(228)
(574)
(536)
(311)
الدرس الثاني من شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب: فتح الكريم الغافر في شرح جلبة المسافر، للعلامة الحبيب عقيل بن عمران.
فجر السبت 15 ربيع الأول 1445هـ
ضمن فعاليات موسم الاحتفال بذكرى المولد النبوي في صلالة.
يشرح فيه معاني الأبيات:
هرابها التقوى ومنه الألواح
وكيلها الطاعة وبذل الأرواح
والزهد في الدنيا الحبال يا صاح
لتحميل الكتاب نسخة pdf:
التقوى
و قوله: هِرابُها التقوى و منه الألواح
أي أصلُ هذه السفينة المعنوية وأساسُها التقوى، قال الله سبحانه و تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ) [التوبة:109]، وفي وصيّة رسول الله ﷺ للرجل الذي استوْصاه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"علَيكَ بتَقوَى اللَّهِ، فإنَّها جماعُ كلِّ خيرٍ".
وقال الشيخ عبدالله بن سعد اليافعي رضي الله عنه في كتابه (نشر المحاسن): "اِعلم أنَّ تقوى الله هي القطبُ الذي عليه مدار السعادة والأصل الذي لا يصحُّ البناء إلا عليه في العادة. والسعادة محلّها العاقبة قال تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]. والأصل الذي لا يصح بناء العمل حتى يَتِمَ ويُقبَل هو تقوى الله عز وجل قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]. ولَعمري إنَّ هذا الأصل المذكور هو الأصلُ الذي لا يُهدم البناء عليه على تعاقب الدهور، إذ هو أصل الدِّين الذي صاحبه لا يزال يرتقي في رياض السرور والنعيم ويرتقي في مراقي أعلى الشرف والكرم المباين لنعيم الدنيا وشرفها الحقير الزائل، وناهيك في شرف التقوى قوله عز وجل: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13] وكونها أيضًا وصية الله رب العالمين لعباده الأولين والآخرين وهو قوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه) [النساء:131]".
قلت: والتقوى أصلُ كلِّ خير ومَن رُزِقَها فقد رُزِق العناية والوقاية كما قال الله -سبحانه و تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، وماحٍ للسَّيِّئات ومبدّلها بالحسنات قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا …" و قال -عز من قائل-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [المائدة:65]. وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه) [البقرة:282] وهو العلم اللّدني الذي لا يوجد بكَثرة درسٍ ولا بتعلّم حسّي بل هي مواهب من الله تعالى أزليّة سببها التقوى.
والتقوى في الظاهر امتثال أوامر الله واجتناب مناهيه وباطنه حسن النية والمراقبة والإخلاص إلى غير ذلك مما سيأتي. فالتقوى جامع كل المقامات وأصلها فلذلك قال المؤلّف: و منه الألواح أي يتفرع منه كل المقامات.
الحمد لله مُكرمنا بالتّذاكر فيما يقرّبنا إليه، وفيما دلّنا عليه، عبدُه الهادي أكرم الخلق عليه صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وابتدأَنا بشرحِ الشيخ عقيل بن عِمْران عليه رحمة الله -تبارك وتعالى- لهذه القصيدة للشيخ بَلْحاف، وبدأ يذكر جَلْبة المُسافر؛ السفينة التي يُسافرون عليها في البحور، وذكر بحر باحات الهوى الزّواخر ونِداؤُه لِكلّ مَن له رغبة في السيرِ إلى الله -تبارك وتعالى- لِيركبَ تلك السفينة حتى يَصِل إلى مَقصدِه. هل من مسافر؟! هذه سفينة تدعو إلى المَفَاخِر أو تطلب المَفاخر.
وقال: "هِرابُها التقوى" كما أنَّ للسّفن في البحر هِراب أي يقوم عليه أمرُها، قال هذه ه"هِرابُها التقوى" أصل هذه السفينة وأساسها تَقوى الله -تبارك وتعالى- فيقوم أساسها على التقوى، قال سيدنا علي: "إنه لا يهيجُ على التقوى زرعُ قوم"، أي من بَنَوا أمورَهم على التقوى فإنه لا يهيج؛ أي لا يَهلِك زَرْعهم بل يُثمر ويُنتِج، وكذلك حتى كان العامّة في كثير من بلاد المسلمين يقولون: "التُقى فيه البَقا"، يعني ما يَبقى ويستمرّ من أعمالِ الإنسان ووُجهاته وما يحاوِله في الحياة إلا ما قام على التقوى، وإنَّ كلَّ ما خرج عن دائِرة التّقوى مهما كان فيه من ترتيب ومن نظام ومن إحسان، فإنه يفشل ويذهب ويتلاشى. ولكن لا يَهيج على التقوى زَرْعُ قوم (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) [التوبة:109].
وذَكَر أنّ هذه التقوى كما يقولُ العارفون بالله "القطب الذي عليه مدارُ السّعادة ولا يصلُحُ البِناء إلّا عليه" وأنَّ مَحلّ السعادة العاقبة؛ السعادة الحقيقيّة محلُّها العاقبة، النّهاية والأبد والدّوام والخُلود هذا هو محل السّعادة، لهذا قالوا: "لاخيرَ في خيرٍ بعدهُ النّار، كما لا شَرّ في شرٍّ بعدهُ الجنة" لأن العِبْرة بالعاقبة والعِبرة بالغاية وبالنهاية؛ وهذا الذي يجب يرتكز في ذهنِ المُؤمن فإنه يُخدَع كثيراً بالتصوير أنّ السعادة في أمرٍ قريبٍ قصيرٍ يتَناوله وكأنّه هو الغاية، وإنْ كان يَعقُبُ ذلك حزنٌ طويل ويَعقُبُ ذلك همٌّ دائم، ويَعقُبُ ذلك عذابٌ شديد فهذا عند التّحقيق ليس بسعادة؛ السعادة مَنُوطة بالغاية، مَنُوطة بالعاقبة مَنُوطة بالنهاية، وما السعادة إلا النّجاة من النار والخلود في دار الجنّة، دار النظر إلى وجه الله تعالى دار القرار، هذه هي السعادة الحقيقيّة، أكرمنا الله بها وجعلنا من سُعداء الدارين، والسعيد في الدنيا مَنْ اتّقى الله فيها ولم تغرّهُ بزخرفها، ولم يُسلَّط عليهِ فيها قاطعٌ يقطَعه عن الربّ؛ هذا هو السعيد في الدنيا، وهذا تكْتنِفه عِنايات من الله -تبارك وتعالى- سواءٌ في حالِه أو في مالِه أو في شُؤونِه ومُختلف أَطْوارِه، ويحصلُ له تَسديد وتأييد ومَعُونة وحِفظ وكَلاءة، كما نقرأ في القرآن أكثر من سبعين موضِع ذكَر الله التقوى ومجَّدَها ومجَّد أهلَها، وذكَر نتائجها وعواقِبها (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:123]، (إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال:39] وإلى غير ذلك مِمَّا ذَكرَ الحقُّ من الخير في الدنيا وفي الآخرة للمتقين ألحَقَنا الله بهم (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
كما قال -سبحانه وتعالى- من كلام سيّدنا موسى عليه السلام، قال لقومه عندما قالوا له: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخلفكم) [الأعراف:129]، قال: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) [الأعراف:128]، عندما هدّدهم فرعون بقوّته وسُلطته الماديّة الدُنيويّة : (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:127-128]، أما إرْثُ الأرض ومُلك ظاهرها ومُلك المال فيها وملك الجاه فيها، هذا يَحصل للمُتّقي وغير المتّقي وللمُؤمن وللكافر، لكن العاقِبة ليست لأحد منهم إلا للمتقي فقط واحد.
(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]، أمّا إرْثُ الأرض ومافيها يتداول بين المتقي وغيره والفاسق والمسلم والكافر، ولكن العاقبة ليست لأحد منهم إلا للمتقي وحده فقط! (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]، النهاية (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51-52] فلا تكون العاقبة إلا للمتقين اللهم حقّقنا بحقائق التقوى.
وذكر أنّه "الأصلُ الذي لا يُهدم البناء عليه على تعاقب الدهور"، وهكذا رأينا بناء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في دعوتِهم إلى الله ودلالتهم على الله، كيف على مدى الدُّهور يتجدّد ويقوم ويقوَى إلى أن جاء سيّدهم أتقى الخلقِ للحقّ -سبحانه وتعالى- وأقام لنا هذا الخير العظيم، وشيَّدَ لنا هذا البُنيان الكريم، به نتواصل وبه نجتمع على الذِّكر، وبه نجتمع على العلم وبه نلتقي من أماكن شَتّى وقبائل شتّى، وبه تَطيبُ المُوَاصلة مع الرحمن -جلّ جلاله- بما بناه ﷺ فينا على التقوى وأسّسه. وكم حُورِب من قِبَل إبليس وجنده من شياطين الإنس والجِنّ في حياته الكريمة وبعد وفاته، وقرنًا بعد قرن (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33]. وهكذا الذين واصَلُوا بناء أُمورهم في التّبَعِيّة لرسول الله ﷺ على التّقوى، على قَدْر تَقْواهُم تَرى الآثار:
وإذا جِئت لهذه البلدة وإذا زُرْتَ أي بلدة من بلاد المسلمين؛ تَجِد آثار الذين مَضَوا على التقوى لها قُوّة معنويّة، ولها استِمرار ودَوام على مدى القُرون، ولها آثار مَرعِيّة بعَين عِناية الله -تبارك وتعالى- هذا مثلُ هؤلاء الأخيار الذين مَضَوا في هذه البلاد، منهم مؤلِّف الكتاب، ومَن قبله ومَن بَعده -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- تَجِد آثار وُجهاتهم ونِيّاتهم، وهديهم وتربيتهم لها بقاء ولها وُجود بين الناس برعاية الحق -تبارك وتعالى- مع أنّ ما يُخالف ذلك أنواع مُنوّعة، جاء وذهب وجاء وذهب، وجاء وذهب وبقي أثرُ الذين بَنَوا أُمورهم على تقواهُ -سبحانه وتعالى- وعلى قصْدِ لقائهِ. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم:24-25] فالله يُلْحِقنا بأهلِ التّقوى ويُحَقّقنا بحقائق التقوى.
قال: ومن رُزِق التقوى رُزِق العناية والمخرج من كلّ شدة ولكل إِشْكال، ورُزِق مِن حيث لا يَحتسِب، والعفو عن السيئات. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) [المائدة:65–66].
وقال سبحانه وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]، اللهم اجعلنا من المتقين وألحقنا بهم، ويأتي العلم اللَّدُني المُشارِ إليه، وقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة: 282]. "ومن عمِل بما علِم ورّثه الله علم ما لم يعلم."
قال الله عن سيّدنا الخِضر لمَّا ذهبَ موسى وفتاهُ إليه: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف: 65]، قال العلم اللّدُنِيّ ما يُتَحَصّل عليه بكثرةِ درسٍ ولا بتعلُّمٍ حسيٍّ ولا بأنواعِ الإجتهادات؛ إلَّا موهبةُ الله:
فإنَّ الله يُعلِّمهُ ما يشاء ويُقَسِّمْ له من هذا العلم بما شاء؛ و(هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ) [آل عمران:163]، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76]،والحقّ يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]؛ ولذا كان أتقى أهل السماءِ والأرضِ، عبدهُ المصطفى محمّد -صلّى الله وسلم عليه وعلى آله- قال: "أَمَا إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ" صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله -رزقنا الله حُسن متابعته والثّبات على دربه-.
ويقول:(ظاهر التقوى امتثال الأوامر واجتناب النّواهي…):
ثم وراء ذلك رُقِيٌّ يتعلَّقُ بالكَفِّ عن المَنْهيَّاتِ والفعل للمَأمورات في الظَّاهر وفي الباطن مثل ما ذكر من حسن النيّة، وإخلاصها وإفرادها لوجه الله، والمراقبة المستمرة على الدّوام بالباطن للرّحمن -جلّ جلاله- باستشْعاركَ أنه معك وأنه محيط بك، ومطّلعٌ على ما في باطنكَ، وأنّه القادرُ على كلِّ شيءٍ، وأنّ أمركَ بيدهِ، وأنّ خَواطركَ بين يديه ظاهرةٌ، وسريرَتَكَ كلّها بائنة له -جلّ جلاله-، هذه المراقبة استمرارها ودَوامها، طريقُ سيرٍ إلى الله -تبارك وتعالى- وسببُ الوصول إليه، والإخلاص إلى وجه الله وغير ذلك، سيأتي الإشارة إليه فيما يتضمّنُه كلام الشَّيخِ في هذه القصيدة؛ فالأمر يدور على التقوى أوّلًا وآخرًا:
"فالتقوى جامع لكل المقامات وأصلها" وتَبْتَنِي مقامات اليقينِ على التّقْوى، ولهذا قال المؤلّف: وَكِيلُها الطاعة وبذلُ الأرواح.
الطاعة وبذل الأرواح
وقال رضي الله عنه: وَكِيلُها الطاعة وبذلُ الأرواح ،والطاعة هي الانقياد لما أمر الله به من واجب ومندوب كما أمر الله سبحانه وتعالى فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:150]، وقال أيضاً: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء:59] إلى غير ذلك، فأما الواجبات فهي أداء كل واجب في وقته بشروطه وكماله. وأما المندوبات فهي كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: "ولا يَزالُ العبد يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ولسانه الذي ينطق بها". وفي لفظٍ آخر: "كُنْتُ لَهُ سَمْعَاً، وَبَصَرَاً، وَيَدَاً، وَمُؤَيِّدَاً". فناهيك بهذه الفائدة العظمى وهي ثمرة الطاعة التي أنالتْه محبة الله تعالى التي هي أفضل المطالب وغاية المآرب. ثم بعد ذلك الفناء عن نفسه والبقاء بربه ظفّرنا الله وإياكم بذلك." آمين
ومن الطاعة أيضًا تقييد الأوقات بالأوراد من الصلوات والأذكار وغير ذلك على الكتاب والسنة كما أشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليها بالنوافل في الحديث المتقدم. وقال الشيخ ابن عطاء: "قيّد الطاعات باعتبار الأوقات."
فينبغي لك أيها السالك هذه الطريق، والمسافر في البحر العميق، أن تحبس نَفْسَك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وتنال بذلك الطاعة وتربح في سفرك أحسن البضاعة، وواضب عليها وإن كنت مع الكراهة، أو لا تفضي بذلك إلى راحة، فتعانقها بالتلذذ قلبًا وقالبًا فتكون من خواص الذين شرح الله صدورهم وكتب في قلوبهم الإيمان وبَغَّض لهم العصيان، فبادروا إلى الطاعات وسارعوا إلى نوافل الخيرات، فصارت أعمالهم قربات وهممهم عاليات فتركوا الشهوات، وتلذذوا بالمناجاة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم حيث صاروا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما. وقد جاء في بعض الكتب من الله عز وجل: يا بن آدم أنا الله لا إله إلا أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون. وفّقنا الله وإياكم لذلك ورزقنا ما هنالك. فاجتهد أيها الأخ وابذل روحك في طاعة الله لتنال هذه المواهب العظيمة والنعم الجسيمة في الدنيا والآخرة.
"الثبات على الطاعة لا يتم إلا بتفريغ همك عن محبة الدنيا وشواغلها" فلذلك قال رضي الله عنه: فذَكَرَ أنّ هِرَاَب هذه السفينة التَّقْوى، ووَكِيلُهَا الطّاعة، وبَذْلُ الرُّوحِ في طلب المقصود: يعني الإستمرار في الأعمال الصَّالحات كما نادى الله نبيُّهُ وحبيبه محمّد ﷺ: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) [الشرح:7-8] إذا فرغتَ من عملٍ صالحٍ ومن فعلٍ حسنٍ فانْصَبْ؛ ادْخُلْ في الثاني واعْمُرْ وقتكَ وساعاتِ عُمُرِكَ بأنواع الطّاعاتِ والقُرُباتِ. فهذه غنيمة الأعْمارِ؛ أن تُصْرَفَ فيما يُوجِبُ الفَوْزَ الأكبر والدَّرجاتِ العُلى، وفيما يَنْتَفِعْ به المؤمن في حياته الأبدية من خلال الحياة الفانية، فعِمارَةُ الحياةِ الباقيةِ من خلالِ الحياةِ الفانيةِ المُنْقَضِيَةِ الزَّائِلةِ؛ أيْ باغْتِنامِها وصَرْفِها في الطّاعات.
وهكذا دُعاءُ الأنبياءِ لأُمَمِهم:
ثم يَذكُر لَنا الواجِبات والمَندوبات وهو ما جاءَ بِنا في الحَديث القُدسي الذي رَواه الإمام البُخاري في صَحيحه عن النَبي فيما يرويه عن ربه -سبحانه وتعالى- قال: "ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إلي من أداء ما افترضتُه عليْهِ"، فأداء الفَرائِض هو المُقَدَم والمُهِمّ، وحُسْن أداء الفَرائِض والواجِبات سواءً كانت هذه الفَرائض:
هذه واجبات وفرائض يُتَقَرَب إلى الله -تبارك وتعالى- بِها؛ وهي أَهمّ ما تُقُرِّبَ به إلى الله، من أدّاها ثُمَ بَرْهَنَ أو تَرجَم عن مَحَبَّتِه لله تعالى وعِشقه للقُرب مِنهُ بِزِيادة النَوافل، قام بالنّوافل بعد أداء الفرائض، مُتقرِّبًا إلى الله فإنّه يتعرّض لمَحبوبِيّة الحَقّ -تبارك وتعالى-: "ولايزال عَبدي يَتَقَرب إلي بِالنَوافِل بَعدَ أداء الفَرائِض حتى أُحِبه فإذا أحبَبته كُنت سَمعَهُ الذي يَسمع بِه وبَصَره الذي يُبصر به"؛ في عِناية يَتولّى الله بها هذا العبد، عَبَّرَ عنها بِهذه العَبائر الرّائِقة، الرّاقية، الرَفيعة، الشَريفة، العَظيمة. وفي اللّفظ الآخر؛ الرّواية "كُنتُ لَهُ سَمعًا وبصرًا ويدًا ومُؤَيِّدًا".
يقول: "ناهيك بهذه الفائدة العظمى وهي ثمرة للطّاعة أنالتْه محبة الله -تبارك وتعالى-؛ قال: (ومن جُملَة الطاعات تَقييد الأوقات بِالأوراد" فَقَيْدُ الطاعات باعتبار الأوقات بِترتيبها وصَرْفِها في الخَير، ويَجعَل لَهُ في كُلِّ يَومٍ وليلةٍ: ساعات مُعَيَنة لِتِلاوة القُرآن، ووقت مُعَيَن لِصَلاة الضُحى، ساعات مُعَيَنة لما يَتَوَجّه عليه من الواجبات والمَندوبات في خِلال اليَوم واللّيلة، كما أنّ أعمال الدُّنيا تَحتاج مِنهُ ساعات مُعَيَّنة لِيَقوم بِالعَمل بِها؛ فَكَذلك هو في عمل الدُّنيا يَستَحْضِرُ النيّات الصالحة ولِيكون في عَمَلِه لِلدُّنيا أيضًا حاضرًا مع الله ومُتَقَرِبًا إلى الله، ثم تَرتيب الأوقات لأنّ إهمالها يُضَيِّعُ على الإنسان عُمرَه، وتَفوتُه سَنة بعد سَنة وهو لم يَتَحَقَق بالدّوام على شَيءٍ من أمرِ الخَير الذي يُؤَثِّر الدَوام عليه والإستِمْرار عليه، سواءً كان تلاوة، أو ذِكر أو عَمَل من الأعمال الصالحات؛ إذا دُمتَ عَليه وَواظَبتَ ظَهَرَتْ نَتيجَتُه وثَمَرَتُه وأَثَّر فيك مع المُداوَمة، و"كانَ عَمَلُهُ ﷺ دِيمَةً إذا عمل عملًا أثبَتَه".
الزهد في الدنيا
والزهد في الدنيا الحبال يا صاح.
فجعل الزهد حبال هذه السفينة التي تضم وتلزم ألواحها بعضها ببعض لتثبت وتقوى على السفر المذكور. فالزّهد من أعظم المقامات للسالك. لأن محبة الدنيا والاشتغال بها تمنعه وتُعوقه عن السلوك وتكدِّر عليه طاعته كما ذكرنا. فينبغي للسالك إن أراد السفر أن يتفرغ أولاً عن هموم الدنيا وشواغلها، يستقيم حاله ويكثر عمله وطاعته وإن كان قليلاً. كما قال الشيخ ابن عطاء في الحِكم: "ما قلَّ عمل برز من قلب زاهد، وما كثُر عمل برز من قلب راغب".
أي راغب في الدنيا محب لها، فهذا وإن كثر عمله فهو قليل. وقد روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "ركعتان من عالم زاهد خير من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً". فإن ترك العبد المسافر إلى وطنه ما يعوقه من الدنيا، وأعرض عنها بقلبه وهمه لأجل الله تعالى، صفتْ أحواله واستقامتْ أعماله وكثرت، وخرج من رقِّ النفوس وتحقق بالعبودية للملك القدوس. قال ﷺ: "تعِس عبدُ الدنيا، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ". وقال الشيخ ابن عطاء في الحِكم: "ما أحببتَ شيئاً إلا كنتَ له عبداً".
ثم اعلم أن الدنيا عدوة الله، ما نظر إليها منذ خلقها، فينبغي للمؤمن أن يفرغ قلبه عنها. القلب الذي هو بيت الرب كما قال الله سبحانه و تعالى: (ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن). فلا يستوي عدوَّان في بيت واحد، جلَّ سبحانه وتعالى عما يصفون فَافهم هُديت.
وقال الشيخ أبوعبدالله القرشي -رضي الله عنه- شكا بعض الناس لرجل من الصالحين أنه يعمل أعمال البر ولم يجد لها حلاوة. فقال: لأنَّ عندك بنت إبليس وهي الدنيا ولابد للأب أن يزور ابنته في بيتها وهو قلبك، ولا يؤثِّر دخوله إلا فساداً.
وبالجملة فينبغي للمريد السالك هذا السفر، الفرار من الشواغل العائقة له عن سفره، من كل شيء سوى مقصوده ومطلوبه، وهو الله سبحانه و تعالى. كما قال الشيخ أبا سليمان الداراني -رضي الله عنه-: "ما شغلك عن الله من أهلٍ ومالٍ فهو مشؤوم عليك". وهذا هو الزهد الحقيقي.
قلت: وأما كل ما يقرب إلى الله تعالى من مال وولد وغير ذلك، فلا يعد من الدنيا. ولكن السالك الضعيف المبتدئ، الأولى له التجنب والتفرغ حتى يصل إلى أعمال القلوب والمعاملة بالباطن والنيات والمقاصد وهذا مقام شريف وعالي منيف لا يفهمه إلا الخواص بل خواص الخواص، كما قيل شعراً:
فما يلبس الأقراط من كان أصماً *** و لا يتحلى أجذم بالخواتم
فعلى المريد السالك الزهد في الدنيا كما ذُكِر، بل حتى في الخلق بالإياس عنهم وعن ما في أيديهم ويلزم القناعة كما قيل: "من أراد من الدنيا ما يكفيه فأقل شيء منها يكفيه، و من أراد من الدنيا ما يغنيه، فكل شيء لا يغنيه". فإذا زهد السالك المريد و قنع كما ذكرنا، استراح و تهيأ لهذا السفر. بل الزُهَّاد أرواح الناس في الدنيا و الآخرة كما قيل شعراً:
الزُهُّاد في روحٍ وراحة *** قلوبـهم عن الدنيا مزاحة
إذا أبصرتهم أبصرت قوماً *** ملوك الأرض شيمتهم سماحة
فإذا تمَّ لك أيها المريد هذا الزهد المذكور بتوفيق الله تعالى و مشيئته، استقامت أحوالك وتمت طاعتك وأعمالك، كما قال الشيخ ابن عطاء في الحكم: "حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال". فأتتك حينئذٍ الفوائد من ثمرات أعمالك، من فضل الكريم الوهاب، ووردتْ على قلبك طرائق الحكم، كما قال الرسول ﷺ: "من زهد في الدنيا أَرْبَعِينَ يَوْمَاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ اَلْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ". وفي رواية "مَن أخلصَ للهِ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً"، وفي رواية: "من أكل الحلال أَرْبَعِينَ يَوْمَاً". ولكن لا يتأتى الإخلاص وأكل الحلال، إلا بالزهد في الدنيا والقناعة وذلك بتوفيق الله سبحانه وتعالى: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
الله أكبر- مما اختَبَر الله تعالى به العِباد، زُخرُف الحَياة الدُنيا ومَتاعِها ،وجَعل لَهُم بَعد ذلك مَقاصد فيها وإرادات ،والسؤال في كل ما أُخذَ منها سُؤالان: من أين أخذه، وفيما أنفقه، من أين أخذه ؟وفيما أنفقه؟ ، وإذا أخَذَهُ من الحَلال وأنفقهُ في الحَلال، فإن اقتَرَن بذلك إرادة لِوَجه الله -تبارك وتعالى- تَحولَ من شَأن الدُنيا إلى أَمر أُخرَوي وعِبادة وقُربة إلى الله تعالى، كما قال -سبحانه وتعالى-(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37].
بِمعنى أن المُؤمنين في حال أنها لا تُلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذِكر الله، يَستَخدِمونَ الأموال والأولاد قُربة إلى الله بِتَربية الأولاد وإعدادَهم لأن يَكونوا أجناد مع رَب العِباد -سبحانه وتعالى- وأنصار لِحَبيبه محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله في الخافي والباد، فَهُم بِهؤلاء الأولاد وحُسن تَربِيَتهم يَتَقَرَبون لله ،وليس ذلك لِكُل مَن كان لهُ أولاد أو فَرِحَ بالأولاد من حَيثُ الطَبيعة الإنسانية أو أعدهم لأجل أغراضه ومقاصده (يقول بيدخِّلوا لنا دخْل، وبيكبرون وبيجيبوا لنا فلوس، ويرعوننا لما نحن نَكبُر، هُم بيكونون مَعنا ) فَمِثل هذا ما يُقَرِّبهُ أَولادُه إلى الله طبعاً ولا يَتَقَرَب بِهم إلى الله، (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ:37]، هذا ما يَرضى بِالمال إلا من حَلال فَيَكون عابِد، وبِسَبَب تَوَقِّيهِ للِشُبُهات يَكونُ انصِرافُه وإعراضُه عن الشُبهات إلى الحَلال عِبادة لله تعالى، وأَخذُه المال أرادة صَرفه في صِلَة الأرحام؛ أَراد صَرفُه في نُصرَة الحَق والهُدى، أَراد صرفُه في تَفريغ طائع للطاعة أو مُتَعَلِم للتَعَلُم، أراد صَرفُه في إنقاذ مَلهوف، في قَضاء حاجة مُؤمن؛ فَهذا مالُه يُقَرِبه إلى الله -تبارك وتعالى-، يَخرُج عَن المال المَذموم وعَن مُجَرد الحَياة المَذمومة.
أما من غَفِلَ وظَن أن المُرادَ بِها أُمور قَريبَة دُنيَوِية فقال -الله تعالى- عنهم (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) [التوبة:55] المال بالشَكِل هذا أنتبه يَغُرَّك، والأولاد بالشَكِل هذا الذي هُم عَلَيه انتبه يَغُرونَك.
(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) [التوبة:55]، لا هُم ولا أولادُهم ولا جُنودُهُم فَما تَكون لَهُم عَاقِبة خَير أَصلاً (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55]، يَتَعَذَبون بِها في الحَياة وبَعدَ ذلكَ لَهُم العَذاب الشَديد في الآخِرَة، ولكِن المُؤمٓنين فيما يَتَعَلق بِأَموالِهم قالوا: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]، ولِهذا ذَكَر (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر:15] بِمَعنى أَنَّ أَهل المُؤمِن عَوناً لَهُ على الخَير في الدُنيا وسبباً لِرَفع دَرَجَته في الأُخرى وجَمعاً يَجتَمِع بِه مَعَهُم في القِيامة وفي دار الكَرامة، هذا حالُ المُؤمِن، ما يَخسر أهلُه ولا يَخسَر أولادهُ ولكن الذين يَخسَرون أهْلِيهِم يَومَ القِيامة الكُفار (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15]. وبهم يَتَبَرأ بَعضُهم من بَعض ويَلعن بَعضُهم بَعضاً والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
فشأن المُؤمن قال: إذا أَراد أن يَستَقِر على الطاعة أن لا يَغتَرَّ بالزُخرُف الذي يَدعوه إلى التَرك للِسُنَن فَضلاً عن الواجِبات أو الوُقوع في المَكروهات والشُبُهات فَضلاً عن المُحَرَمات فَيَترُك كُلَ ذلك ولا يَغتَر بذلك، وإذا أُقيمَ مَقام التَسَبُّب ومقام التَحصيل للرِزق والسَعي بالأسباب التي أباحها الله -تبارك وتعالى- فَيُقيمُ ذلك مع تَوَكُله على الله -تبارك وتعالى- مُراعياً أمرَ الإحتِياط في دينه مُقَدِماً أمر الدينِ على كُل ما تَهفو إليه النَفس مِن مَحَبَة الكَثرة والوَفرَة في المال أوالمَتاع الفاني، ولكن يَجعَل قَصدُه لِوَجه الله هو الأصل والأساس، ولهذا قال: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون:9]، وقال: (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [النور:37] فلم يقل لا أموال لَهُم ولا أولاد، ولم يَقُل لا تِجارة ولا بَيع، ولكن قال: (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37]. وبِهذا الميزان يَأتي تَجَنُب الإنسان لِشَر الدُنيا وأخذُه لِخَيرِها وفيهم من يُقيمُه الله مَقام التَجَرد، ومنهم من يُقيمُه الله مَقام التَسَبُب. وعَلامةُ أن الله أقامه في التَجَرُد أن يكون:
فهذا أقامه الله تعالى في التَجَرُد عن الأسباب فَعَلَيه أن يقوم بِحَقِه فيها، ومن أقامهُ الله تعالى في الأسباب فعلامة أن الله أقامه فيها :
هذه علامة أن الله أقامه في هذا السبب، فعليه أن يَقومَ بِحَقِ هذا السَبَب، فَإنَ مِن حِكمَة الله أن الناسَ في الأرض لا يُمكِن أن يَكون كُلُهُم مُتَجَرِدون، ولا يُمكِن أن يَكون كُلُهم مُتَسَببون. ولهذا ذَكَرَ الإمام الحداد أن قَوام صَلاح العالَم بأربَعة :
قال هؤلاء يترتب على وجودِهم وقِيامهم على هذا الوجه صَلاح العالَم، وإذا فُقِدوا وعُدِموا أو خَرَجوا عن مَسارِهم يترتب على ذلك خراب العالَم وهكذا قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان:20]، وجَعَلَ سُبحانه وتَعالى كَمال هذا على يد هذا ،وكمال هذا بهذا، وقَوام هذا بواسطة هذا، وحاجة هذا إلى هذا، إلى غير ذلك من حِكمَته التي جَعلها على ظَهر الأرض. ثُمَّ لا يُوجد مِنهم مُستغنيا بنفْسِه كائنا مَن كان، وأهلُ الغِنى بالله -جلَّ جَلالُه- هُم أهلُ صِدقِ الافتقارِ إليه.. وتُسخَّرْ لَهُم بَعد ذلك الأسباب، إلّا أنَّه لكي تظهرَ سِرَّ الرَّبُوبيِّة والألوهيِّة؛ لا يَستَقِلّ مَلك ولا إنسِيّ ولا جِنِّي بِشؤونِه ومَصَالحِه كُلَّها مُنفردًا لِذَاتِه، بَل لابُدَّ لَهُم مِن صِلة بهذا.. ولابد لهم من صِلة بهذا ولابد لهم من بذاك.. لحِكمة مِن حِكم الله تبارك وتعالى؛ ليعلمَ الخلقَ أنَّهُم خَلقُ وأنَّهم عَبيد، وأنَّ الغِنى المُطلق لَه وحْدَه -جلَّ جًلاله وتَعالى في علاه-.
ولكنَّهم في مَا جَعلَ بينهُم مِن إجْراءِ مَصالِح بعضَهم على بعْض، جَعلهم على دَرجاتٍ فِي الإنكباب على هذا، والانقطاعِ عَن شُهودِ الحَقّ المُسيِّر المُسخِّر وفي هذا هلاك، أو فِي الغِنى بالله تباركَ وتَعالى وإعْتبارِ هذه مُسبَّبات لمُسَبِّبٍ قَويٌّ قادرٌ وهم على دَرجاتٍ في التَّوحيد في ذلك أيضا، وفي فهم الحقيقة، وهَبنا الله خيرات الدَّارين ودَفع عنّا شرَّ الدَّارين وتولَّانا في الدَّارين ودًفع لنا من خواصِّ سُعداء الدّارين إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
الصحبة
وقول الشيخ رضي الله عنه: يا صاح أي يا صاحب. و في هذا المعنى إشارة إلى الصحبة، وهي من أعظم فوائد السفر دنيوياً كان أو أخروياً. وقد قال ﷺ: "الجماعة رحمة والفراق عذاب". أقول والله أعلم: إذا اتفقت القلوب والقوالب وتساعدت صارت رحمة، وأما إذا تباينت وتناكرت فالفرقة أولى والفرار والعزلة أسلم، كما قيل شعراً:
ألا كل من ألهاك عن كسب طاعةٍ *** عدوٌ وإن كان الصديق المصافيا
فالصحبة التي يحصل بها الانتفاع هي صحبة المشايخ العارفين والعلماء العاملين والإخوان الموفقين وذلك هم الصوفية. قال شيخ الطائفة الجنيد نفع الله به: "إذا أراد الله بالمريد خيراً أوقعه إلى صحبة الصوفية ومنعه صحبة القرّاء".
وقال الشيخ ابن عبّاد في شرح الحكم: "والحاصل أن صحبة الصوفية هي التي يحصل بها الانتفاع، كمال الانتفاع للصاحب دون من عداهم من المنسوبين إلى العلم والدين. لأنهم خُصُّوا من خصائص التوحيد والمعرفة بخصائص لم يسامهم فيها غيرهم. وسريان ذلك إلى الصاحب من المصحوب هو غاية الأمل والمطلوب. فقد قيل: من تحقق بحالة لم يخلُ خاطره منها. فمن جلس على دكّان العطار لم يفقد الرائحة الطيبة، هذا في الحضور والمجالسة فما ظنك في الصحبة والمؤانسة. انتهى
وما أعز هذه الشأن اليوم بل من قادم الزمان، فلذلك حَرَص المشايخ العارفين على العزلة للمريد بين السالكين. ولكن أقول هذه أمة مرحومة، والرحمة واسعة وحسن الظن مطلوب على أي حال، خصوصاً وعموماً والساقي باقي. وقيل في ذلك شعراً:
محسن الظن مستريح *** خاب من ظنه قبيح
و قد طال الكلام في ذلك و حقّ له أن يطول و هو موافق في هذا السفر.
لأنَّ السَّفر يحتاجُ إلى صُحبة، يَحتاجُ إلى أصحاب، وهكذا شأنُ الصُّحبة مِمَّا اختَبر الله تعالى به العِباد:
فصُحبةُ الجُهَّالِ دَاءٌ وعَمى *** تَزيدُ في القلبِ السَّقيم صدى
وصُحبَة الأخيارِ للقلب دَواءٌ *** تزيد في القلبِ نشاطًا وقُوى
وضَربَ النَّبيُّ مثلُ الجَليس الصَّالِح والجَليسُ السُّوء، وضَربه بمثلِ بائِعِ المِسْك ونَافِخ الكِير، وهو دَقيقٌ ﷺ في ضَربِ الأمثال، وفي ما يُبيِّنُ للنَّاس مِن المَعانِي الجِزال صَلوات ربِّي وسَلامُه عليه، وتجدُ أنَّ الذي يُجالِسُ بائع المِسك ولو لَم يُعطه ولو لم يَشتَري لا يَفقدُ الرَّائحة الطيبة، ولو قال: أنا لا أريدُه ولا أريد رائحتُه ولا أحبّ رائحته فأنا فقط سأجلس عِنده ولن أشتري شيءٌ مِنه ولا أقبلُ منْه ولا أشمُّ الرَّائحة، قلت له: لا تشتري مُمكِن، ولا تقبل منه ممكن، ولكن الرَّائحة ستطردك وستأتيك، لابدّ تمتلئ برائِحة المِسك الذي عنده شئتَ أم أبيت.
كالذي يُجالس الشّرير ويقول: ما عليَّ مِن شرِّهِ، اتركوه وشَرّه، قل له: ماذا ستعمل إذا طارت شرارته؟ ستستأذنك أن تأتي فيك أم لا تأتي فيك؟ ستحرق ثوبك! ومشكلة إن وقعت في عينك، وإلَّا صلَّحتْ لك مصيبة، وأقل شيء الرائحة الكريهة. لو قال: ماذا علي من كِيرهِ ومن روائحهِ، أنا في ثيابي مُعطّر، ليس عليّ شيء، هيا اجلس ثم اخرج ستُحَصِّل الرّيح كلَّهُ من ريح الكير، عطرك ذهب بسبب المجالسة؛ ولهذا أحبّوا الصُّحبَةُ في الله، والأُخوة في الله -تبارك وتعالى- وهي مِن خَير ما تُطوى بِه المَسافة ويُبْعد به عَن الآفة ويقول: "إذا اتفقت القلوب والقوالب وتساعدوا" صارت هذه الإلفة والقوة الرحمة من الرحمات الكبيرة، ولكن مَن تنَاكرتْ قُلوبُهم وقامت نفوسهم، هذا ما ينتفعون من صحبة بعضهم البعض، وربما آذى بعضهم بعض، ربما انحجب عن الله بعضهم بسبب بعض -والعياذ بالله تعالى-. لكن بصفاءِ القلوب وخُلوصِ المَودَّة للرَّحمنِ تعالَو، لا شيء أشرف مِن الصُّحبة الصَّالحة، والتَّعاون على السَّير إلى الحق -جل جلاله وتعالى في علاه- وصُحبَةِ المَشايخ العَارِفين، والعلماء العامِلين، والأخوان المُوافِقين، هذه الصُّحبة النَّافعة المُثمرة للخيرات الكبيرة. ولهذا يقول:
عن المرءِ لا تسأل وسَل عَن قَرِينه *** فَكُل قَرين بالمُقارَنِ يَقتَدي
قلْ لي مَن أصحابك أقول لك من أنت، من أصحابك؟ أعرفك من خلال أصحابك ومن خلال أصدقائك، وهكذا ما يتعلّق القلب بالأكابر والأخيار والأفاضل إلا والله يُريد أن يَرفعه، ويُريدُ أن يُقَرِّبه، ولا يتعلق بالسّفهاء والسّاقِطين إلا وأراد أن ينزل إليها؛ فحافظ على قلبك، ولا تُعطي ولاءه إلا لأولياء الله وإلا للصّالحين من عِبادِ الله؛ يحبك الله -تبارك وتعالى-.
ولما قال بعض الأنبياء، وقد سأله الحق: ماذا فعلت لي؟ قال: يا ربّ زهدتُ في الدُّنيا وانقطعتُ إليك، فأوحى الله إليه: أمّا زُهدك في الدّنيا فقدْ تعجَّلتَ لنفسِكَ الرَّاحة، وأمّا انقطاعُك عليّ فقد تعززتَ بي، فما عملتَ لي؟ قال: يارب ما أعمل لك؟ قال: هل واليتَ فيّ وليًّا أوعاديتَ فيَّ عدوًّا؟ من أجلي تُوالي أوليائي، وتُعادي أعدائي، هذا الذي هو لي خالصٌ، ما لك فيه أنت حظ، من أجلي تعمله فيُثيبُنا عليه، رزقنا الله موالاة أوليائه، وقالﷺ في دعائه: "نحبُّ بِحُبِّكَ الناس، ونُعادي بعداوتِكَ مَن خالفَكَ"، وقال إنّ الأمة مرحومة والرحمة واسعة والحمد لله، وحسن الظن مطلوب..
مُحسِن الظنِّ مُستريح *** خابَ مَن ظنُّه قبييح
لأنَّ صاحِب حُسنِ الظَّنّ مُصيبٌ وإن أخطأ، حتى لو أحسِن الظَّن في مَن ليسَ بخيِّر فإنَّ الله يُمدّه، وإنّ الله يُقرِّبُه ولا يفوته من الخير شيء، ومُسيءُ الظَّنّ ولو أصاب هو مخطئ؛ لأنه يُحرَمُ بسبب ذلك، يُحرَمُ خير كثير، وينقطع عن خير كثير، وهذا في عموم حُسنِ الظّنّ، وإساءةِ الظّنّ فيما بين العبد وبين ربه، أمّا فيما يتعلَّقُ بالمُعامَلةِ فيجبُ عليكَ أنْ تَحذر مِمن لا يُقرِّبُك إلى الله تبارك وتعالى، ولا يُنهِضُك حَاله إلى الله تعالى.
ولا تُحوِّل حُسن الظَّن الى بَلادة وبلاهة، تستأمنه على سرّك، أو تَستأمِنه على مالك، وبعدين تتحول وتصفِّق بيديك! كُنْ على بَصيرة، كُنْ على عقل مع حُسنِ الظَّنّ القلبيّ بالجميع، لكن بالمعاملة والاختيار للمُجالسة؛ ما تختار إلا مَن ظَهرتْ عَليه علاماتُ الصِّدق مَع الله تبارك وتعالى، وإيّاك أن تَختار صُحبةَ مَن تَرى له ظاهر يعجبك من قبلِ أن تُبلي، ومُصاحبة الأخيار والصّالحين مِن أعلى مَا يُقرّب إلى الله تعالى:
هم العلماء والعارفون الذين *** في مجالستهم للمرء أعظمُ إسعادٍ
وإيّاكمُ من صحبة الضدٍّ *** إنَّنِي رأيتُ فسادَ المَرءِ صُحبَةَ أضدادِ
والضدّ هو الذي يقطعك عَن الله كائِنٌ ما كان، ولو يُظهر لكَ الوَلاء والصَّداقة، ولكن يقطعُك عَن رَبِّك هو عَدُوّ، عَدُوٌّ بِيَقين، وستتحول أموركم إلى عداوة في الغالبِ في الدنيا قبل الآخرة، في الآخرة بيقين، وإنّما صَديقُكَ مَن قَرَّبك إلى الرَّحمن، وزيَّن لك ما هو زَين عِند ربّك -جلَّ جلاله-، وأوصلك بأحبَابه وأهلِ قُربِه.
جعلنا الله من المتواصين بالحقِّ والصَّبر المُوفَّقين للخير، المَحفُوظين مِن كُلّ شرّ وضَير، يا من وَفَّق أهلَ الخيرِ للخيرِ وأعانهُم عليهِ وفِّقْنا للخيرِ وأعِنَّا عليه، واجعلنا وأحبابنا هؤلاء من المتجالسين فيك، ومن المُتآخين فيك، ومن المُتعاونين على ما يُرضيك، وعُمَّ بذلك أُسَرنا وأهلينا وأهل بلداننا وأهل قُربنا، وانشره في الأمَّةِ نشرًا رائِقًا بِجودِكَ وكَرَمِكَ، وسُرّ بذلك قلب حبيبك محمدﷺ، وأعدْ علينا عَوائِد الاتصال به في كل حال وارفعنا المَراتب العوال بمحضِ الفضلِ والجُود يا برُّ يا ودود، بجاه زَينِ الوجود وأربابِ الشُّهود.
بسر الفاتحة
وإلى حضرة النبي محمد ﷺ
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
26 ربيع الأول 1445