقوام لا يفقّهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهـمْ، ولا يأمرونهم ولا ينهَونهم، وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم.." يعني: من الجيران من أهمل الأمر فيُخَاطَب، ومنهم من فتح الباب وعمل ما عنده من القدرة والوسائل بالتعليم؛ ولكن يُعرض بعض الجيران. "ما بال أقوام لا يفقّهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهـم، ولا يأمرونهم ولا ينهَونهم، وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم، ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله؛ ليعلمُنَّ قومٌ جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم، ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمُنَّ قومٌ من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون .. أو لأعاجلنَّهم بالعقوبة في دار الدنيا" يعجِّل لهم من أمر العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ما يتنكَّد به عيشهم؛ وما ينالهم به التعب في الدنيا من هذا الإغفال والإهمال لهذا الواجب العظيم في هذه الأمة؛ التي رُبِطَ بخيريتها هذه الصفات لهم، قَالَ: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) [آل عمران:110-111].
قال: "وإذا كان هذا في الجار مع الجار .. فكيف بأهل الدار مع أهل الدار؟!" في وسط الدار الواحدة ساكنين، وليسوا بمجرد جيران من الأسرة والأقارب فالشأن والخطاب معهم أكبر وأعظم.
ما يجب تعليمهم من العقيدة
قال رضي الله عنه وعنكم: "فيجب عليهم أن يعلموهم من العقيدة أن الله واحدٌ لا شريك له، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأن رسوله ﷺ صادقٌ فيما أخبر به.
ويعلّموهم اتباع سنة السلف رضي الله عنهم، والإيمان بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحثٍ وتفتيشٍ وسؤالٍ عن تفصيل، بل يقولوا : آمنا وصدّقنا.
ويشغلوهم بالتقوى، واجتناب المعاصي، وأداء الطاعات، والشفقة على المسلمين وسائر الأعمال الصالحة.
وأما الصلاة.. فيعلمونهم أنها فرضٌ يكفر جاحدها ويُقتل إن لم يتب مرتداً، وتاركها كسلاً يقتل إن لم يتب حدًّا.
ويؤمر بها الصبي والصبية بعد سبع سنين إذا ميَّزا ، ويُضربان على تركها بعد عشر سنين.
ولها أحكامٌ كثيرةٌ واجبةٌ ومندوبةٌ؛ منها: تجنّب النجاسة في البدن والثوب، والمحمول والمكان؛ كالأَرواث والأبوال والدماء، والمسكر المائع، والكلب والخنزير، والميتات إلا ميتة الآدمي والسمك والجراد، فيجب غسل ما أصابه منها إلا أن يكون شيءٌ يُعفى عنه مثل دمِ جرحه ودم نحو البراغيث، وونيم الذباب وإن كثر، فلا يجب غسله.
وغسلها وغسل الأحداث يكون بماء طهور؛ بألّا يخالطه شيء يُستغنى عنه فيسلب اسمه أو يتغيّر طعمه أو لونه أو ريحه بنجس ولو يسيرًا، أو يلاقيه نجسٌ وهو دون القلّتين إلّا أن يكون شيء يعفى عنه مثل ميتة لا دم لها سائل لم تطرح ولم تغيّر ، أو يكون دون القلّتين وقد استُعمل في رفع حدث أو نجس".
ما الذي يجب تعليمه الأهل من العقيدة؟
صلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله…
ابتدأ يشرح الشيخ أداء هذه الأمانة كيف تؤدّى؟ والقيام بواجب هذا الفرض الذي فرضه الله تعالى علينا.
قال: "يجب عليهم.." يعني: جميع أولياء الأمور بالنسبة لكل من لهم عليه ولاية ومن يصغي إليهم: "أن يعلموهم من العقيدة"، أي من الإيمان "أن الله واحداً.."؛ فإنها:
- أول ما يجب أن يرسخ في القلب توحيد الرحمن -جل جلاله وتعالى في علاه- وشهادة أن لا إله إلا هو وأن محمداً عبده ورسوله، ذاكم مفتاح الدخول في الدين كله، ومهما قوي هذا الأساس حسُنَ البناء عليه وقوي واستوى وطال وحصل الانتفاع؛ إذا قوي الاعتقاد واليقين بأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ..) [البقرة:163].
- وأنه يستحيل عقلاً وشرعاً أن يكون الكون والحوادث والكائنات والموجودات بغير موجدٍ وبغير خالق.
- ويستحيل شرعًا وعقلًا أن يكون الخالق لها والمنشئ لها أكثر من واحد، قل: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ..) [الأنبياء:22]، (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68] جل جلاله، ويقول في الآية الأخرى سبحانه وتعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ..) [المؤمنون:91]. ورجعنا إلى مستوى الخلقية ومستوى المخلوقية ومستوى المكونات يتعالى بعضهم على بعض؛ ويضرب بعضهم ببعض؛ فأين الألوهية إذَا؟ لا ألوهية، ولكن يجب أن يتفرد بالخلق والإيجاد واحد ذلكم هو الله -جل جلاله- قُل (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ..) [فاطر:3] جل جلاله.
- وبيان هذا بتيسير المعنى وإقامة الحجة والبرهان بما يعلقُ به النور في القلب، ويُحفظ به أذهان ناشئتنا عما ينشر من دواعي الإلحاد ودواعي الكفر بالحق، وبالإلهِ الخالق جل جلاله وتعالى في علاه.
"أن الله واحد لا شريك له.." لا شريك له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، تعالى وجل عن الشريك والمثيل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]، وهنا يُعْلَمُ أن مداركنا ومدارك الملائكة والإنس والجن أجمعين وهم عقلاء الخلائق أقلُّ من أن تحيط بالإله الخالق -جل جلاله-؛ وإنما تَكَرَمَ عليهم هذا الإله بما آتاهم من استعداد لمعرفة عظمته، ومعرفة أسماءٍ وصفاتٍ له؛ كمَعرفة أفعاله في هذا الوجود على مقدار يتهيأُ به مدارك عقل كل واحد منهم لإدراك النصيب من هذه الأسماء والصفات والأفعال ومعانيها؛ وعظمة الذات للإله سبحانه وتعالى وتنزيهها عن كل ما لا يليق بعظمته وجل جلاله وتعالى في علاه؛ فهو المتصف بكل كمال والمنزه عن كل نقص جل جلاله وتعالى في علاه.
هبة الله لمن تقوى عقيدته
بهذه المدارك التي يتفاوتون فيها بعد ذلك في مدى استعدادهم وفطرهم، وحسن تفكيرهم وفي ما يكتسبونه من نور العبادة لهذا الإله الواحد؛ وما يُطَهِرُون به بواطنهم؛ ويُزَيِنُوها له بالطهارة والحضور معه -جل جلاله-؛ فيَهَبَهُم ما يهبهم من أسرار هذه المعرفة الخاصة، وهذه المعرفة الخاصة لا إحاطة فيها بشيء من صفات الله وأسمائه؛ ولكن معرفة وعلم بهذه الصفات وبهذه الأسماء هم على درجات فيها، كلما اعتلت الدرجة أيقن صاحبها أنه لا يمكن الإحاطة، وأن نهاية ما يمكن أن يكون قوة الإدراك أنه: "لا يعرف الله إلا الله"، كما قال سيدنا الصديق، أي: لا يحيط بمعرفة أسمائه وصفاته فضلًا عن ذاته غيره -جل جلاله وتعالى في علاه-، وسيد أهل المعرفة به يقول في كل ليلة سبحانك "لا أُحصي ثناءً علَيكَ أنتَ كما أثنَيتَ علَى نفسِك"، وذلكم سيدنا محمد ﷺ أعلم الخلق بالله وأعرفهم بأسمائه وصفاته.
فلذا يجب أن يرسخ التقديس أنه "ليس كمثله شيء.." وأن كلما يخطر على البال فالله بخلاف ذلك؛ لأنه أكبر من أن يخيله خيال، ولكن إدراكنا لعظمته هذه وأنه لا يمكن أن يحيط به كائن ولا مخلوق هو المعرفة به، وكلما أشرق النور أكثر وعَلِمْنَا أكثر كان التسليم بالعجز عن الاحاطة أقوى وأكبر، وهكذا شأن العظمة في الألوهية والربوبية.
"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.." فهو المخالف لجميع الحادثات والكائنات والمخلوقات للعلماء ومنها خواطرك وما يتصور في بالك الله تعالى أكرم وأكبر من ذلك وأشرف وأعلى وأجل، وتكفيك نور من نور المعرفة حيرة تنتاب قلبك في شهود العظمة للإله؛ حيرة معرفة لا حيرة جهالة.
واجب تعلم الإيمان برسل الله
يقول: "أن رسول الله ﷺ صادق فيما أخبر به" عن الله -تبارك وتعالى- فإن الإيمان يقوم على معرفة صفات الله تبارك وتعالى وصفات أنبيائه ورسله، وما جاء عنهم مما سُمِّيَ بالسمعيات أي: التي لا طريقة للعقل أن يصورها وأن يدركها، ولكن يوصلك العقل إلى إدراك أن لك إله ولهذا الوجود، وأنه أرسل الرسل ولهم البراهين على صدقهم فيما جاؤوا به عن الله؛ فحينئذ عنهم تسمع عن ما يسمى بالسمعيات من أخبار الملائكة، وأخبار البرازخ، وأخبار القيامة وما فيها وأخبار الجنة والنار؛ وكل الغيبيات التي أُمرنا بالإيمان بها المسماة بالسمعيات.
ولذا كان علماء الإيمان في القرون السابقة يقولون في علم التوحيد:
- هو قسمٌ في الإلهيات
- وقسمٌ في النبويات
- وقسمٌ في السمعيات
ويريدون ما ورد عن الله ورسوله مما يتعلق بصفات الله -تبارك وتعالى- وما يتعلق بصفات الأنبياء والمرسلين لأن الله رتب الإيمان عليه بالإيمان برسله وكررلنا ذلك في الآيات الكريمة، قال تعالى عن الجنات: (..أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ..) [الحديد-21]، (..أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ..) صلوات الله وسلامه عليهم.
فيجب معرفة المرسلين من معرفة صفاتهم والإيمان بهم على الجُملة بجميع من بعثه الله، آمنا به وصدقنا، وأما على التفصيل بمعرفة الأسماء، فإنما نعرف ويجب علينا أن نعرف ما نزل في القرآن من ذكر أسماء المرسلين والأنبياء قبل نبينا محمد ﷺ، ومجموع ما جاء في الآيات أولئك الخمسة والعشرون من الأنبياء والمرسلين الذين ذكرهم الله تعالى بأسمائهم؛ فوجب الإيمان بهم تعيينًا وتفصيلًا، كما وجب الإيمان إجمالًا بجميع من نبَّأَهُ الله؛ وجميع من أرسلهُ الله وابتعثهُ الله سبحانه وتعالى. آمنا بهم أجمعين، اللهم أرزقنا حسن متابعتهم.
تعلُّم اتباع سنة السلف الصالح
"ويعلّموهم اتباع سنة السلف -الصالح- رضي الله عنهم.." في مسائل الإيمان ومسائل الإسلام ومسائل الإحسان، يعلموهم اتباع سنة السلف الصالح الذين اؤتمنوا على بلاغ سنة رسول الله ﷺ؛ ممن شاهدهُ مباشرة من الرعيل الأول من آل بيته وصحابته الذين كانوا في عصره وعاشوا معه؛ فهؤلاء رأسنا معشر الأمة، وهؤلاء أساسنا معشر الأمة، وهؤلاء هم السِيَاجُ الذين بهم ندخلُ إلى حضرة النبوة والرسالة؛ فهم الذين شاهدوه وهم الذين عاينوه وهم الذين تكلموا معه، وهم الذين تلقوا البلاغ عنه -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- فما بلغوه لمن بعدهم.
واشتهر إطلاق السلف على أصحاب القرون الأولى أو الطبقات الثلاثة الأولى من الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ولَفظُ السلف يعُم كل مَن سلف أي مضى وتقدم، فكل من كان مستمسكًا بالهدي متقدمًا ومتأخرًا فهو من أولئك السلف الذين يشملهم وصف الصدق الذي أمرنا بأن نكون مع أهله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة-119] عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
فيجبُ بيان وترسيخ هذه الأسُس في أذهان ناشئتنا وأبنائنا وبيننا وبين الله تبارك وتعالى، نُدرك أن ترجمة الكتاب والسنة إنما تتم في عاملين بها من الواعين لها، والغائصين على دلالاتها، والقائمين بحقها، وأولهم من كان في عهد نبينا من آل بيته المؤمنين وصحابته الأكرمين عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وَلاَ تَعْدُ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ مَطْلَعُ الهُدَى *** وَهُمْ بَلَّغُوا عِلْمَ الِكتَابِ وَسُنَّةِ
فَذُو القَدْحِ فِيهِم هَادِمٌ أَصْلَ دِيِنِه *** وَمُقْتَحِمٌ فِى لُجِّ زَيْغِ وَبِدْعَةِ
ذلك ما يقتضيه العقل واقتضاه النقل فوق العقل كذلك؛ أن من يَحيدُ عن سبيلهم وعن سننهم، ويتبع غير سَبيل المؤمنين، ويتبع غَير مسلك السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فقد تعرضَ لسخط الله تعالى ولغضب الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، فتَترجم العمل بالكتاب والسنة في الرعيل الأول، وفي من اتبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، بما يحمل الكتاب والسنة من عظمة تتفتح فيها معانيها ودلالاتها على مدى القرون بحسب الاحتياجات وحسب الاصطفاءات من قبل الحق، "فَرُبّ مبلغ أوعى من سامع".
ولا تناقض بين اتباع السلف وبين أن من أسرار الكتاب والسنة ما ينكشف لبعض الخلف دون بعض السلف.. لا تناقض بين ذلك، فإن هؤلاء من الخلف الذين تنكشف لهم هذه الأسرار هم أرسخ الخلف قدمًا في اتباع السلف الصالحين، وفي معرفة قدرهم ومكانتهم عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
كما لا تخالُف في أن كل نبيٍ مصدقًا لما بين يديه من الأنبياء والمرسلين، ولا تخالُف بين هذا وبين أن يكون عنده أحكام وشريعة تختلف عن أحكام أولئك فيما شرع الله لأولئك وبما شرع له، فما يوصل ذلك إلى الخلل في أنه مصدق لما جاء به من قبله، بل هو يقر ذلك وأنه حق؛ فكيف والأمر ليس فيه إبطال شيء مما سبق؟!
ولكن زيادةُ وعيٌ وفَهم من الكتاب والسنة فيما احتيج إليه أو فيما تجدد أو فيما خص الله بهذا؛
- فلا تناقض أصلا، فاتساع الكتاب والسنة لا يفتح باب المغفلين ولا الجاهلين ليتجرأوا على السلف الصالح، وليقولوا نحن فهمنا ولم يفهموا، وليقولوا نحن علمنا ولم يعلموا؛ أولئك من أبعد الناس عن كتاب الله وعن سنة رسوله،
- كما أنه لا يتجمد الكتاب والسنة فيما بيّن سادتنا وسلفنا الصالحون عليهم رضوان الله، ويمكن أن يلتقط من جواهره ويطلع على نفائسه من خلفهم ومن اقتدى بهم في ضوابط لا تخرجه عن الأدب مع الله ولا مع رسوله ولا مع السلف الصالحين.
ذلك المسلك الذي عليه الهداة المهتدين، ويدخل الشيطان لِيروج وليضحك وليبهرج بعض الكلام للناس حتى منهم من يدعي فهمًا ليس للسابقين، ومنهم من يأتي بعد ذلك بهذا الوهم ويعده أصلا من الأصول، ويقول: إن الألفاظ إنما تُفهم في كل وقت وفي كل زمان بما يليق بها، وكأنه ليس هناك شيء يجمع، وليس هناك خطاب واحد من الواحد لكل من آمن به؛ ذلك هُزءٌ وكلام باطل، وأن الشريعة حق وهي بينةٌ، وأساسها محمد بن عبد الله، وأول من يمكن أن يُفَهم بترجمة ما جاء به آله وأصحابه الذين عاشوا معه وعاصروه وشاهدوه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ فلا مجال للتطاول عليهم ولا لإقصائهم من سلسلة الاتصال بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وفهم الكتاب والسنة، ثم الذين يلونهم والذين يلونهم. ولا إشكال في أن يخص الله متأخراً بزيادته فهم فيما تجدد الاحتجاج إليه، أو فيما كان أليَقَ بأهل الزمن دون أن يمس بشيء من الثوابت، ودون أن يحكم ببطلان أو بخروج شيء مما ثبت عن السلف الصالح عن الأصل والانطواء تحت كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وجعلنا وإياكم من أهل اتباعها.
"يعلمهم اتباع سنة السلف رضا عنهم والإيمان بجملة ما جاء بالكتاب والسنة من غير بحث وتفتيش وسؤال عن تفصيل بل يقول آمنا وصدقنا"؛ مشيراً إلى البعد عن ذلكم التطاول في الأسماء والصفات، وذلكم التمشدق والتحذلق والغلو وفي ادعاء بيان بعض ما أجمل الحق -سبحانه وتعالى- وبعض ما سبيله التصديق والانقياد، بحكم الشرع وبحكم العقل الذي هدانا إلى صحة هذا الشرع وما جاء به رسول الله ﷺ عن الله -سبحانه وتعالى-.
وقوم سماهم لنا رسول الله وبين علامتهم، وهم ما ذكر الحق لنا في قرآنه أنهم أهل زيغٍ علامتهم يتبعون ما تشابه، قال سبحانه وتعالى: (.. مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ..) [آل عمران:7]، طلب للفتنة، فهم مجندون من قبل الخبيث ليفتنوا الناس؛ وليزيغوا بالناس، (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ..)؛ أي: الوصول إلى ما ستره الله من المعاني وخص به نبيه، وخواص أصفياؤه ويريدون أن يكشفوه؛ ولا سبيل إلى ذلك، "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه.."
فما مسلك الذين لم يزيغوا؟! .. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 7-8]، هذا دعاؤهم وهذا توجههم وهذا وقوفهم عند الحدود؛ آمنا به كل من عند ربنا.
هذا الذي أشار إليه بقوله: "من غير بحث وتفتيش وسؤال عن تفصيلٍ لم نؤمر به.."، ولا يمكن للعقول أن تصل إليه، وذلك من جملة مفاتيح الفتن على عباد الله تبارك وتعالى، ويشتغل فيه من جند إبليس كثير؛ حتى صار عند بعض المنتمين للدين وللشرع أول سؤال يسألونه أطفالهم وناشئتهم وأول من أقبل من العوام، أين الله؟! وهذا السؤال مركب على إرادة تصورٍ لمكان يحل فيه الجبار الأعلى الذي خلق الأماكن وخلق الأزمنة، وعزته وجلاله لا يحتاج إلى عرشٍ ولا كرسيٍ ولا إلى قلمٍ ولا إلى جنةٍ ولا إلى نارٍ ولا إلى أرضٍ ولا إلى سماءٍ، والله إنها المحتاجة إليه، والله إنها المخلوقة له وفعله، وهو الأكبر الأعلى من أن يحُل في شيء منها، أو شيء منها يحُل فيه -جل جلاله وتعالى في علاه-، ليس هذا وصف إله ، هذا وصف جسم، هذا وصف مخلوق، هذا وصف منحوت حادث، الحق أكبر من أن يحُل في شيء من السماوات والأرض بذاته العلية المقدسة، أو يحُلَّ فيه شيء من السماوات والأرض وما بينها، هو الإله، هو الإله، هو الإله، الألوهيّة تقتضي هذا.
وأما إذا أردنا مكان للسكون؛ وفي مكان للخروج؛ هذا مخلوق من المخلوقين؛ هذا جسم من الأجسام لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، (..فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ..). ولخص ذلك في بعض أقواله الإمام الشافعي في قوله: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله". يا متعمقين .. يا متطاولين .. يا مبالغين، هل شيء أكبر من هذا؟! أنا آمنت بالله بالذي جاء عن الله على مراد الله نفسه، تريدون شيء أكثر من هذا؟!. وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراده هو، ليس على لعبكم؛ وليس على أهواءكم؛ وليس على تفسيراتكم الباطلة؛ على مراد النبي، أنا آمنت بما قاله النبي على ما أراده النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهل يُطالب الله عباده بأكثر من ذلك؟ آمنا به كل من عند ربنا، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمرآن:8].
وإذا في شغل يشغلون به أتباعهم وأصحابهم قال: "يشغلوهم بالتقوى.." ما تشغلهم بهذه القضايا التي تضرهم، اشغلهم بتقوى الله، اشغلهم بالإنتصاب في محراب العبودية، والقيام بحق الشكر والذكر للحي القيوم جل جلاله، فهذا ينفعهم، هذا يرفعهم، هذا يرقيهم، هذا ينقيهم، هذا يقربهم من باريهم، هذا يجلُب لهم خير الدنيا والآخرة، قال: "يشغلوهم بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات، والشفقة على المسلمين، وسائر الأعمال الصالحة"، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
تعلُّم الفرائض وأولها الصلاة
"وأما الصلاة.." كذلك، "فيعلمونهم أنها.." -من الصلاة- " فرض.." من أعظم فرائض الدين جاحدها يكفر لأنها معلومة من الدين بالضرورة، فهناك فرائض مجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة؛ لا عذر للمسلم أن يجهلها، ومن جحدها كفر ومنها الصلاة، فإنها أعظم الشعائر، وأعظم الفرائض بعد الشهادتين. "جاحدها" أي: منكر وجوبها كافر بالله تبارك وتعالى، "وإن لم يتب -يقتل- مرتدًا خارجًا عن الملة. أما "تاركها كسلًا"، لا ينكر وجوب الصلاة ولكنه يتكاسل عنها، فجمهور الصحابة والتابعين والسلف؛ فإنه لا يعد كافرًا، ولا يطلق عليه لفظ الكفر، وإنما يكون فاسقّا بذلك، ويجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قُتل حدًا. وفي قول لبعض الصحابة وقول عند الحنابلة: أن تاركها المصر على تركها، المتعمد لتركها ولو كسلًا يطلق عليه لفظ الكفر، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ولذا قالوا لم يختلف السلف في ترك شيء من الفرائض يعد كفرًا إلا الصلاة. جاء فيه خلاف والجمهور على إنه:
- إن كان كسلًا فلا كفر ولكنه فسوق.
- وإن كان جحودًا فكل من جحد معلومًا من الدين بالضرورة، فقد خرج عن الملة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
توضيح مجال الضرب لترك الصلاة
وذكر أمر الصبي بها لسبع، وضربه على تركها لعشر.
وبعد ذلك يبين لنا في مسألة هذا الأمر أنه يجب أن يتصل بالاختيار الحسن في كيفيته، كيفية هذا الأمر والترغيب فيه، وحتى إذا بدى شر النفس في الإصرار على الترك يحتاج إلى الضرب، والضرب مقيد في الشريعة:
- أن لا يكون مبرحًا.
- وجاء في تقييد عدده؛ بأن لا يزيد عن عشرةٍ، وفي بعض الرواية عن ثلاثة ضربات.
- وأن لا يسيل دمًا، ولا يكسرعظماً.
- وأن لا يكون شيء منه في الوجه.
بهذه الضوابط يصير الضرب وقت الحاجة إليه بهذه الضوابط منفعة وفائدة وتأديب، ولا مجال لإنكار أن هذا فيه فائدة. وقد أمر الحق تعالى في بعض الحدود لمقتحم المنكرات إذا أقّر أو ثبت عليه ذلك أن يضرب، (..فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً..) [النور:4]. وقال هذا في أرباب القذف، كذلك في أرباب الزنا: (..فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ..) [النور:2].
لا سبيل لإنكار أن الضرب في وقته ومحله نافعٌ ومفيد، من أجل رأي ما أدري من جاء من الشرق ومن الغرب، وقال ما ينفع وما يفيد، بسم الله الرحمن الرحيم.. متى جئت ومن أين؟ ومن أرسلك بهذا الكلام؟ قبل ما تخلق بمئات السنين قد جُرب ونفع، فما الذي عندك؟، ولا مجال لأن يفتح باب الضرب للصغار والمبار بهمجية ولا بشدة ولا أن يكون ذلك مبرحًا، لا مجال لذلك، ومن يفعل ذلك بدعوة أنه مربي أو يؤدب نقول: أخطأت، وما قمت بإمتثال أمر المربي كما أمر، فالمربي كما أمر لم يأمر بهذا. وقد ضرب المثل في بعض الضرب، في فهم بعض الضرب للتأديب بسواك.
القصد بعثُ الضمير، وجود زجر وكسر النفس المتنمرة والمعاندة؛ فقط بحدودها مع صبرٍ كثير وحلم كثير.
وجاء في هديه و السنة أنه بنفسه ﷺ لم يباشر الضرب إلا أن يجهد في سبيل الله، إلا أن يجهد في سبيل الله، ما ضرب امرأة ولا ضرب طفلا ﷺ، ولكن أمر به في وقته وعلى هيئته؛ ثم لم يباشر بنفسه إلا الضرب في سبيل الله فالقتال فقط صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أحكام النجاسات والماء المتغير
ثم ذكر الأحكام في ذلك من وجوب "تجنب النجاسة." وهي: القاذورات التي تمنعُ صحة الصلاة، وأن يكون ذاك: "في البدن والثوب والمحمول.." كالمبين لأن مقصود الفقهاء بالثوب: كل ما حمله الإنسان فلا يحمل خاتمًا أو جوالًا أو قلمًا فيه نجاسة ويقول ليس بثوب، كل ما تحمله فهو لك ثوب؛ فلا يجوز أن يكون فيه نجاسة كائنًا ما كان هذا.
قال: "والمحمول والمكان." وهو: ما يلاقيه بدنه من المحل الذي يصلي فيه "كالأرواث والأبوال والدماء" على الإختلاف في روث المأكول أهو طاهر أم نجس؟ ومعتمد الشافعية أنه نجس، وعند بعض الأئمة أن ذلك طاهر.
وكذلك الدم بأنواعه، "والمسكر المائع.." كذلك عند جماهير أهل العلم، "والكلب والخنزير.." عند جمهور أهل العلم، "والميتات إلا ميتة الآدمي والسمك والجراد،"، والآدمي: لمحل التكرمة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..) [الإسراء:70]، والسمك والجراد لقوله: "أُحلت لنا ميتتان السمك والجراد".فيجب التطهر عن النجاسة، قال تعالى لنبيه: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر:4].
"فيجب غسل ما أصابه منها إلا أن يكون شيء يعفى عنه، مثل دم جرحه.." بنفسه أي: "وإن كثر،" والدم اليسير منه أو من غيره؟ فما كان يسيراً فهو معفوًا عنه، "ودم نحو البراغيث، ومثل ونيم الذباب" أي: وسخ الذباب في قلته لا يكاد يُرى فيعفى عنه، "وونيم الذباب وإن كثُر"؛ لأنه يبتلى به، ولا يكون من السهل على الإنسان الإحتراز عنه في بعض الأماكن أو بعض الأحوال.
قال: "فلا يجب غسله وغسلها وغسل الأحداث" يعني؛ الطهارة عن الحدث الأصغر والأكبر يكون بماء طهور، واتسع الحنفية في الطهارة أن ذلك يكون بكل مزيل ومن جميع المائعات وإن لم يكن ماءً ولكن الجمهور أنه لابد أن يكون بماء طهور.
ما معنى الطهور؟ أنه على أصل خلقته نابعًا من الأرض أو نازلاً من السماء،
- "ألا يخالطه شيء يستغنى عنه فَيسلُب -عنه- اسمه.." أي: مخالطة شديدة يسلب عنه اسم الماء، فإذا سُلِبَ اسم الماء وتحول الماء إلى قهوة وأراد أن يغسل به النجاسة أو أن يتوضأ به، نقول له هذا قد تغير وسُلِبَ اسمه بما خالطهُ، وإن كان الذي خالطهُ طَاهِرات، طاهرات فهو طاهر، واشربه كما تحب لكن ما يرفع الحدث ولا يزيل النجاسة لتَغيُره بالمخالطة، لما يستغنى عنه،
- "أو يتغير طعمه أو لونه أو ريحه بنجس ولو تغيراً يسيراً" بملاقات النجاسة "أو يلاقيه" الماء "نجس" والماء يُلاقيه نجاسة "وهو دون القُلتين" عند الجمهور.
- وتوسع المالكية فقالوا: إن لم يتغير لم يَنجُس، فعندهم لا فرق بين القليل والكثير من الماء.
- وقال غيرهم من أئمة الفقه في الدين: إن كان قليلاً فينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، وإن كان كثيرا فلا ينجس إلا بتغير طعمه أو لونه أو ريحه ولو تغيرًا يسيرًا.
"إلا أن يكون شيء يُعفى عنه في الماء مثل ميته لا دم لها سائل.." يعني حيوانات لو شُق منها عضو في حياتها ما يخرج لها دم فلا دم لها يسيل، فهذا إذا ماتت في الماء فلا تنجس الماء ولو كان قليلًا، ولم تُطرح ولم تغير، لم يتعمد طرحها، ولم تغير؛ فأما إذا كَثُرت وغيرت لون الماء أو ريحه أو طعمه فقد ضرّ ذلك.
قال: "أو يكون دون القلتين قد استعمل في رفع حدثٍ أو نجس" فإنه يصير مستعملًا؛ لا يمكن استعماله مرة أخرى إذا كان قليلًا وقد اسُتعمل في رفع حدث أو في إزالة نجس.
ويجب الاستنجاء
قال رضي الله عنه وعنكم: "ويجب الاستنجاء من كل رطبٍ خارجٍ من السبيلين بالحجر أو نحوه بشروطه أو بالماء.
ويحرم استقبال القبلة واستدبارها ببولٍ أو غائط إلّا أن يكون بينه وبينها حائل ثلثا ذراع فأكثر، لم يبعد عنه بأكثر من ثلاثة أذرع ؛ فإن كان .. كُرِه إلا أن يكون معدّاً لذلك.
ولا بد في غسل النجاسة من جري الماء على المحل المتنجس ووروده إن كان دون القلتين، وإزالة الطعم واللون والريح إن كان شيءٌ من ذلك، وست غسلات بعد ذلك إن كانت كلبيةً مع مزج إحداهنَّ بتراب طهور.
ويُسنّ الدلك والتثليث من غير وسوسة، ولا يطهر المائع إذا تنجّس.
ويجب للصلاة الوضوء؛ وهو: أن ينوي الطهارة للصلاة، أو رفع الحدث بقلبه، ويغسل وجهه جميعه من منابت شعر رأسه إلى منتهى ذقنه؛ وهو: ما بين أذنيه شعرًا وبشرًا إلا باطن لحية الرجل وعارضيه إذا كثفن، ويجب غسل ما تحت الرمص أو نحوه إن كان ، وكذا من سائر الأعضاء.
ثم يغسل يديه مع مرفقيه، ثم يمسح شيئاً من رأسه أو من شعره الذي لا يخرج بالمدِّ عن حدِّه، ثم يغسل رجليه مع كعبيه ويرتبه هكذا".
بيان أحكام النجاسة
يقول على الأعضاء: "ويجب الإستنجاء من كل رطب خارج من السبيلين،" فإذا خرج من القُبل أو الدبر أي رطبٍ؛ وجب الإستنجاءُ إما "بالحجر -وحده- أو نحوه،" مشيراً إلى أن المراد بالحجر: كل جامد طاهر قالع للنجاسة غير محترم، هذا المراد بالحجرِ؛ وليس المراد نوعية الحجر، ومعدن الحجر.
فالمناديل هذه التي يستنجى بها تقوم مقام الحجر، كل جامد طاهر يقلع النجاسة ليس بأملس، وليس بمتناثر الأجزاء، وليس ملتزجًا لا لزوجته له، فهو يقلع النجاسة، يصح الإستنجاءُ بكل جامد طاهر قالع للنجاسة غير محترم، المحترم: ما كان من مطعوم، فذلك حرام كما حرَّمَ عليه الصلاة والسلام الاستنجاء بالعظم، والعظم جامد طاهر قالع النجاسة لكنه محترم لكونه أكل إخواننا الجن كما بيّن لنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلا يصح الإستنجاءُ بنجس ولا بعظم.
ويكون الاستنجاء من كل رطبٍ خارج على سبيل الوجوب، وهذا باب من أبواب النظافة في شريعة الله تعالى، ويتميز به المسلمون والمؤمنون: "وجوب الاستنجاء من كل رطب خارج من السبيلين بالحجر أو نحوه". والإستنجاءُ يكون واجبًا في هذه الحالة،
وقال: "بشروطه.." إذا كان اقتصر على الحجر:
أن يكون ذلك بثلاث مسحات فأكثر مع وجود الإنقاء، فالإنقاءُ واجب والإيتار مستحب بعد الثلاث، والثلاث واجبة وإن حصل الإنقاء بأقل من ثلاث، بواحدة أو باثنتين بل يجب استكمال الثلاث، لما جاءنا في سنته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم إن من الآداب أن نبتعد عن استقبال القبلة أو استدبارها في حالة قضاء الحاجة، من بولٍ أوغائط ونحو ذلك لئلا تنقص هيبة الكعبة في قلوبنا، وهيبة التوجه إليها في صلواتنا؛ فتكون معظمة ومكرمة، فلا تستقبلُ أثناء قضاء الحاجة بل هي محترمة، حتى يكره أن يبصق المؤمن أو يتنخم إلى جهة القبلة، فإذا حضره نخامة أو نحوها فينبغي أن ينعدل عن جهة القبلة، ويكون إلي تحت أو إلى جهة غير جهة القبلة يرمي بها نخامته، حتى جاء في بعض الآثار أن الذي يتنخم إلى القبلة يأتي القيامة ووجهه مغطوس بنخاماته، التي كان يتنخم بها إلى الكعبة المشرفة.
يقول: "ويحرم استقبال القبلة واستدبارها.."؛ لقوله ﷺ لأهل المدينة، وكان أهل المدينة قبلتهم إلى جهة الجنوب فهم شمال الكعبة المشرفة فقبلتهم إلى الجنوب، وقال: "لا تَستَقبِلوا القِبلةَ بغائِطٍ ولا بَولٍ، ولكنْ شَرِّقوا أو غَرِّبوا"، أي: انحرفوا إلى الجهة الأخرى، ﷺ. قال: "إلّا أن يكون بينه وبينها حائل" وهذا عند أكثر أهل العلم "ثلثا ذراع فأكثر، لم يبعد -لم يكن بينه وبينه مسافة-عنه بأكثر من ثلاثة أذرع ؛"، وفي ذلك جاء نظر الشافعيه وغيره أنه: "إذا كان معدًا لذلك" ومستور أنه يخرج عن الحرمة؛ ولكن لا يزال يظل الأدب والخلاف أيضا قائم، فينبغي في هندسة المسلمين إذا أقاموا كراسي قضاء الحاجة في ديارهم وفي شققهم ومنازلهم من الأصل أن يضعوها إلى غير جهة القبلة وذلك سهل عليهم بأن يعرفوها كذا أو كذا، فيكون ذلك إذا من الأدب؛ وإن كان لا حرمة فيه من حيث أنه بينه وبين القبلة ساتر، أو كونه محل معدًا لذلك، وليس بينه وبين الساتر أكثر أذرع إذا كان بساتر، وإن لم يحرم فمن الأدب أن لا تستقبل القبلة بمثل ذلك.
قال: "ولا بد في غسل النجاسة من جري الماء على المحل المتنجس"؛ فلا يكفي مجرد مسحه، أو يأخذ ماء بمنديل ويمسح محل النجاسة من ثوب أو من بدن فهذا لا يكفي؛ ولكن لابد من جري الماء لا بد أن يسيل الماء.
وكذلك إن كان الماء قليلا فلا تورد النجاسة عليه بأن يكون عنده ماء في إناء؛ فيأتي بالثوب الذي يريد تغسيله فيه نجاسة فيورده على الماء فيتنجس الماء كله بعد ذلك ويتنجس الإناء، ولكن يصب من الماء على الثوب حتى يطهره خارج الإناء، فيكون الماء واردًا، فالورود قوة تضاف إلى طهوريته فتساعد على الطهارة.
قال: "ووروده إن كان دون القلتين، وإزالة الطعم واللون والريح إن كان.."؛ وهذه النجاسة العينية: شيء موجود من النجاسات له لون أو ريح أو طعم، لا يطهر الثوب والبدن إلا أن يُزال بواسطة جري الماء طعمه ولونه وريحه.
وإن كانت النجاسة غير عينية أي: لا لون ولا ريح ولا طعم لها، مثل بول جف ولم يبقى له ريح، ولا لون، فحينئذ.. يجب إجراء الماء، فجريُ الماء يكفي لإزالة النجاسة الحكمية.
قال: "وإزالة الطعم والون والريح إن كان شيءٌ من ذلك.." "وإن كانت -النجاسة- كلبية" وقاسوا عليها الخنزير الشافعية ومن وافقهم من الأئمة، قاسوا عليها الخنزير أيضا، أنه لا يطهر إلا بعد هذه الغسلة الأولى التي تزيل لونه وريحه وطعمه ست غسلات بعده، فيكون المجموع سبع.
فإن زال بواحدة فذلك، وإن لم يزُل عين النجاسة إلا باثنتين أو ثلاث، فلا تحسب الاثنتين أو الثلاث إلا واحدة من جملة السبع، لأنه لابد من سبع لكن الغسلة التي تزيل عين النجاسة واحدة مهما تعددت، فلا تحسب ولا تعد، ما تعد ثانية حتى تزول عين النجاسة، فإذا زال عين النجاسة الآن ثانية وثالثة ورابعة، "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ -يقول نبينا- فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا إحِدَاهُن بِتّرَاب"، وينبغى أن يكون التراب في الأولى؛ فهو الأفضل.
"وست غسلات بعد ذلك إن كانت كلبية، مع مزج إحداهن بتراب طهور"؛ مشيرًا لأنه أفضل طريقة التتريب للنجاسة الكلبية: أن يضع من التراب شيئا في الماء ثم يصبه عليه، فيكون هذا أدعى لاستيعاب محل النجاسة بالتراب، وإن كان لو طرح التراب على المحل ثم صب الماء فإن امتزج الماء بشيء من التراب على موضع النجاسة كلها طهر، وإن زال التراب بأول ما يصب الماء عليه ثم لم يصحب الماء في شيء من مواضع النجاسة تراب بقي هذا بلا تتريب فلا يطهر ولا ترتفع عنه النجاسة، فإذا يمزج الماء بقليل من التراب أفضل، ثم يصبه على محل النجاسة لطهارة النجاسة الكلبية أو النجاسة المغلظة، نجاسة الكلب والخنزير.
قال: "ويسن الدلك.." -دلك محل النجاسة بإمرار اليد عليه- "والتثليث من غير وسوسة.."، دلك وتثليث من غير وسوسة، أي: يُسن إذا زالت النجاسة بغسلة أن يزيد غسلة ثانية وثالثة، فهذا من السنة.
"ولا يطهر المائع إذا تنجس" غير الماء إذا وقعت فيه النجاسة صار نجسًا، ولا يمكن استعماله في دهنٍ لإنسان ولا شربٍ له، وإنما يستعمل في مثل إيقاد السروجِ، واستعماله في أي شيء آخر لا يحتاج إلى الطهارة لأجل الصلاة، رزقنا الله الاستقامة.
فرائض الوضوء
"ويجب للصلاة الوضوء" ؛وهو الطهور الذي هو شطر الإيمان، وهو سلاح المؤمن، حتى جاء في بعض الآثار "أن من أصابه عين أو سحر وهو على غير وضوء فلا يلومن إلا نفسه"؛ لأنَّ الوضوء سلاح للمؤمن وحصن له، ومن وظائف المريد السائر إلى الله أن يحافظ على الطهارة كلما أحدث توضأ.
قال: "وهو أن ينوي الطهارة للصلاة أو رفع الحدث بقلبه، ويغسل وجهه جميعه"؛ لقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة:6] "من منابت شعر رأسه إلى منتهى ذَقَنِه" آخر لحيته، "وهو: ما بين أذنيه شعرًا وبشرًا إلا باطن لحية الرجل،"، فلحية الرجل إذا كثفت والعارضان إذا كثفت فيكفي غسل ظاهرهما، ولا يتكلف إيصال الماء إلى منابتهما، ولكن يسن تخليل اللحية الكثيفة والعارضين الكثيفين.
"ويجب غسل ما تحت الرمص،" وهو الذي يجتمع من وسخ العين في طرف العين، فيجب غسل ما تحت الرمص فهو يمنع وصول الماء إلى البشرة التي تحته، فلهذا ينبغي للمتوضأ أن يتفقد طرف عينيه ويزيل ما بينها بأطراف أصابع السبابتين، لجهة الأنف والطرف الثاني للجهة باللِّحاظين حتى لا يبقى شيء من الوسخ بين العينين يمنعه، خصوصا عند قيامة من النوم، يمنع وصول الماء إلى البشرة، فيصير الوضوء ناقصًا، بل يستوعب هذا الوجه بالغسل بهذا التفقد لما تحت الأنف ومحلات يغفل عنها الماء.
وبالنسبة "للحية الرجل والعارضين إذا كثفنَ"؛ فيكفي غسل ظاهرهن، وإلا إن كنا خفيفات فيجب غسل ظاهرهن وباطن بإيصال الماء إلى منابت الشعر.
"ثم يغسل يديه مع مرفقيه.."؛ لقول تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..) [المائدة:6]، ومن أطراف الأصابع الأفضل أن يبدأ الغسل، ويمشي بالماء إلى المرفقين، والسنة أن يزيد على ذلك، فيكون إطالة التحجيل إلى نصف العضدين إلى المنكب وذلك أكمل وأعلاه.
ثم "يمسح شيئا من رأسه أو من شعر رأسه"، بشرط أن يكون هذا الشعر لو مُدَّ لم يخرج عن حدود الرأس، بمعنى لو كان للإنسان شعر طويل كما هو مستعمل للنساء، فإذا مسحت أطراف الشعر الذي إذا مد يخرج عن حدود الرأس فلا يكفي، ولكن لابد من مسح شيئا في الرأس من بشرته أو شعره.
- وقال الحنفية: لابد من مسح ربع الرأس فأكثر.
- قال المالكية: لابد من استيعاب الرأس كله بالمسح.
- ويقول الشافعية: يكفي ولو بعض شعرات أو بعض شعرة، لكن بشرط أن تكون في حد الرأس.
ولكن الجميع يجمع على أن مسح جميع الرأس أولى وأفضل وأقرب لإتباعه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"ثم يغسل رجليه مع كعبيه" من أطراف الأصابع الأفضل.
خاتمة الدرس
ويأتي التخليل أيضا في اليدين والرجلين، كما أن سننًا تتعلق بالوضوء سيتحدث عنها معنا يأتي في الدرس المقبل إن شاء الله تبارك وتعالى.
جعلنا الله وإياكم من المتفقهين في الدين، والمقبلين بالكلية عليه تعالى في كل شأن وحال وحين، ومؤدي الأمانة كما أحبَّ منهم، وارتضى منهم جل جلاله، في لطف وعافية وتمكين مكين، وأصلح أُسرنا وأهالينا وديارنا ومن فيها.
وفرج كروب الأمة، وأمدَّ أخواننا المسلمين في غزة خاصة، وفي جميع أكناف بيت المقدس بحفظ وكلاءة ووقاية وتأييد وجمع قلوب على الوجهة إليه، والصدق معه والإخلاص لوجهه الكريم، وعافاهم وأيدهم ونصرهم، ودفع الله عنهم شر المعتدين والظالمين والغاصبين، ودفع شرهم عنهم وعنَّا وعن جميع المسلمين، وحول الأحوال إلى أحسنها، وأصلح أحوال الأمة في المشارق والمغارب، واجعلنا ممن ترعاهم عين عناية في جميع الأطوار.
بسِرَ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك علي وعلى آله وأصحابه..
الفاتحة
11 جمادى الأول 1445