فتح الكريم الغافر - 5- شرح: (الصلاة، العزم، اليقين، الحقائق)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس من شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب: فتح الكريم الغافر في شرح جلبة المسافر، للعلامة الحبيب عقيل بن عمران.

عصر الأحد 16 ربيع الأول 1445هـ

ضمن فعاليات موسم الاحتفال بذكرى المولد النبوي في صلالة.

يوضح فيه معاني الأبيات:

وانصبوا العزم القوي دقلها * وحملوها باسم من حملها 

 دستورها الوجه الذي شملها  * وفرملها حريق زاخر

وطلعوا الفنجر يقين صادق * عجلها يا صاح نور بارق

رواجع ترجع إلى الحقائق * ايضا وصباحي قليب عامر

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

  • نحول الجسم وصلاة الليل
  • أدوية القلوب (خمسة)
  • عبادة الملائكة وعبادة المؤمن
  • خصائص في السلام على النبي ﷺ
  • القرب من المقام المحمود بكثرة التهجد
  • معاني الخشوع في الصلاة (حضور القلب وتفهم المعنى والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء)
  • الفرق بين صلاة الصادق المخلص وصاحب الغفلة
  • العزم القوي
  • اليقين الصادق
  • الحقائق
  • بماذا يعمر القلب

لتحميل الكتاب نسخة pdf:

https://omr.to/fathalkarim-pdf

نص الدرس:

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، من كتاب فتح الكريم الغافر في شرح جَلَبة المسافر للعلامة الحبيب عقيل بن عمران باعمر نفعنا الله به وبكم في الدارين آمين.

وقوله رضي الله عنه:

صَفّوا مزاهِيها بصفِّ الأقدام *** جعلوا نحُول الجِسم وسْطها أعلام

صلاتهم بالليل وقت الإظلام *** يخاطبـُون الربّ و هـو  غافـر

أي صفُّوا مَزاهي هذه الجَلبَة بصفِّ الأقدام بكثرة الصلاة والقيام فيها. وقوله: (جعلوا نحول الجسم وسطها أعلام) فقد تقدم معنى ذلك في الجوع و الصوم. و قوله: (صلاتهم بالليل وقت الإظلام) أي ظلام الليل و هدوء الأصوات و الحَركات و الخَلوة بالحَبيب و التّلذّذ و التَّملُّق بالمُناجاة. كما قال: (يُخاطبُون الربّ وهو غَافر) أي يغفر لهم ما اكتسَبُوه في نهًارِهم من اللغو مع الخلق وهي اللمم، كما قال سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم:32]، فإذا تابوا إلى مولاهم ورجعوا إليه وشَكَوا إليه، قبِلهم وتولاهم وناداهم وصافاهم. روي في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: "إنَّ في اللَّيْلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِن أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَذلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ"، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: "ينزلُ ربُّنا تبارك و تعالَى في كلِّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا ، حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ ، فيقول : من يدعوني فأستجيبُ له؟ من سألني فأُعطيهِ؟ من يستغفِرُني فأغفرُ له؟"

 قلت: وهذه الساعة في كل ليلة، مثل ليلة القدر في كل سنة وهي مُبهمَة في الليل أيضاً. فلذلك أُمِر بقيام الليل لطلبِ المغفرة و مناجاة الحبيب. و في التوراة: (يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يديَّ مصلياً باكياً، فأنا الله الذي اقتربتُ من قلبكَ، وبالغيبِ رأيتَ نوري).

فكان القائمون يرون تلك الرقَّة والبكاء وتلك الفتوح التي يجدها المصلي في قلبه من دنوِّ الربِّ من القلب. و قيل دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والاستغفار  بالأسحار، و مجالسة الصالحين.

و قال محمد بن علي التّرمذِي رضي الله عنه: دعا اللهُ تعالى الموّحِّدين إلى الصّلوات الخمس رحمةً منه عليهم، وهيأ لهم فيها ألوان الضيافات، لينال العبد من كل قولٍ و فعلٍ شيئاً من عطاياه، فالأفعال كالأطعمة و الأقوال كالأشربة و هي غرس الموحدين، فهيأها رب العالمين لأهل رحمته في كل يوم خمس مرات حتى لا يبقى عليهم دنس ولا غبار. انتهى. في هذه الصلوات المفروضات.

ومُراد المؤلف القيام ب، لكنه بعد إحكام الفروض والرواتب المؤكدة. و قد أمر الله تعالى" نبيه محمد ﷺ:"بقيام الليل فقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]، وقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (قامَ فينا رسول الله  حتى تفطّرت قدماه. فقيل له: أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً) و قال صلى الله عليه و آله و سلم: (ركعتين يركعهما العبد في جوف الليل الأخير خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن أشق على أمتي لفرضتها عليهم) و فضل قيام الليل لا يحصى.

ثم اعلم أنك لنْ تَحصُل على فوائد الصلاة إلا بقيامها المأمورُ به، كما قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]، وهو حُضور القلب و تفْريغ البال عن الأغْيار والخشوع "في" الصلاة. و أما الذكر و القراءة مع اشتِغال القلبِ بالوسْواس و الأغيار، فقليل التأثير في صفاء القلب و " تهيئته " للمناجاة. فكيـف  يَليقُ بك أيها المؤمن أن تناجي ربك: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، و قلبك غافل و داوي في أودية الوسواس الشيطانية و النفسانية و الدنيوية؟! -أعاذنا الله من ذلك-.

أعَاذنا الله مِن ذلك وخلّصَنا وصَفّانا- الحمدُ لله مُوفّقُنا لتذكُّرِ واجباتِنا في سَيرنَا إليْه وطلَبِ الوُصُولِ إليه بِحُسن التَّذلُّل بينَ يديْه والعَملِ بما دعانا إليه على لسَان أكْرَم الخلْقِ عليه، صلى الله وسلّم وباركَ وكرّم عليه وعلى آله وأصْحَابه ومن وآلاه في الله واقْتَدى به، وعلى آبائه وإخْوانه من الأنبياءِ والمرسَلين المُبشِّرين به وآلهم وصَحبهم وتابعيهم، وعلى المَلائكة المُقرَّبين وجَميعِ عِباد الله الصّالحين وعلينا مَعهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الرّاحِمين.

ويُواصلُ سيدنا الشّيخ عَقيل بن عِمران باعُمر -عليه رحْمة الله تبارك وتعالى- ذِكرَ شُؤون السَّير إلى الله تَعالى، ومَا يُقطَعُ من المسَافات ويُتَجنَّب مِن الآفات ويُتحصَّلُ عليه منْ كُنوزِ المَعارِف واللطَائف الرَّبَّانيَّات بِتثْبيْتِ القَدَم في الظَّاهر والبَاطِن على مرضَاة الحقِّ تباركَ وتعَالى في عُلاه.

ويقول أنّ هذه الجَلبَة؛ السّفينة زهتْ، وصَفّوا مَزاهِيْها وشُؤونَها الزّاهية، بصَفّ الأقدام أي: في القِيامِ بينَ يَدي الله تعالى في الصّلاة في المُناجَاة، "أفضلُ الصّلاة طُول القُنُوت" أي طُول القيَام، (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238]، لكثْرَة الصَّلاة والقيَام فيها، فهُم المُزيِّنُون لهذه الطَّريقةِ:

  •  بزِينَة الصِّدق مع ربّ الخَليقة -جلّ جلالُه- 

  • وزينَةُ الحُضُور بينَ يَديه

  • وزِينَة الخُشُوع لجَلالِه

  • وَزينَة مَحبَّة العِبادة، وإمَامُهم وسيِّدُهم قًام حتّى تورَّمتْ قدماه، صلى الله عليه وعلي آله وصَحبه وسلّم، فهم يصَفّون أقدَامَهم بين يديِ الربِّ للمُناجَاة في تبعيِّة هذا الحَبِيب المُنيب الأوَّاه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ويتلذَّدُون بذلك.

وكما قال الحَبيب صَالح بن مِحسن الحامد: "عُبّاد للمِحرَاب زِينَة" زيَّنوا المَحاريب ومَواطِن الصّلاة وأمَاكِنها بخَالصِ عبَادتهم، وبصَافي قيامِهم ورُكوعِهم وسُجودِهم وحُضُور قلوبِهم مع المَولى -جلّ جلاله-؛ فزانتْ بهم المَحاريب، وزانت بهم أمَاكن العِبادَات ومَواطِن قيَامِهم وركوعِهم وسُجودِهم.

وجَعلوا نُحولَ الجِسم وسْطَها أعْلام؛ نُحولَ جسم؛ المُراد أنّ ما يَعتَلِجُ بباطنِهم مِن شدِّة الشَّوق والهَيام يُورِثُ لَهم هذا الوَلَع همًّا بأمْرِ الله والوصُولِ إليه ونَيلِ مَرضَاته، وهذا الهَم في الغَالبِ يُزيلُ الدُّهون والشَّحم من الإنسان، ويَمِيلوا إلى النّحْف

أمَا ترى جسمي السّقيم *** قد شفَّه داء النّحُول

قل لي بِمن هَذا العَنا *** وهذا التَّصابي يا جُهُول

فيكونُوا هكذا، وقد يكونُ فيهم من تَعود عليه عَوائد هذا الهمّ الذي يحْملهُ والولَعِ والشّوقِ بشُؤون مَعنوية ما تظهَر أثرُها على الجَسدِ، ولا يَظهَر أثرُها على البُنية الجِسْمانية؛ ولكنْ هؤلاء قليلٌ ونَوادِر. والمقصُود بنُحول الجِسم؛ ما يُؤدّي إليه من خَالِص الشّوق والمَحبة، يعني أنّهم يَحملُون الشّوق والمحَبة، فحَمْلُهم لهذا الشَّوق والمَحبَّة الذي مِن شَأنِه تنْحَل به الأجْسام وتَضعُف، أنَّه هذا هُو وسَط سَفِينَتَهُم الأعْلام، فأعْلامُهم نحُول الجِسْم.

وقال: صَلاتهم بالليل وقت الإظلام "وصَلوا بالليل والنّاسُ نيام" يقولﷺ "ورَكعَتانِ في جَوفِ الليْلِ كنْزٌ مِن كُنوْزِ البِرّ" أي: الجنة. يُخاطبُون الربّ -جل جلاله- وهو غَافر بأنواع المغفرة؛

  •  منه لأهلِ اللّممِ وما صَدرَ مِنهم في النَّهار

  • ومنه لأهلِ كلّ درجَة في ترقيَتِهم إلى الدَّرجَة التَّي فوقهَا.

 فيغفر لهؤلاء ويغفر لهؤلاء ويغفر لهؤلاء، والكلّ مُحتاج إلى مَغفِرة الغفّار سبحانه وتعالى. ولذا وصَف عبَاده المُحسنِين بالاسْتغفار وقْتَ السَّحر؛ (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَوَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:16-18]، مع أنَّهم قامُوا بالّليل في مُناجاة، وذاقوا ما ذاقُوا مِن لذّتها، ويَرجِعُون إلى الاستغفار؛ لأنَّ كلّ صَاحبِ مَنزلة ومَقام مِنهم يَرى تقصيرَه في حَالته ومنْزلته بما يَليقُ به، ويَطلب ما فوقَ تلكَ المَنزلَة، وما فوقَ ذلك المَقام، فهم مُحتاجُون إلى الاستغفار؛ وهو طَلبُ المَغفرة. "مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جعل اللهُ له من كلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، ومن كلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ورَزَقَهُ من حيثُ لا يَحْتَسِبُ" "طوبَى لِمَن وجدَ في صحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا." وكان سيِّد المستغفرين قال: "واللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً". صلوات ربي وسلامه عليه.

قال: يُخاطبون الربَّ وهو غَافر، يَغِفرُ لهم ما اكتَسَبوه في نهَارِهم من اللغْو، وعلى دَرجَات الغُفْران، كذلك ما أشرْنا، وذكر حديثُ مسلم: "إنَّ في اللَّيْلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِن أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَذلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ"، ساعَة إجَابة تَكون مُبهَمة في الليل، كساعَة الإجَابة في يَوم الجُمعَة، كليلة القدر في شهر رمَضَان على المعْتمَد، وقيل: في ليَالي السَّنة. جعلها الله مُبهمَة رحْمَة بعِبَاده؛ ليَغتَنمُوا كلّ ما استَطاعُوا اغتِنَامَه مِن الليَالي ومِنَ السّاعات.

 ثمّ ذكرَ حديث الصحيحين: "ينزلُ ربُّنا تبارك وتعالَى في كلِّ ليلةٍ،" يعني السّماء القَريبة لا يوجد للدّنيا سماء خاصّة ولكنْ السّماء الدُّنيا؛ يعني: السّماء القَريبة إلى الأرضِ، "إلى السماءِ الدنيا حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ،" لأهلِ كلّ مَنطقة بِحسَبهم، وقال بعضُ أهلِ المَعرفة: "أنَّه بحسبِ ثلثِ الليل الأخيرِ في مَكة المُكرمة"، يَكونُ مِنهُ النّداء تعالى: "هل من يستغفِرُني فأغفرُ له؟ هل مِن طَالب حَاجَة فاقضِ حَاجته؟ هلْ مِن تائبٍ فأتوبُ عَليه؟. وهنَا ذكرَ في الرِّوايَة مَن يَدعوْنِي فاسْتجيبُ له، من يسألنِي فأعْطيَه، من يسْتغفِرُني فأغفرُ له. إذًا مَن يدعونِي بالواو؛ من يَدعونِي فاسْتَجيبُ له. وهذا النّداء يكونُ في ليلةِ الجُمعَة وفي ليلِ رمضَان، ليس في ثلثِ الليلِ الأخيرِ فحَسْب؛ ولكنْ مِن المَغرب، من المَغربِ إلى الفَجر، ينَادي ربنَا، يُنادِي في ليلة الجُمعة، وكلّ ليلة من ليالي رمضان مِن الغُروب إلى الفجْر، هلْ منْ تائبٍ فاتوبُ عليه؟ هل من مُستغفِرٍ فأغفرُ له؟ هلْ منْ طالبِ حاجة فاقضِ حاجته؟ هل من مبتلى فأُعافيَه؟ هل مِن مُستغفر فأغفرُ له؟ هلْ منْ طالبِ حاجة فاقضيَ حاجته؟ وإلى غير ذلك.. فيستمرّ النّداءُ من ثلثِ الليل الأخير إلى الفجْر، وفي ليلة الجُمعة ولياليَ رمضان من الغُروبِ يبدأ.. منَ الغُروبِ الى الفَجر.

فضلٌ منَ الله وتجلّي على عِباده بإحْسانه ووِدَادِه سبْحانه وتَعالى، "يا ابن آدم لا تعجز ان تقوم بين يَدَيَّ مصلِّياً باكياً، فأنا الذي اقتربتُ من قلبك، وبالغيب رأيتَ نوري". فهذا أيضًا  يُشيرُ لأن الرّؤية للحقّ ما تكونُ إلا بالغيبِ؛ بمعْنى أنّه لا يُمكِن أنْ يكونَ هنَاك انْحِصارٌ ولا جهة ولا شيء من مَظاهِر الجِسمَانية ومَظاهر الجَسدانية؛ فالرّبّ لا يُشابه جسَدا ولا رُوحا.. بل هو فوق ذلك (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]، قال: فيرون أنّ الرّقة والبُكاء الذي ينَازلهم في الليل بسبب دُنوّ الربّ تعالى من قلُوبهم، وقالوا عن أدوية القلوبِ التّي تُعَالج بها مِن أمراضِها المُختلفة خمسة: 

  • قراءةُ القرآن بتدبُّر

  • خلوّ البَطن عن الشُّبهاتِ، وعَن الإسْرافِ في الأكلِ والشُّرب

  • وقيامِ الليل، على دَرجاتٍ يكونُ هذا القيام؛ مِن حيثِ المُدة، ومِن حيثِ الكيفِيَّة في القيام

  • والاستغفار بالأسْحارِ 

  • ومُجالسَة الصَّالِحِين 

فهذه أدوية خَمسة لصَلاحِ القلبِ وتنقِيتِه وتَصفِيته وتهْيئتِه لمَعرفة الله الخاصّة.

ونقل عن الإمَام التِّرمِذي: أنَّ الصّلوات الخمس رَحْمة مِن الله عليهم، دعَا العِباد إلى هذه الصّلوات وهيّأ لهم فيها ألوانَ الضِّيافات، ينال كل عبد شيء من عَطايا ربّه سبحانه وتعالى، الله أكبر.. قال: لينالَ كل عَبد من قوله وفعله شيء مِن عَطايا ربّه فالأفعالُ كالأطعمةِ والأقوالُ كالأشربةِ، وهي عرسُ المُوحِّدين، هَيأها ربُّ العالمين لأهلِ رحمَته في كل يومٍ خمسَ مَرّات، يعني الصّلوات الخمس. الحمد لله على ذلك.

وفيها عِبادات مُوزَّعة على المَلائكة؛ جُملة من الملائكة ألوفٌ بلْ مَلايين، عِبادةُ أحَدهِم منذُ خلَقَه الله، القِيام بينَ يديه وهم قائمون إلى أنْ تقومَ السّاعة، وجماعة منهم تعبَّدهم بالرُّكوع فمن حين خلقه الله راكع ومُستمر في ركوعِه إلى يومِ القِيامَة، ومِنهُم من تعبَّدهُ الله بالسُّجود، فمن حِين خلَقه الله ساجدٌ ومحَلّه في السُّجود إلى يومِ القيامة، ومنهم من تعبَّده الله بالجُلوس بين يديه، والمُؤمن جمعَ الله العِبادة المُفرقة على هؤلاء المَلائكة له في ركعتين يُصلِّيها؛ يأتي بالقيامِ والجُلوسِ والرُّكوع والسُّجود كلَّه يَحصُل عليه في خلال ذلك، بلْ في التَّشَهد يجد معنى:

  • مِن زيارةِ الربّ وبيتِه الحَرام بالتَّحيَّات

  • ومِن زيارةِ رسُوله ﷺ "السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"

  • ومِن زيارته للصالحين أجمعين بقوله "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" 

يجتمع له أسْرار زيَارات الصّالحين وشاهده في الحديث، قوله ﷺ: قولوا"..السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فإنَّكُمْ إذَا قُلتُمُوهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ في السَّمَاءِ والأرْضِ.."،يبلغ هذا السلام كل عبد لله صالح، ومِنهم صنف منْ الأرواح الطَّاهرة مَشغولون بمُطالعة جَمال الحقّ مستغرقون به، فما عَاد يَلتفتون إلى شيء، إلا كما جاء في مَجموع الاحاديث؛ "أنهم يُنبَّه أحدهم إذا أُهدي إليه شيءٌ من ثوابِ الاعمالِ الصَّالحة، يُنبَّه ويُقال له: فلانا أهدى لك كذا ويرجِع لاستغراقه، فإذا سلّم المسلِّم عليهم،، وهُم لشُغلهم بِه واستغراقِهم به يتولَّى الرَّحمنُ ردّ السّلام عَنهُم، يردّ السّلام عنهم لمنْ سلمَ عليهم.

ولمّا ذُكر هذا في الأثرِ وسَمعَ بعضُ العَارفين قالوا: "يا حبذا استغراقُهم، قال: دعْهم مستغرقين مادام بنحصّل السّلام من عند الربّ بسَبَبِهُم، نحنُ نُسلِّم عليهم والربّ يردّ علينَا السّلام أحسن لنا ولهم، ما يَردّون السلام أحسَن، دعْهم  في استغراقهم وفي مَا همْ فيه.

ولكنْ السّلام على رسوله ﷺ، يَجمع لكَ السّلام مِن الله، وردّ السّلام من رسولِه ﷺ، "ولا يُسلّم عليكَ أحدٌ مِن امّتك إلا سلّمْتُ عليه.. لا يُصلِّي عليكَ أحدٌ من أمّتك إلا صَليتُ عليه، ولا يُسلّم عليكَ أحدٌ مِن أمّتك إلا سلمْتُ عليه". فالحقّ أيضاً يُسلِّم على مَن سَلَّم على نبيه محمد صَلى الله عليه وعلى وآله وسلم، فيا فوزَ مُكثري السّلام، يا نبي سَلام عليك، السّلام عليك زين الأنبياء. وهو من العِبادة التي تُعبدنا بها وسط الصّلاة -السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته-، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

قال؛ أن مُراد المؤلف بالقيام المسنون، بعد إحكام الفروض والرواتب المؤكدة، قال لنبيه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]، كان يقولُ الحبيب عبد القادر: "قُرْب المؤمنين من صَاحب المَقام المَحمود في وقت القيَامة على قَدر تهجُّدهم، لأنه قال لنبيِّه في تهجده: (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)، فتقرُب من صاحب المقام المَحمود بالتّهجد الذي ربطه الله بالمقام المَحمود، تهجَّد لمَن يقربُك (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)، فمن ضيّع نَصيبَه مِن التّهجد في ليالي عُمره وأرادَ القُربَ مِن صَاحِب المَقام المحمود في وقت السّجدة يقول: ما قَربت مِنه واخذتَ السّبق بالقرب بأيامك في الحياة؟ فكيف تقرُب منه في ذاك المَوطن؟ أنّه عند سَجدة رسول الله ﷺ العظيمة في المقام المَحمود، يختلف قُرب المُقربين من ذاته الشّريفة ومن حضْرته الشّريفة، فمنهم مَن يُنْعم الله عليهِ بأنْ يَسمعَ حَمده الذي ما قد ألهِمهُ أحد.. وما قد حُمدَ الله به مِن أحد مِن خَلقه، "فيلهمني مَحامد لا أعلمها الآن" في الحديث الصحيح، ما يعلمُها عبدٌ في الدّنيا، وهي مُهيئة له، فتحوّل يومَ الأهوال الشّديدة إلى فُتوحات كبيرة لزينِ الوجود ﷺ تجَدُّد فتح له، وجُودُه "فيلهمني" محمد هو يقول.. ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع، والنّاس تحتَ الشّدة والخوف وهذا في فتُوحات وتأييدات (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) فمنهم من يسمع محامده هذه، فلو لم يكن لهم من لذة النّعيم في الآخرة إلا سماع هذه المحامد مُباشرة لكفى، ومنهم منْ يكونُ بعيد منه في ذاك المَوقف، في ذاك المقام، -الله يقربنا إليه زلفى-.

وهكذا يقولُ: قامَ حتى تفطَّرت قدماه، أتفعل ذلك وقد غفرَ الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا." هو سيّد الشّاكرين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وفي قوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]، إختبر الحقّ سيدنا موسى، واختلفوا في معنى قولهم لذكري: هل من إضافة المصدر إلى الفاعل أو إلى المفعول؟ أقم الصلاة لذكري إي: لِتتحقق بذكرك لي؟ أو لذكري؟ لتنال ذكري لك؟ (أقم الصلاة لذكري) لتنال ذكري لك، لأذكرك أنا، لتنال مني أن أذكرك (أقم الصلاة لذكري) من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي لأجلي؛ أذكرك أنا، أو إلى فاعله: لذكري أنا أذكرك، أو لمفعوله: سيدنا موسى عليه السلام لتذكرني أنت. ومَلمح أن يذكرك هو أجلّ وأعظم، فالمقصود أن يذكرك. ولكن قال( فاذكروني أذكركم) (وأقم الصلاة لذكري)

قال: هو حُضور القلبِ، وتفريغُ البال عنِ الأغيَارِ مَع الخُشُوع، والذي ذكر الإمام الغزالي في الإحياء أنّه يَجمعُه ستَّة مَعاني: 

  • حضور القلب

  • والتعظيم

  • تفهُّم المعاني

  • والخوف والإشفاق 

  • والرجاء

  • والحياء 

فإذا انتظَمَت هذه المَعاني فقدْ تمَّ الخُشُوع:

أولها: حضورُ القلبِ وتَدبُّر وتَفهُّم المَعاني، وأن يكونَ ذلك بالتَّعظِيم، فقدْ يحضُر القلبُ مع الطِّفل الصَّغِير وتَتسمَّع كَلامَه وتتفَهَّم ما يقول، فحُضُور القلبِ حَاضر لكن ما في تّعظيم، ولكنْ الخُشوع ما هو كذا، مع حُضورِ القلبِ؛ التَّعظيم، مع التَّعظيم هَيبة؛ وهو خَشيةَ أن يرُدّك أو لا يقبلُ منك، ومع الهَيبةِ رجاء، وهو تَرجو أن يقبلكَ، وأن يفيض عليك مِن فضْله، وأن يَزيدكَ من إحْسَانه، ومع الرَّجاء حَياء؛ وهو استشعارُكَ أنّه مهما اجتهدت وأدَّيت مقدوركَ، فأنتَ مُقصِّر في جانب الحقّ ولا تسْتَطيع أن تعبد الحق فتَخجَل، فإذا اجتمَعت هذه المعَاني فقد تمَّ الخُشُوع.. هذا الخشوع. (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2]، حُضور القلب، والتَّفهم للمعنى، والتَّعظيم، والهَيبَة، والرَّجاء والحيَاءِ.

وقال الشيخ أبو طالب المكي: حُدِّثتُ: أن المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدتْ عنه الشياطين في أقطار الأرضين خوفاً منه، لأنه تهيأ للدخول على الملك، فإذا كبَّر حُجب عنه إبليس و ضُرِب بينه و بينه سُرادقٌ لا ينظر إليه، وواجهه الجبارَ بوجهه الكريم، فإذا قال الله أكبر اطلع الملَك في قلبه، فإذا ليس في قلبه أكبر من الله تعالى، فيقول الملك: صدقْت، اللهُ في قلبك كما تقول. قال: فيُشعشع من قلبه نور يلحق بملكوت العرش، فيُكشف له بذلك النور ملكوت السماوات والأرض و يكتب له حشو ذلك النور حسنات. قال: و إن الغافل الجاهل إذا قام للوضوء، احتوشته الشياطين كما تحتوش الذباب على نقطة العسل، فإذا كبَّر اطَّلع الملك في قلبه فإذا كل شيء في قلبه أكبر من الله عنده. فيقول الملك: كذبتَ ليس الله في قلبك كما تقول. قال فيثور في قلبه دخان يلحق بعنان السماء فيكون حجاباً لقلبه عن الملكوت. قال فيردُّ ذلك الحجاب صلاته و يلتقم الشيطان قلبه و لا يزال ينفخ فيه و ينفث و يوسوس إليه و يزيِّن له حتى ينصرف من صلاته ما يعقل ما كان فيها. انتهى قول أبي طالب المكي.

فإذا اجتهد المؤمن بتفريغ خاطره و باله عن الأغيار كما ذكرنا و سلِم من هذه الآفات بتوفيق الله تعالى، حصلت له في صلاته ومناجاته التجلِّيات و المنوحات الغيبيات و الأنوار الإلهيات. فتحصل له الرقة و البكاء إلى غير ذلك من الفوائد و العوافي و طهارة القلوب من أدناس الذنوب.

كما قال الشيخ ابن عطاء -رحمه الله- في الحِكم: الصلاة طُهْرة للقلوب من أدران الذنوب واستفتاح لباب الغيوب، الصلاة محل المناجاة ومعدن المصافاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، وتشرق فيها شوارق الأنوار.

وذكر الشيخ أبو حامد الغزالي في الإحياء: عن بعض العارفين: أن الله تعالى ينظر في الأسحار إلى قلوب المستيقظين فيملأها أنوارًا فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين.

وقال بعض العلماء من القدماء: إن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين، أن لي عباداً يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي و أنظر إليهم، فإن حَذوتَ طريقهم أحببتُك، وإن عدلت عنهم مقتّك.

قال: يا رب و ما علامتهم ؟ قال: يراعون الضِلاّل بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنُّون إلى غروب الشمس كما تحنُّ الطير إلى أوكارها، فإذا جنَّهم الليل و اختلق الظلام وفُرشت الفرش ونُصبت الأسِرَّة وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، نصبوا إليّ أقدامهم وافترشوا إليّ وجوههم، وناجوني بكلامي و تملّقوا لي بإنعامي، فبين صارخٍ و باكٍ، و بين متأوهٍ و شاكٍ، بعيني ما يتحملون من أجلي و بسمعي ما يشتكون من حبي؛ 

  • و أول ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيُخبرون عني كما أُخبر عنهم

  • والثاني لو كانت السماوات السبع و الأرضين وما فيهن في موازينهم استقللتها لهم،

  • والثالثة أُقبل بوجهي عليهم، أفترى من أقبلتُ عليه  بوجهي، أيعلم أحدٌ ما أريد أن أعطيه.

واعلم رحمك الله أيها الأخ لا تستبعد ما ذكروه و لا تكسل، بل اعزم على القيام كيف كان، فالقليل يجر الكثير، و أول السيل قطرة، فعليك بالاهتمام و العزم.

كما قال الشيخ رضي الله عنه رضي الله تعالى رضي الله عنه وأرضاه,

يقول عليه رحمة الله تبارك وتعالى: ما تحصل فوائد هذه الصلاة إلا بالقيام المأمور به (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]، ذكَرَ عن أبي طالب المكي الفرق بين الصادق المتوجه من خواص المؤمنين وبين المسلم الذي تحْتوشه الغفلة، فرّق بينهم في وضوئهم، فرّق بينهم في صلاتهم وشاهد قول الله (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]، ومن لم يتحقق بالعبودية فليضَلّ في وسواسه حتى يجي يتوضأ وهو يوسوس، تتَداعى عليه الشياطين مثل ما تقع الذباب على قطرة من العسل فكذلك هذا تتحاوش قلبه الشياطين وهو يتوضأ للصلاة، يذهب ليصلي فيكبِّر غير متحقق قلبه بالتكبير لله والمَلَك يقول له: كذبت، ليس الله في قلبك أكبر كما تقول لسانك تقول الله أكبر وفي قلبك شيء ثاني غير الله -تبارك وتعالى- ،يثور من قلبه دخان يلحق بعنان السماء يكون حجاب لقلبه عن الملكوت (عالَم الغيب) يَرُد ذلك الحجاب صلاته، ويلقم الشيطان قلبه ويوسوس له طول الصلاة ،والعياذ بالله تعالى، حتى ينصرف من صلاته لا يعقل منها.

 بخلاف المؤمن المتوجه الصادق الراغب، بمجرد ما يقوم إلى الوضوء من أجل الصلاة يقول؛ تباعدتْ عنه الشياطين في أقطار الأرضين خوفا منه من نور إقباله على الله بالصدق والمحبة يتركونه، فيتوضأ وهو حاضر القلب مع الله -تبارك وتعالى- متهيئ للدخول على الملك، إذا كبر؛ الله أكبر حُجِب عن إبليس وضُرِب بينه وبينه سَرادق فيَنظُر إليه ويواجه ربه الرحمن بوجهه فإذا قال: الله أكبر. إطَّلَع المَلَك في قَلبه فإذا ليس في قلبه أكبر من الله. فيقول الملك :صدقتَ، لله أكبر في قلبك كما تقولها بلسانك، فيشعشع قلبه نور يلحق بملكوت العرش، فيكشف له بتلك النور ملكوت السماوات والأرض ويكتب له حشو ذلك النور حسنات، هذا شأن الذاكر المنيب الخاضع الخاشع- الله يلحقنا بالصالحين وأهل الخشوع والحضور معه في كل حال-.

 قال إذا اجتهد المؤمن بتفريغ خاطره وباله عن الأغيار وسَلِم من هذه الآفات، حصلت له في صلاته ومناجاته التجليات والمنوحات الغيبيات، فكم لنا نصلي؟ نسأل أنفسنا عن الحصول على ثمرات هذه الصلاة والمناجاة.

 كما رأى بعضُ العارفين مِن تلامذته من يَسجد وأطَال السُّجود وارتفع، لما كمّل قال له الشيخ: هذا السُّجود يا ولدي، فأين الاقتراب؟! فإن الله يقول:(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) [العلق:19]، هلْ تحققت بحقيقة السُّجود وقربتَ ودنَوتَ من ربك في هذا السُّجود أو ساجد بالجسد فقط؟! فما مَقصُود السُّجود إلا القُرب و"أقرب مَا يكونُ العبدُ من ربّه وهو ساجد"، فكمْ لنا نُصلّي ونُريد ثمراتِ الصّلاة والنتائج للصلاة -الله لا يحرمنا خيرها، ويجعل لنا نصيب من كل ركعة نركَعها، ومن كل سجدة نسْجدها زيادة في المعرفة واليقين والقرب منه والصدق والعمل بطاعته ونفع العباد على الوَجه المَرضيّ لديه-.

 وذكر تَجلِّي الله في الأسحار إلى قلوب المستيقظين وأن يملأها أنوار، وتنتشر من قلوبهم إلى قلوب من عَداهم من الناس من أراد الله أن يَهديَه أو يُذكِّرَه، وبينهم وبين الله شأن في القيام في الليل والخَلوة مع الرحمن -جل جلاله- وقال قائلُهم: لولا قيام الليل ما أحببتُ البقاء في الدنيا، وهكذا ما أحب كثير من العارفين البقاء في الدنيا إلا لما يُنازِله في الليل، لما يُنازله آخر الليل -اللهم كما أكرمتهم لا تحرمنا نصيبا وافيا من عطاياك لهم-.

يقول الحق تعالى:" لو كانت السموات السبع والأرضين السبع في ميزان أحد من المحبين لاستقللتها لهم، وأُقبل عليهم بوجهي أفَتَرى من أقبلت بوجهي عليه، أيعلمُ أحدٌ ما أريد أن أُعطِيَه " من من يعلم ماذا سأعطيه؟ إذا أقبلت بوجهي -لا إلٰه إلا هو- الله يقبل بوجهه الكريم علينا.

العزم القوي

قال الشيخ الناظم رضي الله عنه:

"وانصُبوا العزمَ القوي دقْلها"

وقد تقدم معنى ذلك عند قوله أيضاً: من رام يركبها فلا يناظر بل يعزم و يجتهد بما ذَكَر.

التسمية بالله

وقول الناظم رضي الله عنه: وحَملوها باسم من حَمَلها

أي السفينة حِسّاً ومَعنى، وهو معنى قول الله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا) [هود:41]، وقوله رضي الله عنه: دُستورها الوجه الذي شمَلها والوجه و المواجهات هي: عين الله المُنزّهة المُقدسة، كما قال الله تعالى: ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:14]، بالحراسة والوقاية الشاملة من الله تعالى.

احتراق القلب وحزنه

قال الناظم رضي الله عنه: و فرمَلَها حريقٌ زاخر 

و الحريق هنا و الله أعلم هو احتراق القلب و حزنه على ما فاته من الموافقة لمرضاة الله تعالى، وربما يكون أيضًا احتراق المحبة وخوف فوات المحبوب، وربما يكون غير ذلك.

 وقال الشيخ حسن بن أحمد باشعيب الحضرمي  رضي الله عنه: بَكْيَة على الله خير من سبعين بَكيَة على الأوامر و النواهي، و هذا البكاء إنما هو بالقلب و قد يكون بالظواهر أيضاً.

اليقين الصادق

وقوله رضي الله عنه: وطلوع الفنْجر يقينٌ صادق 

والفنجر ويسمى أيضاً الفنجري و هو الذي يطلع على رأس الدقل، "و يعلم بما بان له من بَرٍّ أو جِبال" أو غير ذلك، و شرطُه أن يكون صادقاً مأموناً لا يشُك فيما قاله، و في كل ما قاله، إنما يكون بيقينٍ و صِدق، فحقَّ على فنْجر هذه السفينة أن يكون صادقاً في أقواله وأعماله وأحواله، و أن يكون صاحب يقين بما وعد الله -سبحانه وتعالى- به العاملين الصادقين، ليصل بذلك إلى علم اليقين ثم عين اليقين بل إلى حق اليقين، و للمشايخ الصوفية -رضي الله عنهم- كلام كثير في هذا المقام فلا نطوِّل بذكره، كيف و هذا كتاب- الله تعالى- و كلام رسولهﷺ كافيان لمن تدبّرهما و تأمّلهما بعين قلبه.

 

النور البارق

وقوله رضي الله عنه: عَجلُها يا صاح نورٌ بارق

وهذا أيضاً نور اليقين يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، كما قال سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه و كرَّم وجهه-: لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً.

ومنها أيضاً أنوار المعارف والعلوم إلى غير ذلك من أنوار الله تعالى النازلة بقلب العبد المؤمن، على حسب استعداده وتفريغه من الأغيار، كما قال صاحب الحكم ابن عطاء رضي الله عنه : "فرِّغ قلبك من الأغيار، يملأه بالمعارف والأسرار".

وقال: "ورود الإمداد على حسب الاستعداد، وشُروق الأنوار على حسب صفاء الأسرار". و هذا كله متعلِّق أيضاً بنور اليقين المذكور.

وقوله رضي الله عنه: رواجع ترجع إلى الحقائق وهو مقام التوحيد الصِرف، قال الشيخ ابن عَبّاد: اتفقتْ مقالات العارفين والمحققين ومقاصدهم وإشاراتهم على أن ما سوى الله مَحوٌ من حيث ذاته، لا يوصف بوجوده مع الله تعالى، إذ لو وَصف به لكان ذلك شِرْكةً وإثنيّنِية.

يقول عليه رحمة الله تعالى: وأنْصبُ العزمَ القوي دقَلَها، فدَقَل هذه السفينة الذي ييسّر لها العبور والمرور المُرتفع فوقها الدقل، فوق الدقل مكان يطلع إليه ربّان السفينة والخادمين فيها يرون مدى الوصول إلى البر متى يكون وقته، إذا طلع في الفنجر يرى.

يقول الدَقل الذي لها هو العزم القوي قال الله لنبيه (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]، قالوا له (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ) [آل عمران:159] وقوة العزم من جملة الجنود التي يُؤيدُ الله بها عباده، فالمؤمنون يتوجَّهون إلى الله بقوة، بهمّة وعزم صادق قوي في أمورهم وشؤونهم، وعنده لايستطيع أن يوسوس الشيطان إلا عند التردد والتخاذُل يدخل الشيطان، أما عند وجود العزم القوي ما يقرب من صاحبه ولكن ينتظر أن يفتُر عزمه ويقع فيه التردد يدخل ويوسوس عليه، أما عند الجزم بالأمر والإقبال ما يقدر أن يعمل شيئاً عدو الله.

فبالعزم القَوي قامت دَقل السفينة وعَملوها باسم من حَمَل السفينة (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) [هود:41]، (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا) [هود:41]، سيدنا نوح عليه السلام لقومه (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا) [هود:41]، وفي قراءة: مجريها (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [هود:41]، (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) [هود:42]، ولكن السفينة هذه التي من ألْواح الخشب والدُّسُر-المسامير الحديد- لن تقاوم هذه الأمواج التي كالجبال؛ ولكن حُفظت وقُويت وسَلِمت بسرّ قوله:  (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:14]، (وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:13-14].

وإلا في عصركم الحديث لما ادَّعوا في صناعة السفن تقدُّم وتطوُّر، وصنعوا سفينة يقولوا أنهَا ما يمكن أن تغرق أبداً وفيها وفيها.. وطرحوا فيها أجهزة كثيرة و تراتيب؛  أول إبحار أبحرت فيه  غرقت! غرقت في أول إبحار لها وتكسرت، ولكن ما الذي قام أمام (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر:11-12]، وهذه السفينة من ألواح ودسر وبيده صلّحها سيدنا نوح لكن السرّ فيها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:14]، فما ضرّها شيء ولا أصابها شيء ولا تكسَّرت ولا تأثرت ولاتنكَّست بأصحابها  ولا أحد سقط منها ولا أحد غرق منهم، وغرق البقية، ستة أشهر وهم في الماء، بين الأرض والسماء إلى (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود:44].

بسم الله، يعني يتوجهون بعزائمهم القوية بسم الله -تبارك وتعالى- لا بقوة ذواتهم ولا بحولهم ولا قوة منهم، دستور الوجه الذي شَملها، عين الله التي أشار إليها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:14]، لا إلٰه إلا الله

وذكر فَرملها حريق زاخر الحريق: احتراق القلب وحزنه على ما فات من المُوافقة لمرضاة الله، وقال: 

  • من النّاس من يبكي على الذُّنوب والمَعاصي وله في ذلك درجة 

  • ولكن أعلى منه درجة من يبكي لفواتِ حظّه من القُرب وتقصيره في جنب الله -سبحانه وتعالى-، 

  • وذكرنا من يبْكي من المَعرفة 

  • ومن يبكي من الشّوق 

  • ومن يبكي من المَحبة

 فهذا يختلف عن هذا، "والبَكية على الله تعالى؛ أي على فوات القرب منه، وخير من سبعين بكية على الأوامر والنواهي. والبَكْية على الأوامر والنواهي عظيمة الثواب عند الله لكن هذه أعظم. قال فإن البكاء ما يكون بالقلب فقط، ومنه ما يكون معًا بالقلب والظاهر، وكانوا يحبون في أمام الناس أن يكون بكاؤهم قلبي، وفي الخَلوات أن يكون بكاؤهم قلبي وبدمع العين، إلا ما غلبهم في المَجالس وأمام الناس وما لم يغلبهم فيُحبون البُكاء بالقلب.

وطلْع الفَنجَر يَقينٌ صَادِق الفنْجَر الذي يروَن به الطّريق ويقِيسُون المَسافة، وكم بقي، وأين البرّ؟ يطلع إلى رأس الدقل؟ (فنجر يقولون له) يرى منه،  ايش ذا الفنجر حقهم؟  قال: يقين صادق؛ علمُ اليقين وعينُ اليقين يرى به الأشياءَ به وينظُر، كما يطلع ذاك في الفُنجَر وينظر.

عجَلُها يا صَاح نُورٌ بَارق؛ العَجل الخاص بالسَّفينة الذي يَمشِي عليه  نورٌ بارقٌ ايضا مِن أنوار اليقين، ما بينَ عِلم اليَقين وعيَن اليقين إلى أن يصِل فيُدرِك حقّ اليقين، - الله الله-.

الحقائق

و قوله رضي الله عنه :رواجعٌ تَرجِع إلى الحَقَائق

و هو مقام التّوحيد الصّرف، قال الشيخ ابن عَبّاد : اتفقت مقالات العارفين والمحققين ومقاصدهم و إشاراتهم على أن ما سوى الله محوٌ من حيث ذاته لا يوصف بوجود مع الله تعالى، إذ لو وُصِف به لكان ذلك شِركة وإثنينِيّه، وهو متناقض لإخلاص التوحيد قال الله تعالى: ( كُلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجهه ) و قال ﷺ: أصدق شيءٍ قاله الشعراء:

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ *** و كل نعيمٍ لا محالةَ زائلُ

وقال بعض العارفين: أبى المحققون أن يَشهدوا غير الله تعالى؛ لما حقّقهم به من شهود القيُّومية وإحاطة الدَّيمُومِية.

وقال الشيخ ابن عطاء -رضي الله عنه- في التنوير: فما سوى الله عند أهل المعرفة لا يُوصَف بِوَجد و لا فَقد، إذ لا يوجد معه غيره لثبوت أحديّته، و لا فَقْدٌ لغيره لأنه لا يُفقَد إلا ما يوجد، و لو انْهكْت حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان و لأشرق نور الإيقان فغَطَّى وجود الأكوان.

و كما قال الشاعر:

قل الله وذر الوجود وما حوى *** إن كنت مرتادا  بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حقّقته *** عدمٌ على التفصيل والإجمال

و اعلم بأنك والعوالم كلها *** لولاه في محوٍ وفي الإضمِحْلال

من لا وجود لذاته من ذاته *** فوجوده لولاه عين محال

فالعارفون فنَوا ولمّا يشهدوا *** شيئا سوى المتكبر المتعال

و رأوا سواه على الحقيقة هالك *** في الحال والماضي والاستقبال

والحاصل من هذا كله أن ما سوى الله عدم في الحقيقة، كما ذُكِر: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان.

وقوله رضي الله عنه: ؛أيضاً و صباحي قُلَيبٌ عامر"

أي معمور بنور التوحيد واليقين والإيمان، كما قال الشيخ سعد بن علي تاج العارفين رضي الله عنه: (لو ظهر نور المؤمن على العرش لاحترق). و قال الشيخ أبو الحسن: (لو كُشف عن نور المؤمن العاصي لطبق ما بين السماء والأرض، فما ظنُّك بنور المؤمن المطيع، و عمارة القُلَيْب الذي ذكره الشيخ إنما يكون بهذه الأنوار المذكورة الباطنة، ثم تظهر على الجوارح بالأذكار الظاهرة والأوراد والحضور مع الله والخشوع والذبول، فمن حصَل له هذا؛ فقد عَمّر  قلبه واستنار وعاش عيشاً ناعماً عاجلاً وآجلاً في الدنيا والآخرة. فياله من قلب ما أحياه، لقد حظِيَ بالقرب من مولاه فأمدَّه بأنواره و تولّاه. ثم إن هذا النور لايغيب عن القلب أبدا، كما قيل شعرا:

إن شمسَ  النهار  تغربُ بالليل *** و شمسُ القلوب ليس تغيب

وأيضاً فإنّ الشمسَ و القمر يطرأُ عليهما الكسوف و الغروب، وأنوار قلوب أولياء الله لا كسوف لها و لا غروب؛ لأن ذلك المُستودع في القلوب، مددهُ النور الوارد من عالَم الغيوب.

يقول عليه رحمة الله: رواجع ترجع إلى الحقائق، لأن ما سوى الله -تبارك وتعالى- محوٌ وعدمٌ لا وجودَ له بحد ذاته، إنما إيجادُ موجِد حدّد كيفية الوجود وصورة الوجود لهذا الموجود، وهو قاهرٌ فوقه ومتصرّف فيه ويُفنيه متى ما شاء، فبهذا الاعتبار لا وجود له، إن مجرد ما جاء صورة وجود، وأين الوجود؟! الوجود عند أهل الموجود بذاته؛ 

  • والذي لا ينقص وجوده

  • ولا يزول 

  • ولا يتبدل

  • ولا افتتاح له ولا آخرية له، هذا الموجود، هذا الوجود الحقيقي.

لكن سوى الله لا شيء له هذا الوجود أبداً قالﷺ: "ولم يكن شيء غيره" "كان الله ولم يكن شيء معه"، فما كان لها وجود، ثم هو أوجدها واوجدها بتقدير وتصوير وتدبير معيّنات ما تتجاوزها فأين الوجود الذي لها؟ وهو يفنيها متى شاء، فما لها في حد ذاتها وجود أصلا، والذي يتوقع الوجود لها كمن يعتقد أن القلم هو الذي يكتب الحروف من دون أصابع ولا يد! القلم لا يتحرك! ما مشى القلم وصاغ الحروف إلا بواسطة الأصابع واليد، والذي يقف عند الأصابع واليد قاصر النظر، والأصابع لاحقة بالكف وتحرّكت بأمر مِن فِكر هذا الإنسان وقلبه، والذي سيقف عند ذلك قاصر النظر، الذي عرف أن هذا القلب وهذا العقل ما وُجد ولا يتصرف ولا يندفع إلا بتقدير من فوق، يعرف أن الأمر لا هو عند الأصابع ولا عند الأيدي، الأمر شيء فوق ذلك، وكذلك ما عبَّر عنه   بأن أصدق ما قال الشاعر قول لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".

فالوجود الحقّ للإلٰه الحق وحده -سبحانه- وجودنا ووجود السماوات والأرض وجميع الكائنات، كله حادث قابل للزوال مُحاط به مُتَصرف فيه بقدرته، فما هو الوجود هذا الذي عندنا؟ فالوجود وجوده هو -جل جلاله وتعالى في علاه -ويندرج وجود الموجودات كلها في أمره وقوله وإرادته وقدرته -سبحانه وتعالى- أبى المحققون أن يشهدوا غير الله لما حققهم به من شهود القيّومية، وهو قائم على كل نفس بما كسبت (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]، وإحاطة الديموميّة بكل شيء، فما سوى الله عند أهل المعرفة لا يوصف بوَجد ولا فقد، إذ لا يوجد مع الله غيره لثبوت أحديّتُه، ولا فقد لغيره لأنه إنما يُفقد ما كان موجود،وهكذا. ولذا قال: (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91].

وذر الوجود وما حوى *** وإن كنتَ مرتاداً بلوغَ كمالِ

فالكلُّ دونَ اللَهِ إن حقّقتهُ *** عدمٌ على التفصيل والإجمال

وهكذا أمامنا هذه جبال، راسيات وشامخات ولها نصيب من القوة ولها تأثير في أنها أوتاد في الأرض، ولكن كل هذا تحت الإرادة والمشيئة ويأتي لحظة تُنسَف نَسف، فالجبال بقوتها المَوجودة وما فيها، هي في شهود العارفين منسوفة لأنها قابلة للنسف، فما يشهدون من الجبال قوة بذاتها ولا شموخ بذاتها، ولكن إرادته التي قامت بها وأرْسَتها هي المؤثرة، ليس جبل بذاته ، لهذا يرونها قد نُسِفت، أما عموم الناس ما يُشاهدون نسف الجبال إلا في القيامة بعد ذلك (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) [طه:105-106]، فهناك في عيونهم وفي شهودهم تُنسَف، لكن العارفين مهما كانت في عيونهم قائمة فهي في شُهودِهم مَنسُوفة؛ لأنها قابلة للنسف، وما هو قابل للنسف فهو منْسوف، كما أن كل  قابل للموت فهو ميّت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30]، يعني قابل للموت، فأنت ميت خلاص، ما تِعد نفسك، ماذا من حياة معك؟! هو المحيي والمميت -جل جلاله وتعالى في علاه- ويقول الحاصل لنا ما سوى الله عدم في الحقيقة "كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان "-الله الله الله -.

وصَباح القَلب العَامر بنُور التّوحيد واليقِين والإيمان اللهم أكرمنا بذلك، لو ظهر نور المؤمن على العرش لاحترق، وقال شيخ أبي الحسن: لو كُشِف عن نور المؤمن العاصِي لطبّق ما بين السماء والأرض، قال: هذا مُؤمن عاصِي فما ظنّك بنور المؤمن المطيع؟

قال تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) [التحريم:8]، لا إله إلا الله، قال: فيُعمَر القلب بهذه الأنوار الباطنة، ثم تظْهر على الجَوارح بالأذكار الظاهرة والأوراد والحضور مع الله -تبارك وتعالى-، (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح:29] نعم.

قال: إن شمسَ النّهار تغرب بالليل، وشمسُ القلوب ليسَ تغيب، والشمسُ والقمرُ يطلع عليهم الكسوف، وأنوار قلوب أولياء الله لا كسُوف لها ولا غروب.. في هذا قال شاعرهم:

أمُرتقِبَ النجوم من السماء *** نجوم الأرض أبهر في الضياءِ

هذه مخلوقة وهذه مخلوقة، لكن فرق بينها، المخلوقة التي في السماء هذه؛ كواكب نجوم لها أنوار، ساعة تخفى وساعة تظهر، وبعد ذلك كلها تتناثر، (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ) [الانفطار:2] والنور الذي يدعْهُ الله في قلوب العارفين وهم في الأرض يبقى مُستمر ويزيد وما ينقص، ويسطع عند الموت، ويزيد في القيامة، فرق بين هذا وذاك..

أمُرتَقبِ النُّجوم من السّماء *** نُجوم الأرض أبهرُ في الضّياء 

                   فتلك تَبينُ وقتا ثم تَخفى  ***  وهذه لا تُكدَّر بالخفاء..

هداية تلك في ظُلم الليالي؛ ترى بها طريق على ظهر الأرض و في البحر، كيف تمشي!!

هداية هذه كشف الغطاء؛ هذه تظهر لك أنوار الحق وتلك تُريك طرق الأرض، فرق بين هذا وهذا، وبين فائدة نور هذا وهذا.. فائدة نور هذا..

             هداية تلك في ظلم الليالي*** هداية هذه كشْف الغطاء

فالنجوم الأرضية هذه أعظم من النجوم التي بين الأرض والسماء؛ أنّ لها أنوار ساطعة مستمرة إلى القيامة.. إلى الجنة.. يسعى نورهم بين أيديهم، ولما يجدون من أثر هذا النور في قُربهم ومعرفتهم يُحبون الزيادة منه، يقولون: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8]،

(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

يَسِّر لَنا العبور إلى البَيْتِ المَعْمور، والحُضور مَعْ أهْلِ الحُضور، بِعطاءٍ مَوْفور، وَجِودٍ مِنْهُ سُبْحاَنهُ وتَعالىٰ غَيْرَ مَحْصُور، نَرْقىٰ بِه إلى أعلى ذُرى الصْدقِ مَعَهُ في البُطونِ والظُهور، وَتُشْرِق عَلينا به أنوار بدر البدور، نطالع في ذاك الجمال؛ جمال ربنا الكريم الغفور، وأن يعود علينا عوائد الفضل بانشراح الصدور، وتيسير الأمور، ودفع جميع أنواع البلايا والآفات والشرور، و كل محذور، في الدنيا والبرزخ ويوم النشور، في رابطة التقوى بحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وبارك عليه في جميع الأمور، أن يرعانا حيث ما كنا وأينما كنا ويعيد درجات  من بنى المسجد الحبيب عقيل بن عمران وجميع من خلفه، ومن تقدّم فيه، ومن سعى فيه في الخير، ومن عقد فيه مجالس الخير، ومن أرواح جميع والدينا وذوينا ومن المتقدمين في أرض هذه البلاد من الأنبياء والأولياء والصالحين وأهل التمكين و ذرية المصطفى الأمين ومن أهل لا إله إلا الله أجمعين.

أن يُحوِّل الله أحوالنا والمسلمين إلى أحسن حال، أن يُحوِّل الله أحوالنا والمسلمين إلى أحسن حال، أن يحول الله أحوالنا والمسلمين إلى أحسن حال، يكفينا شر ما تأتي في الأيام والليال، أنظِمنا في سلك الحبيب أهل الجمال البدر الكمال، وحنّن روحه علينا.. وحنن روحه علينا.. وحنن روحه علينا وارزقنا حقيقة الذكر والفناء في المذكور بحبيبه بدر البدور، والبقاء بالرحمن سبحانه وتعالى في حبيبه في سيد الأكوان وأن يصلح لنا والأمة كل شيء، اختم لنا بالحسنى وهو راضٍ عنا في خير ولطف وعافية.

 بسرِّ الفاتحة يخاطبون الرب وهو غافر أي صف 

وإلى حضرة النبي محمد 

       سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. الأقدام لكثرة الصلاة والقيام فيها وقوله جعلوا 

تاريخ النشر الهجري

09 جمادى الأول 1445

تاريخ النشر الميلادي

21 نوفمبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام