(236)
(536)
(575)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: فصل في غُسل الحائض والنُّفَساء.
صباح السبت: 4 جمادى الأولى1445هـ
فصل في غسل الحائض والنفساء
"قالت عائشة -رضي الله عنها-: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ﷺ تسأله كيف تغتسل من الحيض؟ فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال تطهري بها، فقالت كيف؟ قال: سبحان الله تطهري بها قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- فرأيت رسول الله ﷺ حوّل وجهه استحياءً فعرفت أنه يُكني عنها، فاجتذبت المرأة إليَّ فقلت لها: تتبعي بها أثر الدم، وفي رواية "توضئي بها" بدل تطهري، فكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: نِعمَ النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
وأردف رسول الله ﷺ مرة امرأة من بني غفار على حقيبة رحله فما نزل رسول الله ﷺ إلى الصباح فلما أناخ راحلته نزلت عن حقيبة رحله فإذا بها دم منها، وكانت أوّل حيضة حاضتها فانقبضت إلى الناقة واستحيت فلما رأى رسول الله ﷺ ما بها ورأى الدم قال لها: مالك لعلك نفستِ؟ قالت: نعم. قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحًا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمركبك". قالت: فلما فتح رسول الله ﷺ خيبر رضخ لنا من الفيء، قالت أمية بنت أبي الصلت: فكانت تلك المرأة لا تطهر من حيضة إلا جعلت في طهرها ملحًا وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت"
وسُئِل ابن عمر -رضي الله عنه - عن امرأةٍ تطاولَ بها الدم فأرادت أن تشرب دواءً يقطع الدم عنها فقال: لا بأس، ونعتَ ابن عمر بها ماء الأراك، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: إذا غَسَّلت الحائض الدم بالماء ولم يذهب أثره فلتلطخه بالزعفران".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلِّمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته سيدنا محمد حبيبه وصفوته صلى الله وسلّم وبارك وكرَّم عليه في كل لمحةٍ ونفسٍ، وعلى آله وصحابته وعلى أتباعه وأهل ولائه ومحبته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الرّحمن في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ:
فيذكر الشيخ - عليه رحمة الله تعالى- ما يتعلق بغُسل الحيض والنُّفساء وقد اتفق أهل الفقه: على وجوب الغسل عند انقطاع الحيض وانقطاع النفاس؛ لأجل الصلاة المفروضة وغيرها مما لا يُباح إلا بالغسل.
"قالت عائشة -رضي الله عنها-: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله ﷺ تسأله كيف تغتسل من الحيض؟ فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها… " وفيه استعمالهم للسدر وهو الذي يُتخذ من ورق النَّبَق -ورق العِلب- إذا يبس طحنوه فصار مادةً حسنةً؛ للتنظيف ولتنقية البدن، "قال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها… " يعني: يبلغ منابت الشعر ".. ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فِرصةً" أي: قطعةً "من مسك فتطهر بها، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال تطهري بها، فقالت كيف؟ قال: سبحان الله تطهري بها قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- فرأيت رسول الله ﷺ حوّل وجهه استحياءً فعرفت أنه يُكني عنها، فاجتذبت المرأة إليَّ فقلت لها: تتبعي بها أثر الدم".
فإنه ﷺ كان شديد الحياء، وشرع لأمته الحياء، ويستحيي من الخوض في الشؤون الخاصة للنساء وما إلى ذلك؛ فما أحب أن يُصرح بلسانه الكريم وقال: سبحان الله! تطهري ولوى رأسه؛ حياءً؛ فاجتذبتها السيدة عائشة وعلمتها بالمقصود من هذا التطهر وهذا، سنة من السنن أن: تتتبع أثر الدم بشيء من الطيب أو الطين أو الملح وإن كان الماء كاف، لكنه يتأكد عليها إن وجدت شيئًا من هذا أن تتتبع به الأثر قالت، فقلت لها: "تتبعي بها أثر الدم، وفي رواية "توضئي بها" بدل تطهري، "فكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: نِعمَ النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"؛ فكُنَّ يُحببنَ أن يكنَّ على بصيرةٍ…على بصيرةٍ من أمر دينهن في معاملتهن مع الله - تبارك وتعالى-؛ وبذلك ألقينَ أسئلتهن على رسول الله ﷺ؛ ايوضح لهن السبيل في سيرهنَّ إلى الرّحمن.
وأردف رسول الله ﷺ مرة امرأة من بني غفار على حقيبة رحله فما نزل رسول الله ﷺ إلى الصباح فلما أناخ راحلته نزلت عن حقيبة رحله فإذا بها دم منها، وكانت أوّل حيضة حاضتها فانقبضت إلى الناقة واستحيت فلما رأى رسول الله ﷺ ما بها ورأى الدم قال لها: مالك لعلك نفستِ؟ قالت: نعم. قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحًا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمركبك"
"قالت: وأردف رسول الله ﷺ مرة امرأة من بني غفار على حقيبة رحله من وراه فما نزل رسول الله ﷺ -استمر يمشي في الليل- إلى الصباح فلما أناخ راحلته نزلت عن حقيبة رحله فإذا بها دم منها، وكانت أوّل حيضة حاضتها فانقبضت إلى الناقة واستحيت فلما رأى رسول الله ﷺ ما بها ورأى الدم قال لها: مالك لعلك نفستِ؟ قالت: نعم. قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحًا" فهذا الذي يتوفر معها بالسفر ولمَّا تكن تعتاد الغُسلَ من الحيض قبل ذلك فالملح مُتوفر؛ فأرشدها إلى الملح "ثمَّ اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمركبك". وهو ومن معه من الصحابة سيصلون وسيأتون بعد ذلك فتكون قد عادت إلى موضعها من حقيبة الناقة؛ لتمشي معهم في السفر.
"قالت: فلما فتح رسول الله ﷺ خيبر رضخ لنا من الفيء،" أعطى قومها هؤلاء من بني غفار نصيب من الغنيمة من الفَيء "قالت: أمية بنت أبي الصلت: فكانت تلك المرأة لا تطهر من حيضةٍ إلا جعلت في طهرها ملحًا" ورأت أثره الطيب؛ "فأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت" شيئًا من الملح.
والمشهور: وضعُ السِّدرِ في الماء ولكن أرشدها في تلك الحالة، حالة السفر؛ ومنين تجيب السدر؟! ومنين تجيب المسك؟! فقال لها: خذي ملح وتطهري بها، فرأت أثره الطيب؛ فأمسكتها من تعليمه بقوة فقالت: خلاص في كل مرة تغتسل تستعمل الملح؛ حتى قالت: إذا متت حطوا الملح في الماء وغسلوني به؛ رأت له أثر تنظيف وإزالة لكل رائحة؛ فأخذتها من النبي ﷺ بقوة ومضت على ذلك عليها رضوان الله -تبارك وتعالى-.
إذًا يجب على المرأةِ إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها أن: تغتسل؛ لأداء الصلوات وغيرها من الأمور المنوطة بها؛ فيستحب أن تتبع أيضا موضع الدم بطيب إن كانت غير محرمة، أو غير محدة على ميت أو زوج فإذا لم تكن في عدة ولم تكن محرمة فتستعمل الطيب، فإذا كانت في إحرامٍ وعدة فتستعمل الطين أو الملح ما ليس بطيب، تأخذ إحداكنَّ ماءها وسدرتها هذا شجر النِّبِق أو الدُّوم، المراد: ما يُتخذ من ورقها اليابس من ما يُعدّ للغُسلِ. و "شؤون رأسها". يعني: أصول شعرها ومنابت الشعر.
قال: "شؤون رأسها": مجتمع شُعَب عظامها،"" "فشؤون الرأس": عظامه وطرائقه، ومَوَاصِل عروقه، القصد: أنها تستوعب الرأس بالغسل. وأصول الحديث جاءت في الصحيحين.
وكان أيضًا من السُّنَّة عند عامّة الفقهاء كالحنفية والشافعية والحنابلة: أن تستعمل المسك لكل مُغتَسلَِة من حيض أو نفاس، فإن لم تجد مِسْك فَطِيب آخر.. أيَّ طِيب، وإلا فَطِين، وإلا فملح.. وإلا الماء يكفي، ولكن هذا أفضل، وهو سًنَّة.
"وسُئِل ابن عمر -رضي الله عنه- عن امرأةٍ تطاولَ بها الدم فأرادت أن تشرب دواءً يقطع الدم عنها؛ فقال: لا بأس، ونعتَ ابن عمر بها.." يعني وصف لها "..ماء الأراك" لأنه له أثر في المنع.
يسأل كثير من النساء.. إما في رمضان يقولنّ أنهن قد يتعاطين دواء يمنع عنهنّ ظهور الدم؟ حتى تصوم رمضان كله، أو في أيام الحج كذلك.. فما تريد أن تتأخر، فنقول: قال ابن عمر: لا بأس محلّ ذلك، إذا كان المُستعمل غير نجس ولا مُحرّم، ولا يُخشى منه ضرر على الصحة، فإذا لم يكن ضارا بالصحة ولا نَجِسًا يجوز استعماله، والحكم منوط بالدّم: إن ظهر الدم فجاءه حكم الحيض، وإن لم يظهر بسبب دواء أو غيره، فالحكم: الطهارة. ولكن الأفضل لها أن لا تستعمل شيئا من ذلك. وإنما هذه المرأة اضطرت لأنه تطاول بها، جاوز الحد وتطاول بها الحيض وصارت في المستحاضة، وإلا فالأولى للمرأة في رمضان وغيره أن تبقى على عادتها وعلى أيام حيضها، الذي أمر الطَّاهر بالصوم والصلاة هو الذي أمر الحائض بترك الصلاة وبتأخير الصوم إلى أيام طُهرها بعد رمضان.
فما يَنقُص عليها من الثواب والأجر شيء؛ لأنها مُمتَثِلَة لأمر الله -تبارك وتعالى- وتكون مشتغلة في أيام حَيْضَتِها بأنواع الذكر، وأنواع الأعمال الصالحة، وبتفطير الصائمين كذلك، وبالخدمة في البيت وغيره للصائمين والصائمات، وتحوز بذلك أجورا كثيرة ولا يَنقُص عليها أجرها. وكذلك كان أمهات المؤمنين وبنات المصطفى ﷺ، ما يتعاطين شيء يقطع عنهنّ العادة، وإذا جاءها الحيض في رمضان امتنعت عن الصلاة والصوم، فهذا هو الأفضل.
وأما الحكم من حيث الطهارة وعدمها: فمنوط بظهور الدم.
وأمَّا الحكم في حِلّ تناول هذا الذي يقطع الدم:
والعبرة بظهور الدم أو عدمها في حكم الحيض والطُّهر.
"وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: إذا غَسَّلت الحائض الدم بالماء ولم يذهب أثره فلتلطخه بالزعفران."
أي معناه: أيُّ شيء مما يُزيل الأثر والرائحة ينبغي أن يُستعمل، وأفضله المسك كما عرفنا، ثم أيّ طيب من زعفران وغيره، ثم الطين أو الملح.. وإلى غير ذلك من المُزيلات، وإذا حصل النَّقاء بالماء كفى، ولكن هذا سُنَّة.
يقول الحنابلة: يجوز للمرأة تشرب دواء مُبَاحٍ لقطع الحَيْض -إذا أَمِنَت الضرر كما ذكرنا- وقالوا: أيضا هذا إن كانت متزوجة مُقَيّد بإذن الزوج؛ لأنه له حق في الولد. فذكر الحنابلة الجواز.
وذكر المالكية: الكراهة، وكرهوا أن تتناول دواء يقطع الحيض ونحوه، قالوا: مخافة أن تدخل على نفسها ضررا بذلك في جسمها. ومع ذلك قالوا أنه إذا انقطعت عليها عادتها من الدم: فيجوز لها أن تشرب دواء مُبَاح لحصول الحيض؛ إلا أن يكون ذلك لغرض فاسد؛ كأن تَستَعمِل الدواء الذي يُظهر الدم من أجل أن تُفطِر في رمضان عندها.. قالت حر شديد ذي الأيام خَلّنا نحيض من شان نقضي بعدين! فهذا مُحرّم لا شك، وأمَّا لغير ذلك فعندهم يجوز. والذي يقطع العادة لأنه في الغالب يَنقطع معه الحمل أيضًا؛ فلهذا قالوا مكروه المالكية.
والحنابلة قالوا: إذا أَذِن لها زوجها ولم يكن مُحَرّما؛ أي: ما تستعمله ولم يكن يضر صحتها: فجائز.
وسُئل ابن حجر أيضا في الفتاوى عمّن استعجلت حيضها بدواء.. تنقضي بهِ عدّتها أم لا؟
قال: نعم كما صرحوا به أن العبرة بظهور الدم، أيّ سبب كان ما لنا دخل فيه، وإذا ظهر الدم حكمنا بحصول الحيض، وإذا انقطع حكمنا بحصول الطهر.
ولم يزل بيان الشرع المصون لكل ما يحتاجه المؤمنات والمؤمنون ليكونوا على بصيرة في عبادتهم لعالم الظهور والبطون -جَلّ جلاله-.
قالت سيدتنا نفيسة في وصف سيدنا الشافعي لمّا توفي: رَحِمَ الله محمد بن إدريس إنه كان يُحسِنُ الوضوء. مُشيرةً إلى أنَّ مَن أَحسَنَ الطهارة بشرع الله وعلى مقتضى ما جاء من سُنَّة رسول الله؛ فهو ممتلئ الباطن والقلب بتعظيم الحق -سبحانه وتعالى- وتعظيم رسوله، وأنه يُستَدَلُّ به على فضائله وشمائله. فلم تذكر من شمائل ومناقب الشافعي وفضائله إلا أنها قالت: إنه كان يُحسِنُ الوضوء -عليها رضوان الله تبارك وتعالى-.
وهكذا يَحوِي لنا كتاب الطهارة في الشريعة الغراء مسائل كثيرة ومتناثرة فيما يتعلّقُ بإزالة النجاسة ورفع الأحداث.
فالله يُطَهّرنا تطهيراً من الذنوب والسيئات والمخالفات ومن الغفلات، ويزيدنا طُهرًا ونقاءا في قلوبنا عن جميع الشائبات؛ حتى يُخرِج من قلوبنا كُلَّ قدر للدنيا وكل محلّ للخلق يميلُ بنا إلى معصيته أو يشغلنا عن طاعته، ويحول بيننا وبين التَّحَقُّقِ بمعرفته الخاصة ومحبته الخالصة، مع اللطف والعافية..
وإلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه..
الفاتحة.
06 جمادى الأول 1445